البشارة

ليس بهذ الشكل و لا بشكل آخر

الطبعة الأولى - 1997
دار قرطاس للنشر - الكويت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 216

 

ماء في القدح، ماء في النهر

قال
حتى في كتابتك للصحافة, تعتني باللغة أكثر من اللازم

1

فيما أكتب, وفيما أتعامل مع عناصر كلامي وأحاول التعبير عن نفسي والبوح بأحلامي, بأي شيئ يمكن أن أعتني إذن لست نجارا لكي أعتني بالخشب, ولست بناء لكي أعتني بالطين والحجارة, ولست صائغا لكي أعتني بالذهب, وأخشى أنني لم أعد حدادا , الآن, لكي أهتم بالحديد إنني كاتب فحسب, ومادة عناصري هي اللغة فمن المستغرب أن يستغرب البعض عنايتي

باللغة في كتابتي, في حين أتوقع اللوم لعدم كفاية هذه العناية أخشى أن صاحب ذلك القول يصدر عن استهانة ضمنية بالكتابة كفعل حب ومادة تعبير ولذة كشف واكتشاف وهي استهانة تشف عن امتهان لطبيعة الأدب, واحتقار للكتابة وبالتالي وضعها في أقل المراتب شأنا , مرتبة الأداة الجامدة, مرتبة الوظيفة التي يتوجب عليها أن تؤدي دورها بسلبية كجمود الخشب والأحجار والذهب والحديد مع الإعتذار للنجارين والبنائين والصاغة, والحدادين خصوصا وفي ذلك صدور عن جهل بتجربة الكتابة الأدبية باعتبارها طريقة قول وحياة في آن, وهو جهل يجري تعميمه في الثقافة العربية, جهل سيتخذه سواد القراء حكم قيمة يجري مجابهة الكتابة الأدبية به الأمر الذي يؤدى الى اعتبار الاحتفاء باللغة في النص الأدبي مبالغة فائضة على حاجة الكتابة

وربما ذهب البعض الى اعتبار البعد الجمالي, في مستوى اللغة, حلية زائدة لا ينبغي أن ينشغل بها الكاتب كما لو أن الجمال الذي يسعى إليه الأديب هو ضرب من الترف المستهجن وقد استفحلت هذه النظرة فأوشك أن يصبح جمال اللغة عيبا يعاقب عليه قانون العيب العام وربما أدى الى اتهام الأديب على غير صعيد كالقصور الفني (وهذه مفارقة) أو الانحراف التعبيري وهذه مأساةفي حين نعتقد أن ما ينقص التجربة الأدبية العربية هو هذا الإنحراف الفني خصوصا فأن تنحرف بنصك عن طريقة القول السائبة يعني أنك تذهب نحو بحث واكتشاف جديدين لكتابتك بالموهبة والمعرفة للإتصال بقارئ يراك في كل مرة بشكل جميل وبسيط مثل الحلم متاح ومستحيلا

قلت
إنني لم أزل أشعر بأن احتفائي باللغة أقل مما أتمنى

2

ترى بماذا ينبغي الإحتفاء في عالم لا يكترث بطريقة القول على الإطلاق, حتى بات كل كلام في أي نص ي كتب, بمعزل عن موهبة الأديب, يبدو لي على درجة من الفجاجة أوالسطحية, بشكل يشير الى إنقطاعه عن طراوة الروح الإنساني, وينم عن مجافاته لمعنى الإبداع, وافتقاده لنكهة الحلم الجميل الذي يخالج البشر فتنتابهم شهوة الإتصال والبوح

لنفترض أن أحدنا يريد أن يسرد لشخص آخر حلما رأه في الليلة الفائتة, ولنفترض أن هذا الشخص هو صديق حميم أو حبيبة أو وردة على صخرة, كيف يتسنى لهذا السرد أن ينقل روح الحلم ومناخه وجمالياته, إذا لم يحاول استخدام الحد الأقصى من الروح الكامن في الكلمة والحرف والصوت والصدى والصورة والصمت معا فالأدب ليس أن تقول خطابا عن شيئ, لكن أن تدفق الشيئ ذاته, جميلا في روح الآخر متجليا بلغة لا تستقيم إلا به ولا يصلح إلا بها, بحيث تقدر على أنسنة هذا الشيء

ربما هنا يكمن الفرق بين أن تكتب مقالا للصحيفة, وأن تكتب نصا لقارئ آخرعن طريق الصحيفة فالأديب لا ينبغي أن يكتب للصحيفة (مغلوبا ) بها, بل يتوجب أن تيدو الصحيفة (منتصرة ) به فعندما يكتب الأديب في الصحافة لا نتوقع منه أن يخضع لشرط المقال الصحفي الذي يكتب به الأخرون, ولكنه يكتب بشرطه هو, شرط الأديب الذي يحو ل كل شيئ من حوله إلى كتابة جميلة تغري القارئ بإعادة القراءة غير مرة, لأن المتعة في قراءة ما يكتبه الأديب لا تتأتى من مضمونه أو موضوعه متمثلة في معلومات ومواعظ وعرضحالات, وليست المتعة في ما يكتب للتوفر على فعل الإبلاغ والإخبار والتعليم, وهي مواد يمكن أن يجدها في أي مكان آخر في الصحيفة ذاتها, المتعة تكمن في أن هذا النص هو طريقة قول تصدر عن طاقة روحية عميقة مشفوعة بطاقة المخيلة الفنية أما الثقافة والمعرفة فتأتيان فيما بعد إن لدي الأديب طاقة من الروح تبحث عن أقران مبثوثين هنا وهناك, يعمل الكاتب على الإتصال بهم لئلا يشعر بالوحشة وحيدا في هذا العالم

لهذه الأسباب لا يكون الأديب مخلصا لكتابته إذا لم يتجل احساسه العميق باللغة بشكل جميل وقادر على بث هذه الروح في قلب القارئ فالكتابة هي نوع من المتعة في حالين, حال الكتابة وحال القراءة وكلما تحققت المتعة للأديب فيما يكتب, تحققت المتعة للقارئ فيما يقرأ وهي متعة لا تتحقق إلا بعناصر الخيال والجمال والدهشة لقول ما لا تقوله اللغة العادية, هذا هو سر الإحتفاء باللغة وضرورته أما الذين يذهبون (حد المبالغة أحيانا ) الى الحط من الإسلوب واللغة والإستهانة بهما بحجة الوصول إلى القارئ لأهانته بركاكة كلامهم فانهم يضعون موهبتهم خارج الكتابة, ويجترون لغة سائدة يصادفها القارئ في كل مكان

لهؤلاء الحق في كل شيئ, إلا الزعم بأنهم يكتبون أدبا بأدواته وعناصره وعلينا , بعد هذا, اكتشاف الفرق بين الماء في القدح والماء في النهر, بالدرجة التي يمكننا فيها معرفة المسافة بين نشوة العنب في الكروم, والإنتشاء ونحن نرتشفه معت قا , ونحس به ينساب تحت اللسان ويتسر ب بين الأسنان ويندفق في
أروقة الجسد ليوقظ الروح



 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى