الموسيقى، كلما الكتابة
(فلتسمحوا لي هنا بالكلام قليلاً على الإيقاع، معتمداً على القناعة أن للموسيقى - بأشكالها المختلفة، الوزن والإيقاع والقافية- قيمة في الشعر كبيرة بحيث ليس من الحكمة أبداً نبذها، انها إضافة ذات أهمية حيوية إلى درجة أن الأحمق وحده يرفض عـونها)
أدغار آلان بو
موسى برهومة:
يرى البعض أن نصوصك منذ كتابك الأول "البشارة" كان فيها هذا السعي الحثيث للتعبير الجماعي عن حساسية التجربة الإنسانية. أنت منذ البدايات مدرك لحدود الكتابة. من أين انبثق لديك هذا الوعي العميق؟
- لا أحد يستطيع الزعم أنه كان مدركاً للأشياء منذ لحظته الأولى. يتعلم الإنسان بفعل الحياة والكتابة. وهذا ما يمكنني الاعتماد عليه في سياق التجربة طوال الوقت وحتى هذه اللحظة.
التعبير الجماعي لا يأتي بقرار ولا يذهب بنفي. إذا سمحت لي ببعض التعديل في مصطلح (التعبير الجماعي) سأعتبر أنك تعني التعبير عن الروح الجماعي، لئلا يختلط قولك بالدلالة الفنية لمصطلح التعبير الجماعي. أميل إلى الاعتقاد بأن ثمة حساسية مبكرة فرضتها على تجربتي طبيعة الدور الحياتي الذي انهمكت به منذ بداياتي. وخصوصاً علاقتي بالعمل النضالي المباشر الذي كان متطلباً بالنسبة إلى شخص وضعته الظروف في مهمات قيادية تكاد تكون أكثر تطلباً من الاستعداد الذاتي للشخص. أضف إلى ذلك أنني كنت متورطاً في الولع بالكتابة بصورة تجعلني أضعها في مقدمة اهتماماتي الحياتية، وغالباً قبل مشاغلي السياسية. وإذا تخيلنا طبيعة التربية الفكرية التي تصدر عنها المنظورات الحزبية اليسارية من مفهوم الالتزام ووظائفية الأدب والخضوع للجماهير، سوف يكون المشهد أكثر وضوحاً، لكي أبدو آنذاك في مواجهة النقائض كلها دفعة واحدة تضغط لكي أكون مخلصاً لدوري النضالي على حساب طبيعتي الأدبية، حيث كان الشعر وقتها قد استحوذ على كياني. فوجدت نفسي أشعر بخطر يكمن لتدمير الشاعر في روحي. آنذاك تأسست لدي حساسية العلاقة الملتبسة بين الأدب والسياسة. والحق أن الصراع، الذي بدأ يسفر عن أدواته منذ الستينيات، لم يكن بيني وبين التنظيم الذي أساهم في قيادته خصوصاً، ولكن الصراع كان أكثر اتساعاً، حيث كان التيار العربي كاسحاً بحيث وجدت نفسي في مواجهة سياقٍ فكريٍ حديدي لا يرى إلى الأدب أكثر من كونه موظفا يجب عليه أن يتلقى التوجيهات ليس من الحزب فحسب، ولكن أن يكون خادماً (وأعني الكلمة حرفياً) للجماهير. من هناك بدأت أضع الحدود الواضحة بين الشاعر في القصيدة وبين الإنسان في النضال السياسي. وعندما كانت جبهة المختلفين معي في هذا الحقل تتسع كنت أشعر بالاطمئنان لسلامة موقفي. هذا الموقف الذي جاءت الأحداث والتحولات على كل صعيد تؤيده وتنتقل إليه جهراً ومواربة، وإذا أردت الحق فإن هناك، ممن كانوا يحتربون ضد ذلك الموقف، أصبحوا الآن يبالغون في الذهاب إليه بحماس ملتبس.
من كل ذلك الدرس الكثيف (حياة وكتابة) أعتقد أن على المرء أن يتعلم الإخلاص للتعبير عن ذاته بالدرجة الأولى، وباقي الأشياء تأتي تلقائياً ومن غير افتعال أو أوهام، فالإنسان لا يعيش وحده في هذا الكون. والشاعر، بوصفه تجربة في الحياة، سيكون قادراً على اختزال العالم في النص.
عدنان حسين أحمد:
في "البشارة" أيضا ثمة انحياز واضح يسيّد المضمون على حساب الشكل الذي تعوّل عليه كثيراً في تجاربك اللاحقة، كيف تلمست الطريق صوب الإبداع الذي يكمن في شكل القول قبل أن يتجسد في الثيمة المطروقة، أو غير المطروقة؟
- غالباً ما يكون الكتاب الأول للشاعر بمثابة محاولة التعرف على طريقة طرح الأسئلة على العالم، وهذا ما يمكن تسميته بالانحراف ناحية البحث، وإذا أحرز الشاعر شيئاً من النجاح في مجابهة اللحظة الشعرية الأولى بعينين مبهورتين بسطوع الضوء دفعة واحدة في غرفة بيضاء، سيكون مؤهلاً لاحقاً لأن يرى الأشياء بصورة أكثر وضوحاً وأعمق إحساسا بالخطر الذي يقبل عليه، وهي التجربة التي تجعل من الكتاب الأول شهادة على رغبة في الذهاب إلى الشعر بهوية الذات الغامضة.
وفي "البشارة" كنت مأخوذاً بما بشبه غموض ما يحدث حولي من حركة الحياة التي كنت انهمكت فيها مبكراً كمن تكلف بأن يعرف جميع الأشياء والنهوض بكل المهمات وانجاز إصلاح العالم وتفادي كل الأجوبة، كل ذلك دفعة واحدة. لذلك فإن المضمون الذي يشير إليه السؤال لم يكن سوى كل تلك الأمور متماهية في شبه مشروع شامل مشروع ومستحيل في آن واحد. و لعل ما سيبقى دائماً فيما بعد هو هذا الحلم المشروع والمستحيل معاً، أما بقية التفاصيل بين حدود المضمون وحدود الشكل فإنها مسألة لا يحتاج إدراكها وتفادي تفاقمها سوى إلى درجة من المعرفة والموهبة التي يتوقف تحققهما على وهم الشاعر وأحلام كل قارئ. فمن الطبيعي أن يدرك الشاعر سريعاً بأن الإبداع سوف يكمن دائماً في ابتكار الطريقة وليس في اجتياز الطريق.
عدنان حسين أحمد:
من يطلّع على ديوانيك اللاحقين "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة" و"الدم الثاني" يكتشف بدايات التمرد على الشروط الفنية الصارمة لكتابة النص الشعري، ما حدود معاناتك الإبداعية وأنت تتململ للخروج النهائي حتى من التفعيلة في "قلب الحب" و"شظايا" اللذين يؤشران بداياتك الجديدة والجادة في كتابة نص شعري مغاير للأفق السائد آنذاك؟
- في لحظة الإبداع ليس ثمة معاناة بالمعنى المادي للكلمة، على العكس أعتقد أن هذه التجربة هي من الجمال والمتعة بحيث لا يمكن وصفها للآخرين. حتى التمرد والثورة ليس فيهما ما يجعل الأمر في صورة معاناة، ثمة التباس في التعبير، فالمعاناة ستكون دائماً خارج الكتابة والعملية الإبداعية، المعاناة هي هناك في الحياة التي ينهمك فيها المبدع كما لو أنه المقاتل الأعظم، ولكن حين يأتي وقت الكتابة سوف تبدأ الفراديس. لذلك أقترح أن يرى الشاعر إلى مهمته الإبداعية بوصفها اللذة المصفاة التي تنجو من معاناة الحياة السائرة، إنه هنا بمفرده مع الحبيبة الأجمل، أية معاناة يمكن ذكرها في مثل هذا الموقف؟
حتى ما أشرت إليه عن الخروج والتمرد وغير ذلك، إنما هو ما يحدث بمعزل عن القصد، أو بتعبير أدقّ، إنّ ذلك يحدث فيما الشاعر يفعل شيئاً آخر. والحق أن إحساسي بما يكشفه النقاد والقراء من تجارب على صعيد النص هو إحساس المكتشف معهم، وبالرغم من كل الحوارات التي لا تكاد تهدأ مع الذات والعالم حول قضايا الفن والإبداع فإن منجزات النص تحدث في غفلة مني شخصياً، ومن المؤكد أن أجمل تلك المنجزات هي التي أكتشفها فيما بعد، وخصوصاً بمساعدة ما يُكتب عن كتابتي أو يُقرأ فيها.
لذلك سوف أشعر ببعض الارتباك وعدم الوثوق في تعبير المعاناة الذي يشير إليه السؤال، من جهة أخرى فإنني لا أستطيع الاتفاق مع السؤال وهو يشير إلى بدايات (جديدة وجادة) في الكتب اللاحقة، بالنسبة إلي فقد كنت جاداً في كل نص كتبته وخالجني شعور أنني كنت جديداً هناك، وإلا فلا معنى للكتابة في الحياة.
موسى برهومة:
هل يمكن اعتبار خروجك على التفعيلة منذ "قلب الحب" و"شظايا" وسواهما، جزءاً من قلق البحث عن آفاق للتعبير الشعري؟
- أظن أن ذلك كان نتيجة لتجارب مختلفة من البحث التعبيري. ليس في الأمر قرار مسبق بما سيحدث، كل ما في الأمر أنني أتبع قلبي لحظة الكتابة. العواطف أكثر صدقاً من العقل عندما يتعلق الأمر بالتعبير. وبالنسبة إلي لا تنفي الأشكال بعضها البعض، إنما هو ضرب من تبادل الأقداح واختبار قدرة القوارير على منح الشخص لذة الترنح دون أن تقع الريشة من على رأسه. الآن، لم أعد أقف عند حدود مصطلحات مثل التفعيلة والشعر والنثر، كل ما حدث في تجارب السنوات الماضية كان كفيلاً بجعل النص أكثر جسارة على الذهاب إلى الحفل بما يحلو له من القمصان وبعنق أكثر حرية من الريح. أما القلق فهو الحال التي يمكنك وصفي بها دائماً. لا أكاد أثق بشخص قليل القلق، حتى قاسم حداد.
موسى برهومة:
لم تغادر كتابتك، خارج الوزن، الموسيقى. هل تقصد بذلك استعاضتك عن الوزن الخارجي بإيقاع داخلي. هل أصبت نجاحاً ..هل حققت رضى في مسعاك هذا ؟
- بعد قليل سوف أعترف لك بأنني لا أكاد أشعر بالحياة، بتفاصيلها كلها، من دون أن يكون ميزاني في تلك الموسيقى. لدي إحساس بأن ثمة موسيقى تحكم الكون. وكلما تسنى لنا اكتشاف أسرار هذا القانون صار لنا أن نزعم بأن متعتنا باتت وشيكة في هذه الحياة.
كأنني قلت منذ قليل، إن أحد أهم جماليات هذا العالم أنه يعوم في فضاء شاسع ورحب من الموسيقى، وعلى كل شخص في مجاله أن يتعرف على قانونه الخاص ويصوغ إبداعه بدون أن يفرط بهذه الجماليات التي لا تضاهى. بالنسبة إلى الشاعر سيكون عليه أن يكون أكثر رحابة فيما يتلمس الإيقاع لكتابته، ويعترف بنفس راضية أن الموسيقى في الكتابة ستكون أكثر رحابة من البحور والأوزان والحدود المقننة في شتى العصور. كيف يمكننا أن نكنب شعراً خال من الموسيقى؟
موسى برهومة:
كنت محاطاً منذ الطفولة بتجليات الإيقاع منذ الطقوس الحسينية في منزلكم إلى العمل في الحدادة والبناء وصناعة السفن وسواهما. ما الذي تركته تلك التجارب المتراكمة على الإيقاع في قصيدتك؟
- قلت مرة إن اكتشاف سر الموسيقى في حياتنا من شأنه أن يغني السلوك الإنساني في شتى حقول الحياة. بل إنني أعتقد بأن الشخص الذي يتميز بالحساسية الموسيقية (بوصفها شاحذة للطبيعة البشرية) يمكن أن يكون أقدر من غيره على جعل علاقته بأشياء الحياة والكون على درجة من الشفافية والرقي والشعرية بحيث يمتلك طاقة الكائن الذي لا تحتمل خفته، لفرط اتصاله بالجمال الروحي. حياة الطفولة بالنسبة إليّ كانت غنية بحيث أسست لما يشبه النزوع الحرّ نحو موسقة كل ما تمسّه الكتابة، وإذا كنت أفشل أحياناً في التعبير عن ذلك في النص، فربما حاولت تعويض ذلك في الحياة، حيث ليس ثمة مسافة بين الشخص والنص إلا في الخطأ.
موسى برهومة:
قلتَ ذات مرة: "خرجت عن درس الخليل بن أحمد، لكي أكون مخلصاً لدرس الشعر"، ماذا كنت تقصد بذلك خاصة وان الفكرة ذاتها تغطى مساحة كبيرة من كتابك "ما أجملك أيها الذئب" ؟
- الخليل بن أحمد لم يخلق موسيقى الشعر العربي، إنه وضع لها القوانين فحسب. وامرؤ القيس أو طرفة بن العبد وغيرهما من الشعراء، لم يكونوا يدركون ما يفعلون بالمعنى التقني للمسألة. الخليل بن أحمد بشر مثلنا لا يجوز التقديس له ولأفعاله. ويقال أن الخليل بن أحمد أمسك بفكرة أوزان الشعر في سوق الصفارين أو الحدادين، وبعضهم زعم أنه كان يعمل هناك. وإذا جاز لنا المشاكسة (بدون خفة) يحق لكل شاعر في أي مكان أو زمان أن يقترح ما يبدعه من أشكال الموسيقى لكتابته (في معزل عن مفهوم الشعر ومصطلحاته المستقرة). وذهاباً في تبادل الأدوار، سيقول شاعر في مكان ما، في زمان ما، إنه حدادٌ أيضاً ، وطاب له أن يعيش ذلك الزخم من الإيقاعات التي لا توصف بسهولة، ويجوز له أن يتقمص طاقة الرؤية الفنية ويقترح خروجاً جديداً على الإيقاع لكي يخلص للشعر دون أن يقلل من إنجاز الخليل وخصوصاً الشعراء .
عدنان حسين أحمد:
أكدت غير مرة بأن لديك ميلاً شديداً إلى الإيقاع، بل وتعتبره أحياناً المكوّن الأساسي للنص الذي تكتبه، ما حدود الطاقة الإيقاعية الكامنة في نصوصك الجديدة، وكيف تفسر الجفاف الإيقاعي الذي تعاني منه القصائد الحديثة؟
- طوال تجربتي لم أتخيل الشعر بدون الموسيقى، إنها طبيعة أشياء العالم والحياة. طوال التاريخ كان الشعر قرين الموسيقى. والتجربة علمتني بأن ثمة مسافة جوهرية بين مفهوم الموسيقى في الشعر وبين مفهوم الإيقاع الذي اقترحته بحور الخليل بن أحمد على الشعر العربي، وهنا تكمن المنعطفات العظيمة التي يتوجب علينا الاعتراف بمشروعيتها في الكتابة عموماً. ويبقى أيضاً أن نتهيأ جذرياً للتعرف على مفهوم جديد للشعر يختلف عن مفاهيمنا السابقة، وهذا يستدعي تمريناً روحياً على قبول المقترحات التي تقدمها لنا التجارب المبدعة في الشعر العربي الحديث، أقول نقبلها بوصفها معطيات عميقة الوعي والحيوية يحتاج إليها تحولنا الحضاري بعد كل تلك القرون التي وضعت الشعر في القالب ونسيته هناك. ولعل في التحول الجوهري لمفهوم الموسيقى في الشعر (وبالتالي في الكتابة العربية عموماً) ما يجعلنا نشعر بضرورة وعي ما يحدث لنا وحولنا من متغيرات تفرضها طبيعة الحياة الإنسانية. ولكي نقترب أكثر من الجوهر التقني لمفهوم الموسيقى في الشعر العربي خصوصاً، يتوجب عدم نسيان حقيقة أن أصول البنية التقنية للبحور والأوزان، التي استنبطها الخليل بن أحمد ووضعها لقياس النصوص الشعرية، هي جذور نبعت من اللغة العربية ذاتها، بمعنى أن الجزيئيات الصوتية والإيقاعية للحروف والكلمات في اللغة هي الأسس الجمالية التي قامت عليها فكرة البحور وقوانينها الفنية. وهذا ما يتوجب الرجوع إليه لإعادة الاعتبار للدور الجمالي للشعرية العربية، ومحاولة اكتشاف الصيغ الموسيقية الجديدة (في كل تجربة شعرية) المناسبة لزماننا وتجربتنا الروحية. من هنا أعتقد بأن مهمات الشاعر الجديد ستكون أكثر متعة وجمالاً إذا تسنى له عدم الاستهانة بما تتيحه له اللغة العربية من إمكانات لامتناهية من حيث الخلق الموسيقي في النص. أكثر من هذا بالنسبة إلي على الأقل أعتقد دائماً بأن أية كتابة أحققها هي دائماً بناء قائم على مقترحات موسيقية بشكل من الأشكال، بمعنى أنني لا أستطيع التخلي عن حساسيتي الموسيقية فيما أكتب أية جملة وفي أي سياق كانت، فتلك طاقة لا يفرط المبدع فيها.
الحياة كلها بالنسبة إلي ضرب من الموسيقى، ولا أستطيع العمل أو النوم أو الحلم أو الكتابة إلا بحس موسيقي يصل أحياناً إلى درجة الولع.
محمد البنكي:
حين صدر ديوانكم "قبر قاسم" تنبأ بعض النقاد بأن هذا الديوان، ربما بسبب التسمية، نذير باكتمال التجربة وبلوغها الأوج الذي سيسكت الشاعر فيك بعده. كان الديوان شاهدة القبر كما راهنوا، لكننا نرى أن تجربتك قد تجاوزت نفسها بعده أكثر من مرة. هل تخاف أن تكون قد استنفذت ما لديك؟
كل شاعر عندما يكتب وينتهي من نصٍ ما، يبدأ حلمه بكتابة نص آخر، حلمه أيضاً بأن يكون ذلك النص أجمل. هذا الهاجس موجود بشكل طبيعي. خشية الشاعر بأن يكف عن الكتابة تظل نسبية، تعتمد على درجة وعيه، وتجربته وإيمانه بما يكتب وغاياته من وراء ما يكتب. فهل الكتابة عندك وسيلة لغاية تحققها بطريقة ما تحت ذريعة إنتاج النصوص؟
- إن كانت الكتابة وسيلة لغايات أخرى فإنها ستنتهي. الكتابة لديّ، بعد كل هذه التجارب، هي أمرٌ داخليٌ حميم، وقد حصّنني ذلك في المعتقل. ليس لدي هدفٌ ماديٌ أسعى إلى تحقيقه عبر ما أكتب. هذا، على الأقل، يجعلني مستقراً، مطمئنا وصريحاً، لأنني لا أسعى إلى التكسب بما أكتب.
تماماً كما هو حال ذلك المتصوف حين سألوه عن معنى التصوف فقال: "هو أن لا تملك شيئاً ولا يملكك شيء".
أرى إلى الكتابة بوصفها ذهابا متحرراً إلى المطلق. الكتابة هي أن تكتب ذاتك. مطمئن إلى أنني أكتب كي أشعر بكياني الداخلي، وأنني جدير بهذه الحياة التي أعطتني الموهبة كنعمة، ولئن لم أكن جديراً بالموهبة فلا أستحق أن أعيش قبلاً عن أن لا أستحق مواصلة الكتابة. أما أن يقال بأن قاسم انتهى أو أنه لن يكتب بعد مرحلة معينة فهذا انطباع فني محتمل ومفهوم، لكنه لا يؤثر في مقدرتي الداخلية على الكتابة. الكاتب يطرح تجاربه للعالم وعليه أن يصغي إلى العالم. وقد أصغيتُ إلى كلام أقسى من هذا مبكراً، لكنني كنت، على الدوام، أضع نفسي أمام السؤال: لماذا أكتب؟ لشهرة؟ أم لمادة؟ أم لمنصب؟ ورغم أنها غايات مشروعة لمن يسعون إليها، ويمكنني تفهمها، إلا أنني لا أنطلق من مثل هذه الاستهدافات، وهذا ما يحررني كثيراً من توقعات المجتمع بأن تكتب كي تحقق شيئاً، وبالتالي يجب أن تخضع لشروط خارج ذاتك لكي تحقق شيئاً آخر. الذي يحدث عند القبول بمثل هذه المعادلة هو أن الشاعر يخضع لشروط ما تضغط عليه، وهو حين يفعل يخسر حريته الداخلية. لا أفرط في حريتي الداخلية ولا أكترث لشيء دونها. عندما لا تريد ولا تطلب شيئاً آخر غير الكتابة لا تستطيع أية قوة أن تخترقك حتى لو كتبت مئة قبر قاسم.
عبده وزان:
الكتاب نفسه جاء مرفقاً بكتابين آخرين، واللافت أن الشعر في الكتب الثلاثة يتحرك في فضاء لغوي ويذهب إلى كتابة غير مأسورة بنوع ما أو حدود: كتابة حرّة، يمتزج فيها الشعر بالنثر، القصيدة باللاقصيدة. ماذا تحدثنا عن فضاء اللغة هذا ؟ عن النص الذي تسميه "شهوة اللغة"؟
- دائماً كنت أشعر أن ما يبقى من صنيع الشاعر، بعد كل شيء، هو اللغة. اللغة بمعنى الروح الخاص بالشاعر في هذا الجسد اللغوي الحي الممتد عبر الكتابة المترامية الأطراف. فما يميز الشاعر عن غيره هو حساسيته التي يستطيع أن يصوغها عبر تجاربه المختلفة، قدرته على اقتراح اجتهاداته الخاصة في ممارسته حرية الخلق في لحظة اللغة وهي تولد في هذا النص أو ذاك. حريته بمعنى أنه لا يقف من اللغة موقف العبد، ولكنه يتصرف مع اللغة كما لو أنه في حضرة مليكة تعشقه هو بالذات وأنه حرّ في هذه الحضرة لكي يمارس حريته معها بلا حدود. بهذا المعنى كنت أدخل في مغامرات اقتحام الحدود بين أنواع التعبير من جهة، ومن جهة أخرى أشعر بأن اللغة (إضافة إلى إحساسي بمسؤولية حق الحرية) هي ثروتي الشخصية التي لا تمنعني عنها سلطة ولا يشاركني فيها أحد، سوى قارئٍ لا أعرفه. من هنا أعتقد أن المتعة التي كانت تمنحني إياها تلك "الشهوة" إذا صح التعبير، تضاعف طاقة المخيلة لحظة الكتابة، بحيث لا أكاد أرى في تخوم أشكال التعبير إلا آفاقاً مفتوحة وليست حدوداً.
الآن، لم تعد مسألة النثر والشعر تشغلني، وليست هي ما يتوقف أمامه النص عندما يبدأ في التخلق، بالنسبة لي الكتابة باتت تطرح أسئلة أكثر عمقاً وجدة. لذلك فإنني أشعر بالقلق دائما عندما أصادف شاعراً يشي بعدم الاهتمام، واللامبالاة، باللغة فيما يكتب. فيبدو مثل شخص يجتهد في تثبيت أعمدة الكهرباء ومدّ الأسلاك وتركيب الكثير من زجاج القناديل، ولكنه لا يكترث بطبيعة التيار الكهربائي الذي يمنح الضوء لكل هذا البناء. اللغة هي الأهم في النص كما في الحياة. إنها أجمل الثروات وأخطرها في آن. الشاعر لا يستطيع أن يتحقق، ويؤكد للآخرين، قدرته على الحضور الشعري خارج اللغة.
عبده وزان:
- يبدو لي انك تبالغ في الاحتفاء باللغة، وتعول عليها في كتابة النص الناجح، وتعتبرها الشرط الأول للولوج إلى متاهة الشعر السحرية. كيف تتعامل اذاً مع اللغة؟
- ليس ثمة شاعر لا يحتفي باللغة، إنني لا أبتكر جديداً إذا فعلتُ ذلك أو جهرتُ به وأكدتُ عليه في غير مناسبة. إنها طبيعة الحياة التي وجدت نفسي من خلالها، ولكي أحسن التعبير عن ذاتي لابد لي من أن أجعل اللغة تتجاوز الدور المهين الذي يجري التعامل به دائماً وهو دور أداة التوصيل، اللغة بالنسبة إلى الشاعر أكثر من مجرد "أداة"، إنها طريقة حياة كاملة حميمة المعالم ولا تقبل المقارنة بأية وسيلة أخرى في الحياة. بهذا المعنى يمكننا التعرف على ما تمنحه اللغة للشاعر، فبقدر ما تحب اللغة وتعشقها وتحترمها وتبالغ في تبجيلها، بقدر ما تبادلك هي ذلك العشق والامتزاج وتمنحك الحب والعطاء وتتبادل معك أنخاب الجمال.
وإذا صادف أنك كتبت نصاً جميلاً فالفضل سيعود دائماً إلى أن اللغة باتت تبادلك الحب وتبوح لك بأسرارها وجمالاتها التي بلا حدود. وكلما تحققت لك اللذة والمتعة والجمال أثناء الكتابة، سوف يحدث الشيء نفسه للقارئ في ما بعد.
لكن من المؤكد أنني لا أستطيع أن أفسّر لك تفاصيل هذه العملية التي لا تحدث بالطريقة عينها في كل تجربة، إنني لا أزال أكتشف هذه العملية في كل مرة كما لو أنها المرة الأولى.
عبده وزان:
ثمة مأخذ على بعض النصوص الشعرية ذات الهاجس التجريبي اللغوي وهو وقوعها في ما يسمى "توالداً" لفظياً وعبره يفيض المعنى لغوياً ليصبح هذراً متدفقاً! أليست "اللفظية" سمة من السمات السلبية في بعض الشعر الراهن؟
- "الهذر" مجرداً، هو فعل غير شعري. ولكن في وسع الشاعر الموهوب، وهو يمتلك المعرفة والخبرة، أن يجعل من صنيعه الشعري الأكثر تبلوراً من الهذر، مادة يحقق فيها درجة الهذيان الإبداعي الذي يأخذ النص إلى لحظة الشعر. لا نستطيع أن نطلق أحكاماً عامة صدوراً عن محاولات تفشل هنا وتتعثر هناك وتنجح أحياناً. كل ما في الحياة يمكن أن يكون شعرياً إذا تناولته موهبة تعي ما تفعل. وهاجس التجريب ليس جديداً في حقل الإبداع، انه حق مشروع وجميل كلما تيسرت له الشروط الشعرية. حتى الهذيان (لكي أميزه عن الهذر) يمكن أن يكون شكلاً من أشكال الذهاب إلى الشعر. ألم يقل السابقون عن المهلهل أنه بالغ في الهذيان حتى قال شعراً.
في ظني أن الشعر لا يتطور ولا تتبلور رؤاه ونصوصه إلا بحرية وجرأة التجريب وإدراك جماليات اللغة وملامسة طاقاتها اللامحدودة في التعبير. نحن كائنات لغوية لا تتحقق إلا بما تنتجه من الألفاظ. هذه الألفاظ التي قد تصبح سلبية ليست في الشعر الراهن فحسب، ولكن في أي شعر على الإطلاق، إذا هي كفّت عن صدورها عن حساسية شعرية واعية. اللغة هي خبرة الإنسانية كاملة ممتزجة بشخص محدد في لحظة محددة هي النص الآن. من حق الشاعر أن يصنع ما يحلو له إذا تميز بالموهبة والمعرفة في آن واحد. وعلينا دائما أن نتحدث عن الظاهرة المحددة في النص المحدد، ونتفادى الاطلاقات التي قد تظلم أطرافاً كثيرة.
عبده وزان:
في "أخبار مجنون ليلى" الكتاب الشعري التشكيلي الذي أنجزته مع الفنان ضياء العزاوي تستعيد أسطورة المجنون في صوغ شعري يعتمد "التناص" كمنطلق أول: كيف صغت أسطورة المجنون من خلال أسطورتك الشخصية؟ ماذا أخذت من "المجنون" وماذا أعطيته؟
- رأيت إلى أسطورة مجنون ليلى بحريات الشاعر وشغف العاشق معاً. تحريض الصديق ضياء العزاوي كان محفزاً لأن أكتب أسطورتي الشخصية، أن أصوغ الميثيولوجيا الذاتية لشاعر يرى إلى الحب الآن. قبل أن أبدأ الكتابة عدتُ إلى الجزء الخاص بمجنون ليلى في "الأغاني"، فوجدتُ أنني كنتُ قد كتبت هوامش مختلفة على روايات الأصفهاني منذ سنوات سابقة، كما لو أنني كنت أطرح الأسئلة مبكراً على ذلك النص. وأنت تعرف أن الأصفهاني كان أحد أهم الذين بالغوا في وضع سيرة المجنون في مهب الشكوك التي تجعل من الحكاية ضرباً من الأسطورة. وهذا ما صقل حريتي في التعامل مع الموضوع. حيث لم تعد تعنيني تلك الروايات التي تتناسل وهي تروي الأخبار عن المجنون، أذكر أنني شعرت بأن كل راوٍ كان يحكي قصته الخاصة عن قيس وليلى، فقد تحول قيس وليلى إلى ذريعة للبوح عبر العصور. بهذا المعنى يجوز لي كشاعر أن لا أصدق تلك الروايات، بل أحكي الحكاية التي أعتقد بأنها تعبر عني الآن/هنا. وأعطاني "المجنون" أن أرى إلى التجربة بوصفها موضوعاً قابلاً للتأويل. فرأيت إلى التجربة من خلال ثلاثة أسئلة تتصل بحقيقتي الإنسانية كشاعر، وهي جوهر الإبداع دائماً: الشعر والحب والجنون.
ولا يخلو من دلالة كون هذه العناصر الثلاثة هي من مكونات تجربة السرياليين الأوائل. (والحق أنني انتبهت لهذه المصادفة الموضوعية- حسب التعبير السوريالي أيضاً- فيما بعد).
يقوم النص "أخبار مجنون ليلى" على رؤية مختلفة لطبيعة العلاقة بين قيس وليلى، ويقوم على مساءلة معنى الجنون، هل هو جنون القلب أم جنون العقل، ويقوم خصوصاً على حقيقة النص الشعري الذي يجري تداوله منذ بداية الأسطورة، هل ثمة شخص محدد اسمه قيس كتب هذا الشعر، أم أن العاشق عبر العصور هو الذي يقترح نصاً هنا ونصاً هناك؟ ولعل في التفاوت الفني في النصوص المنسوبة لقيس يشي بأن أجواء لغوية تعبر عصوراً أدبية واضحة الملامح قد وصلت إلينا، مما يغري بأن يضيف الشاعر الجديد (دائماً) نصه الخاص.
وإذا جاز لي الزعم بأنني أعطيت "المجنون" شيئاً، فربما يتصل هذا بأنني خلعت عنه هالة العذرية الفجّـة ووضعته (معنا) على أرض الحب الطبيعي ومنحت ليلى حرية المباهاة بحبيبها حتى في حضرة زوجها. ففي تقديري أن أحداً لا يقول هذا الشعر الجميل إلا إذا كان قد (استذوق قندة الحب) في الواقع وليس في التخيل. وهذا هو من حق الإنسان دائماً.
حسن عبد الموجود:
هناك تكرار دائم لكلمة المجنون داخل دواوينك.. هل يمكن اعتبار هذه الكلمة أيقونتك الشعرية؟
-هذه قراءة خاصة على ما أظن، أحترمها ولكنني لا أميل إليها، ولكن يمكن القول أن الشعر هو نوع من الجنون عموما.
عبد الله السفر:
بالعودة إلى “قبر قاسم" الذي ضم ثلاثة كتب بين غلافين، ألم تكن تلك الصيغة جرعة متقدمة لقارئك؟ وافتئات على كتابين كانا ينبغي أن يأخذا تفردهما؟
- ليست ثلاثة كتب. دعك من التسميات التي ترد في الكتاب. فالتسمية هنا لا تعني (كتابا) بالمعنى التقني، ولكنها ترد هنا بالبعد الروحي للنص الشعري. وهذا الكتاب عمل شعري واحد كان لابد للقارئ أن يكتشف هذا من خلال القراءة. وحين أشير إلى تواريخ مختلفة لكل كتاب، فسوف تلاحظ التقاطع الزمني بين النصوص الثلاثة. هذا التقاطع الذي ينبغي أن يشير (شعريا) إلى تقاطع في التجربة والشعر معا. وربما إصراري على تثبيت إشارة التواريخ ذهاب واضح لتأكيد هذا التقاطع. لذلك فإن هذا الكتاب تجربة واحدة ممتدة في الزمن والنص في آن واحد. وهذه طبيعة تقترحها التجربة الجديدة التي أعيشها في السنوات الأخيرة. ولعلك تعرف القلق الذي كان يساورني كلما فكرت في الطبع بين وقت وآخر. لقد تبلورت تجربة هذا الكتاب مع الوقت. وليس في الأمر ما يتصل بأزمة النشر (التي لا يجب أن تعني الشاعر بهذا المعنى). كما أن نشر كل نص من الثلاثة بمعزل عن الباقي لن يكون له معنى، بل إنه لن يكون مفهوما بالشكل الذي أحب أن يتصل به القارئ.
عبد الله السفر:
في مقدمة هذا السفر طلبت الصمت. أهي دقيقة الحداد قبالة قبر. ليس هو قبر ابن منظور بالتحديد؟ وفي الغلاف الخلفي نص الأرجوحة بين العدو اليومي والخصم المؤجل بخلفية لقاسم الساهم يتفكر في من يلهو بكتابه ويضع الملح في الجرح.. وكأنه التأبين، صمت (وتأبين). ماذا كنت تخبئ للقارئ، تذهب به، تدفعه إليه؟
- ثمة ما يربك في السؤال، ليس لصعوبته، ولكن لاقتراح مفهوم مباشر لأشياء النص الشعري في الكتاب. فليس الصمت الذي أعنيه صمت يتصل بما بعد الموت، أي القبر أو غير ذلك. وليس القبر هنا صدور عن الميثيولوجيا التي ترسبت فينا ثقافيا، كما أن الصورة ليست لشخص يشهد على الماضي أو الحاضر، أنه نص بالدرجة الأولى. نص يرى إلى المستقبل خصوصا. لذلك فإن المربك في السؤال أنه يقترح أن نرى في القبر مدعاة للصمت والتأبين. وأخشى أنني لم أحسن التوصل إلى ما يذهب إليه السؤال، لئلا أقول عن ارتباكي فحسب. أما عن الذي كنت أهيئه للقارئ، فلم أكن أهيئ شيئا، لقد كنت أبحث عن الأشياء في الآخر.
عبد الله السفر:
لعل القارئ لاحظ أن فهرس المكابدات. الكتاب الأول، مكون من مقاطع (بلغت 160 مقطعا) على حين أن بعضها نشر مجموعا تحت عناوين (مثلا: مرح القتلة، نقض الفيزياء..) ماذا أردت بهذا التفكيك لأدغال الجسد/ النص/ الليل في فهرس المكابدات/ قاموس الألم؟
وربما تكون قد لاحظت أيضا أن عددا كبيرا من النصوص التي نشرتها في سياق مثيل، هي نصوص لم ترد في فهرس المكابدات. بمعنى أن حالة التشظي التي يعبرها الشاعر لا حدود لها، ليس في الشكل فحسب ولكن في النوع أيضا. لا أقصد تفكيكا تشير إليه، إنما كانت تجربة منسابة على هواها تأخذني أينما أرادت، ولكن في اللحظة التي أقرر فيها (صوغ النص) فإن الأمر يتطلب نظرا صارما يستدعيه الشكل الأخير لكتاب التجربة. إنني أشعر حقا بحالة التشظي في الحياة، وربما يعيدنا هذا الحديث إلى كتاب كامل سبق أن صدر لي بعنوان "شظايا"، ألا نستطيع أن نقترح فهرسا مبكرا للمكابدات بدأ (فنيا) من هناك، مع اختلاف في الطبيعة؟
عبد الله السفر:
يبدو أن السؤال الآنف لا يريد أن ينتهي عن عمارة (فهرس المكابدات). قيل عن شاعر ذي قامة مديدة أنه مصاب بقلق الاكتمال، فيعيد النظر والتعديل في كتبه المطبوعة. لا أعرف لماذا وأنا أنظر إلى عمارة (فهرس المكابدات) الطليقة في مقاطع وشذرات وشظايا، أشعر أنك مصاب بداء نقيض هو قلق اللااكتمال .. تسعى إليه وتتشبث؟
- من يستطيع الزعم أنه مكتمل قبل أن يموت؟ أخشى أن لديك انطباعاً فنياً يبالغ في النظر إلى النص بوصفه حالة قابلة للانتهاء. إنني أذهب إلى عكس ذلك تقريبا. غير أنني أصدر عن شعور عميق ودائم بأن الكتابة هي قيد التحول مادامت موجودة. ووجودها يتمثل في كونها قابلة للحياة مثل الشخص. وعندما كنت أعد هذا الكتاب للطبع لم يخالجني شك بحق نصي في الحياة بقدر الحق الذي تتطلبه حياة الشخص. وإذا كان القلق الذي تشير إليه دفع النص والشخص إلى وجود إشكالي، فإن هذا من طبيعة حقنا في الحرية.
عبد الله السفر:
في (سيرة النص) قلت عن النص (ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر) وهنا (فهرس المكابدات) (سيد شكل الذي لا ينحني للشكل)، وابتهلت، إلى من ليس كمثله. كما في صلاة أيها الموت. ترى إلى النهاية ولا تصل إلى النص. قاسم الذي ذهب في بطن النص كما ذهب يونس في بطن الحوت. كيف هو وجهك في تقلبه وكيف هي اليدان في (شهوة النيران) والتجارب؟
- دائما أسأل. وربما كنت مثلك أذهب إلى النص ولا أصل. نحن جميعا في حوت هائل عظيم يسمونه الحياة. لا أحد منا يعرف تقاطيعه بالوضوح الذي يعرف به غيابه. نحن مفقودون في سديم يزعم أنه نصنا الأخير. أنظر كيف يتفجر الغموض في سؤالك. أنظر كيف يحلو لي أن ألجأ إلى غموض أحلم بتوضيحه في نهاية هذا السطر دون أمل. أتمنى عليك أن تصدق عندما أقول لك أنني حقا لا أعرف شيئا يسعفني على اليقين بأن ثمة أملاً في نهاية النص، والعذاب المضاعف أنه ليس ثمة نهاية لنص كما سبق أن قلت في مكان ما.
عبد الله السفر:
- (أتجرع لك اليأس وأقول أنه الأمل/نحن مروجو اليأس ولا أمل فينا. فينا اليأس.. اليأس. ولشيوخ الأمل أن يتقفصوا عليه). سمعنا عن تفاؤل الإرادة وتشاؤم العقل، وسمعنا عن بيض الأماني التي فنيت وظلام الليل ليس بفان. ونريد أن نعرف منك. لماذا نقد الأمل وتمجيد اليأس؟
- يكاد اليأس أن يكون هو (أملنا) الوحيد في هذه اللحظة من تاريخنا الإنساني. ثمة حالات متقاطعة لمفهوم الأمل واليأس الذي أصدر عنه أو أذهب إليه. إنني (نثرا) ضد الأمل الرائج الذي هو يأس صراح يريدون لنا أن نعتبره مستقبلا مفتوح الأشداق مثل وحش. و(شعرا) أرى أن من حقنا الدفاع عن حرية اليأس في هذا الواقع. إنهم يخشون يأسنا لأنه الفضيحة الكونية لكل مشاريع (أملهم)، وفي الشعر يشكل اليأس الزهرة التي ينبغي أن نصغي لكلامها العميق وهي تنمو وتزدهر بصعوبة مختلجة بكل أحلامنا. ففي الواقع لا يستطيع شخص الزعم بأن ثمة أملاً في كل هذه المنظومات ومشاريعها. فالشمس إما أن تكون موجودة أو لا تكون. لقد كانوا طوال الوقت يحاولون إقناعنا (على طريقتهم المتفاوتة العنف) بأن الشاعر هو من يبشر بالأمل ويروج له، فيما كانوا يقتلون الشاعر وينفونه ويزايدون عليه. لقد تأكدنا مع الوقت بأن الشعر (عمقيا) هو النقض الكوني للأجوبة الجاهزة المستقرة التي تصادر كل سؤال يطرح شكا في مشاريع الأمل الرائج. من هنا أعتقد بأن (نقد الأمل) هو أحد المقترحات التي يتوجب علينا التأمل في احتمالاتها المفتوحة على أفق شاسع من الأسئلة.
عدنان حسين أحمد
تحاول دائماً أن تستجير بقوة الحلم، هل لأن الحلم فضاء حر بلا متاريس أو معوقات أو مصدات، وبلا خرائط جغرافية أو تضاريس؟
- الحلم مثل الطفولة، مصدر دائم من مصادر الإبداع الرئيسية، الكوابيس هي أيضاً مصدر مهم من مصادر الكتابة، إذا ما فرقنا بين الحلم كدلالة رمزية وبين الحلم في الواقع بمعنى أمل التغيير، وربما يكون شكل هذا الأمل أكثر حرية في الحلم من الواقع وأكثر قدرة تغييرية في تصور المستقبل. عبد الله السفر:
في "يمشي مخفوراً بالوعول" عام 90: "كلما أرخيت أحلامي على حجر مشى" في (فهرس المكابدات) عام 97: "كلما وضعت يدك على حجر، انتفض، وأخذ طبيعة الطير وشكله". لماذا المسافة (متكلم/مخاطب) ترى، ولماذا تختفي الأحلام رغم الهجس بها والإلحاح؟
- إذا رأينا إلى المسافة الرؤيوية، قياسا إلى المسافة الزمنية التي تفصل بين التجربتين، يمكن أن نجد تلك التحولات العميقة في اختلاجات الشخص منعكسة على تبلور النص. ويمكن أن نجد خصوصا المعنى الكوني لهذا الحجر القادر على التحول، هو الآخر، من طبيعة الحلم إلى طبيعة الطير، دون أن تغيب عن بالنا العلاقة الرمزية بين الحلم والطير، منذ حجر هابيل الذي دله عليه الغراب (وهو طير) إلى حلم فريد الدين العطار و(سيمرغه) في منطق الطير. لا شيء يخلو من الدلالة إذا نحن منحنا أرواحنا حرية المخيلة. ينبغي فحسب أن نرى إلى الحجر بوصفه طائراً محتملا، أكثر صراحة منا.
عبد الله السفر:
تقول الشاعرة الألمانية "أولي كومندا". "ولا مرة كل شيء يقال. شيء ما ثمين يبقى دون اكتفاء، ولا يموت" فماذا يقول شاعرنا الذي أعد القبر "قبر قاسم"؟
هذا ليس قبرا، إنه ضربٌ من الأمل.
عدنان حسين أحمد
في ديوانك "النهروان" ليست هناك هندسة بصرية صارمة تحدد شكل النص الشعري، بل هناك رؤيا باطنية عميقة تقترح هذا الشكل سلفاً، هل لك أن تسلط لنا بعض الضوء على تجليات الشكل التي تفضي بك إلى برازخ النشوة واللذة والافتتان، مروراً بتمظهرات الفكرة الناجمة عن طريقة القول الجديدة؟
- لا يصبح شكل النص متجلياً إلا لحظة الانتهاء من الكتابة. فالشكل لا يأتي مسبقاً، ولا هو واضح المعالم في كل تجربة أثناء الكتابة، ففي كل لحظة يمكن أن يكون الشكل شكلاً مختلفاً عن شكله. ثمة سياق روحي غامض يجب الوثوق به بالنسبة إلى الشاعر، ولا تجوز الاستهانة بقدرة الشاعر على الابتكار في كل نص وفي كل تجربة. الشعراء هم الذين يكتبون نصوصهم كما لو أن اللغة هي ملكيتهم الخاصة لا سلطة لأحد أو جهة أن تحول دون حرية المخيلة، والشكل هو من فعل هذه المخيلة بالدرجة الأولى، وظني أن ثمة خمول أو قصور أو تردد في معظم تجاربنا العربية فيما يتصل بالحريات اللامحدودة لفعل المخيلة، وهذا ما يجعل تجربة الشكل في الكتابة العربية بطيئة التحول وتأتي متأخرة عن أثر الخيال الشعري.
ليس ثمة طريقة واحدة للقول الجديد، يمكن القول فقط أن هناك دائماً طريقة قول جميلة قابلة للحدوث في كل العصور والتجارب والأمكنة. والجميل يظل جديداً باستمرار. عدنان حسين أحمد
منذ بداية الثمانينات أي منذ مجموعتي "قلب الحب" و"شظايا" وأنت تمزج بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر على رقعة واسعة من التجارب، في وقت اتسم فيه الوسط الثقافي بالاستقطاب المتشنج والمتحزب بين الأساليب المختلفة. كيف تنظر إلى تلك المعارك التي لا تزال قائمة؟
- لم أعتبر في لحظة من اللحظات أنني معني بما يحدث خارج الكتابة. كتابتي خصوصاً. أكثر من هذا، لم أكن متحيزاً في أي وقت من الأوقات إلى شكل تعبيري أو فني محدد دون غيره، ولا أنفي حق الجميع في التعبير بكل ما يحلو ويروق لهم من الأشكال. ما يعنيني دائما هو النص بوصفه إبداعا أحبه أو لا أحبه. وحتى عندما لا أحبه فان هذا لا يعني أنه ليس إبداعا، لأن ذائقتي الخاصة لا تجرؤ على الزعم بأنها يمكن أن تكون قانوناً أوحد للآخرين، للمبدعين خصوصاً.
من هنا، فان كتابتي الشعر في الوزن وخارجه لم يكن يصدر عن حكم تفضيل هذا على ذاك، إنما كنت أصدر دائماً عن حرية داخلية عفوية أستسلم لفطرتها لحظة الكتابة عندما أشعر بأن ثمة جمالاً ما في هذه الطريق. الشعر كان هو قنديلي ودليلي الذي لا يخطئ. دون أن يكون هذا حكم قيمة ناجز على نجاح النص الذي أنجزته. لكنني، برغم العديد من الحوارات التي عشتها وعايشتها حول أشكال التعبير، فإنني توصلت سريعاً إلى ضرورة عدم صرف الوقت و الجهد خارج النص.
وحتى عندما أشارك في تلك الحوارات، كنت أميل وأدعو إلى التحلي برحابة الفن والأدب، وتفادي مصادرة حريات الخيار التعبيري. لذلك فان حالات الاستقطاب والتشنج المتعصب لهذا الشكل أو ذاك لم يكن يتصل بجوهر طبيعتي الأدبية ولا الشخصية. وأظن أن التجربة الشعرية الجديدة، في سنواتها الأخيرة، قد عبرت عن النضج والرصانة التي منحتها لها طول الممارسة، بحيث سيبدو المشهد اليوم أكثر رصانة ورحابة واستعداداً لقبول مبدأ شرط الشعر في المقام الأول. عدنان حسين أحمد
يقول كمال أبو ديب إن السياقات اللغوية التي يكتب بها قاسم حداد هي سياقات ليست دالة أو متجانسة، بل أنها سياقات مفتتة متشظية تنعدم بين مكوناتها الرئيسية أبسط العلاقات الدالة الممكنة في اللغة، مثال على ذلك: (فتوى النهب، نفير المداخل، زينة الغبار، حديد يديه، مختبرات العسف). ألا تعتقد أنك تدمر ما تحمله البنية من طاقة على الدلالة؟ وهل تتعمد هذا التشظي وانعدام العلاقات الدالة في السياقات اللغوية؟
- عطفاً على إشارتي السابقة هي أننا نقع في تداول بعض المصطلحات غير الدقيقة علي الصعيد الثقافي، أشير إلى المفارقة في سؤالك السابق الذي يتحدث عن السرد في "عزلة الملكات"، وفي حقيقة الأمر أن السرد متوفر في نصوص أخرى أكثر من توفره في "عزلة الملكات".
والطريف أيضاً أن كمال أبو ديب يتحدث عن التشظي في الصورة في "عزلة الملكات" وبالذات في الأمثلة التي أوردتها في متن سؤالك. على أية حال كمال أبو ديب يركز على هذه التجربة التي كانت، كما بدت لي في وقتها، تستجيب لمرحلة من مراحل البحث النقدي التي كان أبو ديب منشغلاً بها وهي موضوعة التشظي وتفتيت الرؤية الشعرية بوصفها انعكاساً وتمثيلاً لتفتيت ظواهر في الواقع. الحقيقة هناك مبدعون كثيرون من الممكن أن يساعدوني في اكتشاف هذا السؤال، وبقية الأسئلة المربكة التي تواجهني، لأنني في العمق لا أمتلك أجوبة واضحة الملامح. أظن أن المبدع سواء على صعيد التعبير المكتوب أو أشكال التعبير الأخرى من الصعوبة بمكان الزعم أنه كان يعي لحظتها ماذا يفعل.
هل كنت أقصد التشظي خلال كتابة النص؟
أعتقد أن هذه المسائل يجري اكتشافها فيما بعد من قبل القارئ أو الناقد فمن المؤكد أنني لا أدرك بوضوح هذه الأمور التي أنجزتها في نصوصي إلا بمساعدة الآخرين الذين يتابعون تجربتي عن كثب.
رولا قباني
لو تحدثنا عن القصيدة – قصيدتك، أنت تبني – كما أرى عالماً صورياً غنياً، فالصورة عندك تشكل منحى خاصاً، وهي المدخل إلى القصيدة، هل هذا صحيح؟
- يكتشف الشاعر دلالات الصور من حركتها في الحياة. وإذا اتفقنا بأن الصورة هي سر الشاعر، فما يحلو لي، فيما أكتب النص، هو أن أتوغل في اكتشاف الصور المتلاحقة التي تقترحها لحظة الكتابة. وبقدر ما تنتابني مشاعر الفرح والمتعة عند الكتابة فسوف يكون حظ القارئ من المتعة في القراءة أكثر. ولن تكون الصور الشعرية صادقة وجميلة ومعبرة إلا إذا صدرت عن تجربة حقيقية في حياة الشاعر. الصدق هو إذاً السر الثاني عند الشاعر. إذا سمح لي ببعض الاستطراد فيمكنني القول إنني أشعر دوماً بأن حالة الخلق الشعري تكون ممتعة وغنية بالدلالات كلما نجحت في تحقيق المعادلة الغامضة التي تساعد على توليد الصور من تقاطع مثالي بين الذاكرة والمخيلة في آن واحد، ويمكن أن أقترح هذا سراً ثالثاً في عمل الشاعر. وربما كان هذا التقاطع وتلك المعادلة يتصلان بشكل عميق بما تمثله في سؤالك بالرؤية والرؤيا. ترى هل يجوز للشاعر أن يتحدث عن قصيدته ؟ أتمنى أنني لم أكن قد تكلمت عن قصيدتي خصوصاً.
حسن عبد الموجود
وما السبب في التباين الشديد في أعمالك؟ بمعنى أن كل ديوان يختلف تماما عن سابقه أو لاحقه؟
- هذا ليس ناتجا عن قرار، إنما عن طبيعة الشخص التي تسأم أن تعيد نفسها في كل مرة، وثانيا لستُ من النوع الذي يتذكر شعره أو شعر غيره، لا أحفظ ولا أتذكر، النسيان يشكل واحدا من أهم عوامل الكتابة عندي، وأعتبره ميزة كبيرة تحميني مما أكتب وأنجز، بحيث أكون بمنجاة من الذاكرة، بمعنى أن لغتي التي أنجزتها ¬أو قل تجاربي عموما¬ لا تكون حاضرة وقت العمل على إنجاز شيء جديد، أبدأ الكتابة كأنني أفعل ذلك للمرة الأولى، لكن هناك قطعا خبرات تختص بعالم اللغة تكون مستقرة في اللاوعي وجزءا دفينا في ثقافتي الخاصة تعمل عملها أيضا أثناء عملية الكتابة، لابد أن أشعر بشيء جديد، لابد أن أكتب شيئا جديدا، ما المبرر أن أكتب نصاً يستعيد النصوص السابقة؟ إنني لا أجد حتى مجرد متعة ذاتية إذا كنت سأكتب النص نفسه ومن يفعلون ذلك يثيرون دهشتي في الحقيقة.
حسن عبد الموجود
هناك من يرى أن كتاباتك مغرقة في المجاز فيما يبدو لآخرين أن المجاز استنفد أغراضه؟
- كيف يمكن الكلام عن أحد أهم أشكال التعبير الشعري والأدبي على أساس أنه استنفد أغراضه.. أو لم يعد صالحا؟
المجاز أداة فنية تعبيرية صالحة في كل العصور وقابلة للاجتهاد المتكرر والدائم، المجاز مثله مثل الأشكال التعبيرية الأخرى صعب الكلام عنه باعتباره لا يصلح لأن المهم هو قدرة الشاعر على استخدام هذه الأشكال.
سامر أبو هواش
يلاحظ في قصيدتك ذلك الحضور القوي للمكان، أعني المكان الطبيعي، في مداراته الواسعة، ولا سيما في وعورته، هل يمكننا اعتبار المكان رافداً من روافد حساسيتك الشعرية؟
- انه سؤال فذّ حقاً، لأنه يضعني في مهمة اكتشاف ملمح شعري لا أزعم أنني سبق أن أدركته (بالمعنى النقدي) وبالتالي لا اعرف كيف أدخل في جواب جاهز لهذا السؤال.
ولكي نكون أغنياء بصراحتنا ومحصنين ضد المزاعم، فان الشاعر ليس بالضرورة يكون مدركاً (بشكل مسبق، ولا حتى لاحقاً) لكل الملامح الشعرية والمكونات المادية لكتابته، لأن ذلك يحدث عندما لا نكون قد قصدناه تحديداً وهذه هي الحقيقة بالنسبة إلي على الأقل. لذلك فان حضور المكان في قصيدتي، كما تشير، هو شيء قد يكون حدث فيما بعد. فيما بعد الشاعر والقصيدة. القارئ خصوصاً هو الذي يقترح تأثيث مخيلته النشيطة بأدوات القصيدة الافتراضية. وهو فعل حب مضاعف، يحلو لي أن أستقبله كما لو أن ثمة فرصة لقصيدتي لان تعيش مجددا ودعني أقول أن لدي شعوراً غامضاً بأنني كنت مرشحاً دائما لفقد مستمر ومحتمل لمكان ما. لا أعني الوطن والأرض كما القضايا الكبرى. لكن المكان الآمن للحب. والحب، عندي هو الحياة كاملة. عندما كتبت لم أفكر لحظة في التعبير عن ذلك. لكنني منذ بدأت وعي الحياة كنت أرى أن البيت والعائلة هما مكاني الكوني الذي لا يضاهى. حتى إنني، من بين أصدقاء كثيرين ورفاق نضال تعرضوا لمغادرة البلد، تفاديت ذلك حتى الآن. لدرجة أنني كنت أشعر بأن الزنزانة في البلد أفضل من جنة الغربة أو المنفى. وكنت كلما التقيت بأصدقائي في منافيهم وغربتهم أوشك أن أجهش بالبكاء لفرط معاناتهم.
المكان هو إذاً الجزء الحيّ من جغرافية وتضاريس الطبيعة. المكان بوصفه آلة الحب التي تصقل حواس الحياة. أكتشف هذه الحقيقة في تجربة كل نص أكتبه. وإذا حدث أن النصوص الشعرية استوعبت هذه التجربة من حياتي ففي ذلك نعمة أحب أن أحتفي بها. لأنني أعتقد بأن الإنسان لا يستطيع أن يكون موجوداً وقادراً على السعي إلى حرية وجمال عالمه إلا إذا كان في مكان يحبه ويرتاح له ويأمن النوم والحلم فيه. القصيدة تحاول أن تكون "مكاناً"، لكنها تفشل كثيراً، فهي ليست سوى المكان الافتراضي الذي يؤثث حلم الشاعر بفردوس وشيك، مهدد وغامض وبعد أن نجرد المكان من دلالاته الجغرافية، فان شعورا يشبه الموت سوف ينتابني دائما كلما تركت المكان الذي عشت فيه أو اسكن فيه. ثمة حالة مرضية تجعلني اضعف الكائنات بعلاقته بالمكان. ويعرف أصدقائي عني أنني لا أطيق احتمال البقاء طويلا خارج البحرين، لم اشغل نفسي بتفسير هذه الحالة، لكنني ارثي لأصدقاء لي يعيشون في المنافي الإجبارية بعيدا عن الوطن.
بالطبع هذا لا يعني أن الوطن هو الفردوس بالنسبة إلى الشاعر. إطلاقاً. كل ما في الأمر هو أن الغربة والشعور الهائل بحالات الموت والمصادرات لا يمكنني تفاديها مهما ابتعدت جغرافيا عن الوطن. لقد كان عملي منذ وعيت على تجربة الكتابة عالما مؤثثا بالعذاب بشتى تجلياته. وحساسيتي مع المكان هي نتاج تاريخي واجتماعي للمعنى الإنساني الشامل لدلالات الوطن –البيت-الحرية-العدالة، ربما لأنني لم أتمتع يوما بما يمكن تسميته بالبوح الصريح في هجاء الوطن. ليس الوطن بوصفه مكانا مجردا، لكنه الميثولوجيا الإنسانية التي تمنح الشخص الشعور بالحب والحرية والاطمئنان وعدم الخوف والتخلص من حالة المصادرة الدائمة والإحساس بحقه المباح في المطالبة بالحق العام والخاص معا دون محاذير تفسد عليه حياته وتحوّل هذا المكان الأسطوري الذي يدعى الوطن إلى جحيم. كيف نتخيل الشاعر يكتب قصيدته في الجحيم. وكيف يمكنني أن أصف تعلقي بمكان هو بمثابة الجحيم. فحتى لو كان جحيما بالفعل فانه أكثر رأفة من ساعة الغربة في مكان محدد في حين أنها تذهب إلى ابعد نقطة في الكون.
رولا قباني:
الغربة والموت، أهما صنوان للحياة، أم هما بمعنى آخر تمثلا لحياة كائن يعيش قصيدته منقطعاً عن العالم، حيث يرى أن الخطوة مكانها أراض أخرى لا متسع لها على كوكب الأرض؟ وإن أوغلت في التفسير أقول، هل أن لحضور الغربة والموت في قصائدك منحى يؤشر إلى إحساس بلا جدوى المكان؟
- لا أفتعل الصورة ولا المعنى ولا أزعم دلالات لا تتصل ولا تصدر عن تجربتي في الحياة. وبسبب من موقفي الجذري تجاه بعض المسائل المبدئية في الواقع وفي الأفكار، أجد أن الشاعر في داخلي هو دوماً البوصلة التي لا تخذل عندما يتعلق الأمر بالمصائر التاريخية في التجربة. ولحسن الحظ فإن الشاعر عندي هو ضرب من المتصوف الذي يكتسب قوته من ذلك الضعف الأسطوري الكامن في الزهد، حيث لا يملك شيئاً ولا يملكه شيء. ترى أية قوة في العالم تستطيع أن تهزم كائناً ضعيفاً إلى هذا الحد، كائن لا يريد شيئاً من أحد على الإطلاق. لقد قامت حياتي منذ البدء على هذا السرّ. وحاولت دائماً على أن لا أفشل في هذا الصراع غير المتكافئ بيني وبين السلطات من حولي بشتى تجلياتها، وأحب أن أقضي الباقي من حياتي محافظاً على هذا الحد الأدنى من الحياة. لم أعد أخشى شيئاً، وقد تعلمت عائلتي الصغيرة على تحمل نتائج ذلك الحد الأدنى دون تذمر. لقد تيقنت من التجربة أن هذا المكان لا يسعني حقاً، لا يسعني لأنه لم يعد يفهمني، وهذا ما يضاعف الغربة دون أن تغلبني. على العكس، فقد تمكنت أن أصوغ، بضعفي وزهدي بأشياء الحياة التي تصادر حريتي، نوعاً خاصاً من الاكتفاء بمشاعر عميقة من الحرية بلا طيش والثقة من غير غرور. لقد قلت ذلك في نص "إنني قلعة تنتظر دائماً" أظن أنه "علي بن أبي طالب" الذي قال "يا دنيا غري غيري".
ولكي أجسّد ما أذهب إليه من قوة الشاعر في الكائن، دعيني أروي لك حكاية صغيرة من فلسفة "الزن" القديمة.
فعندما احتل جيشٌ إحدى المدن الكورية، لاذ الجميع بالفرار من المعبد إلا كاهن المعبد. واندفع قائد الجيش إلى المعبد غاضباً وهو يرى ذلك الكاهن الذي لا يكترث به ولا يهتم باستقباله كفاتح ولا يردّ عليه التحية.
فصرخ فيه القائد: "ألا تعلم أنك تنظر الآن إلى الشخص الذي يمكنه طعنك دون أن تطرف له عين؟"
فأجابه الكاهن: "وهل تعلم أنك تنظر الآن إلى الشخص الذي يمكنه أن يتلقى طعنة رمحك دون أن تطرف له عين ؟"
سامر أبو هواش
هل يمكن اعتبار موضوع الموت أو الغياب محرّكاً أساسياً في شعرك؟
- فكرة الموت بالنسبة إلي ليست مخيفة فحسب، ولكنها أيضاً غامضة، لأنني لا أعرف أين سأذهب. هذه هي المشكلة بالنسبة إلي. أحب دائماً أن أعرف إلى أين تأخذني الطرق. والموت مكانٌ لم يعد منه أحد لكي نعرف ماذا حدث هناك. كما أن الإجابات الجاهزة والغيبية التي تقترحها علينا الاجتهادات الدينية والبشرية ليست فقط غير مقنعة، ولكنها أيضاً غير مطمئنة. إن فكرة الموت لا تُحتمل بالنسبة إلي، وأظن أنها غير عادلة، وخصوصاً عندما يحدث ذلك في مقتبل العمر أو في منتصفه أو قبل إنهاء العديد من المشاريع التي أمضى الإنسان سنوات عمره من أجل تحقيقها.
كمثال، ماذا يعني أن أموت قبل أن أنهي كتابة النص الذي أشتغل عليه والمشاريع الثلاثة التي بدأتها في السنوات الأخيرة. هذا أمر غير مفهوم، ولا تفسره لي فلسفات الأديان واللاهوت جميعها.
لذلك ينتابني أحياناً شعور بعدم تصديق ذلك، وارتاح لهذا الشعور لكونه يضع الفكرة جانباً لعبثيتها، وأخشى أنني حاولت (من غير قصد) أن أفتك بفكرة الموت فيما أقترح لنفسي قبراً مبكراً على شاكلتي. لكي أزعم أنني لن أموت أبداً.
من جهة أخرى، إذا نحن سلّمنا (لئلا أقول استسلمنا) لفكرة الموت، سوف يرعبني حقاً الطريق إليه، أو الوسائط الجهنمية التي ربما لا أستطيع تفاديها. وأعني حالات العجز والشيخوخة أو المرض. إن هذا سيكون أكثر ضراوة من الموت. لذا أفكر دائماً، أعني أتمنى أن أموت فجأة، أموت أثناء قدرتي على الحياة. وأخشى أن أقول برغبتي في الموت قبل ذلك. قبل النهاية. مثل الكفّ عن قراءة الشعر قبل سأم القاعة.
سيبدو الأمر ضرباً من العبث الفظّ. حتى من غير أن نجهد النفس للتعمق في الوجود، فقط علينا أن نشاهد الموجود. إنني في منطقة العبث تماماً، ولا أجزم بقدرتي على الخروج سالماً.
أحياناً أصاب بحالة من لا معنى لحياة الإنسان. هذا الإنسان الذي بذل تاريخاً كثيفاً من التضحيات عبر التاريخ البشري لكي يهنأ بلحظة كريمة ومكان آمن دون جدوى. ترى لماذا أرادت الآلهة لهذا الكائن أن يظل (وإلى الأبد) ضحية العذاب الدائم، وهو الكائن الضعيف الذي أمضى كل عمر خليقته في الصلاة والعبادة. أليس ثمة آلهة ترأف به لمرة واحدة وإلى الأبد؟ ما هو المعنى الإنساني البسيط للدين؟ هذا سؤال من حق الإنسان على ربه. وسيكون على الله أن يرأف بعباده الذين يستفرد بهم طغاة لا يرحمون.
لكن، من المؤكد بأن قضية الموت هي واحدة من أخطر ما تنهض عليها حالة الكتابة كمفهوم تعبيري يقاوم فكرة الفناء من جهة، والكتابة بوصفها اقتراحاً جمالياً يمنح المشروع البشري غموضاً نبوياً أو قل الوهياً لا تخلو منه مخيلة الشاعر.
فالموت إذاً ليس فقط محركاً أساسيا في كتابتي، أظن أنه الحركة الأولى في كتابتي، وربما منذ بواكير ما كتبت إلى نص "قرين الوحشة" في كتاب "قبر قاسم".
بهية مارديني:
ما هي طقوس الكتابة لديك؟
- كنت في فترة مضت أتوهم بأنني من الممكن أن اكتب القصيدة في دفقة واحدة. وقد تخلصتُ من هذا الوهم بفعل تراكم التجارب والطعن في السنّ. في السابق كنت مولعاً (وربما متدرباً بفعل ضرورات الظروف) بالكتابة في ليل المكان. تجربة السجن اقترحت علي مثل هذه الحالة فأحببتها بعض الوقت. كأن عين الأعماق هي التي كانت تقود القلم. لم تستمر هذه العادة طويلا، وخصوصا بعد تجربتي مع جهاز الكمبيوتر المدهشة.
بدأت بنقل المسودات من الورق أولا، ومن ثم صرت الآن لا أحسن كتابة جملة مفيدة بالقلم. انه انتقال كوني غير قابل للوصف بسهولة وعجالة مثل هذا الحديث.
أصبح الاشتغال على النص دون أية وساطة أخرى واشعر أن للقصيدة على شاشة الكمبيوتر شكلا مختلفا، إلى درجة الإحساس بأن النص أكثر حياة على الشاشة منه على الورق. هناك النص يعيش وينمو ويتبلور.
بهية مارديني
هذا يعني انك تكتب النص وتشتغل عليه وفق مراحل عديدة على خلاف من يكتب نصه مرة واحدة معتقدا أن حرارته تبقى متوهجة أكثر؟
- في الواقع يظل النص عندي فترة طويلة، وما تقولينه يتوقف على كل شخص في عاداته لكن الكتابة دفعة واحدة يمكن أن تفوت على الكاتب الكثير من المتعة والمكتشفات وتحقيق الأفضل. فثمة صور بحاجة إلى إشباع وتركيز وبلورة. ومن هنا تأخذ الكتابة في بعض المراحل جماليات تضاهي الكتابة الأولى للنص، وعلى الشاعر ألا يفرّط بهذه المتعة التي تمنحه آلية نوعية ليعبر عن نفسه وما يريد قوله، لأن الكتابة الأولى تكون كتابة عاطفية أما الكتابة في المراحل الأخرى فيتعرف الشاعر نفسه على النص كناقد ومراجع.
بهية مارديني:
- في البدء كل إنسان يواجه احتمالات ثلاثة: أشياء ينتظر أن يحققها ولا تتحقق وأشياء لا ينتظر أن يحققها وتتحقق وأشياء ينتظر أن يحققها وتتحقق، ما مساحة كل واحدة من هذه في تجربتك أدبياً و إنسانيا؟
- هذا سؤال أربكني حقاً، لأنه مثل حَزُّورة تلتبس فيها الأشياء على الشخص. حقيقة لا أتذكر أنني وقفت يوماً أمام مثل هذه الأسئلة. وقد أكون شخصاً بلا هدف منظور ولا متطلبات ولا مشاريع مستقبلية. مشكلتي بالفعل إنني لا أعرف تماماً معنى أن ينظر المرء إلى المستقبل. في حياتي كلها كان يلازمني شعور "بالآنية"، إذا جاز القول. ولم أتعوّد الكلام جازماً عن يوم غد أو الأسبوع القادم، ناهيك عما هو أبعد.
هذه مسائل أكتشف الآن أنها كانت طبيعة حياتي. ربما بسبب عدم ثقتي بكافة المشاريع والأوهام التي تحاصر حياتنا لتأخذنا إلى الإخفاق والخذلان والفشل والهزيمة. كأني شخص آني، أعيش في الراهن فقط وأترك كل شيء للمصادفات الخرافية تقودني، ولذلك عادة (وبالمقابل) دقيقٌ في مواعيدي، أحاول أن أكون في الموعد بالدقيقة، ربما لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي أستطيع امتلاكه بوضوح، لأنه يحدث الآن، فبعد هذا الموعد لا أعرف تماماً ماذا سيحدث، فليس لدي برنامج له. وهذا ما يجعلني أيضاً عنيداً إزاء أية محاولة لإجباري على الذهاب إلى مواعيد أو المشاركة في مشاريع لا أحبها. إنني أحاول أن أفعل ذلك ، لعلي لا أفشل دائماً.
من هذه الشرفة، لا أكاد أتذكر الأشياء التي تحققت وكنت تمنيتها. لكن بالمقابل فإنني إذا تحمست لتحقيق شيء مع آخرين تجدني مندفعاً لذلك بحماس أطفال ما بعد الدرس.
اسكندر حبش:
مضى اليوم زمن منذ أن بدأت هذه الرحلة الشعرية إلى أين مضى بك القطار، هل من محطات توقفت فيها أم انك لا زلت تسير، ونحو ماذا؟ وبمعنى آخر، هل اختلفت دوافعك للكتابة اليوم عما كانت عليه في ما مضى؟
- الشعر مثل الأفق، لا تستطيع أن تفعل شيئاً سوى أن تذهب إليه. والطريق إلى الشعر، مثل الطريق إلى الحب، هو دائماً أجمل من الشعر ومن الحب. كأن في هذا ما يشي بكلمة النفري عندما قال بأن في المغامرة شيئاً من النجاة. شعرياً أحب أن أرى في التجربة سفراً متواصلاً لا يكفّ عن التألق بقدر تأجج شهوة العشق في القلب. أخذتني القطارات واختبرتني المحطات ووضعني الشعر تحت الامتحانات الكثيفة، وكنت أعمل على صقل روحي في كل محطة، في كل نص وكتاب وتجربة. وتعلمت أن الأقانيم الثلاثة في الحياة سوف تتمثل في الحب والشعر والحرية، تلك الأقانيم التي تقاطع معها أو تولع بها سرياليون رائعون قبلنا، الأقانيم التي لا يمكن تفاديها كلما تعلق الأمر بالشعر. ولعل التجربة الكثيفة (في النص والشخص) سوف تجعل ذلك الأفق الذي أذهب إليه هو في المتناول عندما تقدر المخيلة على نشاطها الحيوي بالحرية ذاتها وبالجمال ذاته وبقدر جدير من الحب.
بالطبع لم تعد شهوة تغيير الكون (المبالغ في تعضيدها سياسياً) هي ذاتها مصدر الشخص ومذهب النص شعرياً. لقد صار المرء أكثر (تواضعاً) كلما تقدم في الشعر والتجربة. الآن لا أخفيك بأنني لا اطلب سوى أن أتحصن ضد شهوة السلطات (المتعددة غير المتناهية من حولنا) في تغييري على هواها. لابد من الاحتفاظ بهذه المسافة الذهبية/ الجهنمية بينك وبين السلطات، فحتى عندما تبدو هذه السلطات غير مكترثة فإن أحداً لا يكترث مثلها. إنها ترقبك عن كثب لكي تنالك. فإذاً، التواضع الذي أشير إليه هو ذاته المستحيل الذي تكلم عنه "رينيه شار" قائلاً بأن "المستحيل لا نذهب إليه، إننا نستخدمه كقنديل". الشعر يمنحني الثقة في أنني أقوى من تلك السلطات كلها.لذا فان دوافع الكتابة لا تتصل بجذورها الأولى إلا في ما يتعلق بكون الشعر والإبداع عموماً هما في الجوهر فعل حب لا يجوز التفريط فيه ولا وضعه في مهب الوظائف والغايات. الحب سوف يأسر القوى الأخرى. إنني أتعلم هذا كل يوم.
وليد معماري:
من يقرأك يشعر أنك أتيت من عتمة، ثم بعد لحظة إضاءة خاطفة تمضي إلى عتمة جديدة. !
- في أحد نصوص كتاب "قبر قاسم"، وصفتُ الحياة بأنها "ضوء صغير بين ظلامين". لا أعرف ما إذا كان ذلك الوصف يصلح لإضاءة انطباعك الوهلي عن تلك العتمة الافتراضية في النص. غير أن سؤالك ينزع إلى ما وراء النص، وهو نزوع لا أزعم أنني قادر على مجاراته، حتى بوصفي الشعري. لأن الواقع سوف يخذلنا بلا هوادة. فلم يعد الشعر قادراً على طرح الوعود بنبوءات غير معترف بها، لفرط غموضها، ولم يعد الواقع يعترف بنص يخرج من حدود الواقع ويخرج عليه. حتى أن لحظة الإضاءة الخاطفة تلك لن تشفع للشاعر لكي يتاح له البوح برؤياه.
لا أروّج لليأس، ففي الواقع من اليأس ما يكفي تسع قارات بأحيائها وقبورها معاً. غير أننا لن نصل إلى مكان أبداً، لسبب واحد وحيد، هو أننا لم نعد نتحرك من مكاننا منذ القرون ذاتها التي أشرت إليها في سؤالك الأول. والمستقبل كما تعرف لا يأتي أحداً ما لم يذهب إليه.
ورأيي أن كلمة، المستقبل، هي الكلمة الأكثر غموضاَ في حياتنا العربية. شخصياً ما إن أسمع هذه الكلمة حتى ينتابني شعور غريب لا أفهمه، شعور هو خليط من عدم الثقة أو عدم الاكتراث والارتباك. يخالجني ما يشبه الإحساس بأن ثمة من ينصب لي الشراك بهذه الكلمة. فالمستقبل في حياتي، لئلا أقول حياتنا، هو غير وارد كمصطلح قيد الاستخدام كفعل دال. انه معنى غير نشيط في مخيلتنا أو سلوكنا الإنساني. إنه فرض تداول آلي غير محمّل بأي دلالات أو مسؤوليات واقعية. إنها كلمة تقال لأننا لم نخترع كلمة نقولها في سياق دلالي مثل: التهلكة، أو الطريق غير النافذ، والصندوق الأسود المفقود.
من هنا أعتقد بأن شعور المذعور من المستقبل على أحفاده هو ما جعلني أقول في كتاب "عزلة الملكات": "أرى إلى المستقبل قبراً قبراً"، دون أن يكون هذا تكهناً بما سيحدث بعد أكثر من عشر سنوات من ذلك النص. فواقعنا ليس في حاجة إلى تنجيم الشعراء تحت طائلة الرؤيا الشعرية. نحن ضحايا مستقبل غير موجود، يأخذنا إليه، بدرجة عظيمة من التهوّر وعدم التبصر والوحشية، أدلاء يشيخون وتتهدّل أعضاؤهم ويفقدون الحواس.
وليد معماري:
أنت تقول عن الشاعر "عن نفسك" إنه "لا يرى في الكتابة سوى قناديل سوداء في يد كائن أعمى". وتعتقد أن الشاعر "لا يحسن شيئاً مثل تضليل الآخرين عن السبل التي يذهب إليها" هل هذا بسبب أن الشاعر "يتصرف مثل وحش جريح ومحاصر" هل تكتب الشعر لأنك "خائف وفي خطر دائم"؟
- مرة قال كافكا: "ان مجرد الخروج من عتبة الدار، هو بمثابة المجازفة غير مأمونة العواقب".
تعال أخبرني عن مسافة عربية، وغير عربية بالطبع، غير محفوفة بالخطر. بالطبع لا أقصر كلامي على الخطر الافتراضي الفلسفي الذي يواجه الإنسان المعاصر، بل أعني على الأخص الخطر بوصفه الفيزيائي المباشر حيث المرء في مهب المداهمات منذ لحظة استيقاظه من النوم حتى سقوطه في الإغماء آخر الليل.
كأن يكون الإنسان في مطار أو طائرة أو غرفة هاتف أو مأدبة عشاء متأخر، أو حتى في لحظة حميمة. تعال أخبرني عن مكان آمن للحبّ في هذا العالم.
لقد تعبتُ، تعبتُ من حال الخطر المتواصل، حتى أنني عندما قلت ذات حديث بأنني أكتب الشعر لأنني خائف ومذعور، قلت ذلك لمجرد الكناية والوصف الشعري فحسب، دون أن أقصد أن على الشاعر أن يصادف الذعر والتهديد على مدار الساعة لكي يحصل على قصيدة جديدة.
هذا وهمٌ يتوجب تفاديه في سبيل أن نعيش في سلام ولو للحظة حقيقة قبل الموت. غير أن أحدا لا يكترث.
|