الشكل, في الطريق إلى النص
سلام سرحان
الشكل، المضمون، اللغة، كيف يتوجه الشاعر بين هذه الإحداثيات؟
- سأفترض أن هذه المصطلحات من بين الأدوات التي يمكن مصادفتها يومياً في السجالات الأدبية والنقدية خصوصا حول قضايا الشعر والتعبير الأدبي. لكنني بعد ذلك مباشرة سوف لن أكون جازماً بأنها مصطلحات واضحة الملامح المعرفية في مشهد الحوار النقدي العربي. لذلك فإن مثل هذه التعبيرات ستكون عرضة لما لا يقاس من التحول، إلى درجة أن طبيعتها الجوهرية تظل في مهب موهبة وطاقة كل شاعر ومبدع على منحها الملامح والحدود. ربما لأن مصطلح "الشكل" مثلاً، سوف يختلف بدرجة أو بأخرى في تجربتي الروحية والثقافية وحساسيتي الشعرية، عنه في متناول شاعر آخر، مما يجعل الأمر غاية في التعقيد. ويمكننا تخيل الأمر نفسه بالنسبة إلى مصطلحَي المضمون واللغة. ولا أقول هذا في سياق القدح، إنما أحاول توصيف ما أشعر أنه حالة أصادفها ولا أخشى منها. على العكس أعتقد بأن من طبيعة القدرة الإبداعية لدى الشاعر أن يتمكن بالفعل من التعامل مع هذه التجربة المحتدمة بقدر واضح من الموهبة والمعرفة في آن واحد. من هنا، أرجو أن تكون مثل هذه الظواهر مسافة مقترحة نتأمل طبيعتها المادية في حياتنا ونحاول أن نمنح أنفسنا قدراً من الحرية في الخروج على الحدود التي كرستها لنا التجارب الشعرية والنقدية السابقة، والتي صدرت عن وهم أن الشكل حدود، واللغة حدود، والمضمون حدود، الأمر الذي جعل الشاعر يتحرك في غرفة مظلمة من ألغام نقدية تزعم أنها حديقة المستقبل.
سلام سرحان
في كتابك "ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر" تكاد تنسف "المضمون" الذي رسخته الثقافة العربية على مر العصور، وتحاول أن تتطرف في انتصارك "للشكل"، ولا غضاضة في ذلك أو حرج أو مجازفة، لكنك تصرّح دائماً بأنك "لا تحتمل كتابة النص في الشكل ذاته مرتين" ما صحة هذا التصريح، ألا تجد فيه نوعاً من المبالغة؟
- لا أميل إلى مثل هذه الانطلاقات الملتبسة. وظني أن ثمة مسافة يتوجب أن ندركها بين العمل الإبداعي الذي تحدث فيه الأشياء، بآلية موغلة في الغموض والعفوية وأحب أن أقول البدائية أيضاً، وبين العمل النقدي الناشئ عن التحليل والدرس، وهذا يحدث بآلية واعية ومقصودة متصلة بالذهن، مما يميزها عن عمل القلب والعاطفة المتأججة التي تحقق الأشياء وهي تعمل أشياء غيرها.
لستُ متطرفاً في انتصاري للشكل، على العكس أعتقد بأن هذا هو الموقف الطبيعي للشاعر، فالشعر والإبداع يأتيان بما يقترحه الشاعر من شكل جميل. بل إنني أخشى كثيراً من كوني عاجزاً عن مجاراة ما تقترحه عليّ المخيلة أثناء الكتابة، وهي مخيلة غالباً ما تكون أكثر جرأة من جلافة الذهن وميل الإنسان طبيعياً إلى النوم الصامت، وهذا الضرب من النوم أسميه موتاً أبيض، أي أنه خالٍ من المخيلة النشيطة.
لذلك صادف أن تحدثت ذات نص عن الجسد الذي يهوي فتنهره الروح.
واذكر هنا أني أشرت مع أمين صالح في "موت الكورس" إلى إرهاب القارئ، وكنا نعني تلك "الجاهزيات" التي يصدر عنها القراء وهم يخضعون في اتصالهم بالنصوص الجديدة إلى قوانين قديمة تشكل نقيضاً لأدوات التعبير الجديدة. ونعني بالأخص المفاهيم السائدة في الثقافة العربية، بتكريس من المنظورات النقدية التقليدية، وهي مفاهيم تجعل من القارئ، بضغط من الناقد، يأتي إلى النص بقوالب مسبقة وأحكام تكاد تكون حديدية لا يقبل الخروج عنها، وبالتالي يجد نفسه مؤهلاً (بدعم من نقد قاس) للحكم مسبقاً على التجارب الإبداعية الجديدة بأنها ليست أدباً ولا فناً. الإرهاب الذي نعنيه هنا هو ما يقع على القارئ ويستخدمه القارئ بدوره على الكاتب. وأخشى أننا جميعاً سنقع دوما ضحية الجاهزيات إذا نحن لم نتواضع قليلاً أمام اقتراحات المبدع، ونخلع وشاح القضاة ومطلقي الأحكام، لنقف أمام النص كما نقف في حضرة صديق حميم يريد أن يهمس كلماته برفق وحزن ويمضي.
جعفر عمران
تقول: "ما يبقى من صنيع الشاعر بعد كل شيء هو اللغة، وهي ثروتي الشخصية التي لا يشاركني فيها أحد"، إلى أي مدى تصير اللغة روحا للنصّ؟
- لا، إنها أكثر من الروح قليلاً. إنها الصلب الأول والفرح الأخير. وكلما صدر الشاعر عن العشق العميق لها حق له أن ينعم بخيراتها. ليس ثمة شاعر يبدع شيئاً إذا استخف أو تقاعس أو استهان بما بين يديه من الثروات الباهرة الجمال والبالغة الخطورة في آن. واللغة، لدى كل شاعر، هي شخصيته الخاصة، لا يقصر عنها ولا تقصر عنه. لا يقلدها ولا يقلد غيرها. لكن قبل ذلك وبعده، ليست اللغة أداة مفصولة عن النص والشخص كلما تعلق الأمر بالحياة. ليست اللغة فرضاً من اللعب الخارجي المقفوز به (المقفوز عليه) في الهواء. فالوقوف عند صقل اللغة وتغنيجها سيؤدي غالباً إلى إنتاج الأشكال الفقيرة للحياة. والأخطر في تلك اللحظة هو أن يكتب الشاعر نصاً فيه مسافة فاصلة بين الحياة اللغة. ففي اللغة من الحياة ما يستعصي على التقدير. من هنا أشعر دائماً بالرهبة كلما جلست اقرأ نصي الجديد وأرقب حركة الحياة في تلافيفه وفي ثناياه وفي عناصره وفي أحلامه. ربما هذا هو الشعور الذي يمنح الشخص امتحاناته الحاسمة: اللغة بوصفها حياة.
جعفر عمران:
وتقول كذلك: "نفي الشكل الشعري هو نفيٌ للشخص الإنساني كفرد وذات، في مقابل ترجيح العمومية المتمثلة في المضمون تحت شعار جماعية الرؤية". إلى أي حدّ ساهمت أغلال الشكل في تقييد الشعر العربي؟
- الشاعر، فيما يثبت قدرته الإبداعية، لن يتوقف، ولن تمنعه المواضعات الموروثة، عن ابتكار لغته: شكلاً وروحاً. ففي حين لا ينبغي التنازل عن حق الشكل الجديد في الكتابة، ليس من الحكمة التفريط بحق المسّ الشفيف، لكن العميق، بالواقع الرهيب الذي من المبالغة الزعم بتفاديه لحظة الكتابة. غير أن شرط الفن الذي يقترحه علينا المبدع هو ما يمنح الشعر حريته الفنية وقدرته الفريدة في سبر هذا الواقع دون الخضوع له أو مجاملته. في الكتابة الأدبية، الشعر خصوصاً، لا معنى لنص بدون الذاتي العميق فيه، بالمعنى الذي تنداح فيه شخصية الشاعر بحرية، ولكن بجمالية تقنعنا بأنها جديرة أن تهتك مواصفات المألوف وتجترح ما يختلف ويخالف ويتجاوز المستقر والثابت. الشخصية الذاتية للفنان في كتابته هي عنصر مقدس ليس من الإنسانية التنازل عنها أو التفريط بها.
عزت القمحاوي
تتحدث عن التمرد على الأشكال، ولكن ماذا نفعل إزاء حاجتنا إلى الأسماء، نريد أن نسمي ما نكتبه؟
- لا أستخدم تعبير (تمرد)، أحب أن أقول: حرية الشكل. ربما لأن ثمة عمق وجمالية في النزوع إلى الحرية بسبب ديمومة وشمولية هذا التوق المرتبط، خصوصاً، بالحق الأزلي للتعبير الإنساني بشتى أشكاله.
لكن لماذا تشغلنا مسألة التسمية إلى هذا الحد. لماذا نحن نشترط التسمية لأشكال حياتنا، كما لو أن أشياء حياتنا لا تأخذ مشروعيتها إلا بعد تسميتها وتصنيفها وتوصيفها، وبالتالي تقنين كينونتها وسرعان ما تصبح قانوناً. هل نحن ضحية شهوة القانون لكي تأخذ حياتنا طبيعتها الوجودية؟ وهذا ما يفسّر الإنشغال المضجر الذي يتكرس منذ سنوات طويلة إزاء التجربة الشعرية الجديدة، منذ قصيدة النثر.. إلى آخره. أليست الكتابة هي الأهم؟
إن حرية الشكل لا تتطلب سوى تشغيل المخيلة على الجانبين: الكاتب والقارئ. وما ينتج عن ذلك فإنه يأتي فيما بعد. وعندما يتمكن الكاتب من إقناع القارئ بأنه إزاء نص قادر على النفاذ إلى النفس، فهذا جدير بالاهتمام. وخلال هذه العملية، سيكون علينا الإستعداد لإعادة النظر في كافة التسميات والمصطلحات المتداولة في التعامل مع الأشكال الفنية المتاحة. فماذا يعني أن نقول قصيدة أو مسرحية أو قصة أو رواية؟ هل يمكننا الجزم، الآن، بأن مصطلحاً مثل "قصيدة" قادر على حمل الدلالة الفنية والتقنية خصوصاً والخضوع للتوصيف الأول للقصيدة في الثقافة العربية التقليدية؟ هل هو مصطلح جامع مانع لذلك التوصيف؟
والأمر نفسه بالنسبة إلى القصة والمسرح . ألا يمكننا العثور على انزياحات تعبيرية لأشكال أخرى مثل الشعر والسرد في العمل المسرحي، ألا نجد أيضاً أن سرداً رائعا في العديد من النصوص الشعرية، أليس في القصة التي تكتب الآن نصوص شعرية ومواقف درامية و تألق ملحمي؟
ما الذي يمنعنا من الإستمتاع بكثير من هذه التجارب بمعزل عن الإنشغال بتوصيفها تقنياً؟
إذاً، أليس من حق المبدع أن يطرح الأسئلة الإبداعية على الآخرين، ومن بينهم النقاد؟ ألا يأتي الإبداع أولاً ومن بعده يأتي النقد؟ المبدعون هم المكتشفون للآفاق في مقدمة الآخرين، ومن بينهم النقاد. و إذا طاب للبعض أن يسمي فهذا شأنه، وهو حر في ما يريد، لكن من المؤكد أنني لست معنياً بوضع أنفاسي في قوالب، أو وضع أحلامي ومعطيات مخيلتي في أطر. إن الكاتب يذهب ، فيما يكتب، نحو أشكال لا تتوضح إلا بعد اجتياز التخوم. وهنا يتوجب الإيمان بأن الحدود الموروثة لأشكال التعبير ستكون أكثر جدوى وفعالية وجمالاً إذا نحن نظرنا إليها بوصفها آفاقاً وليست تخوماً، وعندها تصبح لحرياتنا (وهي الحريات المتبقية للإنسان العربي) معنى.
عزت القمحاوي
هل يعني هذا انتهاء النوع لصالح نص واحد، فإذا نحن نقاوم أنواعاً أربعة ستفضي إلى التضييق ؟
- ليس ثمة نهاية لهذا الأفق. فما إن تبدأ في تأمل الأفق حتى لا يعود لمخيلتك حدود تمنعها من ابتكار الأشكال لحظة الكتابة. إن في الأفق اللانهائي للحياة الإنسانية ما لا يقاس من الأشكال، على عكس ما يعتقد السؤال. نحن لا نقاوم أشكال أربعة (وهي أكثر من ذلك على ما أعتقد)، لكننا نفتح هذه الأشكال المستقرة على سبل ورحابة لا تقبل الإستقرار. تماماً مثل الإيقاع الحيوي لحياتنا الجديدة. والتوهم بأن الأشكال الجديدة من شأنها أن تلغي الأشكال المعروفة، خلط ينبغي تفاديه. إنني لا أميل إلى هذا الاعتقاد. ففي الحياة متسع لكافة الأشكال، مادامت قادرة على التعبير عن التجربة الإنسانية. وسوف نجد في مستقبل الكتابة العربية العديد من الإبداعات التي تقترح علينا دائماً أشكالاً تعبيرية جديدة ومدهشة وجميلة، وخصوصاً أننا في سياق حضاري يجعل من وسائل الاتصال الفنية الحديثة عناصر غاية في التنوع لخدمة المخيلة النشيطة للفنان والكاتب في شتى الحقول التعبيرية. إنني لا أجزم بما يمكن أن تقترحه علينا الحياة غداً. إنني فقط أمعن في التحديق بمتعة في هذه الآفاق الباهرة التي تتصل بالتجربة الإنسانية. وأظن أن كل شيء في الحياة رهن الموهبة والمعرفة التي يتوجب أن تتوفر لدى المبدع في هذا العصر.
|