الكتابة، الكهف و الكون في آن
( نرجو السماء أن يهتدي القارئ )
لوتريامون
( كان في ألم من أجل الماء مثل السمك )
جلال الدين الرومي
اسكندر حبش
- لنعد قليلا إلى الوراء: كيف بدأ قاسم حداد كتابة الشعر؟ هل يذكر قصيدته الأولى؟ ماذا كان يريد من ذلك؟ من هم الشعراء الذين أثروا بك في تلك الفترة؟ لكل واحد منا أبٌ في الكتابة، من كان الأب الشعري عند البداية؟
- هذا وراءٌ بعيد. ليس على الذاكرة فحسب، ولكن خصوصاً إذا رأيت إليه من شرفة التجربة فنياً وثقافياً. لم يعد ممكناً الكلام عن قصيدة أولى. دائماً لم تكن بالنسبة إلي قصيدة أولى. إنما يمكن تذكر أنني كنت فيما أستغرق في قراءة شعر ذلك الوقت (أوائل الستينيات) أشعر بغموض مقدرتي على كتابة ما يشبه ذلك. ربما لم يكن غموضاً خالصاً بل هو شيء من الغرور الداخلي. علماً بأن شعر ذلك الوقت كان أكثر تطلباً تقنياً وثقافيا مما يبدو عليه شعر هذا الوقت، أعني أننا كنا نأخذ الأمر بجدية وصرامة كبيرتين. لذلك كتبت، قبل أن أبدأ نشر محاولاتي الأولى، عدداً كافياً من النصوص يمكن أن يملأ تسعين سلة مهملات. لا زال بعض تلك النصوص في عتمة الأوراق القديمة.
ذهبت إلى الكتابة ربما لأنني كنت أريد أن أرى نفسي بوضوح أكثر في هذا الكون. الآن أفهم بعض ما كانت تشي به بعض تلك المحاولات المبكرة. أرى نفسي، بمعنى أن ثمة هاجساً يتصل بتغيير الكون برمته عن طريق الكتابة، ربما يبدأ التغيير من الثوب المهلل الوحيد حتى نظام المجرة.
وأظن أن مثل هذه الشهوة مفهومة ومشروعة لدى الشاعر. بقي علينا أن نتفاهم لاحقاً على قدرة وجدارة وجمال أدوات تحقيق هذه الرغبة لدى كل شاعر.
وأذكر أنني قرأت للرواد جميعهم وأبديت شغفا ببدر شاكر السياب الذي استحوذ على تجاربي الأولى. لكنني بعد أن قرأت أدونيس شعرت بأنه صاحب التجربة التي تعلمني الشعر حقاً. على الأرجح أن تعبير الأب الشعري سيكون مناسباً جدا لأدونيس. فجميع ما تأسس لديّ من نزوع إلى الحريات في الرؤيا والرؤية الفنيتين سيكون من تجربة أدونيس. لقد كان درس أدونيس الشعري أكثر تأثيرا وعمقاً: أخذت منه، أن الشعر لابد أن يتوفر على عنصرين حرية المخيلة وجرأتها أولاً، وجمال الأسلوب واللغة، ومن ثم عدم الثقة في ذلك في الوقت نفسه. وهذا ما جعلني أقول في ما بعد أنه في الفن: القناعة كنز لا ينفع.
إلى ذلك كله يتوجب أن أشير إلى أن هناك شعراء كثيرين أحببتهم وتأثرت بهم وتعلمت منهم أيضاً بدرجات متفاوتة. لكن الأهم من هذا أحب أن أقول بأن المرء لا يحتاج إلى أب شعري فقط لكي يتعلم منه ويأخذ عنه، بالنسبة إلي ثمة أبناء شعريين أتعلم منهم كل يوم. وهذه هي الحقيقة التي تمنحني الطاقة الغامضة على الإحساس بالطيف الشفاف الذي يسمونه المستقبل. فلولا ما تقترحه لنا هذه التجارب الشعرية الشابة لما تمكنت مثلا من كتابة نصوصي الجديدة. إن جرأة الشباب هو ما يجعل النبيذ القديم فتياً وقادراً على دفق الانتشاء في الأرواح والقدرة على المشاركة في السهرة وتبادل الأنخاب بالدرجة نفسها من اللذة والثقة بأن الشعر هو دائماً في المتناول.
حسن عبد الموجود:
جئت على ذكر تجربة أدونيس وكثيرون يرون أن شعرك وثيق الصلة بالتراث الأدونيسي؟!
التراث الأدونيسي هواءٌ عامٌ وليس إرثاً خاصاً، هذه التجربة حاضرة في الثقافة العربية، إذا استطاع شاعرُ أن يحاورها ويستفيد منها فهذا شيء مهم ويغني أفق الكتابة.
رولا قباني:
كنت من أوائل الشعراء الذين تبنوا القصيدة الحديثة المغايرة في الخليج العربي، مما يفرض سؤالا بديهيا عن المناخ الثقافي الذي قاد خطواتك إلى تلك البدايات؟
- ثمة إحساس يحضرني هذه اللحظة، مفاده أنني لو كنت درست بحور الخليل وتعلمتُ رصف قوافي الأوزان الشعرية، لربما وقعت، بشكل ما، في أسر جلافة الوهم الذهني الذي لا يتصل بالشعر، وإذا صح هذا الشعور فإن الفضل يعود دائماً للأستاذ عبد الحميد المحادين الذي كان أول من تعرف على ميولي الشعرية وشجعني بصورة واعية أوائل الستينيات. كان يدرّسنا اللغة العربية في المرحلة الابتدائية في مدرسة الهداية بالمحرق. وعندما سألته أن يشرح لي بحور الخليل نصحني قائلاً (إذا كنت تريد أن تكتب شعراً فلا تشغل نفسك بالبحور، فإن ما تكتبه الآن موزون وهذا يكفي). من ذلك الشعور، كنت انقطع إلى القراءة بصورة خرافية. فلم أصادف كتاباً شعرياً عربياً أو مترجماً لم أدرسه درساً، بل إن معظم دواوين شعراء الخمسينات والستينيات التي كنت أستعيرها قد نسخت معظمها لكي أحتفظ بها. وكنت أجد في المكتبة العامة (التي عملتُ فيها فيما بعد) مصدراً غنياً عندما لا أجد المال لشراء الكتب. وأذكر أنني وقتها كنت مولعاً بالتاريخ والفلسفة وعلم النفس وخصوصاً كتب النقد الأدبي العربية والمترجمة التي تتصل بالاتجاهات الحديثة في الشعر والأدب. هذا بالطبع إلى جانب نزوعي نحو المعرفة السياسية والتجارب الفكرية الثورية في العالم، حيث كان التزامي النضالي قد بدأ باكراً. وكان في تداخل هذه الميول والاهتمامات ما سوف يفجّر رغبتي الدائمة في التحرر من القيود والتقليد والامتثال لجاهزية النموذج، فوجدت في التعبير الشعري الحقل الذي يشبع تلك الرغبة. فحتى عندما لا أجد في الأشكال النضالية والحزبية مجالاً يحقق لي التعبير الحرّ عن نفسي، فإن الشعر سيكون هو الفعل الذي لم أسمح لأية سلطة أن تحول دون تحرري الكامل في فضائه.
الآن أعتقد بأنني عندما فشلت (مثل جيلي) في تحقيق أحلامي السياسية، فإن أحداً لا يستطيع تفادي أو إنكار ما تحقق من تحرر على صعيد الكتابة الشعرية. ولعل في الطبيعة اليسارية المتمردة التي غلبت على نزوعي الفكري والتزامي السياسي دوراً في نزوعي نحو كسر القيود وتجاوز التخوم والخروج عن المألوف والتقليدي والسائد. لقد كنا جيلاً اختلط عليه، في البدايات، النضالي بالثقافي بصورة لم تكن دائماً مفيدة.
لكني، على الرغم من ذلك، أعتبر أن تجربة النزوع نحو القصيدة الجديدة لم تكن مفصولة عن النزوع الشامل نحو الحرية بشتى تجلياتها. فلم أطق يوماً الركون إلى قناعة مستقرة واحدة على صعيد الكتابة، وأجد نفسي دائماً في شكل التعبير الذي اكتشفه في اللحظة التالية. وبهذا أكون حراً دائماً في تجاوز ما أنجزه بمعزل عن أية سلطة كانت. وهنا ربما تكمن شعرية الشاعر.
سيد محمود:
- من الأمور التي تبدو لي بمثابة اللغز إلى الآن، هي الكيفية التي انتقلت فيها تجربتك الشعرية من محيط جغرافي ضيق هو البحرين/ الخليج إلى أفقها العربي ثم العالمي، بمعنى هل كان قرار نشر أعمالك خارج البحرين مؤشرا لهذه الرغبة في الهروب من الجغرافيا، أم هي الصدفة التي وضعت تجربتك في المجال المغناطيسي ذاته الذي كانت تصنعه تجارب شعراء ما بعد نكسة 1967، من أمثال أمل دنقل وعفيفي مطر في مصر، ثم جيل السبعينيات بعد ذلك وبول شاوول وعباس بيضون في لبنان وفاضل العزاوي وهاشم شفيق في العراق وغير هؤلاء ؟
- ليس ثمة قرارات ولا غموض في الأمر. كنت في مهب الأفق الرحب الذي لا يرى في المكان سوى شرفة على الكون، مهما كان هذا المكان صغيرا. منذ البداية كنت أرى نفسي في هذا الحوار الإنساني الشاسع حيث الشعر هو كلمة القلب للقلوب التي لا تحصى، فأنت لا تستطيع أن تكون شاعراً إلا بكونك جزءاً من سديم الخلق المستمر للعالم. وهذا لا يحدث بقرار أو رغبة لكنه يتبلور مثل الأشجار في قصائد.
لم أتصرف باعتباري سجين البلد، كنت حراً في العالم، وحواري المبكر مع التجارب الشعرية العربية هو الدخول الأول لتأسيس شعوري بكينونتي الرحبة. ليس بوهم الانتشار لكن بشهوة الاتصال والحوار.
هذا هو درس الشعر.
لا اذكر أنني سعيتُ بسلوك الانتشار الإعلامي. لقد بقيتُ طوال الوقت أسهر على نصوصي، إذ كانت الكتابة هي الكهف والكون في اللحظة نفسها.
إن إخلاصك لكتابتك هو الشرط الأول لاتصالك بقلب العالم.
لم أشعر بالشرط الجغرافي بوصفه حدوداً، لكنه الأفق المفتوح، مثل سواحل جزيرتي، على البحار الواسعة. وحين قلت ذات نص "لسنا جزيرة إلا لمن يرانا من بعيد"، كنت أصدر عن هذا الشعور العميق باتصال الروح الشعري بأقصى الماء في المجرة.
الآن، عندما أتأمل في علاقاتي الغنية بالعالم، أثق بأن سهري على صقل النص بالصدق والحب والجمال قد منحاني النعمة التي لا تضاهى: الصداقة الفاتنة بما لا يحصى من الكائنات: أشخاصاً ونصوصاً.
وهذا فحسب يكفي لأن يجعل الحياة جديرة وكافية.
وليد معماري
المتأمل في تجربتك الشعرية يجد أنها، عاشت حيوية دائمة، وكانت في صعود دائم: كيف رسمت لنفسك الطريق للتحرر من سلطة الأسلاف هل كنت مثل سيزيف؟
لمحض الصدفة، على ذكر سيزيف، كنت في كتابي الأول (وللمفارقة كان عنوانه: "البشارة")، قد استخدمتُ في إحدى قصائد الكتاب، رمز "سيزيف". وربما تعرف أن ستينيات الشعر العربي في القرن الماضي كانت أسطورية في جانب من اجتهاداتها الفنية والثقافية.
والطريف أن استخدامي لأسطورة “سيزيف" كان ملتبساً إلى الحد الذي جعلني، وجعل غير قارئ وناقد في ما بعد، يتعثرون بالارتباك أمام طبيعة ذلك الاستخدام. ففيما كان التداول المألوف في استخدام أسطورة "سيزيف" معروفاً بدلالة الإصرار وعدم اليأس من تحقيق الأمل، فإنني كما يبدو نزعتُ إلى ملامسة عبثية الأسطورة خصوصاً ولاجدواها، الأمر الذي لم يكن متوقعاً من مناضل حزبي ملتزم بحيث أنه يتشاءم إلى ذلك الحدّ، ويعلنه أيضاً. وغاب عن بعضنا أن جماليات الأساطير تكمن في قابليتها لتأويلات متعددة، وحرية الاستخدام الفني.
المهم أنني لا أذكر الآن كيف كانت درجة وعييّ لأبعاد تلك الأسطورة، إنني ربما شعرتُ في مشهد الشخص وهو يحاول طوال حياته فعل شيء لن يحدث ولن يتحقق أبدا، كما لو أننا مرشحون لتجرع العذابات الأسطورية كلها، دون أن نقدر أو يتاح لنا أو يسمح لتجربتنا أن تأخذ درس الحياة بقوة المعرفة والخيال في آن معاً. وأخشى أننا لا نزال عرضة لتجربة اللاجدوى السيزيفية بآلية قاتلة في حضور كل هذا التحول الهائل في الواقع الكوني، كما لو أننا غير موجودين على هذه الأرض طوال القرون السابقة. أما أن يكون الشاعر يسوعاً يحمل صليب الأبنوس الثقيل ذاهبا نحو الجلجلة، فإنك تعرف كم نحن مولعون بوضع أرواحنا وأجسادنا في مهب المطاحن الوحشية كأننا لا نريد التفريط في كوننا الضحية الأبدية للعالم، كما لو أن العالم ليس له شغل أو هدف أو غاية سوى معاقبتنا على وجودنا في هذا الكون.
والحق أنني لا أستطيع أن أدرك بالضبط إلى أي درجة نستطيع الزعم أن العالم يشعر بنا أو يدري بوجودنا.. مجرد وجودنا هنا.
رولا قباني:
من الملاحظ أن في الخليج العربي خروجاً على سلطة آباء الحداثة وتمرداً على الإرث اللغوي وعلى البلاغة واللفظية. وثمة أصوات كثيرة تخطت سلطة الكتابة نفسها وسلطة الشعر متجهة عن المعادلات الشعرية اليومية، نحو قصيدة التفاصيل، القصيدة الواقعية، كيف نرى إلى هذه الظواهر الشعرية الراهنة وقد صرت بحكم العمر والتجربة أحد هؤلاء الآباء الذين يتوجب الخروج عليهم؟
- تعبير "آباء الحداثة" يشي بنظرة قداسة لأشياء الحياة، وهو يجعلنا، خصوصاً، أمام بنية من الكهنوت والبطاركة التي يتوجب على المرء أن يخضع لأوهامها، لكي يشار فيما بعد إلى خروجه عن هذه السلطة أو خضوعه لها. إنني لا أرى الأمر بهذا الشكل. إن حركة الحياة تستدعي النظر إلى كافة التحولات باعتبارها الحيوية المتوقعة دائماً. لا أحد يزعم (برغم كل وسائل التكريس الإعلامي) أن ثمة تجربة قادرة على تثبيت اللحظة الشعرية في العالم. للجميع حرية الاجتهاد مادام شرط الإبداع والمعرفة متوفرا. ولست مع وهم أن تجربة أو اجتهادا ينفي الاجتهاد أو التجربة الأخرى. في الحياة متسع للجميع، بل إن الحياة تتطلب هذا التنوع اللانهائي في طرائق التعبير وأشكال الكتابة؛ قصيدة التفاصيل، القصيدة الواقعية، النص المفتوح..الخ.
وهذا بالطبع أمر يختلف عن مسألة الاعتراف بتجارب المبدعين السابقين في هذا الحقل أو ذاك. وأشعر أن من أخلاقية المبدع أن يعترف بمعلميه وأساتذته وآبائه خصوصاً، وله أن يبجلهم أيضاً، إنه سلوك حضاري حين لا يتحول إلى تقديس النص. إنها أجمل الصفات التي يتميز بها المبدع، حتى أن المتصوفة كانوا يضعون هذه الخصلة شرطاً أمام التلاميذ لكي يكتسبوا طبيعة الخالق. أقول هذا استطراداً لكي أشير إلى ظاهرة تستوقفني في السنوات الأخيرة في الوسط الثقافي العربي، وخصوصاً في مجال الشعر. فقد لاحظت أن ثمة مبالغة في التنكر للجيل الأسبق ومحاولة نفيه، ظاهرة تتفشى في أوساط الأجيال الجديدة، إلى درجة لا تليق بطبيعة المعرفة وأخلاقيات المبدع. ويخالجني أحيانا شعور بأننا سنكون آخر الأجيال الشعرية العربية التي تعترف بأساتذتها وبالتجارب المهمة التي سبقتها. وهذا الاعتراف لا ينفي حريتي في طرح اختلافي مع تلك التجارب ومحاورتها ومحاولة تجاوزها على الصعيد الفني أيضاً. بهذا المعنى ينبغي أن نحسن التعاطي مع مفهوم التمرد الذي لا ينبغي أن يتوقف عند المبدع. وعندما يتحول الإرث اللغوي والفني إلى حاجب يمنع رؤيتي الخاصة وبالتالي يمنع القارئ من التعرف إلى ما تشير إليه تجربتي المختلفة عن تجربة الجيل السابق ورؤاه، عندها لابد لي من وضع ذلك الإرث وتلك البلاغة في المكان الذي يليق بهما (تاريخياً)، وخلع القداسة عنهما، والالتفات الجاد نحو ما يستجيب مع حساسيتي الجديدة. وما يحدث في الشعر المكتوب في الخليج هو ذاته ما يحدث في الشعر العربي عموماً. المشهد يكون مكتملاً وأكثر وضوحاً عندما نرى إليه في الأفق العربي.
أحمد خضر:
تكاد تكون أول شاعر من البحرين تعرف المتلقي العربي على قصائده منذ أن كانت تجربتك الشعرية في بدايتها.. فما السبب؟
- ربما لا يكون السبب شعرياً خالصاً، بل هو إنساني في العمق، فمنذ أن بدأتُ الكتابة بدأت أعي المعنى العميق للثقافة والشعر والأدب بأفقه الإنساني وليس بأفقه المحلي، ولذا لم أتصرف ولو للحظة واحدة وربما منذ الكلمة الأولى التي كتبتها، أو علاقتي الأولى بالكتابة بوصفي بحرينيا أو خليجيا، بقدر ما شعرت بأنني جزء من هذا الأفق الإنساني الواسع الذي يجعلني قادراً على التعبير عن نفسي، هذا جانب، أما الجانب الثاني فإن انهماكي المبكر في النضال السياسي جعلني جزءاً من هذا النسيج الرحب، إنسانية الحلم في التحرر، في العدالة، في المستقبل الأجمل للإنسان العربي. إن ملاحظتك حول الاتصال المبكر من خلال النصوص الشعرية سمعته من أصدقاء كثيرين تعرفت إليهم للمرة الأولى سواء أكانوا فلسطينيين أو مصريين أو لبنانيين أو أبعد من هذا، ولكني إجمالاً كنت ومنذ وقت مبكر في تجربتي لا أتفق مع فكرة الملامح الخاصة للأدب في البحرين. فالقول بخصوصية ملامح الأدب في قرى صغيرة مثل بلداننا، هو ضربٌ من المبالغات التي تخضع، من غير وعي أحيانا، إلى المشاريع والأوهام السياسية والإقليمية التي يتحفنا بها إعلام هذه المنظومات. وهي مشاريع ليست دائماً فوق مستوى الشبهة. وإلا فكيف يمكن الكلام عن ملامح خاصة بالأدب في البحرين وملامح خاصة للأدب في الكويت.. إلى آخره. إن القول بهذا المنطق سوف يوقعنا في مغالطات وتلفيقات لا تستقيم مع طبيعة الحياة المعاصرة التي تجعلنا جميعاً في بوتقة واحدة. أكثر من هذا، إننا لا نستطيع الزعم بأن ثمة خصوصية يمكن تشخيصها للأدب في الأردن تختلف عن الأدب في سوريا أو لبنان، وهي البلدان الأكثر كثافة وحداثة وتبلوراً.
لا أتذكر أنني قبلت يوماً مثل هذا الوهم، وقد قلت هذا في مناسبات كثيرة. وأعتقد أن الأحداث والملابسات التي تحيط بنا، تستدعي التيقظ لمثل هذه المقولات التي سوف تساهم في شرذمتنا ومراكمة الأوهام في حياتنا.
عدنان حسين احمد:
ألهذا تصديت في الكثير من حواراتك لمفهوم (خلجنة الثقافة)، وأنكرت فكرة وجود ملامح خاصة بالثقافة الخليجية، بل وأكثر من ذلك إنك اعتبرت التمسك بهذه الطروحات هو نوع من التأكيد على عنصرية الدم واللون والسلالة؟ وفي رأيك من المسؤول من وجهة نظرك علي زرع هذه الأفكار في ذاكرة الناس؟ هل هي الدولة ومؤسساتها الرسمية، أم بعض الأفراد من ذوي العقول المشلولة التي تتمترس خلف أبراج العنصرية؟
- لستُ معنياً بمن المسؤول عن "خلجنة الثقافة"، بل معنيّ فقط بتوضيح وجهة نظري في المشاريع السياسية التي تسعى إلى تجيير كل فعالية ونشاط إنساني عموما وإبداعي خصوصاً لمنظورات ليست فوق مستوى الشبهة. ثمة محاولات سياسية مركبة لتكريس فكرة الخلجنة والإدعاء بأن هذه المنطقة تتميز في فنونها وآدابها وتراثها وما إلى ذلك من ادعاءات.
لستُ ضد المحلية أو الخصوصية أو ضد أن تكون لكل منطقة وبيئة جغرافية ملامحها الخاصة. هذا شيء متاح، وليس مذموماً بالإطلاق، لكنني ضد توظيف هذه الأشياء توظيفاً سياسياً وتكريسها لأسباب ومصالح سياسية خصوصاً بعد إطلاق فكرة مجلس التعاون الخليجي ونهوض الأوهام السياسية والاقتصادية لمشاريع أعتقد أنها تهمل الجانب الإنساني والحقوق الإنسانية المشروعة في المنطقة وتركّز على صفات وخصائص تعزل منطقة الخليج عن غيرها من المناطق العربية. وأكثر من ذلك فإن البعض يبالغ ليس بوجود الأدب الخليجي وإنما بوجود الأدب الإماراتي والبحريني والكويتي. في العمق لا أشعر بمصداقية هذه المصطلحات ودقتها، بل بالعكس أشعر أنها تشكل خطراً لأنها غير واقعية. ومنذ وعيتُ شعرتُ أن ما لدينا ليست حركات ثقافية بالمعنى العميق، وإنما هي ظواهر ثقافية كنت اعتبرها ولا أزال جزءاً من ثقافة عربية، وحتى قبل أن نكتب شعراً كنا نتعامل مع كل ما يردنا من البلدان العربية كثقافة عربية غير مجزأة. إن تحفظي وقلقي ناجمان من التكريس المناطقي لأغراض ومشاريع سياسية. وأقول إن هذا يقلقني، ومن حقي أن أطرح وجهة نظري. ولك أن تتخيل خطورة مواصلة مثل هذه الأوهام في هذا العصر الكوني الذي يجعل العالم كتلة إنسانية واحدة.
بهية مارديني:
تبدو كل صياغات الأجوبة لديك وكأنها تنطلق من انعدام اليقين وهي إن شئت تعكس قدرا كبيرا من التواضع؟
- لا يوجد لدي أدنى سبب للغرور، وهنا لا أتحدث عن غرور الداخل، حيث إن أي مبدع أو شاعر لديه غرور داخلي حميم كامن لا يضرّ أحداً، غرور جميل يجب ألا يتحول إلى سلوك سلبي. لا أجد داعياً لفرض نفسي على الآخرين بالأوهام الذاتية الفارغة، ولا أجد سببا ليفعل أحد ذلك ولا أستطيع فهمه، لأننا إن لم نأخذ دروس الحياة مأخذ الجد، وحقائقها مأخذ الشك، فإننا نقع في فشل إنساني قاتل، ولا بد من أن يكون الشعر ممارسة يومية وأخلاقية في الحياة وفي علاقتنا مع الآخرين، وهنا تكمن القيم الإنسانية الحقيقية، الشعر يكمن هنا، في الحياة وليس في النصوص، وإلا ستكون علاقاتنا غير سوية وفاشلة ومرضية وغير إنسانية.
إنني أحلم وأحب أن يكون الشاعر الجديد أفضل مني، وليس صورة عني أو تكريساً لحدود تجربتي، وليس من الحكمة التوهم بأن الشاعر يكون وحده وإلى الأبد، فالمبدع لا يكون كذلك إلا بين مبدعين يساجلونه ويضاهون أحلامه. على العكس، إن شعوري بالرضى يتولد عندما أرى الأجيال القادمة تتعلم الدرس أكثر مني، فبهذا أكون قد ساهمت في تحقيق ذاتي، تماماً كما هو الشأن مع أبنائي وأحفادي. أحلم لهم بالأفضل والأجمل. ومن يفكر عكس هذا يكون كمن يمحو نفسه ويعطل حيوية تجربته.
نحن الآن في القرن الواحد والعشرين وعلينا أن نكون مؤهلين لهذه الحقيقة، التي للأسف يهددنا الواقع دائما في الشك فيها. ثمة ضرورة كونية في أن نحترم الموهبة والمعرفة بدرجة احترامنا للحياة الجميلة والجديدة والحرة وبدرجة رغبتنا فيها.
جعفر عمران:
هل غياب "الأنا" المتضخمة هو ما يفسر إصرارك على تكرار كلمة «الارتباك» في كل شهادة تقدمها لتعبر بها عن نفسك ولدينا منها شهادة ألقيتها في دارة الفنون - مؤسسة عبدالحميد شومان قلت فيها: «أرجو أن تسعفوا ارتباكي وأنا اقترح واحدة من الطرق للحديث عن تجربتي الشعرية»، وفي تكريمك في موسم أصيلة الثقافي قلت: «أرجو أن تكملوا جميلكم وتمنحوني حرية الارتباك الذي سيغلبني دائما»، ألا يزال ارتباكك يانعا، و«دائما» في حضرة الاحتفاء بالنص؟
- غالباً ما أكون غير واثق في قدرتي على مواجهة الحشود والتصرف بشكل مناسب في تلك المواقف. فمثلاً، على رغم كل هذه السنوات والعدد الكبير من القراءات العامة والندوات التي شاركت فيها، فإنني لازلت أشعر في كل مرة أستعد للقراءة أمام الناس كأنها المرة الأولى، فأبدو أمام نفسي مرتبكاً حد الحرج أحياناً. فالارتباك بالنسبة إلي حال غامضة يستعصي تفاديها أو المكابرة أمامها. والمشكلة أن مفهوم الحشد عندي سوف يتصل بمفهومه عند المخرج الفرنسي لويس بونويل الذي يعتبر أن الحشد "هو الجمع الذي يزيد عن ثلاثة أشخاص".
الأمر سيكون أكثر تعقيدا عندما تكون في حضرة أصدقاء يصفون لك الطرق الملكية للثقة في النفس والتجربة فيما هم يؤثثون لك مشهداً كامل الحرج والارتباك لفرط المحبة والثقة وصقل الأمل. ليس سهلاً أبداً أن تقاوم البكاء والنحيب المكبوت في سقيفة باهرة من مشاعر الحب. ثمة نعمة يمنحها لك الشعر تقصر عنها الآلهة. وعليك أن تبتكر أشكالاً جديدة من الصلوات وصنوف التقدير لكائنات تقرأ لك النص بشكل يضاهي الكتب.
|