موسيقى الحديد الحزين ( كل شوق يسكن باللقاء لا يعوّل عليه )
محي الدين ابن عربي عزت القمحاوي : تقول "النص هو جنة الشاعر وجحيمه في الوقت ذاته". نعرف صورة الجنة، فماذا عن جحيم النص معك خلال الكتابة؟
- لا أعرف جواباً واضحاً لمثل هذا السؤال الحاذق. فمثلما نتخيل دائماً شكل الجنة وشكل الجحيم، فإن الكتابة واحدة من أجمل الوسائل لتفادي فقد الذات في البرزخ بين شكلين متخيلين. لكن من المحتمل أنني أكتب مثلما يبني الشخص جنته على شكل حصن، يصوغه حجراً حجراً ويواصل العمل فيه، بمعزل عن كافة السلطات من حوله. وكلما تمكنت، في هذه التجربة أو تلك، من استدراج الآخرين لهذه الجنة كغزاة أليفين وكعشاق وأرواح شاردة، تيسر لي بعض الاطمئنان بأن في الحياة متسع من الوقت للاتصال بمن يبحث عن ذاته في ذوات أخرى، عبر نصوص لا تشبه أحداً ولا شيئاً معروفاً. الجنة والجحيم يكمنان إذاً في طبيعة ما ينجح الكاتب في تحقيقه من فتح الروح على الأرواح الأخرى، وجميعنا نتوفر على قدر من الجحيم والجنة بمقدار لا بأس به من الخيال والخبرة. وكلما استطعت من مغايرة تجربتي السابقة، تيسر لي الشعور بقليل من الثقة، لكي أذهب نحو تجربة جديدة. أعتقد بأن الكتابة، بالنسبة إلى المبدع، هي مثل الأنفاس ودفق الدم في القلب والأوردة، لا يمكن أن تتشابه أو تتكرر. لا يضجرني شيء مثل التشابه.
جعفر عمران : تقول أيضا: "كلما تقدم بي الوقت ـ في الحياة والكتابة ـ تأكدتْ عدم قدرتي على الإخلاص لأي شيء في الحياة سوى الكتابة وزاد يقيني بأنها أجمل ما في العالم على الإطلاق، الكتابة القلعة التي لا تستطيع الحياة أن تهزمها". كيف تعلن الكتابة انتصارها أمام الحياة؟
- ليست الكتابة انتصاراً على شيء. إنها إعلان فحسب، بالغ الصدق والمجانية بأن ثمة حياة جديرة بأن تعاش بالشرط الكوني والجمال والحرية التي ستشكل دائماً الحلم الأبدي للإنسان. والشاعر هو من بين الكائنات المعنية بالحفاظ على شعلة هذا الحلم متأججة ومحتفظاً بها في الشغاف. من هنا كنت أقول إني كلما أخلصت لهذا الحلم من طريق الشعر تيسر لي الاطمئنان بأن الشعر يحميني ويحصنني ويثق في حبي له، وبالتالي لا يخذلني. عدنان حسين أحمد:
هل نستطيع أن نعتبر الانتهاء من كتابة نص جميل بمثابة طوق النجاة الذي ينقذك من سورة القلق المستمرة؟ وهل يمكننا القول بأن إنغمارك بالحالة الإبداعية هو تأكيد لفورة الشك أم تجاوز لها؟
- إن الكتابة تشبه الإنسان الذي يكتشف أنه لا يحسن صناعة أي شيء في الحياة، وليس له خبرات سوى أنه يستطيع أن يعبّر عن نفسه بشكل من أشكال الأدب أو الفن. على الصعيد الشخصي لا أستطيع أن أتخيل نفسي بعيداً عن الكتابة، بل لا يمكن لي أن أتخلى عن الكتابة لأنها سلاحي الوحيد، وحصني الوحيد، وقوتي الوحيدة كما أسلفت في سؤال سابق. الشعر هو شريك حياتي، وهو الشيء الذي أعيشه يومياً، وأنهمك به كل لحظة، وهو حلمي الجميل الذي يمنح حياتي معنى خاصاً ولذة نادرة. لم أطلب في حياتي شيئاً آخر سوى الشعر. الشعر هو همي الوحيد وهاجسي الذي لا ينازعه هاجسُ آخر على الإطلاق. لقد عشت تجربة السجن المريرة وكان الشعر هو الذي يحميني ويمنحني قوة صمود الأمل، لذلك لم أهزم داخلياً. صحيح أننا هزمنا كتنظيم حزبي، لكن بالنسبة إليّ كان الشعر هو الذي حماني من الانهيار أو الهزيمة.
محمد البنكي :
هل لنا أن نقول إن لحظة ولادة القصيدة صارت أسهل لديك اليوم؟ أخذاً في الاعتبار أن التجربة قد اكتسبت عمقاً ودراية واقتداراً فنياً يسعف الإنجاز الشعري؟
على العكس تماماً. ربما كان علينا أن نبحث عن شيء من السهولة ونقع أحيانا في استسهال أمر الكتابة لفرط الحماس في مراحل البدايات، إن كان لابد من ذلك. أما الآن فالأمر أصبح أكثر صعوبة. وقت الكتابة وقت جميل. لكن مع الوقت تشتّد الصرامة، فتبدو الكتابة أصعب كلما طعن الإنسان في السن والتجربة. شرط الكتابة نفسه يغدو أصعب ولا يقتنع المرء بما يتوارد عليه بسهولة، وهو كلما تقدّم في التجربة، يتجنب أن يكتب أي شيء لمجرد الكتابة، إذ يبحث عن كتابة متجاوزة لما سلف.
أسامة الرحيمي:
إذا كان الشعر يحميك من العالم، فمتى تحس أنه عذابك الأول؟ هل يحدث ذلك حين تتصيدك القصيدة؟ أقصد ذلك الوميض الخاطف، الذي يمرق في مخيلتك كالشبح؟
- ليس ثمة عذاب عندما يتعلق الأمر بكتابة الشعر.
على العكس من هذا، إنني أقول دائماً بأن لحظة الشعر هي لحظة الجمال والمتعة والجنة الرائعة. ليس هناك لحظة حياة حقيقية مثل لحظة الشعر، لا عذاب إطلاقا، وإذا كان ثمة عذاب فهو هناك، خارج الشعر، في الحياة، قبل الكتابة وبعدها. من هنا قلت بأن الشعر يحميني من العالم. فكلما صرت في الشعر شعرت بأنني في المكان الآمن لحب الحياة.
عدنان حسين أحمد:
أنت لا تفضل الوصول إلي نهاية وقد ركزت في أكثر من مرة بأنك تفضل البحث بشكل مستمر، وكأن البحث هو المشروع الذي لا يصل إلى نهاية؟
- لستُ أنا الذي لا أصل، وإنما طبيعة الأشياء في بحث مستمر. أنت تريد أن تجعل هذا العالم جميلاً لذلك تلجأ إلى وسائل مختلفة، وتناضل بأشكال مختلفة من أجل أن تجعل هذا العالم جميلاً ومحتملاً وجديراً بالحياة. والشعر هو سلاحك الوحيد الذي ترتجي منه أن يحقق لك كل ذلك. الشعر غذاء روحي للإنسان، ولكن حتى هذا الغذاء يجب أن يكون جديداً وجميلاً. عدم الوصول إلى النهاية ليس قراراً مسبقاً، إنما هي طبيعة الحياة. لأن النهاية تعني موت الأشياء. والشيء الوحيد الذي يتفق عليه الجميع هو الجثة، وحين يكون الإنسان حياً يصبح موضوعا خلافيا منتجاً وقابلاً للاحتمال. بهذا المعنى إنك تبحث، وتجدد نفسك، وتحلم أن هناك نصاً لم تكتبه حتى الآن وأنت قادر على أن تكتبه بالفعل لكي تواصل بحثك.
زينب عساف:
تقول ما معناه أن الحكمة في ما يفعله الشاعر إنما تكمن في عدم الوثوق بأي شيء، هل حكمة الشعر هي الذعر حقاً؟ ما الذي نقوله، تالياً، في فكرة الشاعر الرائي، أي ذلك الذي وقّع ما يشبه العقد بينه وبين المستقبل؟
- حديثاً كتبتُ هذا النص: "لا تثقْ/ واسألْ الشكَّ/ وامشِ على شوكهِ".
وقبل ذلك بسنوات، قلت فعلاً إني أكتب لأني مذعور. ترى ماذا يعني بالضبط تعبير "الشاعر الرائي"؟ ليس كل شاعر هو رامبو، مثلاً. كما أن رؤى كل تجربة في كل شاعر لا بد أنها تقترح روحاً خاصاً في التفاصيل. التفاصيل التي هي الشيطان شخصياً. ففي خضمّ العدد الكبير من التجارب والأصوات الشعرية المتهمة بالتشابه والتناسخ، علينا، في عمق التأمل النقدي البارع، أن نبحث عن تفاصيل الروح الشخصي في تجربة كل شاعر. أما العقد "الفاوستي"، إذا صح التشبيه، بين الشاعر والمستقبل، فهو أحد أجمل الأوهام التي نستخدمها كذرائع من أجل تأجيل فضيحة المستقبل الذي ندّعي ذهابنا إليه. ليس ثمة مستقبل على وجه التعيين يمكننا الزعم به أمام الآخرين. لسنا محكومين بمستقبل ما.
شخصياً، قلت منذ سنوات طويلة إني اشعر بالارتباك كلما سمعت كلمة "مستقبل" لفرط غموض هذه الكلمة. ففي سياقنا الحضاري العربي (في القرون الثلاثة الأخيرة) ليس ما يتصل بالثقة في ما يسمّيه غيرنا مستقبلاً. نحن هنا لسنا فقط ممنوعين من الذهاب إلى المستقبل، لكننا، خصوصاً، محرومون من الحلم به. حتى الشعر والفن مصابان بقدر مذهل من الإعاقة عندما يتعلق الحلم بالمستقبل. أيّ حكمة تسعفنا للثقة، مجرد الثقة، بشيء لا يغدر بنا؟
زينب عساف :
البورتريه الذي رسمته لنفسك في نص "قاسم حداد...تقريباً"، بدأته بالوقوف أمام المرآة قبل أن تستعين بالعديد من المرايا، ألا يمكننا أن نسألك استطراداً عن مسألة العمر، وعلاقتك مع جسد جاوز عتبة الخمسين، وخصوصاً أنك استتبعت النص بآخر، هو رسالة كتبتها للشاب قاسم حداد؟
- "جسدٌ يهوي/ فتنهره الروح"، هذا ما كتبته منذ أكثر من عشر سنين. وكتبت أيضاً: "جسدي جحيمي". ثمة ما يضعني في مهبّ الحرج دائماً عندما يتصل الأمر بالجسد والعمر الافتراضي له. مشكلتي أني كنت طوال الوقت لا أشعر بالزمن الفيزيائي الذي يتلاشى في الخلايا. وهذا ناتج من كوني لم أحسن التصرف بوصفي أباً لأبناء يكبرون أمامي، ثم بعد ذلك لم أفهم كيف يمكنني قبول فكرة كوني جداً، مأخوذاً بحفيدة مدهشة تكبر كل يوم في رعايتي. هذا كله يحدث كما لو أنه يحدث لشخص آخر أرقبه بقدر قليل من الاكتراث. ورغم تصاريف الظروف التي مررت بها وانسحق جسدي تحت وطأتها، فإن ذلك أيضا لم يدفعني إلى الاعتراف بالسنوات التي تقارب الستين بعد نصوص قليلة. ترى، كيف يتسنى لي أن أفهم سؤالك على الوجه المناسب، ثم بعد ذلك كيف أستطيع أن أجد له جواباً ماكراً يتجاوز الفيزياء والشعر والتفاصيل؟
زينب عساف :
عبر أسطرة الواقع. هل تحاول من خلال نصك الشعري التركيز على اليومي وصولاً إلى حقيقة تنشدها؟
- ثمة ميثولوجيا شخصية لابد للشاعر، والمبدع عموماً، أن يصوغها تدريجياً، من خلال التراكم الكمي والنوعي في كتابته ونصوصه. فهو بهذه الميثولوجيا سوف يؤثث تفاصيل حياته، الأمر الذي يرشّح كل ما يلامسه الشاعر بمخيلته وكلماته لأن ينزاح عن الحياة الواقعية ويذهب إلى الأسطورة. الأسطورة هنا ليست بالمعنى الخرافي المعجز، ولكن بالمعنى الإبداعي الجمالي الذي يجعل هذه الحياة ممكنة، جديدة وجميلة وجديرة بالعيش.
لكن ينبغي أن ننتبه لأمر مهم، فإن هذا كله يحدث عفوياً وخارج تقنية العقل وهندسة المنطق أو البرمجة الجلفة للذهن. فالشاعر يصنع كل ذلك، كما لو أنه يفعلُ شيئاً آخر. هذه هي لذة الإبداع. الشاعر ليس موظفاً في مشروع، أي مشروع، ولا عند أحد، أي أحد، حتى نفسه.
الشاعر يلهو ويعبث بأشياء الكون، لكن لكم أن تتخيلوا الآلهة حين تلهو. عدنان حسين أحمد:
ما هي درجة حضور الوعي أثناء انغماسك في فيض كتابة النص الشعري؟
- أعتقد بأن على الكاتب في لحظة الكتابة أن يصد اقتحام الذهن لحالته الشعرية، ويعطل سلطة رقابة العقل، فكلما كان الحضور انفعالياً وعاطفياً وعفوياً وبعيداً عن التحكم العقلاني، كان ذلك أجدى للنص وأجمل وأكثر حرية، الانفعال الذاتي القوي هو شرط أساسي من شروط صدق التعبير الفني. فعندما تتحكم عقلانية الكاتب وتهيمن ذهنيته في أثناء كتابة النص يكون خارج فعالية وعنفوان هذا الصدق الذي أراه يتجسد في المشاعر الداخلية، حيث حالة الكتابة هي لحظة نشاط المخيلة بامتياز.
أما المراجعة والتعديلات، فيمكن أن يحدثا لاحقاً. إن الانفعال والعاطفة وجَيَشان الذات هو ما أعوّل عليه أثناء الكتابة. العقل شيء موضوعي، ومنطق الموضوعية شيء يناقض الإبداع والفن والأدب.
عدنان حسين أحمد:
لكن العاطفة تعطي إحساسا بعد الانتهاء من قراءة أعمالك بسيطرة 'النفس' الواحد عليها، حيث هناك نوع من التدوير الدائم الذي يعطي بدوره إحساسا بالاتصال، والتقنيات الواحدة، والموتيفات المتكررة! ¬
- وجود العاطفة في النص لا يجبرها ولا يقيدها أو يمنعها من أن تبحث عن أشكال تعبيرية مختلفة بحيث تتفادى أن تكرر نفسها شكليا، وأظن أنك ستصادف في كتبي ¬غالبا¬ عشرات الأشكال التعبيرية، كل كتاب يكاد يكون مختلفا عن السابق واللاحق، ولذلك لست قلقاً على هذه الناحية لأنني لا أطيق تكرار الأسلوب في نصين متتاليين، يعني من المستحيل أن ترى ديوان "قلب الحب" متكرراً في ديوان "عزلة الملكات" وأيضا "أخبار مجنون ليلى" لا علاقة له بـ"قبر قاسم" لكن من المحتمل أن تصادف اندفاعات العاطفة. أمّا إلى أي حد استطاع هذا أن يحقق قدرا من النجاح أو الفشل، فهذا أمر آخر.
أريد أن أؤكد ¬ارتباطا بما نتحدث عنه¬ على أن مشكلة الكتابة العربية أنها تعاني من ضمور وغياب العاطفة، هذه العاطفة هي المسؤولة عن شعور كثيرين قالوا لي إن كل كتاب يوحي بأنه مكتوب من شخص آخر لفرط الاختلاف النوعي في الأسلوب بين كل هذه الكتب.
حسن عبد الموجود:
ألهذا السبب يلمس المتأمل في أعمالك، إيمانك الدائم بأهمية تغليب العاطفة على سلطة العقل؟
- أشعر أن الأدب وليد العاطفة وليس العقل، وليد الصور التي تتفجر في الأعماق حيث يكون الشخص ¬هناك¬ أكثر صدقاً، بهذا المعنى أؤكد دائماً على أنه كلما استطاع الكاتب أن يتفادى حضور الذهن المتحكم وقت الكتابة استطاع أن يحقق نفسه أكثر، لأن الذهن هو شكل من أشكال السلطة التي تراقب العاطفة وتراقب المشاعر واندفاعات المخيلة، لكن متى يأتي دور الذهن؟! يأتي عندما ننتهي من عملية الكتابة، حينما نقوم "بالتبييض" أو بتشذيب النص، حينما نحاول تصحيح الأخطاء الطباعية الإملائية أو النحوية.. هنا يكون حضور الذهن طبيعيا ولا يكون دوره حاكماً، ولهذا فإن التجارب المشتركة ليست سهلة على الإطلاق ويمكن اتهامها بأنها مفتعلة إذا تم التخطيط لها بشكل منطقي، فالقارئ سيشعر على الفور بأنه يفتقد المتعة، وأقول هنا إن أي نص أدبي وفني إذا لم يحقق لك ¬أنت¬ شخصيا متعة شخصية أثناء كتابتك له فثق تماما انه لن يفعل ذلك مع القراء.
أسامة الرحيمي:
هل دور الشعر هو التحليق في الأعالي، واعتلاء القمم كالجوارح، أم أنه يمكن أن يحطّ بين الناس أحيانا دون أن يسقط في وهدة الخطابية مجدداً؟
- الشعر يبتكر (الأدوار) ولا يخضع لوظيفة وليس له يقين بالمهمات، وليس له خريطة فيزيائية كما الكائنات الأخرى. وهذا هو بالضبط ما يربك الخرائط الكثيرة المفتعلة التي يرسمها أدلاء لا يحسنون الذهاب إلى الشعر بوسائلهم المسبقة. ليس من الحكمة وضع الشعر في مكانٍ لا يمنحه مكانة، حسب مولانا محي الدين بن عربي.
أسامة الرحيمي:
ما طبيعة علاقتك بلحظات الكتابة، بكل تداعياتها، القلق، ومحاولات الكتابة الأولى للفكرة، وعدم الرضا، وكثرة الشطب، والتعديل، وإعادة الصوغ، وتحولات الحالة، واختلاف المنتج النهائي عن الهواجس الأولية، من الغالب ومن المغلوب، هل المعاناة معوق، أم متعة الانجاز تنسي المبدع مواجع الخلق؟!
- ليست ثمة مواجع في الخلق لحظة الكتابة، ففي هذه اللحظة تكمن متعة حياتنا. وربما المتعة الروحية والغامضة هي جوهر ذلك الصنيع الكوني، غير أن تفاصيل الشغل هي أيضاً من بين أكثر جماليات الكتابة عندي؛ قلق الذهاب والانتظار والتشوق، واندياح الصور والإيقاع، وهذان العنصران هما جوهر انبثاق الشرارات في ولادة النص عندي: الصورة والإيقاع، مهما كان طبيعة ما أكتبه، ففي كل كتابة ثمة صورة وإيقاع، وبغير هذين المكونين لا كتابة تنشأ ولا شعر يتخلّق.
بقي أن أشير إلى المتعة المضاعفة التي تأتي بعد إنجاز النص، وهي متعة التبييض والمراجعة والتهذيب والتذهيب، وهي متعة تضاهي أحيانا متعة التدفق الأول للنص. فهذه العملية المذهلة الجمال والمتعة ربما تؤدي بي وبالنص إلى مطارح أخرى مثيرة ومختلفة عما اقترحته المسودة الأولى، وخصوصا أنني سوف أعود إلى المسودة أحيانا بعد فترة قد يكون تبدّل فيها سياقي النفسي والروحي فأجد في تلك المسودة مادة خام أولى لبناء نص مغاير. هذا هو ما لا أفرط فيه بوصفه اللافتة الحامية لحرياتي في تحقيق النص من دون المبالغة في الزعم بأن الولادة تحدث بلا ألم على الإطلاق.
أسامة الرحيمي:
حيثيات منحك جائزة العويس ورد فيها: أن شعركَ "يتميز بالاهتمام بقضايا الإنسان في مواجهة الواقع، وقضايا الإبداع في مواجهة المكرّس والثابت، ولغته تميزه بالجدة والحيوية والقدرة على استغلال إيحاءات الألفاظ والعبارات بما يخدم غرضه الشعري. وإن كانت لم تسلم من الغموض اللافت لاتكائه على معطيات الحدس والحلم وعوالم الباطن في تشكيل التجربة الشعرية".
هذا يعيدنا مجدداً لمقولتك اللافتة: "لو عرفوا المعاني لأهدروا دمي"، وهنا يطرح الغموض نفسه، فما مدى "القصدية" في صناعة ذلك الغموض، وهل هو متعمّد لتعمية العسس "المهووسين" بالتفتيش في الإبداعات بحثاً عما يمسّ أسيادهم، أم أنه أثر متبقٍ من أيام تنظيمات اليسار وحساسيات الاحتياطات الأمنية، أم حفاظاً على مهابة الشعر، أم أنه النضج الطبيعي للشاعر وتجربته؟
- كل هذه الاحتمالات التي تسوقها في سؤالك لا تصيب حقيقة الأمر، أو هي تغفل عنه، فليس في الإبداع أن يُفتعَل الغموض عمداً، ولا علاقة له بالعسس، وليس للنشاط النضالي علاقة بالصنيع الفني، ومهابة الشعر لا تنشأ عن غموض ما.
إن المبدع، فيما يكتب نصه، لا يفكر في هذه الحدود والشروط والمحاذير والملابسات جميعها، إنه يكتب مخلصاً لحريته وصادقاً في إحساسه بالكون ومستجيباً لأعماقه ولاشعوره الصريح.
يحدث ذلك بمعزل عن شروط الخارج، وعندما يكون الشعر غامضاً، وهو شرط الجمال في الإبداع عموماً، فهذا ليس معناه أن الشاعر تقصّد أن يكتب الغموض، وإنما هو كان يكتب الشعر فحسب، وهذا حسبه.
أسامة الرحيمي:
وتلك الاستعانة "بالحدس والحلم وعوالم الباطن" هل هو إمعان في الغموض، أم استحسان للمعاني متعدية الثقافات التي يسهل وصولها إلى الآخر أم انه قصور ذاتي – واندفاع – ناتج عن الرغبة في مفارقة الخطابية القديمة، والابتعاد عنها قدر الإمكان؟
- ليس لأن الحلم وعوالم الباطن غامضة فحسب، ولكن لأن الصور الشعرية التي تتخلق بفعل مخيلة نشيطة وحرة هي أيضا بالغة الغموض، ولعل طاقة الشعر هي في جوهرها تنشأ عن طبيعتها الغامضة داخل النص. جميل هو الغموض بالدرجة الأولى، ذلك الغموض الذي يمنح النص القدرة على سبر الواقع وإعادة خلق الكون مرة تلو المرة، وظني أن غموض الباطن في النص، برغم بساطته الظاهرة أحياناً، هو ما يجعل نصوصا تظل حية في أمكنة وأزمنة مختلفة ومتباعدة.
لكن، الآن من الذي ما يزال يتكلم عن غموض الشعر بوصفه مَثلبة؟ أسامة الرحيمي:
داخل بعض قصائدك تنتقل بين الضمائر، (المتكلم، المخاطب، الغائب)، وقد تبدل التفعيلات، أو تضمنها مقاطع نثرية، وهذا ما تفعله بسلاسة تجعل القصائد أكثر غنىً، ولكنه فعل يشبه الفوران وإن بدا هادئا.. هل هذا بحث عن قصيدة جديدة، وتمرد على السائد، أم أن نضج التجربة يؤدي إلى ذلك دون قصد من الشاعر، وهل يمكن أن تنمو القصيدة وحدها بين يدي صاحبها؟
- في النص، لحظة الكتابة، اشعر بحرياتي الحقيقية المفقودة في الواقع تحت سلطات لا تحصى. في هذه اللحظة لا تعود الأفكار والمشاريع والوعي هي التي تقود عملي، وإنما هي المخيلة والحلم والرغبة الجارفة في لذة خلق الصور والإيقاعات واكتشافها والانغمار في نعمتها. تلك اللحظة سأكون حرا في إطلاق ما اقدر عليه من المرايا التي تفتح لي آفاق الرؤيا، من هنا لا تعود التخوم المألوفة بين الضمائر والصفات والأمكنة والأزمنة والحدود الفيزيائية قادرة على منع اندفاعي الحسّي مع اللغة من الوصال الجنساني البالغ الفتنة واللذة المرتكزتين في ذات الشاعر الساعي لأن تكون القصيدة موجودة. فكينونة النص تصبح، جوهرياً، هي الغاية الأسمى من الكتابة بالمعنى الشعري الكوني.
في لحظة الكتابة لا ينشغل الشاعر بالبحث عن قصيدة جديدة، ولا يكترث بالتمرد مستسلماً لاستحواذ نعمة النص وهو يتخلّق، مغموراً بالهدوء الحميم بمعزل عن العالم، فهنا تتجلى العزلة الملكية التي لا تضاهى وليس من الحكمة التفريط في كرمها على الكائن.
بعد ذلك كله، إذا صادف أن كتبت شعراً جديداً وجميلاً فذلك من نعم الله علينا، وفقد حاولتُ أن أكتب ما نسيته الآلهة أو غفلتْ عنه. عبدالحميد المحادين
قال سارتر: "الآخرون هم الجحيم". السؤال الآن، ما هو جحيم قاسم حداد؟
- بالمعنى الحضاري، لم يعد جواب سارتر قادراً على توصيف حالنا.
إنه جواب لا يسعف أحداً ولا ينقذ أحداً من أحدْ.
على العكس إن حاجة الإنسان إلى الآخر، كونياً، باتت متفاقمة. وبالرغم مما يزعم الكثيرون بأن إيقاع العصر ومخترعاته تحول دون اتصال الكائنات البشرية، فان ثمة وسائط من شأنها أن تجعل الآخرين جنة لنا في هذا الكون.
ولئلا نضاعف إحساسنا بالعبث العابر ونحاصر نزوعنا الإنساني نحو الآخر، يتوجب أن لا نحرم أنفسنا من حوار الأرواح الحميم ولا نفرط في فردوس الصداقة الإنسانية التي من شأنها أن تساعدنا على تفادي الجحيم الماثل، علينا أن نذهب إلى جنة الآخرين ونؤثثها بالمحبة والبوح وتبادل أنخاب حوار الأعماق الحرة.
عبدالحميد المحادين
إذا اكتملت استدارة الأشياء تلتقي البداية مع النهاية. هل يخيفك هذا الإحساس، وهل يتسرب شيء منه إلى شعرك؟
- فكرة الموت بالنسبة إلي ليست مخيفة فحسب، ولكنها أيضاً غامضة، لأنني لست متيقناً بالضبط أين سأذهب. هذه هي المشكلة بالنسبة إلي. أحب وأغامر لكي أعرف إلى أين تأخذني الطرق. والموت مكانٌ لم يرجع منه أحد لكي نعرف ماذا حدث هناك، أو "أين" يقع "هناك" على وجه الدقة. فهو مغامرة جواب ناجز لا يقبل التأويل، وهذا ما لا يستهويني في التجربة. كما أن الإجابات الجاهزة والغيبية التي تقترحها علينا الاجتهادات البشرية ليست فقط غير مقنعة، ولكنها أيضاً غير مطمئنة. إن فكرة الموت لا تُحتمل بالنسبة إلي، وأظن أنها غير عادلة، وخصوصاً عندما يحدث ذلك في مقتبل العمر أو في منتصفه أو قبل إنهاء العديد من المشاريع التي أمضى الإنسان سنوات عمره من أجل تحقيقها.
كمثال، ماذا يعني أن أموت قبل أن أنهي كتابة النص الذي أشتغل عليه والمشاريع الثلاثة التي بدأتها في السنوات الأخيرة. هذا أمر غير مفهوم، ولا تفسره لي فلسفات الأديان واللاهوت جميعها.
لذلك ينتابني أحياناً شعور بعدم تصديق ذلك، وارتاح لهذا الشعور لكونه يضع الفكرة جانباً لعبثيتها.
وأخشى أنني حاولت (من غير قصد) أن افتك بفكرة الموت فيما أقترح لنفسي قبراً مبكراً على شاكلتي. لكي أزعم أنني لن أموت أبداً.
حتى أنني يئست من انتظار ذلك الشخص الغريب الذي لا اعرفه متوقعاً أنه سيقوم بالمهمة بشكل غامض. كان ذلك قبل سنوات، أشرت إليه في "عزلة الملكات" غير أن ذلك لم يحدث حتى الآن، مما يعزز شعوري بأن ذلك لن يحدث أبدا. أحب أن لا أخاف الموت، و لا أصدقه.
من جهة أخرى، إذا نحن سلّمنا (لئلا أقول استسلمنا) لفكرة الموت، سوف يرعبني حقاً الطريق إليه، أو الوسائط الجهنمية التي ربما لا أستطيع تفاديها. وأعني حالات العجز والشيخوخة أو المرض. إن هذا سيكون أكثر ضراوة من الموت. لذا أفكر دائماً، أعني أتمنى أن أموت فجأة. وأخشى أن أقول برغبتي في موتٍ آمن.
سامي الفليح:
المتأمل في قائمة مؤلفاتك يجد أنها تجنبت الانخراط في شكل السيرة الذاتية رغم أنه في "ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر" وفي "ورشة الأمل" وفي "ما أجملك أيها الذئب" ثمة وقوف، بمعنى ما، على تخوم هذه السيرة وسؤالي لماذا لم يكتب قاسم حداد سيرته الذاتية حتى الآن؟
- في كتابي "ليس بهذا الشكل" سميت الفصل الذي يتصل بتجربة الكتابة "سيرة النص" وهذا يعني أنني عنيت بذلك الكلام محاولة إضاءة جوانب ذاتية في تجربة الكتابة فحسب، ولم يكن في واردي الكلام عن سيرة الشخص ربما لأنني لم أشعر بعد باستعدادي للكلام عن السيرة الذاتية، حيث التجربة الإنسانية وتجلياتها، وإذا صادف أن بعض النصوص في "ورشة الأمل" أو في "ما أجملك أيها الذئب" اتصلت بلحظات في تجربة الحياة، فإن ذلك لم يكن مقصوداً بشكل مباشر، إذ أنني حتى الآن ما زلت أشعر بأن كتابتي عموما لابد لها من التعبير عن تجربتي، وكلما كان هذا يحدث بصورة عفوية كان الأمر أكثر جمالاً، وخصوصا أنني، حين أكتب لا أكاد أميّز بشكل عقلاني ما إذا كنت أكتب شعرا أو رواية أو سيرة أو غير ذلك من أشكال التعبير، ولعلني أجد في هذا الأفق نوعا من الحرية قد لا أتمتع بها إذا ما وضعت أمامي مخططا محددا قبل الكتابة، لئلا أشعر بأي قيود فنية تحدد مساري في النص. إضافة إلى ذلك كله، فإنني لم أفكر أبدا في الذهاب إلى الرواية. إن الأشياء تحدث لي بمحض المصادفات عندما أذهب إلى الكتابة. هذه هي "سيرة النص" أما “سيرة الشخص" كسيرة ذاتية، فعليها أن تقترح شكلها ووقتها في مستقبل الأيام.
حسن عبد الموجود
هل كان إحساسك أو إيمانك بالدور الاجتماعي للكاتب هو الذي دفعك إلى العمل بالصحافة؟
-الكتابة بأشكال مختلفة صادرة عن طبيعة الدور الكوني الذي يجب أن يشعر الفرد بأنه جزء منه، فالأشياء لا تأتي عبر تخطيط مسبق، وكوني رأستُ تحرير مجلة "كلمات" مثلا هو كوني جزءاً من زخم الحركة الأدبية في المنطقة. أن أكتب مقالا أسبوعيا هذا أيضا ممارسة لنوع من الحوار مع تجارب الآخرين، نوع من محاولة الكشف عن آفاق تسهم في إغناء التجربة الذاتية على الأقل، وهذه الأشياء لا تصدر بدوافع سياسية وليست محاولة لاقتراح خطاب على الواقع السياسي ولكنها ممارسة حرة طوال الوقت، حتى أنني لا أكتب المقال تحت الشرط الصحافي، وإنما تحت الشرط الأدبي، وهو الشرط الذي لا يكون خاضعاً بالضرورة لشرط الجريدة التي أكتب فيها.
محمد طعيمة
ألم تشعر أن الصحافة عطّلتك عن العمل الإبداعي؟
- عندما أكتب في الصحافة (أفعل هذا منذ سنوات طويلة) أحاول أن لا أخضع لشرط اللغة الصحافية. فإنني أكتب زاوية بعنوان "وقت للكتابة" بصورة حرة تتراوح في حقول التعبير، دون خضوع لأية مفاهيم مسبقة تتصل بالمقال الصحافي. بمعنى أنني أكتب في الصحافة بوصفي أديباً وليس صحافياً. وأتمنى دوما أن لا أكون مستجيباً لمتطلبات الشرط الصحفي. وهو شرط لا أمتلك الموهبة التي تلبيه. ولا أريد الزعم أنني أطمح لأن أكون كذلك. كما لم أعمل أبدا في الصحافة بشكل وظيفي، فقط أكتب المقال بمعزل عن النشاط الصحفي، لم أشعر بقلق من هذا النوع، أحافظ على حريتي كثيراً في ما أكتب، وآخذ فترة توقف بين حين وآخر لكي أتفادى الضجر الفني. فكرة كتابة المقال بنوع من الإيقاع المستمر ليست سهلة.
محمد البنكي
لينعرج بنا المسار قليلاً جهة علاقتك بالصحافة. الصحافة المحلية تحديداً. منذ أن كنت تهرب كتاباتك باسم مستعار من المعتقل وتتفاوت الصحافة معك في قبول نشر ما يصلها أو منعه، مروراً بتجربتك مع أمين صالح في تحرير باب الثقافة في مجلة بانوراما الخليج عند صدورها، طوافاً بالمساهمات المنتظمة وغير المنتظمة بمقال "وقت للكتابة" وغيره. كيف ترى تلامس التجربة الإبداعية بالتجربة الصحفية في فضائنا المحلي؟
منذ سنوات القرن الماضي انتظمت في نشر مقالة أسبوعية في بعض الصحف، لكن المشكلة أنني طوال الوقت لم أكن أشعر بموقف حضاري للصحافة تجاه الثقافة. لم يأت زمن أشعر فيه باطمئنان أن صحيفة ما تتعامل مع الكاتب والمثقف والثقافة باحترام وبتقدير حقيقي. طوال السنوات الماضية كنا نشير إلى الموقف الرسمي السلبي من الثقافة. لكن للأسف نجد الموقف الأسوأ يأتي من الصحافة المحلية. القائمون على الصحافة يتعاملون مع الكتاب والمثقفين بنظرة مهينة جداً. هذا كان مقلقا لي، ليس على الصعيد الشخصي ولكن على الصعيد العام. هذا ما يجعلني كثير التحفظ والرفض تجاه مزاعم الصحافة حين تتناول الثقافة بالطرح. الصحافة لابد أن يكون لها موقف حضاري ومستقل يليق بالثقافة. لقد مرت عليّ تجارب عديدة مع الصحافة العربية والمحلية. في كل الحالات كنت أرفض الحفاوة على أساس التعامل الفردي والشخصي فقط إذ يجب أن يكون المعيار عاماً وجماعياً، ويجب أن يحصل الجميع على التقدير. الكاتب البحريني يجد من الترحيب والتقدير ما يفوق التوقعات حين ينشر أو يذهب خارج بلده، لكنه يقف مجروحاً أمام المفارقة حين يتعامل مع الصحافة المحلية فيشعر بالتعامل الدوني والتقدير المهين مقابل الحفاوة الجمة في كل دول العالم. بهذا المعنى أمام المثقف تجربة مريرة مع الصحافة في البحرين.
محمد البنكي
وماذا عن الصحافة السبعينية؟
بالطبع هناك تفاوتات كثيرة. في السبعينيات لم يكن هناك سوى جريدة أو ما شابه ذلك، غير أنه، بالمقابل، كانت هناك صرامة في عدم استسهال النشر. وكان الأمر متوقفا على اجتهادات فردية، فحين يكون المرحوم محمود المردي رئيساً للتحرير ويتابع كل صغيرة وكبيرة في قصائدنا، بل يستدعينا ويناقشنا في ما نرسله للنشر، فقد كان ذلك مدخلاً حقيقياً لبناء علاقة صحيحة مع الوضع الثقافي، هذا في حين أن كاتباً أو أديباً يكون مسؤولاً عن تحرير الجانب الثقافي ولا يكون، بالضرورة، قادراً على فرض أهمية الدور الثقافي وتعزيزه في آليات المؤسسة. لقد جاء كتّاب السبعينيات من أجواء أكثر صرامة ساهمت في ترصين تجاربهم والحركة الأدبية ككل. وما تحقق من إنجاز بعد ذلك تحقق عبر الجهد الذاتي لهؤلاء المثقفين والكتاب ولم يتحقق بفضل المؤسسة الرسمية أو القنوات الإعلامية الصحفية، كان دور هذه المؤسسة عابراً ولم يكن جذرياً، بل إنه لم يؤسس لموقف حقيقي وصلب.
اسكندر حبش
تراوحت تجربتك في الكتابة بين نثر وشعر (ولا أقصد بين الشعر الحر أو الشعر المنثور)، هل الكاتب بحاجة أحيانا إلى "لغتين" كي يقول ما يريده؟ وهل يشعر باختلافات في هذين الفضاءين اللذين يطير فيهما؟
- لا أرى الأمر بهذه الطريقة. فليست ثمة لغتان في كتابة الشعر. بالنسبة إلي على الأقل، سأكون الشخص نفسه، متمتعاً بالطاقة والرؤية ومقدرات التعبير نفسها في لحظة الكتابة. حتى عندما أكتب مقالاً للجريدة لا أستطيع التخلي عن الشعر. ربما تفاوتت درجة حضور الشعر (لغة ورؤيا) بين سياق وآخر، لكنه سيظل هناك دائماً. غير أن كتابة المقال (وهو ما تعنيه في سؤالك بالنثر) سأكون مثل شخص يذهب إلى حديقة الشمس بقدمين ثملتين، في حين أن ذهابه إلى الحديقة ذاتها (في حالة الشعر) سيراوح بحرية المخيلة بين الجذور والأجنحة، محلقاً بأجنحة كثيرة وأقدام لا تحصى تمسّ الأرض التي تشفّ هي الأخرى عن الأعالي حيث شاهق الروح و القلب.
بهذا المعنى أجد أن شروط الكتابة عند الشاعر سوف تختلف كثيراً عن شروطها عند الآخرين. وإلا فما الفرق بين أن يكتب شاعر نثراً في صيغة مقالة أو غيرها، وبين أن يكتبه أي شخص آخر؟! السر هو هنا، في هذه المنطقة الجنونية من لغة التعبير. حتى عندما يكتب الشاعر مقالة للجريدة من حقه أن يكتبها بشروطه هو وليس بشروط الصحافة.
بالنسبة إلي، تعلمت أشياء كثيرة من تجربة كتابة النثر (بشتى صيغه) للنشر في الصحافة. حتى أنني كثيراً ما أحب بعض نصوصي على بعض قصائدي. دون أن أتحرّج في ذلك. خذ مثلاً نص "سحقاً للقصب الذي صار ناياً" أو "درس الأرزّ". إنني لا أفهم ما يحدث لي في مثل هذه النصوص. ثمة ما يشي بأن الكلام عن حدود الشعر والنثر يشبه الكلام عن تخوم الخير والشر. لكأن أحكام القيمة (النقدية) تلك تكاد تصبح أحكاماً أخلاقية هي الأخرى. الحدود المقدسة في الفن هي أخلاق (سلطة) إضافية يتوجب التحرر منها والثقة في حقنا في نقضها جمالياً. ربما لأنني أثق دائماً في أن الشخص الذي كتب هذا النص يمكنه أن يكتب نصاً آخر، أجمل منه.
بقي أن أقول أن الفضاء الذي يتيحه نثر المقال هو من الرحابة بحيث يسهم في صقل نزوعي العميق في تجاوز التخوم التي تتصل بمفهوم أنواع التعبير. وأظن أن هذه التجربة ساهمت في تنوير جوانب معتمة في تجربة تقاطع أشكال التعبير الأدبية. وفي هذا إغناء لتنوع الأدوات في لحظة النص.
اسكندر حبش
غير الشعر هناك جانب "تنظيري" في كتاباتك الأخرى، هل يبدو الشاعر أحيانا بحاجة إلى "فلسفة" مصاحبة للقصيدة؟
- ليس تماماً. عندما كتبت ذلك لم أكن أسعى إلى تنظير ما يتعلق بالشعر. إنما كنت كمن يفكر مع نفسه بصوت عال ويحاور تجربته مشركاً الآخرين (إذا طاب لهم ذلك) في تأكيد حق التأمل المشترك بين الشاعر والقارئ. إلى ذلك، فإنني أشعر بأنني أكتسب نوعاً من اللياقة الفنية والجمالية والمعرفية فيما أكتب تلك المقالات الصادرة عن انطباعات أو قراءات ذاتية في المسألة الشعرية وما يتصل بها. لكن من المؤكد أنني لا أسعى إلى (فلسفة) ما بقصد الترويج لها أو تزكيتها أو تبرير التجارب التي طرحتها أو أحلم بها. لا أظن أنني مؤهل لمثل هكذا مشروع. إني أدرّب نفسي دائماً على الإصغاء إلى دواخلي وإلى الآخرين في آن واحد. لكن إذا بدت بعض الكتابات في صيغة تأمل نقدي فإنما هي شكل من أشكال الاستطراد (المبالغ فيه) بعد القصيدة السابقة وقبل القصيدة اللاحقة. وليس من الحكمة أخذ مثل هذه الكتابات كما لو أنها حكم قيمة نافذ لقناعات نهائية للشاعر في هذا الحقل أو تلك القضية. على العكس أنني أشعر بأن مثل هذه الممارسة من شأنها، ومن بين أبرز مهماتها، أن تمنحني الحصانة ضد الركون إلى قناعة ثابتة أو رؤية مستقرة للمسألة الفنية في الشعر والكتابة كما في الحياة. فربما أكون شخصاً برؤية مختلفة بعد قليل من هذا المقال، وربما أكون مغايرا كثيرا فيما سأكتبه في النص التالي. هذه هي الحياة.
اسكندر حبش
في بحث له، قال مرة الشاعر المكسيكي "أوكتافيوباث" إن الشعر هو خارج القصيدة. كيف ترى أنت إلى هذه المقولة؟ من أين يأتي الشعر عند قاسم حداد؟
- دائما الشعر هو قبل الكتابة وبعدها، وإلا فلا معنى للنص. لأن الاكتفاء باقتصار الشعر على القصيدة هو وهم يؤدي إلى تفريط الكائن في حقيقته الوجودية ونفي الصلة الجوهرية بين الشخص والنص. لذلك كنت أقول دائما بأن الشعر هو طريقة حياة وليس طريقة كتابة فقط.
ولا أعرف إلى أي حد أستطيع الزعم بأنني لا أكاد أميز تخوماً بين وجودي المادي في الكون وتمثلي الفيزيائي في الشعر بوصفه فعلاً نصياً يعبر عن أخلاطي الغامضة من مشاعر ورؤى وأحلام وتوق جمالي. الشعر هو هنا وهناك في اللحظة نفسها. وأخشى أننا إذا فرّطنا في السعي الحقيقي بتحويل العالم إلى صنيع شعري سوف نفقد أسباب وجودنا وننفي قدرتنا وجدارتنا بهذه الحياة. وإذا حدث أنني لم أكتب نصاً لبعض الوقت فإن هذا لا يعني أنني لا أعيش الحالة الشعرية التي تميزني عن الكائن غير الشعري.
عدنان حسين أحمد
في "عزلة الملكات" ثمة نفس قصصي أو بنية قصصية، وكذلك في نص "الجواشن" الذي كتبته بالاشتراك مع القاص أمين صالح. هل لك أن تحدّثنا عن الهاجس القصصي الذي ينتابك بين الحين والآخر آخذين بالاعتبار أنك تكتب مراجعات لبعض المجاميع القصصية التي تثير انتباهك بين آونة وأخرى؟
- السرد هو أحد آليات التعبير التي أعتقد أن بإمكانها أن تغني الشعر. لابد من الاستفادة من طاقة السرد، إذا استثنينا الشعر القصصي بالمعنى التقليدي، فالسرد يمتلك جماليات مثيرة لا حصر لها. بإمكان السرد أن يغني القصيدة العربية ويساعد في اكتشاف الأفق المفتوح لها، لأنني بالمقابل أبحث عن أفق أكثر رحابة من خلال النصوص المفتوحة أو من خلال فنون التعبير الأخرى كالحوار والمشهدية والتقطيع السينمائي والسيناريو التي استخدمناها في نص "الجواشن".
محمد صلاح الحربي
هذا يذكّر بما كتبته في كتابك "تسعة أصدقاء وحبيبة واحدة" إذ تقول: "على الذين يرون الكتابة شكلا من أشكال الوجاهة في حياتهم التأكد أنهم سيحتاجون إلى كل أدوات التجميل لكي يفشلوا بعد ذلك في إخفاء قبحهم الفاضح" وسؤالي: وماذا عنك أنت، كيف تنظر إلى الكتابة، وكيف تراها وقد حققت لك الشهرة مع شيء من الوجاهة؟
- الكتابة، هي جوهرة المراصد وبوصلة الله في قلب الإنسان.
المهم عندي هو الكتابة بوصفها فعل حب ولذة ويقظة المستقبل الفاتنة. وما يحدث بعد الكتابة ليس لي يد فيه ولا سلطة عليه. لا أسعى (منذ حرفي الأول) إلى غاية عن طريق الكتابة، مهما سمت وتقدّست هذه الغاية، تظل الكتابة هي أسمى وأكثر قدسية. الكتابة ليست وسيلة لغاية أجمل منها، ربما لأنه ليس ثمة شيء أجمل من الكتابة يمكن أن تستخدم الكتابة وسيلة لنيله أو الوصول إليه. الكتابة فقط، وهذا يكفي.
"لو أن الملوك علموا ما النعمة التي نملكها لقاتلونا عليها"، لا أذكر من قال هذه الكلمة الباهرة، لكنها الحقيقة، وما عليك إلا أن تلاحظ الملوك والسلاطين والأثرياء وأصحاب الجمع والمنع، برغم كل وجاهاتهم وثرواتهم يبذلون ما في وسعهم لأن يقال لهم شعراء وأدباء، وكأن كل ما لديهم من سلطة ومال وجاه لا يكفيهم للشعور بوجودهم وكيانهم ومكانتهم في الحياة والعالم. فالشهرة تأتي نتيجة للانجاز الإبداعي، وليس العكس. والوجاهة التي تصادفك بفعل حب الناس بعد قصيدتك التي أحبوها، فتلك نعمة ليس من العدل الاستهانة أو التفريط بها. وما دمت لست مولعاً بالشهرة ولا بوسائل الإعلام جميعها، فإنني أيضاً لا اقلل من أهمية حب الناس، ففي هذه النعمة غذاء للروح الوحيد والشريد عند المبدع، شريطة أن لا يكون ثمة ما يمنعك من علاقتك الخاصة بالكتابة، أو يصادر خيارك الحر في عزلة الهامش. ففي الهامش حرية أكثر مما في المتن.
رولا قباني:
تجربة قاسم حداد لها تاريخها وامتداداتها، لو سألنا مرآة قاسم حداد بعد هذه التجربة أن تقرأ لنا انعكاسات الصورة فما الذي تقوله لنا؟ ما الذي يقوله قاسم حداد عندما يقف أمام المرآة وهو يستقرئ تجربته؟
- ينبغي أن أقف بعيداً بعض الشيء لكي أقول عنها: تلك التجربة.
ولكي أستطيع أيضاً أن أشعر بفداحة ما يحدث لي في حياتي لفرط هذا التورط العظيم الذي أجد نفسي فيه بلا فكاك. هو تورط بالفعل، لأنني لم أعد قادراً الآن على الإخلاص لأي شيء آخر في الحياة غير الكتابة. وكلما تقدم بي العمر صرت أضيق بأداء الوجبات الاجتماعية والعائلية. لم يعد الوقت كافياً لأن أحقق ما لدي من مشاريع الكتابة، في داخلي من الكتابة ما يكفي عمراً ثانياً. وتحاصرني متطلبات الحياة بصورة قاتلة، لا أحد يقدّر حاجتي إلى نفسي بعيداً عن التفاصيل، لا أحد يصدّق أن الوقت لم يعد كافياً.
من جهة أخرى أعتقد بأن شيئاً مما حلمت به في حقل الكتابة قد تحقق، وإذا كنت مازلت أتعرض لسوء الفهم من قبل الكثيرين، فهذا طبيعي جداً بسبب المسافة الكبيرة بين مخيلة الشاعر وذهنية القانون العام الذي يحكم التفكير السائد. لا أهتم بالتفاهم مع ذلك التفكير. وما يهمني هو تبلور ثمار تلك التجربة التي وهبتها عمري في شكل واضح من رحابة العقل وجمال المخيلة عند الجيل الراهن والقادم. وعطفاً على كلامي قبل قليل، أحسب أن أقل ما يتوق إليه الشاعر، (عندما يكون قد خاض تجربة محاولة تغيير العالم بطرق مختلفة) أن يرى أحلامه قابلة للتحقق في المجال الإبداعي بصورة حضارية جديرة بالذهاب إلى القرن الواحد والعشرين.
ولكي نرى في المرآة البعد الثالث الذي تقترحه الوسائل الإلكترونية المتطورة، لا بد من الإشارة إلى إحساس مكبوت بالخسارة أمام المستقبل الذي تأخرنا في الذهاب إليه فإذا به يأتي إلينا بغتة دون أن ندرك وسائل استعدادنا له، أقول ذلك لكي أعني بأن صقل الشاعر موهبته بالثقافة كما كنا نردد في الماضي، لم يعد كلاماً يمكن تفاديه بعد قليل، على العكس فقد أصبح الأمر أكثر تعقيداً من السابق. فالثقافة التي تحتاجها الموهبة الآن لم تعد تلك الثقافة الأدبية الخالصة التي تعتمد على (إنشاء المعنى) بوصفه كلاماً، لكنها أصبحت فجأة ضرباً من المعرفة. الثقافة هي الآن العلم الذي لابد للشاعر أن يتصل به ويستوعبه ويبني ذاته على أساسه. بمعنى أن الشعر لم يعد أدباً فقط ولكنه علم أيضاً. وهنا تكمن الصعوبات التي يتوجب علينا أن نستوعبها بعمق، لكي نكون جديرين بالمستقبل. ويقلقني الآن شيئان، الأول خشيتي من أن الوقت لن يسعني لكي أستوعب شروط القرن القادم واستمتع بجمالاته التي تضاهي الأحلام التي أذهب إليها في السنوات الأخيرة. والشيء الثاني إحساسي بأن القطاع الأكبر من الأدباء الشباب لم يزل غافلاً عن المستقبل الذي أشير إليه مما سيحرمه من الجمال الذي لا يسلّم نفسه للجهلة والأدعياء مهما كانت مواهبهم، ماداموا يكابرون على المعرفة بالاستسهال والاستهلاك، فالمستقبل هو للمخيلة المنتجة وليس للسلوك المستهلك. وهكذا ستكون خسارتي مضاعفة، لأنني سأخسر شخصياً أولاً، وسوف أخسر بالنيابة عندما يتعثر الشباب بمتطلبات لم يستعدوا لها.
أحمد الواصل
بعد كل تلك التجارب هل وصل قاسم حداد إلى ما يمكن تسميته بـ"القلق المطمئن" ؟
- مبكراً قلتُ إن أخطر ما يمكن أن يتعرَّض له الإنسان، في سعيه لتحقيق حريته وكرامته، هو استسلامه ليقين البهائم. وعندما يتعلق الأمر بالمبدع فإن الشكَّ النشيط وقلق الأسئلة هو ما يجعل النصَّ الإبداعي قادرًا على التحول المستمر إلى فعل حيٍّ في الحياة، وبعدها. فالإبداع الإنساني هو ما يصدر دائمًا عن شهوة الأسئلة، وليس مما يعلن قبول الأجوبة المستقرة المنجزة من جاهزية الماضي. فالحياة هي موقد البحث والسفر.
وأمام المخيِّلة البشرية ليس ثمة مقدسات تضع الإنسان في مستوى التابع. المبدع هو أيضًا سيد القلق ومدير الحوار العميق بين الكائنات. ومن هذه الزاوية أقرأ المتنبي على طريقتي عندما يقول: "على قلقٍ كأن الريح تحتي"، لكي لا نقف عند حدود المعنى الذي اقترحَه علينا الشرَّاح الذين لا يرون أبعد من النص، خشية الوقوع في هاوية الدلالات، والشعر بدون تأويل مستمر للدلالات يظل جثة تتفسَّخ.
وسيتضاعف قلقي عندما أصادف مبدعًا قليل اليأس، لأن الشك والقلق هما ما يضع الإنسان في موقع اليأس الجميل، يأس هو بمثابة النقد العميق بالنسبة إلى مشاريع الأمل المهيمنة، كأنها الخلاص الناجز.
المبدع اليائس هو أكثر فعالية وأهمية وجمالاً من مئة مفكر يروِّجون لأمل ميؤوس منه. لا ينبغي للمبدع أن يتنازل عن حقِّه في القلق والشكِّ واليأس. هذا حق مشروع، مثل حرية الهواء في أروقة القلب. وإلا فكيف أفهم شخصًا يعلن عن اطمئنان ساذج ويروِّج له أيضاً، في عالم مثل الذي نقع تحت وطأته 24 ساعة في اليوم طوال السنوات والقرون والمجرات.
مَن يجرؤ على الجزم بأن ثمة ما يدعو إلى الاطمئنان الأبله في هذا الكون؟! فنحن، في أحسن الاحتمالات، متخلفون ثلاثة قرون ضوئية عن حقِّنا كبشر، مجرد بشر فحسب. ليتني أتذكر الآن اسم الفيلسوف الذي قال ذات جحيم: "إن الاطمئنان دناءة روحية" لكي أشكره.
أحمد الواصل
"الشعر – بوصفه إبداعًا – أحد معطيات عزلة الشاعر الذهبية". ما الأمداء التي وفَّرتْها لك العزلة؟
- أكثر من الشعر، العزلة تمنحني حريات أعمق وأجمل مما أحقِّقه في النص. في العزلة أعرف نفسي تحت ضوء يصهر الجليد المتراكم في مرايا الذات بفعل سطوة القطيع. المبدع يكون منتجًا وفعالاً وحده، وبمفرده، في مواجهة العالم. وهذا أمر يختلف عن دوره الإجرائي في الحياة اليومية. الإبداع لا يصدر عن الجماعة، لكنه يتجلَّى فيها لاحقاً. لكن دعني أوضّح أكثر. في مراحل حياتي كلِّها، كنت دائمًا منهمكًا في مشروع يتصل بالآخر، إن كان سياسيًّا أو فكريًّا أو أدبيًّا، منذ النضال الحزبي حتى شبكة الإنترنت؛ وبينهما انشغالات كثيرة. صحيح أنني صرت ميالاً أكثر في السنوات الأخيرة إلى العزلة، غير أنها، في العمق، اتصال أكثر بجوهر الحياة، وليس بظواهرها السطحية الطارئة والعابرة التي تستنفد طاقة إنسانية باتت غالية ونادرة في هذه السنّ.
إن عمومية الشخص و حضوره العام ليس دليلاً على مساهمته وفعاليته الحقيقية في الحياة، خصوصًا إذا وضعنا في الاعتبار أن حياتنا باتت محاصرة بما لا يحصى من السلطات التي تهندس مصادرة الإنسان كطاقة إبداعية نقدية. من هنا أقول بأن العزلة هي حرية الشخص من كلِّ السلطات وتجلِّياتها وأوهامها في المجتمع والحياة.
التجربة علَّمتْني أن المبدع الضعيف في عزلته أكثر حرية وأقوى من كلِّ السلطات. وهذا ما أحب أن أسميه الضَّعف الذي لا يُهزَم، لأنه لا يطلب من العالم شيئًا، ربما لأنه، عمقياً، لا يحتاج إلى شيء من العالم؛ فقد بات مكتفيًا بالكتابة، كأنها الحياة.
من يصل إلى هذه المرحلة لا تعود أشياء العالم تغريه. وهنا تكمن قوة النصِّ والشخص معًا. لذلك لا يتحصَّن بالعزلة الذهبية إلا الأقوياء؛ وليس من هم أقوى من المبدعين، لو أنهم يدركون ذلك.
سامر أبو هواش
أصدرت منذ مطلع السبعينيات عدداً كبيراً من المجموعات الشعرية... هذه التجربة تطوّرت بالطبع عبر السنوات واختلفت، لكن هناك خيطاً ما وحده الشاعر يدركه يربط بين تجاربه كلها، ما هو هذا الخيط، أو الهاجس، أو الإحساس الذي طالما رافق قصيدتك؟
ـ إذا كان ثمة خيط رافق القصيدة في مجمل النصوص التي كتبتها، فأرجو أن يكون هو فعل الحب والحرية والجمال الذي كان يتوغل بي في تلافيف التجربة: حياة ونصاً. فقد كنت كلما فشلت في حقل الانهماكات المختلفة في حياتي العملية (وهي كثيرة)، سرعان ما أتشبث ببريق الأمل الباقي في الكتابة والشعر، وهو حقل أنهمك فيه وانشغل وأستغرق دون أن يخالجني شعور الإحباط الذي يصادفني عادة في الحقول الأخرى.
الحب والحرية والجمال هما المكونات الجوهرية لكل مشاغل حياتي دون الزعم أنني كنت مصيباً أو ناجحاً في المساعي التي تمثلت في الكتب وغيرها. ودون الثقة بأن الاختلاف بين الكتاب والآخر كان إيجابياً دائماً.
لقد كنت في خضم تجارب متلاحقة في الحياة والكتابة. ثقتي الوحيدة تتمثل فقط في كون هذه الانهماكات تشعرني بأنني موجود وبحقي في هذا الوجود.
|