الحرية لا تأتي،
يتوجب الذهاب إليها
(كلما أنجزتُ لوحة جديدة، أشعرُ أنني أموتُ قليلاً)
فنست فان جوخ
عبد الحميد المحادين قال فاليري (لقد ولدت في مكان ما، من تلك الأمكنة التي أحب أن أولد فيها) والمحرق هو مكانك الذي بقي في ذاكرتك ورسم خطواتك الأولى وقادك إلى كتابة "ورشة الأمل" وربما إلى دخولها، كيف تتأمل الآن العلاقة مع ذلك المكان ؟
- مثل سيفٍ ولد في غمده.
هل يمكنني اقتراح هذا الوصف لعلاقتي بمدينة المحرق التي ولدتُ وعشتُ فيها أجمل سنوات التكوين؟
لا أعرف لماذا خطرت في بالي هذه الصورة. لكن من المؤكد أن ثقة السيف وشعوره بالاطمئنان والاستعداد الدائم للمجابهات الجديرة، فيما هو ساكن في (بيته)، صورة أحبها يوماً بعد يوم. مثل حنين غير معلن لعالم غير موجود.
أذكر أن الشاعر الألماني "غوته" قال ذات مرة: (لكي نحسن كتابة بيت واحد، يلزمنا أن نعرف مدناً كثيرة، وبشراً وأشياء عدة).
ويمكنني هنا الزعم بأنني، رغم معرفتي مدناً كثيرة بدرجات مختلفة، إلا أنني أكتنز بمعرفة بشر كثر وأشياء لا تحصى في مدينة واحدة، هي مدينة المحرق. وأظن بأن معرفة ِأشياء كثيرة في مدينة واحدة، مثل المحرق، يمكن أن تساوي عدداً كبيراً من المدن. بالنسبة لي، أشعر بأنني عرفت المحرق بكثافة النبيذ العابر للتاريخ.
يمكنني الحديث عن هذه المدينة من مستويات وزوايا مختلفة، غير أنني أحب في هذه المناسبة أن أتحدث عنها من مستويين يتصلان بالرؤية الإنسانية التي نشأت معي ثقافياً، وتصاعدت بالصورة التي كان لها الدور الأكبر في صوغي ثقافياً وإنسانياً وإبداعياً.
عرفت مدينة المحرق، في لحظتين باهرتين من الاكتشاف: الأولى بوصفها مدينة الأبواب المفتوحة دائماً. والثانية بوصفها ورشة عمل وحركة لا تكفّ عن الإنتاج، بحيث كانت طوال تاريخها المعروف مصدر بناء وحيوية، ونابضة بالعمل، حتى أنني أميل إلى اعتبارها سواد البحرين، أي مصدر حياتها، بالمعنى المادي حيناً، وبالمعنى الرمزي غالباً. لقد كانت ورشة الأمل الإنساني.
وفي الحالين كانت لحظة اكتشافي لهذه المدينة هي البرهة الشاسعة للاندماج في مشاغل هذه المدينة وأحلامها. وأظن أن العديد من أبناء هذه المدينة سوف يشتركون معي في جانب كبير مما سأشير إليه.
لقد كانت أبواب المحرق مفتوحة دائماً أمام طفولتنا. أولاً لطبيعة الأحياء الشعبية التي كانت تشكل مناخاً اجتماعياً مشتركاً، سوف لن يصادف الطفل (ثم الصبي والفتى والشاب والرجل والكهل والشيخ) حدوداً فاصلة بين داره وعائلته وبين الدور والعائلات الأخرى.
وظاهرة الأبواب المفتوحة سوف أصادفها بأشكال مختلفة في تلك الصيغة الاجتماعية. فمنذ أن وعيتُ في العائلة كانت دارنا تزخر بالناس على مدار السنة تقريباً، أولاً لأن دارنا كانت تمثل نقطة تقاطع اجتماعي بين عائلات وفئات اجتماعية وأحياء كثيرة لأسباب ثقافية، وثانياً بسبب وجود حسينية النساء التي لا تكفّ عن العمل معظم أيام السنة. ويجتمع فيها أصناف من البشر يشاركون في مواسمها، التي لا تتوقف؛ سنة وشيعة، رجالاً ونساء، أطفالاً وكباراً، في الوقت نفسه. كما أن علاقة رجال العائلة بعدد لا يحصى من أًصدقاء العمل أيام الغوص وأيام السفر للشغل في السعودية ودول الخليج الأخرى، ثم تنوع ممارسة المهن فيما بعد الغوص (النجارة، القلافة، الحدادة، البناء)، ساهم في انفتاح العائلة على تلك الدور والعائلات التي كانت أبوابها مفتوحة للجميع. كان الجميع يلتقي في دارنا في مناسبات الأفراح والأحزان وغيرهما.
منذ الخطوة الأولى للتعرف على القراءة، في الكتّاب، كنت تلقيت القرآن على يد "المطوعة أمينة" في بيتها المجاور لبيتنا في فريق البوخميس، ثم بعد ذلك، انتقالي إلى بيت كتّاب آخر ومعلم آخر أشتهر باسم "الحمدي"- بتسكين الحاء- في "سوق الخارو" في الحي المجاور لحينا بالقرب من محطة السيارات القديمة، المعروف باسم "حي ستيشن"، وهذا يعني أنني سأكون طوال الوقت في (بيت آخر) غير بيت العائلة.
هذا التقليد كان يشكل بالنسبة لطفل مثلي تجربة اكتشاف العالم خارج الدار.
ولكي لا أشير إلا إلى التجارب المتصلة مباشرة بطفولتي الخاصة مع مدينة المحرق، أشير إلى تجربة يومي الأول في المدرسة الأولى في حياتي. حيث أخذتني جدتي (لأبي) إلى المدرسة الجنوبية (وكان هذا هو اسمها آنذاك) وكنت بعد في الخامسة تقريباً.
ولأن تجربة اليوم الأول لطفل يبتعد عن داره مسافة طويلة، هي بمثابة الامتحان، فقد كان الأمر طريفاً. كان المفترض أن تعود جدتي لاستلامي من المدرسة في نهاية الدوام، إلا أنني كنت قد انتهزت فرصة سانحة لكي أخرج قبل سماع جرس الانصراف، واعتقدت أنني أعود إلى البيت وحدي، الأمر الذي جعلني في متاهة طوال النهار، لقد تهت عن طريق البيت. لكي تكتشفني جدتي آخر النهار في أحد بيوت المحرق، حيث دخلت تلك الدار باكياً. وكان ضياعي في يومي الأول للدرس هو بمثابة (حسن الطالع) الذي لم يفارقني حتى الآن، لأنني، لاحقاً، سرعان ما تركت المدرسة قبل إنهاء المرحلة الثانوية.
ما أريد الإشارة إليه أنني عندما تهت عن بيتي وجدت أبواباً كثيرة مفتوحة وكنت أعتقد (لأنني شعرت في حينه) بأن جميعها بيتي الافتراضي. والطريف أن جدتي قد أخبرتني في ما بعد أن البيت الذي لجأت إليه، وتناولتُ الغداء مع أهله، لم يكن إلا بيت صديقة قديمة لعائلتنا.
سيبدو كلامي أكثر وضوحاً عن فكرة الأبواب المفتوحة، عندما يتذكر معي الكثيرون، أننا عندما كنا نسير، آنذاك، في أحياء المحرق سوف نصادف ظاهرة من الاستحالة مصادفتها الآن، فقد كانت كل أبواب البيوت، بلا استثناء، مشرعة، ومن المألوف أن ترى أهل هذه البيوت يتنقلون بحرية من بيت إلى آخر. بل أنك سوف تعرف بعد جولة صغيرة في أحد أحياء المحرق ماذا ستأكل كل عائلة على الغداء في ذلك اليوم. وعليك أن ترقب الحركة الرشيقة التي ستبدأ لحظة الغداء عندما تنتقل الأطباق جاعلة هذه الأبواب المفتوحة تزخر بالناس. ومما يجعل فكرة الأبواب المفتوحة في المحرق أكثر رحابة، استعادة تلك الجولات الجماعية أيام الأعياد، حيث يجوب الناس، جماعات وأفراداً، شوارع وأزقة المحرق، خروجاً من بيت ودخولاً إلى بيت آخر طوال النهار حتى المساء، لتبادل التهاني وتناول الغداء والعشاء على موائد مفتوحة اتصالاً بالأبواب المشرعة. وهو تقليد لا نظير له، وأخشى أننا لم نعد نشاهده في السنين الأخيرة، كما لو أن ثمة ملامح إنسانية هي الآن قيد الانقراض من حياتنا.
كانت أبواب المحرق دائماً مفتوحة للجميع يوم كنا أطفالاً نمارس الألعاب الشعبية ونختبئ في أي دار تصادفنا.
عبد الحميد المحادين هل كان انخراطك المبكر في العمل مع الوالد صيغة أخرى من صيغ اكتشاف المدينة؟
- في ما بعد، سوف أكتشف المحرق أكثر، وأتعرف إليها في مرحلة انخراطي في العمل المبكر، وقت كنت أشتغل فاعلاً في البناء، حين كانت أعمال البناء بالمياومة بأجرة لا تتجاوز الخمس روبيات. ففي العطل الصيفية كان كثير من أبناء جيلي يشتغلون في مهن مختلفة. وأثناء العمل كانت تجربة التعرف على فلسفة الباب المفتوح في المحرق، جعلتني أكتشف ماذا يعني، بالنسبة إلى أهل الدار، صبيٌ في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة يعمل فاعلاً في البناء. حيث يتحول هؤلاء العمال كما لو أنهم جزء من العائلة.
ثم تعرفت إلى المحرق أيضاً عندما كنت أعمل مع والدي في دكان السمكرة الذي يصنع فيه علب الحلوى التي كانت تعد من صفائح علب التمر الكبيرة الفارغة، وقد كنت أجمعها من سوق المحرق وأقوم بتقطيعها لتحويلها صفائح مبسوطة وأنظفها بالماء، ليعيد والدي إنتاجها إما علباً للحلوى البحرينية أو أدواتٍ منزلية ومطبخ، ثم يضعها لي في كيس كبير من الخيش أحمله على ظهري وأجوب به مدينة المحرق من شمالها، حيث دكان يوسف البلوشي صاحب محل الحلوى المجاور لدكان بوهيال (رحمه الله)، حتى جنوب المحرق، حيث سوق "الكراشية" ودكان "بوطالب العماني" الذي كان يشتري بعض العلب التي أحملها. غير أن المرحوم حسين شويطر في مركز سوق المحرق، (محله لا يزال في موقعه القديم)، هو أهم من كان يشتري من والدي علب الحلوى. وفي هذا السوق الأشهر في المحرق (وأظن في البحرين أيضا) تعرفت على المحرق بالشكل الذي ازعم بأنه صاغني روحياً ونفسياً وثقافياً. لأن معرفة المدينة، بالمعنى الإنساني، هي أحد مظاهر الحضارة في حياتنا، وهي بمثابة الثقافة المتحولة في العصر الحديث. كما أن الشخصيات الشعبية التي زخرت بها المدينة القديمة، كانت من الخصوبة الإنسانية والطرافة ما يجعلها تحتاج إلى الوقت الكثير والسياق الأنسب للحديث عنها.
وبعد سنوات، سوف نصادف أبواب المحرق مشرعة لنا مرة أخرى، أثناء فرارنا من شرطة (مكافحة) الشغب، في ستينات القرن الماضي، عندما كان رجال الشرطة يطاردون المتظاهرين لتفريقهم بالقنابل المسيلة للدموع حيث كان الأهالي، في أحياء المحرق، مستعدين لنا على أبواب بيوتهم المفتوحة بالبصل وقطع القماش المبللة بالماء. أجمل من ذلك أن أبواباً (طوال النهار والليل) كانت مفتوحة لنا أيضاً أثناء العمل النضالي عندما كان بعضنا يتفادى المبيت في داره وقت الأحداث بسبب ملاحقات الشرطة بهدف الاعتقال. كنا نجد المجال مفتوحاً برحابة القلب لدى بيوت كثيرة لكي نقضي كل ليلة في بيت مختلف. وكانت العائلات، التي معظمها لا يعرفنا شخصياً، تهيئ لنا المبيت والطعام وتسهر علينا كما لو أننا من أبناء الدار، بتعاطف وحنان آسرين. بل إن معظمهم كان يتمنى علينا أن نعود ثانية، وأذكر أن رجلاً في إحدى العائلات، جنوبي المحرق كان يبكي لأن أحدنا كان سيغادر بعد ثلاث ليال من المبيت في بيته، متهدجاً: "أين تذهبون". دون أن نتمكن من وصف هذا السؤال بغير تضرع المحب.
عبد الحميد المحادين وهل كان هناك مفتاح آخر لاكتشاف المدينة معرفياً على نحو ما تجلى في كتابك عنها؟
بقي أن أشير إلى المستوى الآخر، الجوهري، لمدينة المحرق، وهو ما سيكون اكتشافي له، بالمعنى المعرفي، متأخراً.
وأعني به هذا البعد الحضاري، في أن تكون المحرق ورشة العمل، كما يحلو لي تسميتها أيضاً، وخلية الإنتاج التي لا تكفّ عن الحركة. وأعني هنا أولاً الطبيعة السوسيواجتماعية التي جعلت المحرق عبارة عن مجموعة أحياء متجاورة متداخلة، غالباً ما يأخذ كل حي إسم مهنة أو حرفة من الحرف اليدوية ذات العلاقة المباشرة بالحياة اليومية للناس طوال تاريخ المدينة المعروف على أقل تقدير. واللافت في هذه المدينة أنها اشتهرت بأسماء مهنية يُعرف بها عدد كبير من أشهر أحيائها. وهو أمر أتمنى أن يتولى دراسته لنا مختصون لكشف البنية السوسيولوجية والانثروبولوجية لمدينة المحرق، التي لا تزال أرضاً بكراً من هذه الزاوية.
ويمكنني، كمثال، الإشارة إلى أسماء أحياء (البنائين، الصاغة، الحدادة، الحياك، القلاليف.. وغيرها)، وهي أحياء كانت، بالنسبة إليّ، العالم الأقرب إلى الممارسة العملية، ليس لقربها أو تقاطعها مع بيت العائلة فحسب، ولكن بوجه أخص لكوني عملت في معظم هذه المهن والحرف اليدوية في فترات مختلفة من حياتي، وعرفت عن كثب علاقة معظم هذه المهن بالحياة اليومية للناس في مراحل نشوء هذه المدينة منذ فترة الغوص وصناعة السفن وارتباط مهنة الحدادة مثلاُ بمهنة صناعة السفن.
ثم فترة البناء حيث كان بعض أشهر البنائين في المحرق، وفريق البنائيين خصوصاً، يجري الاستعانة بهم لتشييد العديد من أشهر البيوت في المحرق والمنامة والرفاع لكون أهل مهنة البناء من بين أمهر العاملين في حقل زخرفة الجبس والبناء عموماً. وأذكر بالتحديد الحاج "أحمد الميل" رحمه الله، الذي عرفته شخصياً بحكم الصداقة الحميمة التي تربطه بوالدي، لكن دون أن اعمل معه، وكان والدي أخبرني أن "أحمد الميل" كان يطلبه شيوخ الرفاع ليشارك في بناء بيوت وقصور العائلة الحاكمة لخبرته، وكان يضطر للإقامة فترات طويلة في الرفاع لإنجاز العمل، بسبب ندرة مواصلات ذلك الزمان. وهذا مما كنت أشرت إليه في بداية الحديث عن البعد التنموي الذي كان أسهم به أهالي المحرق في سياق بناء البلد وتحولها من البداوة إلى الحاضرة بالمعنى العمراني، ليس اقتصاديا فقط ولكن بالمعنى التقني والفني للكلمة، وخصوصاً إذا لاحظنا أن ما يجري ترميمه في السنين الأخيرة من البيوت القديمة هو تحديداً ما كان الحاج "أحمد الميل"، وأمثاله من بنائي المحرق، قد أنجزوه سابقاً. ولعلك إذا صادفت أبناءه وأحفاده الآن ستعرفهم مباشرة بقاماتهم الفارعة التي ورثوها منه كما ورثوا مهارته في فن البناء. وليس من غير دلالة أن من أشهر الذين تستعين بهم إدارة صيانة الآثار بوزارة الإعلام هو "علي الميل" الذي أعرفه شخصياً، وهو ابن أحمد الميل الذي أتكلم عنه.
وفي فترة عملي في البناء، سوف أتذكر دائماً عبدالله بن عيسى الحداد، أستاذ البناء الذي عملتُ في معيته معظم الفترات الصيفية التي اشتغلت فيها.
غير أنني أدين لوالدي بكل ما يتصل بالحياة العملية، كونه عرفني إلى كل هذه التجربة البالغة التنوع، فقد وجدت في البشر الذين تعرفت إليهم شخصياً كنزاً من المشاعر والأخلاق، ودروساً لم أصادفها في حقول معرفية أخرى. وفي وسعي الآن أن أستعيد بوضوح، شبه كامل، العديد من المواقف والأشخاص كلما تعلق الأمر بتجربة أو موضوع محدد في حياتي منذ أن وعيت علاقتي بمدينة المحرق. وربما ساهمت تلك التجربة الإنسانية في صقل طبيعتي العاطفية الميالة إلى الضعف في لحظة المشاعر. وأذكر، مثلاً، كيف أجهشت بالبكاء عندما شاهدت منظراً لا أستطيع نسيانه في ذلك الصباح، يوم كنت أقف على الرصيف الخارجي المحيط بمدرسة الهداية، جنوب المبنى المطل على شارع المطار، وإذا بي أرى القسم الأعلى لأحد البيوت على الجانب الموازي لشارع المطار المحاذي لساحة المدرسة، والذي كان فيه عمال بناء يشتغلون، ينهار ويتصاعد صراخ العمال داخله وهم يحاولون الفرار إلى الخارج، وكان معلمهم يحمل إسم العائلة "موسى بن حمد" المعروفة أيضاً بمهنة البناء في المحرق. مؤكداً، أنه كان مشهداً مؤلماً، وخصوصاً أني شخصياً كنت أعرف بعض أولئك العمال، وقد توفي عدد منهم تحت ركام البيت المنهار، ومن بين المتوفين في ذلك الحادث أحد أبناء "موسى بن حمد" إذا لم تخنّي الذاكرة. وأذكر أن البيت كان قديم البناء، ويعود آنذاك، إلى الفنان أحمد الجميري، وكان يجاوره من جهة الجنوب الشرقي منزل الأستاذ عتيق سعيد، رحمه الله، المقابل لبيت الشتي.
لقد كان مشهد حادث انهيار البيت لحظتها مفرط القسوة، بحيث أمضيت أيام عدة طريح الفراش مريضاً بسبب صدمة الواقعة، فقد شعرت جسدياً بما حدث لأشخاص أعرفهم وربما عملت معهم في العطل الصيفية. ثم وجدت نفسي أنهار فعلياً، منخرطاً في بكاء مرير لهول الصدمة، جعل سكرتير المدرسة يومها يسمح لي بالعودة إلى البيت. وقد كانت الحادثة قد روّعت أهالي المحرق.
بهذا المعنى أستطيع أن أقرأ الآن تلك العلاقة، وأزعم أنني اعرف مدينة المحرق على طريقتي.
عبد الحميد المحادين وما هو الأثر الذي تركه فيك هذا الامتزاج اليومي بهموم المحرق؟
لكي تكتمل معرفتي بهذه المدينة الأنشط في تاريخنا الاجتماعي والسياسي الحديث، فان جانباً ثقافياً مهماً لابد من الإشارة إليه، فالامتزاج الحميم بالحياة اليومية لمدينة المحرق جعلني أتصل بعبقرية التعبير الشعبي لدى أبناء هذه المدينة، فقد كنت أتلقى يومياً، من والدي والمحيط العام، عشرات التعبيرات وخصوصاً الأمثال التي كنت ألتقطها بالحس العفوي للفتى المتعطش للمعرفة، لكنها معرفة العاطفة العفوية وليست المعرفة المنظمة، غير أنني الآن أشعر بالاكتناز الثري بقدر هائل من الأمثال والأقوال التي لا أكف عن استعمالها في حياتي اليومية بصورة تدهش الأصدقاء أحياناً، لأنهم غالباً يسمعون هذه الأمثال والأقوال لأول مرة، ولفرط جماليتها ومقدرتها على الاختزال والذكاء والرشاقة في التعبير، يسارع بعضهم في تسجيلها.
عبد الحميد المحادين هل يفهم القارئ انك متعصب لمدينتك ؟
- لستُ ممن يتعصبون للمحرق، ولا أسوق هذه الأخبار لكي أميزها عن غيرها من مدن البحرين، غير أنني أسردُ ما يتصل بتجربتي الشخصية وأرى الجانب الإنساني في تلك السيرة، وهو جانب يمكن أن نصادفه في مدن وأمكنة كثيرة وأشخاص عدة، غير أن ذلك كله لن يشبه المحرق، فهي مدينة لا تشبه غيرها بالنسبة إلي.
وفي المحرق عرفت "المكتبة العصرية" الواقعة في مقابل مدخل سوق القيصرية الشعبي الشهير. صاحب المكتبة هو الأستاذ عبدالله الجودر الذي اشتريت منه كتابي الأول وهو منجد اللغة العربية وتعرفت إلى سلسلة قصص "المكتبة الخضراء" ومجلات "سندباد" و"سمير" والصحف العربية الأخرى في ما بعد. وفي المحرق عرفت أيضاً مكتبة المكتب الثقافي البريطاني، التي كانت في السوق القديم. وأذكر خصوصاً مدرسة الهداية التي شهدت نزوعي الأدبي الأول في المرحلة الابتدائية حيث أرشد خطواتي الأولى نحو الشعر الأستاذ عبدالحميد المحادين الذي كان قد جاء تواً من مدينة الكرك الأردنية متحمساً للأدب ويكتب الشعر آنذاك. في تلك المدرسة سمعت لأول مرة عن شاعر اسمه طرفة بن العبد من خلال مشهد تمثيلي كانت تعرضه المدرسة في حفلها السنوي في الساحة الداخلية للمبنى القديم. وأذكر كيف كان الممثل الذي قام بدور طرفة ينشد بيت الشعر المنسوب لطرفة بن العبد، كما لو يغني:
"يا لك من قبرة بمعمري،
خلا لك الجو فبيضي واصْفري،
وعفري ما شئت أن تعفري
ونقري ما شئت أن تنقري
قد رحل الصياد عنك فابشري
ورفع الفخ فماذا تحذري
لابد من صيدك يوماً فاصبري".
ومن يومها بدأ تعرفي بطرفة بن العبد، لكي اكتشف لاحقاً أن شعر طرفة بن العبد يكمن في مكان آخر غير تلك الأرجوزة الساذجة، التي دغدغت أحلام التلاميذ المولعين بنصب الفخاخ للطير في برية شمال المحرق الرحبة.
أظن أن المحرق لم تكن مدينة فحسب، لكنها تحديداً كانت مدرسة، بالمعنى العميق لمفهوم الدرس. وليس من غير دلالة أن تكون مدرسة الهداية قد أنشئت في المحرق، وهي المدرسة النظامية الأولى في منطقة الخليج.
المحرق وقتها لم تكن مدينة فحسب، لقد كانت أماً رؤوفاً رحيمة تستعصي على الوصف. يحق لي أحياناً أن أحتقن بالبكاء لأن المحرق هي أمي التي أفقدها.
الآن أستطيع استشعار فداحة ابتعادي عن المحرق نزولاً عند شرط السكن. وأزعم بأن سيفاً أعرفه جيداً لم يعد في غمده الآمن.
محمد البنكي
لننتخب مدخلاً واحداً، ما دامت المداخل متعددة، ندلف به إلى عالم قاسم حداد. لنلتقط الخيط من توظيف ثيمة الأب في الكون الإبداعي لقاسم. لقد اقترحت علينا "ورشة الأمل" صورة للأب مخالفة للطرق التي يستدعى بها الأب في العديد من سير المبدعين. إذ كما لاحظ محمد لطفي اليوسفي في "فتنة المتخيل" فإن الأب يحضر عادة كمعادل موضوعي للسلطة والقهر والقانون الغاشم، وهو من هذه الجهة عامل تحريض على التمرد والتحقق الذاتي بعيداً من الارتهان لسلطة الأعراف. الملاحظ أن الأب في سيرة "ورشة الأمل" يرتسم وفق ملامح أخرى، مركبة الأبعاد، يمتزج فيها خليط من المشاعر: الشدة والرحمة، القسوة والحنان، الصلابة والرقة "يحضر كل ذلك على نحو مدوخ شديد الازدواجية والتداخل".
هذا ملمح مائز يمكننا أن نتحدث عنه بشكل مستقل إن أردت ولكنني أفضل أن نتأمله بالموازاة مع صورة حضور الأم في التجربة أيضاً "ربما لم تشبع "ورشة الأمل" هذا الحضور" غير أنه حضور ممتد في أنساغ التجربة ومنعطفاتها في الدواوين الأخرى طوال الوقت "منذ "البشارة" و"يا ثوب والدتي المرفرف بالبشارة" اتصالاً بالولادات في "القيامة" وغيرها، أقول، هل لنا أن نفتح أقواساً هنا، قاسم، لنتحدث عن الوالدة، الأم، أطيافها وحضوراتها، ولماذا تتخذ هذه الهيئة التي تقطر بالحنان والدعة أمام قسوة الأب في "ورشة الأمل" دعنا نفتح على تلابس الواقعي بالمتخيل، على والدة قاسم حداد والأم في كونه الشعري في آن واحد.
- ربما كان مثل ذلك الحضور الموارب للأم في كتاباتي السيرية مؤشراً إلى قرينة ظرفية، هي أن الوالدة يتملكها مناخ المنزل بشكل أساس وحضورها في الفسحة الأوسع أقل من حضور الأب بطبيعة الحال. ولربما كان للأمر علاقة بمجال التقاطع المعاشي اليومي في الممارسة العملية، فمن هذه الناحية علاقتي بالوالد أكبر من علاقتي بالوالدة. وما يبقى في ذاكرتي هو أن الوالدة، وشقيقتي الكبرى بدرية، وابن عمتي عيسى ـ وهو أكثر من أخي- كانوا ملاذي حين تزيد صرامة الوالد.
كانت والدتي تظل دائماً في ظلال الوالد لا في مواجهته، خصوصاً أن جدتي هي من كان يقف في مواجهة الوالد، فحضور جدتي كان أقوى من حضوره، فمكانتها كانت قيادية ومركزية قياساً لوالدي بالرغم من كونه أكبر أبنائها. وقد احتفظت والدتي لنفسها أبداً بالمكان الحميم الأكثر خفوتاً. وكان والدي يدللها كثيراً، ربما لأنه تزوجها وهي في سن صغيرة بالنسبة إليه، حتى أنه لا يردّ لها طلباً، إذا طلبت، وهي المرأة غير المتطلبة. وأذكر أن أبي غالبا ما يناديها بـ(بت حسن) في الحالات الطبيعية، وعندما نسمعه يناديها باسمها المجرد: (خديجة)، سنشعر بأنه في مزاجه الرائق للغزل على طريقته، كما لو انه يريد أن يبعث لزوجته الرسائل الخاصة.
وعندما انخرطت في النشاط السياسي، كانت الوالدة تكتنف حركتي بالمداراة وتأمين السلامة في البيت والعائلة. فقد جهدت كي تخفي انهماكاتي عن الوالد. ولم يكن منبع مثل هذا السلوك الخوف أو عدم القناعة بقدر ما كانت راغبة في تفادي ما سيسببه الأمر من قلق لوالدي، وهو الذي لا ينقصه القلق. لكنه سرعان ما عرف بالأمر بعد ذلك، وجرت تعاملاته معي بتفهم وايجابية، وبقدر من الفخر أيضاً.
كانت الوالدة تبادر إلى تلبية احتياجاتي. ويبدو أن رغبتي، كطفل، في التشبه بالوالد، قد جعلتني أتعلق بوالدي أكثر من والدتي، حيث عنصر السعي للعمل ومعطيات الحياة العملية هي التي ربطتني بالوالد أكثر، لتظل الأم وسادة الراحة بعد العمل.
ما أذكره عنها أيضاً أنها كانت شخصية انفعالية في طفولتنا. دائما على شفير البكاء لأي سبب من الأسباب. لربما تأثرتُ نفسي بهذه الطبيعة. وربما شحذت جانباً من العاطفة الشخصية في طفولتي.
لجوئي للوالدة، في لحظات صرامة الوالد.
على هذا النحو تحضر شخصيتها في ذهني. مواقف كثيرة أستعيدها. عندما أتذكر دفاعها عن طفولتي، حيث أحنّ إلى ما تبثني من دفء كلما حرمتني الحياة.
سيد محمود
من الأمور اللافتة في تجربتك كذلك تجنب الخوض في ما هو شخصي، رغم أن الشخصي مثير بمعنى ما. فاسمح لي هنا أن أتوقف أمام إشارة عابرة، في إحدى الحوارات، عن تجربة الحب ثم الزواج من خارج الطائفة التي تنتمي إليها : كيف بدأت تجربة الحب، وهل دفعت ثمن خيارك في الزواج على المستوى الاجتماعي، أم أن أفقك التقدمي تجاوز ذلك؟
- لا أرى في الشأن الشخصي ما يشكل أهمية للآخرين، إلا في الحدود التي تضيء النص. وهذا ما تتكفل به المصادفات النادرة التي يبحثها مفسرو النص ومؤولوه حين يعملون على جمع قرائن الواقع فيما يقرأون النص.
أما عن تجربة الحب والزواج، فقد كان الأمر يحدث بالعفوية التي تختلط فيها براءتنا العاطفية مع طفولة مجتمعنا البسيط في ذلك الوقت، حيث لم يكن أحد يتوقف عند مسألة الطائفة إلا طفيفا حين لحظة الحب والزواج. حتى أنني استطيع الزعم، (قياساً لما يختنق به مجتمعنا هذه اللحظة)، أننا لا نستطيع الكلام عما تسميه (ثمن) خياراتنا في الحب والزوج.
كانت الأمور لا تعدو عن كونها بعض المراجعات التقليدية التي لا ترقى إلى مستوى التعصب والمستحيلات الفارغة. ليتهم يدركون كم يخسرون حياتهم كلما خضعوا لأوهامهم المستفحلة.
ولم يكن أحد يحتاج، في حينه، إلى أن يكون يسارياً لكي يتمتع بخياراته (عبر الطائفية). فالشرط العاطفي يجعل السلوك حضاريا بامتياز، ويجعل حياتنا جديرة بالدفاع عنها معاً.
زوجتي موزة الشملان (أم طفول) من منطقة "أم الحصم" في المنامة، لكنني رأيتها للمرة الأولى في المحرق، أثناء أحداث الانتفاضة الشعبية، عام 1965، كانت قادمة في مهمة تنظيمية (في حركة القوميين العرب)، لتنقل المراسلات بين المحرق والمنامة، يومها كان ابن عمتها أحمد الشملان عندي في البيت، وهي قادمة تحمل رسالة إليه. بعد أن غادرت، سألت أحمد الشملان عن الفتاة، وتكفل الوقت بالباقي.
لم تكن الصعوبات غير متوقعة، لكنها كانت من السلاسة بحيث تبدو لي الآن كما لو أنها كانت بمثابة الدرس الأول، لحياة غنية بالتجارب. حتى لكأن الحب هو العنصر الحيوي لجعل مشروع الحياة ممكناً، بوصفه ضرباً من التحقيق الواقعي لأحلامنا الجميلة في مجتمع صعب المنال.
يومها، كانت قصة الحب هي بوابة قصة حياة واسعة، حتى لكأنني أستطيع القول الآن أنني بدأت حياتي الحقيقية مع لحظة ذلك الحب، حيث رافقتني موزة الشملان في خطواتي كلها، وليس من غير دلالة أن صدور كتابي الأول (البشارة) عام 1970 وهو عام زواجنا أيضاً.
ولعلي سأشعر بأن هذه الرفقة الحميمة هي التي منحتني طاقة الحياة في سياقات كثيرة الصعوبات ومكتنزة بالتجارب.
محمد البنكي
سنبقى في دائرة السيرة" سنضم إلى جنبات المشهد أقارب آخرين. ما رأيك لو اقتربت بؤرة الرصد من عيسى ابن عمتك وأستاذك الأول نستعيده من السيرة المكتوبة. معك وهو يأخذك للمرة الأولى إلى سينما المحرق. معك وهو يزجّ بك في المظاهرة الأولى ضد الإنجليز، هل هناك شيء يمكن أن نثني عليه في ما يتعلق بما يبقى من عيسى في كون قاسم؟
- فَقْد عيسى عبدالوهاب حدث فاجع بالنسبة إليّ. أحاول تصديق ذلك. لقد تولى عيسى تربيتي جنباً إلى جنب مع الوالد. وضع خطواتي الأولى في أكثر من مجال، ليس هو من أخذني إلى المظاهرة الأولى فقط، بل هو أيضاً من أدخلني في العمل السياسي، وفي حركة القوميين العرب، وهو من قرأ تجاربي الأولى. كان يشتري لي الكتب وأقرأ معه. ولما بدأت في تجارب الكتابة كان يشحذ في داخلي طاقة التحدّي بأن أكتب الشعر. كنت أشاغبه وكان يتظاهر بعدم القناعة بما أنجزه من كتابة حتى يدفعني للمزيد. كنت أتحايل عليه لأنني أدرك مدى غرامه بالبياتي، فكنت أكتب القصيدة فأدعي أنها للبياتي وأعرضها سائلاً رأيه فيها فكان يعجب بها قبل أن يكتشف الحيلة. إنه أول من خلق في داخلي حسّ التحدي الأدبي. كان يضع خطواتي على طريق الكدّ والعمل أيضاً. بصرني أن الحياة تستدعي المساهمة والمشاركة بين الكبار والصغار لتحمل عبء الحياة ومتطلباتها. كان يحبني كثيراً. وعيت على الدنيا وهو إلى جانبي في البيت. ومع أنه ابن عمتي إلا أنه كان مندمجاً في أسرتي الصغيرة تماماً. وكنتُ أناديه يا "أخي"، وكان ينادي والدي بـ(أبي)،.
عبدالحميد المحادين
– في حياة الإنسان مصادفات تشبه الموعد. ما هو التفسير الفني لذلك. وما المصادفات التي هندست مواعيدك؟
- أحب دائماً أن أطلق على مثل هذه اللحظات (المصادفات الموضوعية) كما يقترح السرياليون، وخصوصاً إذا عرفت أنني أجد في حياتنا من الفعل السريالي الكثير مما لا ينتبه له الكثيرون.
والمصادفة الموضوعية، في ما أعنيه، هي الأمر الذي يحدث بالشكل غير المتوقع ولكنه، عمقياً، هو ما يتوجب أن يحدث لكي تكون الحياة منسجمة بنقائضها ومفارقاتها الإنسانية. بمعنى أنني أصادف أحياناً أشياء غاية في الغرابة غير أنها من بين أجمل الأشياء قاطبة.
ولكي أسوق مثلاً طريفاً، وعميق الدلالة، فإن المرء في المجتمع العربي لا يختار دينه ومذهبه بحريته، لكنه يولد مسلماً أو مسيحياً أو شيعياً أو سنياً، تماماً مثلما يولد بعينين شهلاوين وشعر أجعد وبشرة سمراء وما إلى ذلك. إنني أنظر إلى هذه المسألة على أنها واحدة من طرائف حياتنا. لذلك أحب أن أتحدث عن كوني ضحية لهذه المصادفات، لكن، دائماً، لكي أقول شيئاً آخر.
كوني شيعياً، لم يكن هذا الأمر يعني شيئاً طوال الوقت، بل إنه بالنسبة إلي لم يمثل شيئاً يستدعي الانتباه، إلى أن حانت اللحظة ووجدت نفسي عاشقاً لفتاة سنية، مما استدعى استنفارات من أطراف مختلفة، لكن من غير أن تجعلني الاستنفارات تلك أتبادل معها الموقف نفسه. ففي وقت الحب لا تجدي المجابهات. غير أنني تيقنت أكثر بأن في الأمر ما يدعو إلى عدم التفريط في مغامرة فاتنة من هذا النوع. صدفة أن أكون عاشقاً لفتاة من منطقة (أم الحصم)، صدفة أن أكون قادماً من أزقة المحرق، هي بلا شك أكثر أهمية من صدفة كوني شيعياً. الحب هو هوية الإنسان ودينه ومذهبه. قال مثل هذا الكلام المتصوفة والعشاق وعدد لا بأس به من مجانين الشعر.
وما دامت لعبة المصادفات قد بدأت فإنني سوف أذهب إلى المغامرة، وهي المغامرة التي لم تتوقف عن إدهاشي ودفعي إلى المتعة، حتى هذه اللحظة فيما ألاعبُ حفيدتي "أمينة" التي منحتني إياها ابنتي "طفول" وزوجها "صلاح"، الذي كان (بمحض المصادفة الموضوعية أيضاً) سنياً هو الآخر.
هذه المصادفة التي أفكر جدياً دائماً بأنها أحد أفضل أشكال العصف بالشروط والتقاليد والمفاهيم الطائفية التي باتت خارج الزمن، فيما لا يزال، للأسف، قطاعٌ من مجتمعنا الراهن (فيما يزعم ذهابه إلى الديمقراطية) يراهن على التشبث بها. أليست مصادفة موضوعية أن واحدة من بين أخطر ما يهدد مشروعنا الحضاري الذي نحلم به هي مصادفات طائفية، يجري إعادة إنتاجها بين وقتٍ وآخر بوهم أيديولوجي متعدد الوسائط المتخلفة، غائباً عن بالهم أن المجتمع البحريني، طوال تاريخه الحديث، كان قادراً على طرد أية محاولة: داخلية أم خارجية، لإنعاش الطائفية أو استغلالها، بسبب الطبيعة الحضارية التي يتميز بها هذا المجتمع، الذي ظل يشكل وحدة إنسانية عبر عصوره؟
ولو أننا تعاملنا مع الظاهرة المذهبية بوصفها مصادفات تحدث خارج إرادة الشخص، وأنها من ملامح التعدد الثقافي والطاقة الروحية للإنسان ليس أكثر ولا أقل، فسوف نتمكن من تفادي أية تعثرات مفتعلة تتصل بهذه المسألة.
إن السعي لبناء المستقبل من المتوقع أن يمرّ بمصادفات على هذه الشاكلة. فكل ادعاءاتنا بالتحضر وكل مزاعمنا بالحداثة والتجديد، وكل ما قد تتسم به خطاباتنا الفكرية من لغة تقدمية، سوف تكون في مهب الفضيحة عند اللحظة الأولى التي نقف فيها أمام حقيقة الإنسان الجوهرية بوصفه إنسانا مجرداً، حقه الأول يتمثل في حرية الاختيار. هل نستطيع أن نقبل حقيقة التعدد والتنوع في البوتقة الاجتماعية الواحدة بجرأة وشجاعة ودون تردد ولمرة واحدة حقيقية وجذرية؟
سوف تتوقف على قدرتنا في التعاطي مع مثل هذا السؤال كل المصادفات الأخرى التي تشكّل تفاصيل لاحقة يجري فهمها في ضوء وعينا الحضاري للإنسان في مكانه الحقيقي: الحرية.
وبما أنه لم يكن في يدنا اختيار مصادفات الماضي، فليس أقل من محاولة اختيار مصادفات المستقبل، والسعي لنيل حق الإسهام في صوغها.
الحرية هي الحدث الوحيد الذي لا يأتي لنا بمحض الصدفة. فالحرية لا تأتي أحداً، ولابدّ من الذهاب إليها دائماً، بثقة، وبلا هوادة. تذهب إلى الحرية حراً من سلطة القبيلة والدين والطائفة والمذهب والعرق والايدولوجيا. الشخص بوصفه إنسانا فحسب يستطيع فقط أن يكون حراً في معايشة الآخر والتحاور معه وبناء المستقبل معاً. انه قدرنا الذي لا يمكننا تفاديه، ولا يمكنهم الاستمرار في مصادرته.
ثمة مصادفات طريفة أخرى تتصل بحياتي منذ الطفولة. فقد تعرضت إلى تجربة غاية في الغرابة في ما يتعلق بمسألة اسمي الشخصي.
كنت، ولا أزال، أتعرّض للمواقف الطريفة في حياتي اليومية والعملية. فقد حملت عدة أسماء منذ ولادتي حتى الآن. وربما رأيت في هذه الظاهرة دلالات تتصل بشهوة التحول والتماهي وغموض الكائن.
يوم ولدت في أواخر الأربعينات، في الأول من شهر رمضان، كان والدي غائباً عن البيت، وأظن أنه كان في رحلة الغوص. وكان الجميع يتوقع أن والدي هو من سيختار اسم الطفل الجديد. وكانت جدتي آنذاك هي مايسترو العائلة، فاقترحت اسماً مؤقتاً هو (رمضان) تيمناً بكوني قد ولدت في غرة الشهر الكريم في ذلك العام. وبعد أن عاد والدي من الغوص اقترح تسميتي (جاسم) غير أن معظم الأهل والعائلة والجيران في الحي وجدوا في استخدام الاسم الأول طرافة ما متشبثين بذلك الطفل الذي أحبوه، أو ربما بعضهم قد اعتاد على اسم رمضان، فراحوا ينادونني به. واستمرت مناداتي بالاسمين معاً سنوات الطفولة كلها تقريباً، حتى أنني لا أزال أتذكر أن إحدى النساء لم تكن تقبل مناداتي بغير اسم (رمضان) لإيمانها بعدم جواز تفادي ذكر رمضان المبارك. وقيل إن سبب تعصّب بعضهم لاسمي الأول هو كونه الاسم الذي حفظ لي حياتي ونجّاني من موت متوقع، بعد أن كانت أمي قد فقدت (أسقطت) أكثر من طفل قبلي، وهي الحكاية التي سهوت عن ذكرها قبل قليل. فقد كانت والدتي تنوي في كل مرة إطلاق اسم (جعفر) على مولودها إذا كان صبياً، فيحدث أن يسقط الجنين أو يموت المولود. مما حدا ببعض (المطاوعة وقراء الطالع) أن يقترح على العائلة عدم التمسك بذلك الاسم، لاعتقاد بأن (جعفر، يعفر) بمعنى أنه يرفض العيش. وهذا يضيف لأسمائي اسماً ثالثاً حتى تلك اللحظة.
ولكي تكتمل مصادفات تعدد التسمية، فإنني عندما بدأت بالكتابة الأدبية في باب القراء في جريدة "الأضواء" البحرينية منتصف الستينيات، لم أستخدم اسم "جاسم محمد حمد الحداد"، إذ كنت أيامها مولعاً بالشاعر الجزائري المعروف "مالك حداد"، الذي قرأت كتابه الوحيد المترجم عن الفرنسية، "الشقاء في خطر". فوجدت نفسي أتخلص من حرفيّ التعريف في اسم العائلة وأضع "حداد" مجرداً، ثم أختار اسم "قاسم"، لكوني، من جهة أخرى، مرتبطاً، في اللاوعي، باسم "القاسم بن الحسن" أحد الشباب الذين قاتلوا مع الحسين في كربلاء، والذي استشهد يوم عرسه كما تقول الحكاية. وكنت في الخامسة من عمري عندما اختاروني لأقوم بدور القاسم، في حسينية النساء في البيت، في زفّـتـه قبل ذهابه الى المعركة واستشهاده في يوم الثامن من المحرم.
وبهذا أكون قد حملت أكثر من اسم في مراحل مختلفة من حياتي، كأن المصادفات هي ذاتها سوف تضعني في مهبّ التحولات لتخرجني من إسمٍ ودلالاته ولتدخلني إسماً آخر ودلالة أخرى. ولا أخفي أن ذلك قد راق لي في ما بعد، حتى أنني سوف أضيف ولعاً جديداً بالشاعر طرفة بن العبد، لكي أشير إلى استخدامي الشعري له في نصوص كثيرة باسم "طرفة بن الوردة" وهو اسم قمت بتركيبه ناسباً الشاعر إلى أمه "وردة"، وهو أيضاً الرمز الشعري الذي استخدمته غير مرة لكي اعني به الزنزانة وغيرها.
ترى لماذا لا تكون هذه المصادفات المتعلقة بالأسماء المتحولة تجربة شعرية من شأنها أن تفسّر شهوة متأججة لم تفارقني حتى اللحظة في الخروج على الأشكال والأساليب وحدود التعبير في طريق الكتابة، تماما كما كنت أسعى، عن غير قصد، للخروج من أسمائي. هل تتيح لنا هذه الفكرة مساءلة جديدة للنص والشخص؟
رولا قباني
كيف يمكن للشاعر أن يتأمل الآن فضاء طفولته بعيدا من هذا الولع بالمكان؟
- كأن الشاعر لا يريد أن يكبر، أو هو بمعنى ما لا يستطيع أن يغادر الطفولة لأنه سيكفّ آنذاك عن كونه شاعراً، وهذا في بعض الأحيان ما قد يشكل تعويضاً لاواعياً لفقدان الطفولة الأولى. لكن في الأساس تظل الطفولة هي من مكونات الشعرية، وكما يقال عن الشاعر أنه طفل العالم. تحلو لي مثل هذه الملامسات التي تضع الشاعر أمام غموض تجربته. ولدت في عائلة، مثل آلاف العائلات في البحرين، منهمكة كلياً في العمل بكل أشكاله طلباً للرزق، ومن حيث الترتيب كنت ثاني الأولاد في أسرتي المكونة من ثلاث شقيقات وشقيقين، وقد نشأت في بيئة فقيرة كآلاف العائلات في نهاية النصف الأول من القرن العشرين. الرجال يعملون أشهر الصيف في الغوص، وفي الشتاء في مهن مختلفة في البحرين وفي مناطق أخرى من الخليج كالمنطقة الشرقية من السعودية وقطر. البحر وقتها كان المصدر الوحيد للعيش، فقد كان أبي وعمي وغيرهم يذهبون إلى الغوص طوال أشهر الصيف، وفي الشتاء يعملون في الحدادة والبناء. وهنا تستوقفني ملاحظة مشحونة بالدلالات عن البيئة التي نشأت فيها وأخذت عنها أخلاقيات الحياة والعمل. فقد غلب على مدينة المحرق أن أحياءها أخذت التسميات المرتبطة بالمهن والحرف التي كان يعمل بها الأهالي منذ عرفت المدينة. فهناك حي البنائين وحي الحدادة وحي الحياك وحي الصاغة والقلاليف (العاملون في صناعة السفن). لقد كانت متعة لا تضاهى أن تعيش في وسط متنوع الإنتاج على هذه الشاكلة. وأظن أن ذلك الطابع لم يقتصر على المحرق فقط، ففي المنامة ومناطق أخرى من البحرين سوف تصادف مثل هذه التسميات وبمهن تشمل البحر والزراعة وغير ذلك. هذا من جانب ومن جانب آخر ثمة خصوصية صاغت لي عالما سحريا سببه النشأة في بيئة شيعية، ففي العائلة الشيعية عادة ما تنعقد طقوس وتقاليد الحسينيات في معظم شهور السنة بالإضافة إلى شهري محرم وصفر. في دارنا كان الأمر أكثر خصوصية، فقد كان في الدار مأتم للنساء تنعقد فيه القراءة، ومنذ طفولتي نشأت على معايشة هذه الأجواء والتشرب بتفاصيلها اليومية.
أعتقد أن نشوئي في هذا الجوّ الذي يعتمد على البكائيات والعزائيات ولّد لديّ حسّ الإيقاع مبكراً وصقله. كان كل شيء حزيناً في تلك الطقوس. لم أكن أدرك تماماً مفهوم الحزن ولكنني أعيشه. لقد كان كل شيء في تلك الطقوس يرتبط بالإيقاع.
ربما يكون لسماعي ومعايشتي هذه الطقوس باستمرار، والمشاركة في مواكب العزاء، بهذه الطريقة الإيقاعية قد أثرا لاحقاً في الإحساس المبكر بالوزن والبحور (رغم أنني لم أعرف بحور الشعر ولم أتعلمها حتى الآن). كان لهذا جانب جمالي تركته الخبرات المبكرة جعلني لا أستطيع أن أكتب جملة واحدة من دون إيقاع. وأعني هنا الأشكال المختلفة والتجليات التي يمكن أن يتخذها الإيقاع: إيقاع اللغة، تقابل المفردة والأخرى، المعنى والآخر، العلاقات المركبة والمعقدة والعميقة بين الحرف والكلمة وبنية الجملة ومتحركاتها النحوية والصرفية وظواهر التنوين والتشكيل فيها.
الجانب الجمالي الثاني، الذي ربما تعلق بتأثيرات تلك المرحلة، يتصل بطبيعة حساسيتي تجاه المأساة، أشعر أن لدي استعداداً طبيعياً للتوقف عند الجانب المأساوي في أي شيء، دائماً اتجه إلى اكتشاف جانب المأساة في أي مشهد وأية حالة، هذا يجعلني أتوجس باستمرار حتى في لحظات المرح أو السعادة التي أصادفها أشعر أن ثمة مأساة كامنة وستبرز قريباً.
شكل من الروح المأساوية المهيمنة ربما تعزز بعد ذلك بالخبرات الحياتية والعمل العام. هذا الحس المدمر صار يحرمني من لحظات مشروعة من السعادة، فمثلاً لسنوات طويلة تصورت أنه لا يمكنني أن أتكلم عن الحب كشيء جميل وسعيد، تكرست العوامل السابقة بالتظافر مع روادع ايديولوجية تحول دون التعبير عن الإحساسات الطبيعية في الحب وتبادل المشاعر.
أعتقد بأن حس المأساة كان يفسر لي جوانب غامضة من حياتنا التي كان والدي يجتهد لحمايتنا من أضرارها. وعندما أتأمله الآن أرى انه يكشف عن شخصيتين متداخلتين، فهو صارم حدّ القسوة، لدرجة يمكن أن يعاقبني بالصلب والجلد، ومن ناحية أخرى فهو رقيق وحنون بصورة مذهلة. ففي حادثة تصادم الحافلة التي كنا نستقلها من المحرق إلى "المنامة" عبر الجسر القديم، ضمني والدي إلى صدره وعاد بي ماشياً ولم يتركني إلا في الدار. ومن خلال إصراره على أن أعمل مبكرا لمساعدته على أعباء الحياة، تعلمتُ أن المرء يمكن أن يعبّـر عن نفسه بطرقٍ شتى من أجل أن يكون حراً، ولذلك فقد وجدتُ في حياتي طرقاً (على أخطارها) كثيرة. إلا أنه لم يتيسر لي معرفة الحدود بين الطفولة والصبا، إذ فرضتْ عليّ تلك الحياة أن أغدو رجلاً بصورة مفاجئة، ليس بسبب تحملي مسؤولية العائلة مبكراً فقط، ولكن لأنني انخرطتُ في العمل النضالي حتى قبل أن أترك الدراسة إلى العمل. حين أبحث الآن عن ملامح ذلك الطفل الذي كنته، سوف يختلط بصورة تجعل الطفل يزاحم العمر كله.
رولا قباني ولكن هل تلقيت تعليما نظاميا في هذا الظرف الاجتماعي الضاغط؟
تحصيلي الدراسي كان متواضعاً بعض الشيء، في السنوات الأولى حتى الأول ثانوي كنت من الأوائل دراسياً (الأول أو الثاني أو الثالث في ترتيب الصف) ولكن جملة ظروف من أهمها اهتمامي بالقراءة العامة جعلتني أشعر بأن الكتاب المدرسي يقيد فضولي... كنت شغوفاً باستعارة الكتب من المكتبة العامة، وفي الكثير من الأحيان كنت أترك المدرسة، أنزل من الباص وأتجه مباشرة إلى المكتبة العامة بدل دخول المدرسة الثانوية أو الذهاب إلى المعهد، أبقى في المكتبة العامة حتى نهاية الدوام. لقد فقدت في سنتَيْ الدراسة الأخيرتين الحماس للدراسة، وربما الظرف الاجتماعي المادي كان فرصة بالنسبة إلي للنجاة من الدراسة، فقد كان أرعب ما في الأمر أنني كنت مهدداً بالتحول إلى مدرس لأنني كنت في "قسم المعلمين" (ذهبت إلى هذا القسم لأنهم كانوا يعطون مكافأة شهرية لطلبة القسم)، حسن حظي فقط هو الذي أنقذني من هذه الوظيفة التي كانت تنتظرني ولو واصلت لكان الأمر سيتحول إلى كارثة على الأرجح.
في الابتدائي كان هناك مدرس فلسطيني من مخيم عين الحلوة اسمه سليم محمد سليم ترك أثره في نفسي. كان يدرسنا اللغة العربية، وأذكر أننا كنا نتراسل في الإجازات عندما يعود إلى المخيم في لبنان. كان هذا المدرس يوليني اهتماماً خاصاً ساهم في فتح الآفاق أمامي.
وكما قلت يكاد عبد الحميد المحادين أن يكون المدرس الوحيد الذي اهتم بموهبتي وساعدني منذ البداية، حيث اعتنى بتجاربي الأولى كثيراً، وكانت صلات المراسلة ممتدة بيننا حتى في الإجازات ولازلت محتفظاً بهذه المراسلات التي كانت تدور حول الشعر. كنا نتردد على المحادين في سكن المعلمين قرب المدرسة الثانوية بالمنامة، مع صديقيَّ في مدرسة الهداية خليفة العامر وعبد الوهاب العامر. كانت حماسة المحادين لنا صادقة، وهو كان يكتب الشعر منذ تلك الأيام، وقد استقر معه في البحرين ابن عمه خالد المحادين لبعض الوقت، وهو شاعر له دواوينه أيضاً، غير أن علاقتنا بعبدالحميد كانت أشدّ وثوقاً، واستمرت هذه العلاقة حتى بعد أن انغمسنا في الحياة العملية بعد المدرسة. كان المحادين يتابع كل صغيرة وكبيرة في تجربتي الأدبية، وكان يعرب دائماً عن فرحه بأن اهتمامه بي قد جاء في محله كما يقول. لقد كان دور الأستاذ المحادين كبيراً في حياتي.
عبدالحميد المحادين انتقال الشاعر عبر المحطات البارزة، هل في وعيك رؤة لهذه الانتقالات، أم هي خافية كخفاء نمو الانسان عبر مرتحل عمره؟
- يطعن الإنسان في السن وفي التجربة، وكلما تكشّفت له شظايا الحقائق الكبرى، سوف يبدو له المشهد الإنساني أكثر وضوحاً، لكي يكون أكثر جمالاً ومسؤولية، لكن أعمق حزناً أيضاً.
التحولات العفوية التي يمر بها الإنسان في حياته هي ذاتها التي ستبدو له منعطفات عميقة الغور في تلافيف خبرته ومعرفته بهذا الكون الغامض. المحطات البارزة هي نفسها الدروس المعطاة من حياة غاية في التنوع.
في مثل سني، سوف يتعذر الزعم بأنني تفاديت مجابهة بعض هذه الدروس. الحقيقة أنها مسؤولية أشعر بضرورة الإصغاء إلى مقترحاتها، ليس بوصف المرء قانوناً، ولكن باعتبار أن الحياة لا تعاش أكثر من مرة بالشكل والشروط ذاتها. لذا افترض إنني أقدر على اكتشاف بعض ملامح هذه المحطات – الدروس.
ولئلا أبالغ في الاختزال، سوف أرى إلى ثلاث محطات في مراحل حياتي.
الطفولة: حيث هي مثل آلاف الطفولات في ذلك الوقت من حياتنا. لم تكن طفولة هانئة ولا كفاية فيها ولا عدل ولكن بلا عوز (حيث عفّة الفقير حصنه الأثير)، فثمة فقر لم تتمكن العائلة تفاديه في الأوقات الأصعب. وإذا صح لي استحضار الوصف الذي كان أبي يختزل به حالنا، فقد كان يصف حياة الضنك التي تصادفنا بأنها "قوت لا تموت"، بمعنى أن ما يتوفر من القوت هو ما يمنع الموت عنك، و لكن لكي لا تعيش بكفاية. وكان والدي يصدر عن تجربة جيل واسع من أهل البحرين الذين سحقهم قانون العمل في "الغوص"، حيث سيكون الإنسان تحت وطأة العسف والاستغلال والديون المترتبة والمتواصلة منذ الأسلاف حتى الأحفاد.
وقتئذٍ لم يكن متاحاً لهم أن يوفروا لأطفالهم مثلنا ما يجعل الطفولة رائقة أو متاحة. ويومها تعرفت على الدرس الأول في حياتي، حيث الحياة ليس سهلة على الإطلاق.
في الصبا والهزيع الأول من الشباب كان درس الكرامة الإنسانية: عندما بدأت مبكراً في تحمل عبء العمل مع العائلة، حيث الشغل مع الوالد، وفي العطل المدرسية في مهن مختلفة، لكي أسهم في توفير لقمة العيش، الأمر الذي جعلني أترك المدرسة قبل إنهاء المرحلة الثانوية، ملتحقاً بالعمل في المكتبة العامة، التي كنت مرتاداً دائماً لها منذ سنوات. في هذه المرحلة تحديداً كنت قد بدأت بالانهماك، المبكر كذلك، في النضال السياسي السري. لكن الانهماك الأهم والأكثر حيوية كان الشعر. لقد كنت وقتها مغموراً بما يمكن تسميته شهوة القراءة ثم الكتابة. وأظن أن بإمكاني القول إنه في تلك المرحلة بدأت المعاني الأعمق في حياتي تتماثل للوضوح، ليس لأن عبء العائلة أخذ في التأكد، وليس لأن النضال السري استغرقني كاملاً، وليس لأن زواجي المبكر (أيضا) قد فرض متطلبات الحياة، لكن لأن سؤال الكتابة، بوصفها خياراً، أصبح هو القانون المتحكم، بل انه كان هو جوهرة المراصد التي شكلت بوصلة صارمة في حياتي. وهو ما أزعم أنه أسّس، لحياتي الصارمة، حيث عندما أثق في نفسي لا أخشى شيئاً ثم أتحمل كل شيء وحدي. منذ تلك اللحظات المبكرة الحاسمة تدربت على أن آخذ الحياة مأخذ الجدّ وأعتبرها نعمة يجب الدفاع عنها مثل الحرية.
لكن ليس هذا هو كل شيء.
المهم، في كل ذلك، أن درس تلك المرحلة هو الوعي بأن هذه الحياة، بالرغم من ضراوة الظروف وصعوبات العيش، إلا أنها كانت حياة تستحق أن تعاش، بشروط الكرامة المهددة التي علمني إياها أبي عندما اختزلها في وصف (قوت لا تموت). فكلما كنت قادراً على الاكتفاء بالقوت الذي يحول دون موتك، مع محافظتك على كرامتك، فانك محصّن ضد أشكال لا تحصى من الموت.
أما محطة الدرس الثالث، فهو درس الحرية. وهو الدرس الذي اكتسبته من تجربة الاعتقال والسجن. فالنضال السياسي لا تعود له أهمية إذا هو لم يعلّم الإنسان القيمة الحقيقية للقضايا الكبرى التي يسعى لتحقيقها المناضل، وأن يكون نقياً وسامياً وصارماً مثلها. وإذا كانت هذه المسألة قد توصل إلى معرفتها الكثيرون من خلال نضالهم، إلا أن الأمر بالنسبة إلى تجربتي الشخصية سوف يتمثل في تقاطع تبعات النضال مع اللحظة الحاسمة من الاكتمال الشعوري ككيان إنساني، حيث جاءت فترة الاعتقال في اللحظة التي بدت تجربتي الفكرية والإبداعية في التفجر الذاتي مما وضعني في مواجهة الاحتدام العميق لرؤى إنسانية كان الشعر هو عمقها الأساسي والجوهري، ومنح تجربتي أفق التبلور.
هناك، في حبس الزنازين محروماً من الحرية العامة، حرية الناس الآخرين، في تلك اللحظة بالضبط كنت في أمسّ الحاجة لإطلاق موهبتي الشعرية في فضاء الكون متحررة من أسرها. وفيما كنت أرقب مشهد الانهيارات العظمى والهيكل يتداعى من حولي ويهددني في العمق، كان عليّ أن أدرك المعنى الكوني لقيمة الحرية بالنسبة إلى الإنسان العام أولاً، وبالنسبة إلى المبدع أيضاً وخصوصاً. آنذاك أدركت بأن هدف الاعتقال ليس تفكيك الحزب والتنظيم وهزمهما، ولكن الهدف الأخطر هو هزم الشخص في داخله، في تكوينه الروحي. فالحزب يمكن إعادة بنائه، لكن عندما يخرج الشخص مهزوم الروح تكون الخسارة الكبرى غير قابلة للترميم. حيث فقدان القدرة على الحلم والتشبث به والدفاع عنه. فالحلم في الروح هو بمثابة الشعلة في القنديل. كان الاحتدام قاسياً ومصيرياً، فإذا بالشعر يصنع لي المعجزة في اللحظة الحاسمة.
هناك، فجأة، شعرت بالمعنى الجوهري والغامض للحرية، وشعرت، بالرغم من عسف الزنازن، بأنني، في أعماقي، أكثر كائنات العالم حرية، فقد أتاحت لي تلك الفترة، البالغة الاحتدام، الخروج والتحرر، دفعة واحدة والى الأبد، من كل أشكال السلطات التي كانت تبتكر وسائلها لمصادرتي، (كشخص وكحلم). عندها أدركت كم كان الشعر قادراً على منحي القوة الأسطورية لكي أتشبث بذاتي في مواجهة الخارج، هذا الخارج الذي فشل (بوصفه سلطة)، في أن يفرض وصايته على روحي.
هنا سوف تتطلب الحرية شرطاً جوهرياً آخر، هو الزهد في كل أشياء العالم والاكتفاء بالشعر فقط. هكذا فهمت جواب أحد المتصوفة عندما سأله أحدهم "ما هو التصوف؟"، فقال "هو أن لا تملك شيئاً وأن لا يملكك شيء". لقد رأيت في تلك الفكرة الروح الحرة التي سوف تحتاج دائماً إلى من يحميها (فيما هي تحصّنه) من سلطة التملك والأنانية، لأن من يملك شيئاً ويتورط في خشية فقده ويسعى للمحافظة عليه، سيخضع مباشرة لأن يكون عبداً لهذا الشيء. بالنسبة إليّ لم أعد في حاجة إلى شيء. صرتُ أكتفي بالشعر وأسهر على حمايته، فإذا به يصبح حصني الذي لا يُهزم وقلعتي التي لا تضاهى.
|