شمسٌ تندلعُ كلما تذكرتَها
(إذا شاءَ الأديبُ ممارسة التأثير السياسي، يجب عليه الالتزام بحزبٍ من الأحزاب واعتناق مبادئه. وحين يقدم على هذا العمل، فإنه يضيع كشاعر. إذ عليه أن يقولَ تحية الوداع لعقله الحر ولنظرته الشاملة غير المتحيزة. ومقابل ذلك أن يكسو أذنيه ويضع على عينيه علامة التشبث بضيق الأفق والكره الأعمى)
وصية "غوته" سيد محمود ربما يكون كتاب "ورشة الأمل" هو الوحيد من بين أعمالك الذي يحمل إشارة إلى تجربة انخراطك في العمل السياسي ثم السجن كثمن مفهوم لهذا الاختيار في مجتمعاتنا العربية. أولاً أريد معرفة ملابسات ارتباطك بالتنظيم اليساري وظروفه ومن قادك إليه؟
- إذا اعتبرنا أن اختيار الشعر هو ضربٌ من التطرف، فإن "اليسار" هو أيضاً قدرٌ مثل شهوة السؤال والنقد وإعادة الخلق، فكل خيار يذهب إليه الشاعر هو "يسار" الحياة والعالم والكون. الشعر هو إذاً "يسار" التجربة الإنسانية كلما تعلّق الأمر بالموقف من العالم.
ليس ثمة ملابسات إذاً في ارتباطي بتنظيم يساري في نهاية الأمر. فالكل يعرف تجربة "حركة القوميين العرب" عندما انتقلت، بعد هزيمة 67 إلى اعتماد الماركسية أيديولوجياً. والحق أن معظمنا، في مختلف أصقاع الحركة، كان قد اكتشف الحيوية الباهرة في الماركسية اللينينية، لذلك فإن الانقسامات التي تعرضتْ لها "الحركة"، تنظيمياً في أقاليم البلاد العربية، هي بمثابة التحوّل الطبيعي والنتيجة الموضوعية للتحولات الفكرية، وسوف تلاحظ أن عدداً كبيراً من التنظيمات اليسارية، المتفاوتة الحجم والفعالية والجدية، سوف تولد في مختلف الخريطة خروجا من الورشة الجهنمية التي تفجرت في بطن حركة القوميين العرب. ولو أن تبلورا حضاريا تحقق من تلك التجربة لحصلت حركة التحرر العربية على نهج نضالي متقدم، غير أن أمراض التركة العربية (ثقافيا واجتماعيا) حوّلت تجربة التحوّل تلك إلى نوع من الكارثة في صورة تشظي فوضوي شتت تاريخا بالغ الخصوبة تم استبعاده تماماً من سياق التحولات اللاحقة. حتى أن الجميع بات يواصل نضاله كما لو أنه يبدأ من نقطة صفر فارغة، وكأنه المؤسس الأول لفكرة النضال في هذه المنطقة من العالم.
من وجهة نظري، لا أرى في فكرة اليسار باعتبارها توصيفاً أيديولوجياً أو سياسياً، بل أشعر بأنها موقفاً إنسانياً وحضارياً في الحياة و الكون، وهذا ما يمكن أن يفسّر لنا إمكانية العثور على درجة من "يسارٍ" ما، في سياقات أيديولوجية وسياسية مختلفة. وهذا تحديداً ما أحب أن أسميّه "العمق الشعري" في فعل النضال و شهوة التحرر وطبيعة تغيير العالم. ألم يقلْ رامبو بشيء من هذا في أيامه؟
لا أزال أرى في "حركة القوميين العرب"، بعد نزع التطرف الشوفيني في سلوك بعض أوهامها، نوعاً من التاريخ العطر في تجربتي الإنسانية. لقد ولدتُ نضالياً في ذلك الأفق الحميم، وحتى بعد التحولات التنظيمية والسياسية التي خضتها مع الكثير من رفاق النضال، عبر الجبهات والحركات المتناسلة بعد "حركة القوميين العرب"، أجد نفسي إبن تلك الخليّة الصغيرة الحميمة في مدينة "المحرق" في ستينيات القرن العشرين. وأحتفظ في ذاكرتي بأجمل لحظاتي مع أصدقاء لم يكفّوا عن أن يكونوا أقران روحي الأوائل. وربما ليس ثمة "يسار" يمكن أن يكون أجمل من يسارنا الستيني الذي كان متصلا بأبعد تجربة يسارية في العالم، من ثورة الطلاب في فرنسا، إلى الرفيق أرنستو تشي غيفارا في يومياته القتالية، إلى مناضلي افريقيا الفتية، إلى إشتراكيات أوروبا التي طرحتْ أسئلتها مبكراً على المنظومة الاشتراكية، تلك الأسئلة التي ربما أسعفتْ التجربة الاشتراكية برمتها لو أحسنَ شيوعيو الدوغما الإصغاء إليها والتخلي عن ديكتاتورياتهم، فقد كانت التمردات المعرفية على أشدها، وهي انبثاقٌ على درجة من العمق الفكري للتجربة الفلسفية، صقلتْ مبدعي اليسار في كل أرجاء تلك الستينيات الصادقة والجميلة.
لم تكن ثمة ملابسات، كنا نذهبُ إلى مستقبلنا بذلك القدر الكافي من الحلم من الحماس والجدية والصدق وإنكار الذات، ولم نكن نشعر بالهزيمة عندما لا يصل قطارنا إلى محطة ما. أذكر أنني كنتُ أردد مع أحد حالمي ذلك الزمان: "على كل حال إنها ثورتنا الحادية عشر ...".
سيد محمود
- كيف جاءت ظروف اعتقالك وما هي المدة التي قضيتها في السجن وأيهما كان أسبق نشر الشعر في كتب أم السجن، بمعنى آخر: هل كنت شاعرا مكرسا قبل سجنك أم أن التكريس جاء مع السجن؟
- عدا عن اعتقالات قصيرة وملاحقات شملت كثيرين غيري وقتها، جاء الإعتقالُ الطويلُ الأول مترافقاً مع ضرب "الجبهة الشعبية" التي بدأ في أقاليم أخرى من منطقة الخليج. استمر الاعتقال عاماً واحداً، ثم جاء الإعتقال الثاني في العام 1975 مترافقاً مع حملات الإعتقال الواسعة في البحرين في 23 أغسطس يوم حلْ البرلمان "المجلس الوطني" وتعطيل الدستور وإعلان تطبيق "قانون أمن الدولة" الشهير. واستمر الاعتقال هذه المرة أربع سنوات. والشعر كان قبل ذلك الإعتقال بأربعة كتب.
سيد محمود
ذات مرة قرأت مقالا للكاتب السوري منذر بدر حلوم في صحيفة "السفير" تناول فيه الآثار النفسية لتجربة السجن على الكتّاب وكانت فيه هذه الإشارة "السجن لا يرمي، كما يقول بوكوفسكي، فقط إلى تخويف المعتقلين، بل وأولئك الذين ما زالوا في الخارج، أي تخويف المجتمع. وبالتالي كلما أرعب المجتمع نفسه أكثر، عذّب المعتقل أكثر".
ومهما يبدو الأمر مفارقاً فإن المجتمع يستجيب للرسالة بدرجة أكبر مما يستجيب لها السجين أو المعتقل. إذ أن الداخل سرعان ما يعلن عن قوانينه وشروط اللعبة فيه بما يجعل مفاهيم كثيرة كمفهوم الحرية والكرامة والقوة والضعف والجرأة والجبن والأمانة والخيانة والمبدئية والنفعية وغيرها تكتسب أبعاداً أخرى، وتقاس بوحدات ومعايير أخرى، وتشكّل معاً بوتقة يجد فيها العقل مسوّغات أخلاقية للتكيّف من أجل البقاء، محتفظا للروح بقيم الخارج، وسؤالي: ما الذي تغيّر فيك وأنت في السجن، وهل خرجت لتجد المجتمع الذي سعيت إلى تغييره وقد تنكّر لك أم احتفى بك بالمعنى الذي أكّد صدق اختياراتك النضالية على الأقل؟
- إن تعبير "كلما أرعب المجتمع نفسه أكثر، عذّب المعتقلَ أكثر"، يذكرني فعلا بما كنا نتعرض له ونحن داخل المعتقل، كلما حدث تطور ما في البلد. فإذا احتدم الصراع السياسي وتفجّرت أحداثٌ معينة في الخارج، ستبتكر السلطة طرائق وأساليب لمضاعفة معاناة المعتقلين في الداخل. كما لو أن شعوراً لدىّ السلطات بأن ثمة (ريموت كونترول) لدينا في الزنازين لإدارة الحركة في البلد.
لقد كان الأمر مفعما بـِ"التراجيكوميديا" حقًا. في السجن لا حدود لتغيرات الكائن غير المتوقع تحولاته أيضا. سوف يتوقف الأمر دائما على الذات الخاصة بالإنسان، دون أن نكون متطلبين ممن هو تحت الحديد. فالسجن ليس نزهة مهما كانت مدته. وعلينا أن نحتفظ بقدرتنا على التشبث بالممكن من معطيات الكائن البشري، بدرجة صارمة من الإنسانية، فمن يطلب الأساطير من المعتقل سوف يخسر الإنسان كله.
وبهذا المعنى تعرفتُ هناك على طاقتي الحقيقية بجانب العديد من الرفاق. والتغيرات التي تعرضتُ لها هي من بين أجمل ما أزعم أنني احتفظ به ككائن من البشر العاديين، وأحتفظ لكثيرين معي أنهم صقلوا جانباً مهماً من تكويني الإنساني، كل ذلك بناءا على النواة العميقة التي كان لها الدور الحاسم في حمايتي وتحصيني: إنها نواة الشعر كطاقة خلاّقة في إنسانيتي.
هذا هو بالضبط ما يهمني في تجربة الإعتقال، لأن كل ما هو خارج الذات يظل قابلاً لما لا يحصى من احتمالات الهدم والبناء وإعادة الخلق والتحول. فإذا تيسر للشخص أن يحافظ على كيانه الذاتي سوف يقدر على ما عدا ذلك. وما تسميه أنتَ احتفاء المجتمع بعد الخروج ومصداقية اختياراتي، فإنني من ناحية، لا أزال مؤمناً بصدق اختياراتي وأحتفظ بجوهرها الفعّال متبلوراً في سلوكي الحياتي.
ومن ناحية ثانية، فإنني لم أكنْ لأذهب إلى تلك الخيارات منتظراً تقديراً معيناً من أية جهة في المجتمع. لا أنظر إلى الأمر بهذا الشكل، لئلا أبدو كمن يعمل في مؤسسة يتوقع من إدارتها تقديراً ومكافأة على عمله. النضال السياسي بالنسبة إليّ هو مثل كتابة الشعر، لا غاية له سوى تحقق الأحلام. فليس من الحكمة التعويل على احتفاءِ مجتمعٍ هو نفسه من يحتاج إلى الانتقال الملحّ والضروري إلى الحياة الكريمة. ومن هذه الشرفة سوف أشعر بالقلق كلما سمعتُ ما يسمونه في السنوات الأخيرة "تعويض ضحايا الفترة السابقة".
أنظرْ كم هي مسالة بالغة الحرج والغفلة، بحيث نبدو كمن يطالب بتعويض على نضاله. حتى "الصلاة" ستبدواستجداءاً بائساً عندما نوقفها على ميزان الجنة والنار.
الأدهى هنا، بطبيعة الحال السياسي، سيكون التعويض مطلوباً من الجهة نفسها التي سبّبتْ ومارستْ العسف بتلك "الضحايا".
بالإضافة إلى صلافة الوهم الفادح في تعبير "الفترة السابقة"، كمن يريد أن يقول إنه زمنٌ ولّى... إلى غير رجعة.
أي وهم مميت أن نضع تاريخنا كله في سياق مخجل ومبتذل مثل هذا.
لذلك سوف أخشى أن "الاحتفاء" الذي يشير إليه سؤالك يصدر عن المناخ نفسه الذي أصبح مكرساً في "ظهرانينا"، وفي المشهد السياسي العربي في السنوات الأخيرة، حيث تبدو فصائل حركات التحرير المتقاعدة تقدم فواتيرها للسلطات "ذاتها" التي لم تزل "قاعدة" على كواهلنا منذ "الفترة السابقة" الدائمة والمستمرة، من أجل المطالبة بتعويضات مادية مقابل "الخدمات النضالية" التي بذلتها للمجتمع. كيف يستقيم أن نبيعَ تاريخنا؟ ماذا سيبقى لنا بعد ذلك؟
ليتني لم أعشْ لأرى هذا المشهد أبداً.
أحمد خضر
هل تعتقد أن انخراطك في العمل السياسي لفترة هو ما لفت الأنظار إلى نصك الشعري؟
- السبب السياسي الذي رافق التجربة ربما مرّ بتحولات مختلفة، ولكن ربما صدق النص الشعري هو الذي جعل هذا الاتصال في الذاكرة قابلا للمواصلة، فلو أن الاتصال كان سياسياً خالصاً لما استمر، لكن النص استطاع أن يتطور ويتبلور ويؤكد إنسانيته بعناصره الفنية ولغته الشعرية القادرة على الوصول إلى شغاف الإنسان. أظن أن النص هو الذي أعطى الإسم والتجربة الطاقة المتجددة على الاستمرار في ذاكرتك وذاكرة الآخرين.
نعمة أن يكون للشخص أصدقاء بهذا العدد والعمق والرحابة، وحين تطرح عليَّ مثل هذه الملاحظة سوف أشعر بأنها صقلٌ لروحي، وصقلٌ لتجربتي، قد تذهب أشياء كثيرة، لكن العلاقة الإنسانية والحب هي العناصر الوحيدة الباقية أكثر من كل الجوائز.
محمد البنكي
هل ترك العمل النضالي سلطة ما على نصك الشعري في بداياته؟
- أزعم أنني لم أخضع فترة طويلة للايديولوجيا، بالمعنى التقديسي، كما خضع الكثيرون. عدم خضوعي للشرط الإيديولوجي كان مبكراً ولسبب أدبي، فقد اصطدمتُ مبكراً بمحاولة السيطرة على عملي الأدبي، كنت منذ البداية أرفض أن يكون للأيديولوجيا أي تدخل في حريتي كمخيلة شعرية، ولا أتذكر أن الأيديولوجيا كسلطة حضرت في تجربتي الأدبية رغم أن لها دوراً في تجربتي العامة كممارسة يومية، على الأقل لم أستخدم الأداة النظرية كحدّ فكري، ولم أمارس التنظير الايديولوجي، وقد أعزو ذلك إلى أنني شعرت مبكراً باستهانة لا تليق بالأديب ترتكبها المؤسسة الايديولوجية، استهانة صاحبتْ حركات التحرر الوطني في تجارب كثيرة في العالم. لقد جعلني ذلك أستنفر بشدة دائماً تجاه أي محاولة من هذا النوع، كما جعلني أيضاً أهتم بتجارب أدباء من أمثال ماياكوفسكي تعرضوا للاضطهاد الايديولوجي والمسخ والإلغاء. أميل الآن إلى اعتبار مواقفي المبكرة شكلاً من الأشكال اللاواعية لتحصين تجربتي ضد الشرط الايديولوجي. لقد أرّقتني هذه المسألة كثيراً، وأزعمُ أنني نجوتُ من أضرارها المحتملة في الوقت الذي كان الكثيرون لا يدركون ما كنتُ أخاف منه، وأحياناً لا يوفاقونني عليه.
حسونة المصباحي
أمضيتَ سنوات طويلة في السجن من اجل أفكارك. كيف عشتها. وكيف تنظر إليها الآن؟
- عشتُها فيما كنتُ أفعل شيئاً آخر.
لقد كنت أسهر على صوغ روحي، وهذا ما جعل تجربة السجن أكثر إنتاجية وعمقاً وجمالاً من غيرها. هناك كنت حراً أكثر، بالمعنى العميق للحرية.
الإنسان هناك غالباً ما يكون خارج السلطات مهما بطشت أو تجبّرت أو بالغت في العنف. وهذا ما تعلمته من الاعتقال، حيث المرء يكون قوياً بنقطة الضعف التي لا تضاهى حين لا يكون بحاجة إلى أحد أو إلى أية جهة أو سلطة، إذ لا قوة تقوى على تحطيمه أو التغلب على روحه الداخلية، حتى ولو تمكنت من تدمير القوى والهياكل التنظيمية والحزبية التي ينتمي إليها. المهم أن يكون الشخص متماسكاً هناك، في داخل روحه، حيث لا يستطيع أن يطوله أحد أبداً. تعلمت أيضاً أن لا شيء يعادل الحرية ولا شيء يضاهي الصدق وكل ثروات الإنسان لا تكفيه عندما يكسبها ويخسر نفسه. وتأكدت مع الوقت أن الأشياء لا تنفصل عن بعضها في حياة الإنسان، وسيبدو الأمر أكثر تعقيداً في حالة المبدع، حيث أن الصدق هو القانون الرئيسي في حياة الإنسان، وسيكون الأمر بمثابة الفضيحة في حياة المبدع إذا ما تعرّض هذا الشرط لأي خلل.
الآن، أقف على شفير النهايات لكي أبدأ من جديد: بالشروط إياها وبما لا يحصى من الأدوات والآليات المختلفة دون أي تغيير في شهوة الحرية.
حسونة المصباحي
- ألهذا قلت في برنامج (حوار العمر مع تلفزيون LBC) أن مرحلة السجن كانت الأحبّ إليك؟
- نعم، قلتُ غير مرة بأن فترة الاعتقال كانت أجمل فترات حياتي وأكثرها عمقاً وتأثيراً على ما لحقها من عمر. أسباب كثيرة تجعلني أقول ذلك. من بين أهمها أنني هناك كنت قادراً على أن أتأمل حياتي كلها وأراها بصورة أكثر وضوحاً. وفي تلك التجربة شعرت بأن ثمة إعادة تكوين عميقة لكياني الإنساني والروحي والمعرفي. مما دعاني أنتقل إلى الشعور العميق بالمعنى الحقيقي لقضايا كثيرة مهمة مثل الحرية والصدق والعدالة والأخلاق والفكر والفن. كل ذلك في أفق رحب من الحرية الذاتية المطلقة، هناك كنت حراً بالفعل. تعلمت قيمة أن يكون الإنسان حراً وأهمية أن يحافظ على هذه الحرية في مواجهة العالم كله. ولا يتنازل عن هذه الحرية مقابل أي شيء. هناك تعلمت الزهد في أشياء الحياة. واكتشفت قيمة الحب في حياتنا، وأن الحياة في جوهرها لكي تكون ذات معنى وقيمة لابد لها أن تكون فعلَ حبّ صادق ومستمر وبلا مقابل.
هناك لم تكن سلطة عليّ. لم أكن أخشى شيئاً. وللأسف، فقد بدأ السجن الحقيقي بعد ذلك مباشرة. بدأ، ولا يزال. وكل يوم أتيقّن من هذه الحقيقة.
وعندما أشير إلى قرب تلك الفترة من روحي ونفسي وحياتي فإنني أقصد في العمق أهمية درس السجن في حياة الإنسان. درس أن لا يكون مهزوماً هناك، ولا يسمح لهم أن ينتصروا عليه في ذاته.
أزعم أنني تمكنت من النجاة. فربما استطاع الاعتقال والسجن والزنازين هزيمة كل شيء في حياتنا ومشاريعنا، إلا أنهم لم يتمكنوا من هزيمة روح أحلامنا. وهذا هو الدرس. لقد كان الشعر هناك مثل المعجزة.
سيد محمود
قلت لي مرة أن النضال السياسي لا تعود له قيمة إذا لم يعّلم صاحبه القيمة الحقيقية للقضايا الكبرى التي يسعى إلى تحقيقها، ما الذي قصدته بذلك في ضوء تجربتك؟
- العدالة، الحرية، الكرامة، الإنسان، الحب، الجمال، المعرفة، الإبداع.
كل هذه القضايا هي عناصر من مكونات الحياة الإنسانية، إذا لم يدرك الإنسان كنهها في تجربة المعتقل، فإنه لن يدركها على الإطلاق. وبالتالي سوف يخسر واحدة من أخطر وأجمل التجارب التي سوف تترتب عليها حياته الباقية. وظني أنها خسارة فادحة أن لا نتعلم من سنوات الاعتقال بهذه الدرجة من الصرامة على أنفسنا وعلى سلوكنا الحياتي.
وحين أقول القضايا الكبرى أعني أنها مسائل أهم من مجرد العمل السياسي المباشر، وتفاصيل التنظيم والحزب ومتغيرات العصبيات العابرة. فإذا أنت لم تأخذ الدرس العميق في تلك القضايا الكبرى فسوف تقصر عن جدارتك في الحياة. فالمرء لا يذهب إلى المعتقل كل يوم، بل إن تجربة مثل هذه ليست متاحة، بهذه الخسارات والتضحيات، للجميع. والمجتمع يظل بحاجة إلى الإنسان الصادر عن وعي تلك القضايا الكبرى أكثر من حاجته إلى شعارات سياسية وحزبية بليدة توقفت عن التبلور والفعالية منذ لحظة ولادتها.
محمد البنكي
"كأننا منذورين لأمل يولد، ينبغي أن يولد، ونحلم أن نكون حاضرين في ولادته". هناك أيضاً كما أشرت ولادات بالمعنى الحقيقي، أو المجازي، شكّلت مفاصل انكسار مهمة في تجربتك: ولادات أطفالك وأنت في السجن، زوجتك موزة التي مرّت بعارض صحي خطير وسافرت لإجراء جراحة خطيرة بين الحياة والموت وأنت في السجن. خرجت من الاعتقال لتكتشف كل ذلك. ولادات، عمليات، مشاعر مكثّفة، محاجر أطفال تؤرجح أحداقها في الفضاء بحثاً عن معنى الأب. كيف تعيد تركيب هذه اللحظات. لم تكن منسجما ولم تكن مهيئاً للانسجام. كيف التأمت الشظايا؟ كيف مشت اللحظات خارج التقويم وأنت مخفور بذلك كله؟
لا مناص من القول بأن التجربة ثرية بالمعنى الشعري، لكنها عنيفة، وعنيفة جداً، بالمعنى الواقعي. أنت كأب مفصول عن أطفالك. كيف ترمم الأخاديد الشعورية التي حفرت في الغياب؟
- هذا تراكم متوارث كابدته، وأمضّني كثيراً. عانيتُ تبعاته أكثر من أي شيء آخر. ابني "محمد" ولد بعد اعتقالي بأشهر قليلة، ودَرَجَ في طفولته يبحث عني، كان يتلفت في الشارع حائراً، يتطلع في الوجوه ولا يكفّ عن السؤال أين أبي؟ يتساءل ناقلاً إشارته بالسبابة بين الرجال في الطرقات، وحين كانت زوجتي تريه صورتي الفوتوغرافية كان يرفض ذلك ويقول لها: "لا أريد صورة.. أريد أبي حقيقة".
أما "طفول" فقد عاشت كل اعتقالاتي، وكانت في الثانية من عمرها عندما اعتقلتُ للمرة الثانية لمدة اربع سنوات متواصلة. كانت تكبر وكنتُ بعيداً عنها. هذا أنتج لديّ معاناة لا أستطيع وصفها، كان شغلي الشاغل هو البحث في كيفية العمل على ردم الفجوة التي حفرتها فترة الانقطاع في نفوسنا وفي السياق النفسي الذي عشناه. كيف تجعل الطفل الذي عاش هذه المعاناة يستوعب حقيقة الأب ككائن مقهور، ثم يتبادل معه العواطف. لقد انطوى الأمر على مصاعب جمّة حتى بعد أن كبر الأبناء، بالرغم مما بذلته زوجتي من جهد القديسين كي تضعهم في صورة حياتنا وتهيئهم لاستيعاب التجربة وتقوم، في تربيتهما، بأدوار متعددة بالغة الحساسية وفي ظروف بالغة الصعوبة وبلا معين تقريباً.
ربما لهذا السبب صرت أميل نحو التمسك بالبقاء في البيت أكثر من الغياب خارجه. صرت "بيتوتيا" بعد خروجي من الاعتقال. أفضّل البقاء في البيت أطول فترة ممكنة. حتى عندما أسافر لا أستطيع أن أطيل رحلاتي. ربما لأن وقت نضالي السياسي بالاضافة إلى فترة الاعتقال وبعده كانت على حساب حاجات العائلة والأطفال، أشعر بأن أمراً ما، يقبع في داخلي، يدفعني إلى العناية بتعويض عائلتي، بشكل مضاعف، المسلوب من حياتها. بعد سنوات طويلة هذا علاجٌ احتاجه أنا أيضاً. بل أن حاجتي إليه ربما تفوق حاجة أبنائي.
وهذه تجربة عاناها كثيرون من رفاق النضال والسجن. فهي تجربة تنطوي على الكثير من قسوة وعنف يندلعان بما يتجاوز طاقة الإنسان.
محمد البنكي
فترة الاعتقال وحرمانك من الإبداع وقتها، كيف كان تأثيرها على معتقداتك؟
- فترة الإعتقال هي دائماً، بالنسبة إلى كل شخص، محكّ حقيقي لاختياره. إنها ضريبة حياته التي اختارها بقناعة وإصرار على الحلم بنقد الواقع والسعي إلى تغييره. الايديولوجيات والأحزاب ما هي إلا صورة من صور التعبير عن حلم التغيير. لكن من المؤكد أن فترة الإعتقال هي الفترة الذهبية التي يصبح المرء فيها قادراً على رؤية نفسه بوضوح تحت المجهر. لم يكن التخلي عن الحلم وارداً أبداً. ولم أشعر، ولو للحظة، داخل المعتقل بأني لست حراً. بل إن حريتي الداخلية الشاسعة تكونت بشكل واضح وصارم داخل السجن. لقد عكفت على إعادة النظر في كثير من المفاهيم وأشكال النضال وآليات ممارسة الحياة، وخصوصاً أن السجن قد ينهي التنظيم، ويفكك الحزب، ويهزم الخط السياسي، لكن لا يجب أن يصل ذلك إلى روح الكائن الشخص حيث هو الهدف الأساسي من السجن، فإذا حدث ذلك، فقد تحقق معنى الإعتقال. التحدي الذاتي في السجن هو الحفاظ على الداخل لمواصلة الحلم، وإن بأشكال أخرى، متجاوزاً الايديولوجيا، وبمعزل عن السياسة المتغيرة العابرة. كمناضل، وكإنسان يحلم، وجدت أن ما ساهم في تحصيني الداخلي هو الشعر، لأنني استطعت أن أبلور تجربتي أثناء مراجعة السجن، وبعد الإعتقال، ووجدت أن قوة الشخص كامنة في ما يحسنه فعلاً لا في ما يزعمه قولاً. لقد وضعت نفسي في مسار الشعر والكتابة، والشعر كإبداع، أكثر رحابة من السياسة. هذا الاختيار هو الذي ساهم في تحصيني داخلياً. وجدت أنه سلاح روحي غير قابل للهزيمة. كان هذا الاختيار هو خندقي الأخير.
محمد البنكي
ذات زيارة عائلية احتفظت الذاكرة برواية كاشفتني بها، قلت بأن تقلبات الحياة فرضت شظفاً على أسرتك، لقد كانت هذه المعاناة مرتبطة بسياق حياتي معين. ماذا تتذكر من ذلك؟
ليس سراً أن في مجتمعنا فقراً إلى درجة العوز، لكنه فقرٌ عفيف النفس. هذه طبيعة يومية اعتدنا عليها. واقعنا يصقل الروح والنفس والمشاعر، ويجعل الإنسان يجسّد الجانب الجميل فيها، ويتمّسك بأخلاقيات بينها العفّة والتجمّل اللذين لا يسهل التفريط فيهما. أخلاقيات راقية تنشأ في مجتمع من هذا النوع هي سمة طبيعية. أن لا تجد كفاف يومك هذا ليس نادراً في المجتمع البحريني. الظاهرة ليست فردية. إنها ظاهرة عامة وهي لم تحل حتى الآن، ربما نعطف هذه اللمحة على ما قلته في عطفة سابقة من هذا الحوار وهو أن أحلامنا لا تزال مؤجلة. السعي إلى تغيير الواقع نابع من هذه اللحظات الصغيرة التي قد نصادفها عند آلاف الأشخاص. العطب الحضاري في المجتمع لايزال ساطياً، والمتطلبات أكبر من الحلول والمعالجات.
لكن ليس من الحكمة التوقف عند الظاهرة الفردية. أنت لا تستطيع أن تخلق مجتمعاً ينمو ويتطور ويبني وهو تحت وطأة هذه المتطلبات الصغيرة ودون أن يجد أفقاً لحلها. ومشكلة المجتمع بأفراده، إذ يبالغ في التحمّل والصبر. هذه حال لا تطاق، وهي أكبر من عبء الشاعر والسياسي والجماعات التي تحلم بالغد الأفضل.
محمد البنكي
هل بسبب مثل تلك الوقائع قلت لي مرة أن ثمن التجربة كان فادحاً على مستوى العائلة الصغيرة، فكيف ذلك؟
- بالطبع، فليس سهلا أن يولد أطفالك وأنت في السجن، وليس قليلا أن يتربى أطفالك بعيدا عن حنانك، وليس محتملا أن ترى عائلتك الصغيرة وحدها في وحشة الغياب والعوز والملاحقات، وأنت ثاو في زنزانتك لا تقوى على فعل شيء من أجلهم. إن النفس الجريحة ستحتاج إلى سنوات كثيرة لترميمها، عبر محاولة ردم الفجوات النفسية التي تعرّض لها أفراد العائلة. في التجربة العربية، لا أحد يكترث بمعانات عائلة المناضل وقت غيابه في سنوات السجن. قليلون يدركون أن معاناة الزوجة والأطفال سوف تضاهي بكثير معاناة الشخص في المعتقل. بالنسبة إلي، كنت أنزف كلما سمعت تفاصيل المعاناة التي تعرضت لها عائلتي في غيابي، وربما شعرت في لحظات إنني كنت في نزهة قياساً لما تعرضت له عائلتي من سلطات الجمع والمنع في حياتنا.
محمد البنكي
- ربما يكون من البديهي هنا أن أسالك: لماذا تتحاشى الحديث عن تجربة السجن وتعبرها، هل تريد تجبّن الألم، أم ترفض أن تبذلها حين تضعها على محك التشابه أو الإتجار بما قدمته فيها؟
وأخيرا لماذا أيضا لم تسع إلى الآن إلى كتابتها إبداعيا؟ وهل ثمة فارق بين ظروف السجن الأولى وظروف تجربة السجن الثانية التي جاءت بعد تحقيق قدر من الشهرة والإنتشار الشعري؟
- دائما كنت أشعر بأن الكلام عن تجربة اعتقالي هو نوع لاواعٍ من المباهاة بشيء لا يصحّ المباهاة به، لئلا يصبح مادة للإتجار من أجل مآربَ ومصالح تناقض فكرته الإنسانية جوهرياً. كما إنني أرى بأن ثمة حدوداً صارمة بين تاريخي الشخصيّ والتاريخ العام الذي قد لا أحسن الكلام عنه، وقد أقع في شراك المزاعم التي تجعل النفس الضعيفة تسعى لتبني أوسمة ليست متاحة للفرد، بل وأحيانا التوهم بحق التجمّل بشيء لا يصير جميلا إلا في سياقه الجماعي الشامل والعميق.
من جهة أخرى، كنت حساساً من بعض الذين كانوا يعملون على تسويق أدبهم وشعرهم بمقاربات تجاربهم في النضال والإعتقال والسجن، وهذا ما يدفعني إلى الشعور بأكذوبة ما نكتب إذا كنا سنحتاج إلى ترويجه بما يمتنع عن التسليع.
على صعيد آخر، أظن أنني لست في وارد الكتابة التسجيلية لتلك التجربة، وإذا لم تتجلّ في كتابتي بشكل عفوي، لامباشر، وخالٍ من المزاعم، فإنها لا تستحق الإهتمام اطلاقاً. ثم إني لست الوحيد الذي عرف تجربة النضال السياسي والإعتقال والسجن، كثيرون غيري (قبلي وبعدي) عرفوا تلك المعاناة أكثر مني بمراحل، وهم يستطيعون الكتابة عنها أفضل مني.
محمد البنكي
- أشرت في سياق الكتاب إلى أنك إبن جيل رفع شعارات التغيير وقد يكون انتصر في الفن لكنه فشل في السياسة، من أين تأتي بمرارة هذه الخيبة وأنت رافع رايات الأمل؟
- إنها المرارة ذاتها التي يتجرعها أبناء جيلي وهم يرقبون كم أن أحلامهم وتجاربهم النضالية الصادقة تذهب إلى بواليع تحفرها آلة الأوهام الجهنمية التي يجري الترويج لها وتكريسها باعتبارها (واقع الحال)، في حين كنا نسعى إلى (حالة إنسانية حقيقية).
وأعني تحديداً، أننا ربما فشلنا (كمؤسسات) فعلا في تحقيق تلك الدرجة من التغيير الجمالي الكريم لحياتنا، لكن من المؤكد أننا نجحنا، أفراداً في حقول معرفتنا الإبداعية، كلٌ في موهبته.
وهذا يكفي لأن نشعر بأننا لم نستسلم للإحباط المبيت لأرواحنا. ففي حلم الفن شيء من جنة المستقبل. أنظر جيدا إلى العديد من أبناء جيلي في الخريطة العربية، ستجد أن بعضهم يتمكن من النجاة بنفسه من انحطاط الواقع كلما استطاع أن يتشبث بجمرة إبداعه وطاقته الفنية.
أحب أن أرى التجربة على هذا النحو، وأحب أن أقول ذلك دائما، ليس لكي أسعف روحي فحسب، ولكن لئلا أفرط في علاقتي بأرواح مثيلة في أمكنة مختلفة.
حسن عبد الموجود
استناداً إلى تاريخك السياسي الذي تتجنب دائماً الإشارة إليه باستفاضة تعتبر واحداً من المثقفين المستقلين ورغم هذا يبدو تعاملك مع المؤسسات الثقافية العربية الرسمية عادياً وطبيعياً؟
- في الحياة تتفاوت تجربة الشخص عن الآخر، وأقصد تحديداً في العلاقة بالمؤسسات الرسمية. أحتفظُ بمسافة خاصة تبعدني عنها، مسافة أتحصّن بها وتحميني من سلطة هذه المؤسسات السياسية. من دون هذه المسافة أكون عرضة لعطبٍ ومعارك في غنىً عنها. المؤسسات تريد أن تحدّ من حرية المبدع في عمله الإبداعي، هذا ما أكّدته لي التجربة الشخصية، لذا أصبح من الطبيعي أن أؤمن بفكرة الابتعاد عنها قدر المستطاع، وفي حال التعامل معها، ينبغي أن أضع شروطي لا شروطها، لأنها لا تكترث في الأغلب الأعم بالشخص، المبدع خصوصاً، فهي تتبنى مبدأ وهمياً أو بالأدق تقوم على وهم أن الشخص عموما ينبغي أن يكون تابعا أو موظفاً أو جزءاً من آلة وخاضعاً لبرنامجها ومعجباً ومباهياً بها وهذه مسألة نقيضة لدور المبدع.. لأن هذا الدور-(وليس ما يدعو للعجب) - هو نقد الواقع والمؤسسة.
أحمد خضر
بعد سقوط الايديولوجيات وانفجارها فإن العديد من الشعراء والمبدعين تخلوا عن قناعاتهم السابقة، في حين لم يبرح قاسم حداد مواقعه وازداد قناعة بمبادئه ولم تتغير منطلقاته.
- من المؤكد ان ما قلته صحيح، والمبادئ موجودة بقدر ما هي متكئة على ذاتها ودواخلها وعناصرها الإنسانية الذاتية، لكن كل تجربة كانت تصدر عن الايديولوجيا أو عن السياسة، أو عن الأفكار الخارجة عن الذات فإن عمرها قصير، فعندما تنهار تلك الأفكار وهو متكئ عليها سينهار معها الشخص نفسه، لكن الشاعر المبدع المتكئ على ذاته وموهبته ومشاعره الذاتية لا يتخلى عنها، لأنها تتصل بقناعات عميقة في أحلامه، وأفكاره ومبادئه ولا يستطيع انهيار العالم أن يجعله ينهار. إن هناك العديد من المبدعين العرب، والشعراء خصوصاً لا يزالون موجودين بالرغم من انهيارات الخارج، لأنهم يصنعون موهبة حقيقية، فهم يغنون الايديولوجيا والسياسة والأعمال التحررية لكنهم لا يعتمدون عليها، بقدر ما يعتمدون على ذواتهم وهو ما يجعل المعنيين بالعمل الايديولوجي والسياسي يتذكرون دائما عبارة تُردد هي أن "شجرة الحياة خضراء، والأيديولوجيا رمادية". أعتقد ان الذي يعتمد على تجربته الإنسانية الذاتية ولا يتنازل عن ذاته في سبيل الموضوع العام الذي يمكن ان يتساوى فيه الآخرون، يظل قادرا على حمل مبادئه وقناعاته ولا يتنازل عن أحلامه، فمن المحتمل ان تنهار الايديولوجيا بالمعنى المبتذل، أو تنهزم الجهة السياسية، أو تسقط تجارب كثيرة، لكن الموهبة والإبداع لا يخذلان صاحبهما، وأشعر بالفعل أن هناك تجارب شعرية اكتسبت بعد الانهيارات رؤية جديدة لدور الشعر في حياة الإنسان.
غسان الشهابي
وكيف تتأمل دور الشاعر المثقف في سياق التحولات التي مر بها النظام العربي ؟
- رأيي أن النظام العربي ضمن التحولات التي جرت في العالم قد أنجز شوطا كبيراً في تعطيل آلية التبلور العميق داخل الجسم الفكري والثقافي، بوسائل غاية في التركيب والنفاذ في آن، واستطاع تعميق عزلة المثقف والمبدع وفصله عن دوره بطريقة تجعل الأمر كما لو ان القاعدة هي ما تراه هذه المنظومات الحاكمة، وليس أمام الآخرين سوى الإيمان بأنه ليس في الإمكان تعاطي شؤون الحياة إلا بواسطة الآلية التي يقترحها النظام العربي الراهن ويفرضها لتكريس الواقع. لكي نجد أنفسنا أمام خيار الأوهام الجديدة بدل الأحلام التي لا نزال نعتقد بمشروعيتها من الوجهة الإنسانية، وهي أحلام تتجاوز الإطار الإيديولوجي وتتصل بحق الإنسان في الحياة الكريمة والحرة. وسوف يبالغ الكثيرون، صدورا عن المنظورات المهيمنة، في توهم الفصل بين المبدع وموقفه السياسي والاجتماعي بوصفه العمق الجوهري لطبيعة الإبداع في الحياة. منذ بدأت علاقتي بالأدب تأسست بنيتي الفكرية على علاقة متينة ومباشرة أحيانا بالشأن السياسي، ولعل من أبرز ملامح تجربتي (في الحياة والأدب) الصدور العميق عن وضوح الموقف السياسي ولم أشعر في أية لحظة بأي انفصال أو تعارض بين ممارستي الإبداعية وهواجسي السياسية، بل ان موقفي الواضح في الحياة سوف يجعل تجربتي الأدبية أكثر تماسكا وانسجاما بالنسبة إلى تكويني النفسي والاجتماعي، وبقدر ما كنت حذرا وواعيا لعلاقة السياسي بالثقافي، فإنني لم أسمح لأوهام طهرانية المبدع تجاه الشأن العام أن تفسد علاقتي بالحياة وكنت أعتقد بأن الحرية الحقيقية لا تفصل بين النص والشخص ولا تهيىء لتناقضهما.
|