فكرة هذا الكتاب
سيد محمود
أقبلتُ على تحقيق فكرة هذا الكتاب لأسباب عدة، في مقدمتها رغبتي في اقتران اسمي باسم قاسم حداد، كشاعر له تجربته الإنسانية والجمالية التي تستحق غواية الإبحار فيها واكتشاف أسرارها عبر رواية صاحبها، كما أن رغبتي كانت عارمة في الانتصار على حال الإحباط التي عشتها في الأيام الأولى من مجيئي إلى البحرين، والتي كنتُ جئتها بحماس وبأمل الانخراط في تجربة مهنية تصورت أنها واعدة، ثم اتضح لي حجم الأوهام التي رافقت هذا الأمل، فاكتفيت منه بما تحقق لي من مكاسب إنسانية، على رأسها الاقتراب من "قاسم" الذي كتبت ذات نص انه "المرشد الروحي لأيامي البحرينية"، ولذلك اعتبرت العمل في الكتاب "دليل براءة" يمكن لي أن أقدمه أمام نفسي إذا واجهتني خسارة، يمكن لأي إنسان أن يجدها في روحه وهو يحصي أثمان غربته.
ولا أذيع سراً إذا قلت أن قاسماً لم يكن من بين المرحبين تماماً بفكرة سفري، حين طرحتها عليه عبر رسائل تبادلناها بالبريد الالكتروني، وخلال مداولات ونقاشات تخللت خمسة أيام قضيتها معه في "الكويت"، في ندوة عن الشعر أقيمت قبل أقل من عشرة أيام من تاريخ سفري الذي حددته إلى المنامة.
غير أن قاسماً قد احترم خياري الشخصي في السفر وتفهم دوافعه ولم يناقشني في ذلك، كما ترك لي حرية التعامل مع التجربة بمسام مفتوحة. بالإضافة إلى ذلك ترك لي "الحبل على الغارب" فيما كنت أعلن في كل لقاء جرى بيننا في ما بعد، انطباعاتٍ كانت في مجملها قاسية حول الكثير من الأمور التي لم أفهمها في بلاده، وعن أشخاصٍ كان من بينهم أصدقاء له، غير انه استقبل كل ذلك بروح طيبة يعرفها كل من تعامل معه، وهي روح أعطتْ لي الحافز الحقيقي للعمل في هذا الكتاب.
واذكر أن قاسماً قال لي، بصراحته المعهودة، يوم أن فاتحني بمشروع الكتاب، أن صديقه الأستاذ أحمد المناعي كان صاحب فكرة الكتاب منذ سنوات، لكن الأمر كان يتأخر لأسباب مختلفة، أهمها أنه، (قاسم)، لن يحسن إنجاز الكتاب بمفرده.
فجاء لي قاسم حداد بأوراقه، وهي حصيلة كبيرة وغنية من الحوارات لكي أنتخب منها ما أريد. وقد اكتشفت لاحقاً مكانة أحمد المناعي ودوره في حياته الأدبية، مما شكلَ لي حافزاً إضافياً زادَ من حماسي لقبول الفكرة. لقد ألقى عليّ بمسؤولية كبيرة اتضحت لي وأنا أقلّب أوراق هذه الحوارات في مادتها الأولية قبل أن أعمل على تحريرها لتنتهي إلى وضعها الحالي.
ورغم أن العمل على هذا الكتاب جرى في زحام الانشغال اليومي بأمور العمل والحياة الشخصية، إلا أنني تفاديت خسارته وواصلت العمل فيه كلما تيسر لي الوقت. وتدريجياً، كنت أستشعر لذة الاستمرار والمغامرة في تقليب أوراق من حياة قاسم حداد، بدت لي أشبه بأوراق الشجر، "قابلة للنمو" باستمرار، ولاسيما أنها كانت تدفعني إلى قراءة أعمال الشاعر كلها وكتبه، التي لم تكن جميعها متاحة لي قبلاً.
ورغم أن حزناً ما أصابني حين انتهيتُ من تحرير المسودة الأولى للكتاب، بسبب وصولي إلى نقطة النهاية، إلا أن السعادة التي نقلها لي قاسم حداد قضتْ على هذا الإحساس، بعد أن أبلغني ارتياحه للصيغة التي اقترحتها. كما سعدت بالملاحظات التي دونها الأستاذ أحمد المناعي على المسودة، وكانت مليئة بالإشارات والتصويبات القيمة التي حرصتُ على الاستفادة منها بأقصى ما أستطيع، لا سيما أننا اتفقنا من دون قصد على تقييم الكثير من الحوارات التي شكلت اللبنة الحقيقية للكتاب، كما اتفقنا على ضرورة تفادي الكثير من المادة الأصلية، إلى جانب ضرورة نشر فقرات مطولة من بعض الحوارات. وكان الأستاذ المناعي هو صاحب فكرة نشر أسماء المحاورين إلى جوار أسئلتهم (وعدم الاكتفاء بنشر أسمائهم في ترويسة الكتاب)، للحفاظ على حقوقهم المهنية. وتدريجياً تولدتْ فكرة الكتاب في صيغته الحالية، التي تبدو أقرب إلى "ورشة عمل" أو "مائدة مستديرة" مقامة حول تجربة الشاعر، حيث قدم إجاباته على أسئلة الزملاء أصحاب الحوارات الأصلية، والذين أصبحوا،
في هذه التجربة، مشاركين حقيقيين في إعداد المائدة.
ولما كانت طبيعة العمل الصحافي تقتضي طرح تساؤلات عن أمور عامة وقضايا آنية، فقد سمحت لنفسي باستبعاد هذا النوع من الأسئلة وإجاباتها، إلى جانب تجنب كل ما هو عابر أو يتضمن تعليقات للشاعر حول أسماء معينة وردت في معرض الإشادة بتجربته أو النيل منها.
ولما كان من الطبيعي أيضاً أن تكرر على الشاعر أسئلة بعينها ترتبط بتجارب نالت شهرة كبيرة، ولا سيما تجاربه في تأسيس موقع "جهة الشعر"، أو أعماله المشتركة مع أدباء وفنانين عديدين، فقد كان من الضروري تجنب التكرار، والتركيز على الإجابة الأعمق التي تضمن للقارئ حقه في الإلمام الكامل بظروف التجربة قدر الإمكان. كذلك، حرصتُ على أن أضمن للقارئ فرصة الاسترسال مع إجابات الشاعر وتساؤلات المحاورين، للحفاظ على إيقاع السرد قدر المستطاع. وقد آثرتُ التدخل، بشكل محدود جداً، لكي أحافظ على الروح التي تميز حواراً عن آخر، بما يضمن انتماء كل فقرة لصاحبها. وكان هدفي من ذلك، تفادي ثغرات في كتب مماثلة حررها زملاء عن شعراء آخرين، وكان نصها الكامل يقوم على حوارات صحفية، بدت في القراءة الأخيرة تنتمي إليهم أكثر مما إلى أصحابها الأصليين.
وفي آخر مراحل إنجاز الكتاب، قررتُ إجراء عملية ترميم شاملة، والتدخل بإضافة أسئلة جديدة أجاب عنها صاحب "ورشة الأمل" بقلب مفتوح. ولا أزعم أنها كانت أسئلة جديدة تماماً أو مبتكرة، لكنها كانت ضرورية لسدّ ثغراتٍ وجدتُ أن الكتاب لن يكتمل من دون مقاربتها، ولاسيما أن الحوارات التي شكلت بذرة "الكتاب" ولبنته الأولى لم تطرحها. ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى عدم حماسة الشاعر للإجابة عنها دائماً، وهي في معظمها تساؤلات تدور حول تجربته النضالية وتجربة الاعتقال والسجن، ورفضه فكرة كتابة مذكراته حتى الآن، إلى جانب تساؤلات أخرى تتناول عمله السياسي، والمشاركة في تأسيس أسرة الكتاب والأدباء في البحرين، ورئاسة تحرير مجلة "كلمات" التي صدرتْ عن الأسرة في ثمانينات / تسعينات القرن الماضي.
هذه كلها مسائل بدتْ لي لازمة لكي تكتمل معرفة القارئ بقاسم حداد، الشاعر الذي أرى أن هذا الكتاب ليس إلا شرفة صغيرة تطلّ على حدائقه.
المنامة / البحرين
أول فبراير 2007
|