فتنة السؤال

فتنة السؤال

(لا تثقْ، واسأل الشكَّ، وامشِ على شوكِهِ)
قاسم حداد

تحرير: سيد محمود

 

الشعر، جهة القلب

(الكتابة صلاة، مثل يـدٍ ممدودةٍ في العتمة)
فرانز كافكا

عبده وازن

في زمن يجري الكلام بشدة عن موت الشعر وموت قارئه وانحسار خارطته، تبدأ أنت بمشروع نشره على الإنترنت، هل تعتقد أن الأمر مجرد مغامرة فردية؟ ألا تلاحظ كيف أن الشعر يصبح صنيعاً فردياً وكيف أن الشاعر يتجه إلى عزلته؟

- طوال الوقت كان الشعر صنيعاً فردياً، ودائماً كنت أعتقد بأن الشعر، بوصفه إبداعاً، هو أحد معطيات عزلة الشاعر الذهبية. ولم أكن أقول بغير ذلك. وإذا نحن قد تورطنا أحياناً بمقولات جماهيرية الشعر وعمومية الكتابة، فان هذا لا يعني شيئاً بالنسبة إلى الحقيقة. وهذا كله لم يدفعني أبداً إلى الخضوع للأوهام التي راجت في السنوات الأخيرة وكرستها اجتهادات ثقافية تصدر عن مصدرين هما تجربة غير واضحة الملامح تأتي من لا مكان، وضخ من الصحافة الثقافية التي تقصر عن قراءة مادتي الحياة: النص والحياة.
إنني لا أفهم معنى أن يقال بموت الشعر أو موت القارئ، لا أفهم ذلك خصوصاً إذا صدر عن الشعراء أنفسهم. كيف يمكن أن يحدث ذلك والإنسان لا يزال موجوداً بكثافة في التجربة غير المسبوقة في التاريخ البشري؟ هل تقاس الأمور بمفهوم رواج المادة الاستهلاكي مثلاً؟ هل لمجرد أن القنوات الفضائية العربية تخلو من برنامج متحضر عن الشعر العربي؟ هل بسبب الروح النقدي الذي يصدر عنه الشعر، والأفق الحر الذي يذهب إليه، لا تطيق الأنظمة والسلطات العربية أن تجعل من الشعر كائناً متاحاً للجميع كما تفعل مع أكثر أنواع الأغاني انحطاطاً؟ هل لأن فكرة التنوع وتعدد الأذواق لا يزال يضيق بها مَن يعمل على الكتابة الشعرية بالصورة التي لم تخطر على بال الخليل بن أحمد هناك ومسؤولي الثقافة العرب ضيقي الأفق هنا؟
هل لأنني كشاعر لا أقبل الخضوع لشرط وسائل الإعلام مفضلاً البقاء (مع كثيرين مثلي) في حرية الهامش طوال السنوات حتى ولو كان هذا على حساب وصول نصي إلى أقرب قارئ يسكن في الدار المجاورة؟
لا أستطيع أن أقبل مثل مصطلحات (الموت) هذه. أنا يائسٌ من اليأس السائد، لكن نظرية الموت هذه لا تتصل بما أرى و أعمل، لأنها في نهاية التحليل تحقق هدفاً يسعى إليه الآخرون الذين لا يحبون لا الشعر ولا الشعراء، والذين يرغبون حقاً في (موت) الحياة من حولنا. كيف يمكنني الحديث عن موت الشعر وموت الفن والإبداع في حضرة أولادي المنشغلين هم أيضاً بكل هذه المكونات الإنسانية، كيف يمكننا تصور أولادنا في مواجهة أوهام مخيفة مثل هذه.
نعم أعمل على مغامرة، وأعتقد أنني كنت أفعل ذلك طوال الوقت وأحرض عليها في الكتابة. أليست أجمل الأشياء في حياتنا قد بدأت بمغامرة فردية؟ وبالمناسبة، فإنني أصدر عن تجربة حياتية تمثل فيها النزوع العفوي إلى المغامرة على أكثر من صعيد، فكري أو شعري، وأظن أنني أجد نفسي دائماً منسجماً في هذا السياق، والتشبث بعدم الامتثال للقانون المستقر النهائي. ولعل في تجربة الإنترنت ما يغري بمواصلة هذه المغامرة الإنسانية الجميلة التي تجعل للحياة معنى. بالطبع دون أن نغفل تجارب أخرى مثيلة هي الآن قيد التحقق في مناطق مختلفة من البلاد العربية، سوف أكون سعيداً لو أنها اتصلت بي لكي نثبت أن ثمة الشعر الذي لا يموت وثمة القارئ الذي لم يكن في الحسبان.

عبده وازن

هل تعتقد أن قارئ الشعر العربي سيعود إلى الانترنت ليقرأ من يشاء في حين الشعر متوافر في الكتب؟

- الفلسفة التي تقوم عليها فكرة الإنترنت تختلف جذرياً عن فكرة الكتاب. ومن يذهب إلى الإنترنت مقتصراً على آلية تصفح الكتاب فقط سوف يخسر كثيرا. فما تقترحه علينا برامج النشر الإلكتروني وشكل بناء وحجم المعرفة ووسائل الاتصال التي تستجد يومياً هي مقترحات فائقة الاختلاف، وتستدعي أن نكون مستعدين لتغيير مفاهيمنا وقناعاتنا بأشياء الحياة والثقافة. فإلى عنصر سرعة الوصول إلى المعلومة، ثمة برامج يجري تداولها حالياً من شأنها أن تجعل الشخص يتعامل مع النص الشعري بأسلوب يتجاوز مفهوم القراءة إلى التحليل والكشف والنقد أيضاً، لفرط ما يمكن أن تحققه بعض البرامج، سهلة الاستخدام، من آليات وأدوات بحث يمكنها تحويل النص من مادة أولية خام ومحايدة أحياناً إلى ضرب من الأسئلة الحية. حاول مثلاً أن تبحث عن نص لقصيدة لأي شاعر في الموسوعة الشعرية، أو تعامل مع لسان العرب، لتكتشف المعنى الذي أتحدث عنه، نكهة جديدة تكتسبها الثقافة الآن.
وأظن أن طرق البحث التي تتيحها الوسائل الإلكترونية من شأنها أن تتيح لنا مضاعفة معرفتنا (مثلاً) بما فعله أصحاب التدوين المسلمون بنصوص الشعر القادم من قبل الإسلام. وأخشى أن ما يشبه الفضيحة كامنة، على من يقدر على استخدام وسائل الدراسة النقدية بشجاعة أن يذهب إلى إعلانها. فربما تأكد لنا أن طه حسين (مثلاً) قد رأى بجوهرته السوداء ما لم يعترف به المبصرون.
وما علينا إلا أن نمنح أنفسنا فقط متعة اكتشاف حقل المعرفة الجديد، ونتخلى عن التردد، ونبدأ في الإيمان بأن صعوبة التقنية وتناقضها مع الثقافة والإبداع ليسا إلا وهمين يتوجب تجاوزهما. وفي تقديري أن الإنترنت، بوصفها وسيلة اتصال جديدة، إذا لم يتعود عليها القارئ المعاصر، فان الإنترنت لن تخسر شيئا بل نحن الخاسرون. لأن ثمة قارئ جديد يتشكل حالياً وبسرعة غير منظورة وبحتمية تفرضها طبيعة الأشياء، وخصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار أننا لا نتكلم عن القارئ في حدود الجغرافيا الفيزيائية التي نعرفها. نحن نتكلم الآن عن قارئ يتجاوز حدود الوقت والمكان والطبيعة المحدودة التي تحبس الكتاب (شخصاً ونصاً) في ما يشبه الوهم.

عبده وازن

- بعد عشر سنوات من تجربة "جهة الشعر" على الانترنت، ماذا حققت هذه التجربة للشعر العربي الجديد، وكيف تقيّمها؟

- الحديث عن "جهة الشعر" هو تماماً حديث عن جهة القلب. وعندما طرح عليّ الصديق عبيدلي عبيدلي فكرة الموقع الشعري في شبكة الانترنت، كدت، يومها، أن أصاب بالإغماء لفرط الرهبة. كان الموضوع غامضاً ومخيفاً. كيف لي أن أصنع شيئا في شبكة الانترنت التي لم أكن أسمع عنها إلا لماماً في تلك الأيام. لكن عبيدلي كان جاداً ولم ييأس، لقد كان يعرف، أكثر مني ساعتها، عما يتحدث. بعد أيام قليلة وجدت نفسي في سديم الفكرة، صار الأمر بالنسبة إلي مثل الشعر، جديداً، جميلاً، ومشوقاً، عندها كان ذلك كافياً لأن أستسلم. غير أنني بدأت منذ اللحظة الأولى أصوغ المشروع على هواي، وقد أطلق عبيدلي لي الحرية، وسوف يتولى هو كل ما يتعلق بالجانب الفني والتقني، وما عليّ سوى أن أتولى اقتراح الأشكال وإنشاء الملفات وتحرير المواد.
كنت خارجا وقتها من تجربة مجلة "كلمات" التي عملت في تحريرها عشر سنوات مع أصدقاء في أسرة الأدباء والكتاب، حتى وصلنا إلى السقف الذي يحول دون ذهابنا إلى السماء، فضاء حرياتنا الجميل. اقترحنا توقفها واعتذرنا. جاء اقتراح الانترنت مثل فتح الأفق نحو تلك السماء المفقودة. فقبلت. كان اقتراح عبيدلي أن يكون الموقع باسم "المتنبي" بوصفه الشاعر العربي الأشهر ..الخ.
قلت: لا… يجب أن يكون الموقع باسم آخر، أكثر حرية، أكثر رحابة، ويستجيب لأفق المستقبل والآلية الجديدة التي تقترحها وسائط الاتصال التقنية المختلفة في شبكة الانترنت. قال لي اقترح ما تحب.
قلت له : "جهة الشعر".
وانطلق العمل رسمياً عام 1996، ومنذ ذلك الوقت حتى هذه اللحظة، اجتاز الموقع ما لا يحصى من التجارب والتحولات والخبرة، بحيث يمكنني القول أنه يشكل بالنسبة إلي جهة القلب المفتوح على أصدقاء الكون.
وقد جرى تطور موقع "جهة الشعر" متسارعاً بصورة معقولة استجابةً لأحلام الشاعر، وبسبب ولادته المبكرة في شبكة الانترنت قياساً بالمواقع العربية المثيلة، والاستغراق الكامل في ورشته بشكل يومي، صار الأمر يتضاعف مسؤوليةً وجمالاً وتطلباً متجدداً في الإتقان. ليس سهلا أن يتعرف شاعر على التقنية لولا أن ثمة عشقاً يتصل بكل ما يتعلق (بوضع الشعر في مكانه). هذا هو السر الذي جعلني اندفع بالحماس اللازم. ومبكرا وعينا عبثية أن يقتصر موقع للشعر في شبكة الانترنت على اللغة العربية. لذا تأسس توجهنا نحو التعدد اللغوي مبكراً في "جهة الشعر"، الأمر الذي سيكرر مضاعفة العمل. غير انه كان أمرا حيوياً.
لقد كنت أرى في تطور عمل ومستوى "جهة الشعر" الفني والأدبي نوعاً من العمل الشعري الخالص. ليس لأن فكرة شبكة الانترنت هي حال شعرية من حيث فكرتها وآليتها وأدواتها، ولكن خصوصاً لأنها تضع الشعر في مكانه المناسب بجمال وحرية يضاهيان ويحاكيان مشاغلنا في حريات التعبير وجمالياته. وهذا ما يسهم دائما في اكتشافي، على الصعيد الشخصي، ما لا يحصى من أشكال وأساليب ابتكار ملفات "جهة الشعر".
لا سلطة معي ولا سلطة عليّ. كنت حراً. وحدي مع الشعر والأفق الأزرق، وأصدقاء لا يحصون على امتداد الكون.صارت "جهة الشعر" صديقة العالم بحق. الآن، نتلقى اتصالات ونصوصاً ومساهمات من لغات مختلفة. وصار الموقع مرجعاً رئيساً معتمداً لشعراء ودارسين وطلبة جامعات وقراء في مختلف العالم، ولا تزال "جهة الشعر" تبتكر الملفات الجديدة، وتقدم خدماتها لكل من يطلب ذلك، وتنشر معظم ما يصلها من مساهمات، ولا يغضب منها الأصدقاء الذين يبعثون نصوصاً لا تنشر لأسباب فنية وأدبية، يحاولون مجدداً ولا ينقطعون عن الموقع ولا يحرموننا صداقتهم.
يصل إلى بريدها اليومي عشرات الرسائل، وعدد زوارها حوالي نصف مليون شهرياً. لكن أحداً لا يصدق أنني وحدي أتابع تفاصيل ذلك كله، بمساعدة أصدقاء شعراء ونقاد ومترجمين من شتى بلدان ولغات العالم. بعضهم أعضاء في هيئة التحرير الاستشارية للموقع. وبتعضيد واقتناع أصدقاء في مجلس الأمناء تتماثل "جهة الشعر" لمعالجة الصعوبات التي بدأت معنا منذ اللحظات الأولى ولا تزال.
نحلم ونحقق بعض أحلامنا، غير أن هذا ليس هو كل شيء.

إن "جهة الشعر" هي بمثابة جبل الجليد، ما يبدو ظاهراً هو أقل من الثلث، والباقي الأعظم هناك تحت الماء. والذين يبحرون في ملفات "الجهة" يدركون ما أعنيه. وهذا ليس كل شيء أيضاً. لأن ما أحلم به، وأسعى إلى تحقيقه في "جهة الشعر"، أكثر مما تحقق حتى الآن. غير أن الصعوبات المادية والمتطلبات الفنية المكلفة تحول دون انتقالنا إلى المستقبل.
مشروع ("جهة الشعر" يمكن أن يتحول إلى أكثر مما هو عليه حتى الآن. فهو لا تنقصه المادة الأدبية، لأن أصدقاء الجهة في كل العالم يرفدونه بحماس باهر، حماس يشكل بالنسبة إلينا الدعم الجوهري للعمل ومواصلة الطموح، فلجهة الشعر جهات لا تحصى، تؤنس وحشتها في هذا الأفق الأزرق. ففي السنوات الخمس الأخيرة خصوصاً، تضاعف عدد المواقع الشعرية والأدبية، كمواقع شخصية لشعراء وكتاب، أو كمواقع أدبية وثقافية عامة.
وهذا أمر يسعد قلب "جهة الشعر" حقاً، لأنه يشكل إسهاما مهماً في حضور الثقافة العربية في شبكة الانترنت، واكتساب الخبرة والمعرفة من أجل تطوير وبلورة تجاربنا الفردية والجماعية، وبالتالي تأهلنا للمشاركة إبداعياً في الحوار الحضاري مع مخلوقات الكون. بقي أن نتعرف على جواب الجزء الثاني من السؤال من خلال التعرف على طبيعة ومستوى جدية ومعرفية وموهبة القائمين على تجربة المواقع الثقافية العربية في الشبكة. علينا أن ندرك كيفية التعامل مع هذه الوسائط الجديدة والمتسارعة التطور والتغير، حيث لن يصلح ابداً أسلوب التعاطي القديم والتقليدي الذي تربينا عليه عندما نقدم أنفسنا، تجربة أو أفكاراً. هذه التقنية الجديدة تحتاج إلى عقلية جديدة وأسلوب مختلف بشكل شبه جذري.
من الخسارة الفادحة مثلاً أن نتعامل مع وسائل النشر الالكتروني بالعقلية نفسها وبأسلوب تعاملنا مع النشر الورقي التقليدي، وإلا فسوف نكون قد خسرنا كل ما تتيحه آليات وجماليات برمجيات النشر الالكتروني التي توفر الصورة والصوت والتشبيكات والتشعيبات المتحركة والحيوية، إضافة إلى خاصية معالجة الوقت والمكان، ليس من الناحية الفيزيائية فقط، ولكن في العمق البشري لمخيلة الإنسان. وأظن أن اتصال المبدعين بهذا الحقل من شأنه أن يرشّح المشاريع التقنية إلى ما لا يخطر على بالنا من التجارب والمبتكرات، بحيث نستطيع الزعم بحق أن في مقدرة الإنسان أن يسبغ على حقل التقنية ووسائلها وأدواتها شيئاً من الروح الإنساني، بحيث يجعل العمل أكثر حيوية وطراوة واحتمالاً لإطلاق حواس الإنسان نحو تحقيق حاجاته الروحية، وتأكيد حقه في التحقق الحضاري في المشهد الكوني بثقة الإنسان الذي يمتلك المعرفة الفعالة والموهبة الخلاقة.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى