فتنة السؤال

فتنة السؤال

(لا تثقْ، واسأل الشكَّ، وامشِ على شوكِهِ)
قاسم حداد

تحرير: سيد محمود

 

أن ترى ما يراك، في النص وقرينه

( كل من له قدمٌ في العشق راسخة، قد تخطى الكفرَ والإسلام معاً )

فريد الدين العطار

أحمد خضر

رغم أن الشعر ديوان العرب لكن جمهوره الآن مهدد بالانقراض ما الذي يجعل من الشاعر الذي كان وزير اعلام القبيلة في الماضي هو الآن مواطن مجهول الهوية لا يكاد يسمع به أحد؟

- أشرتُ مراراً إلى مسألة في طبيعة المجتمع العربي وخصوصاً في المجتمعات التي لم تكرس فيها الثقافة بشكل حضاري، ولم تمثل فيها الثقافة والأدب خصوصاً جزءاً من التقليد اليومي والعادة اليومية، وجزءا من النسيج في المجتمع العربي لأسباب اجتماعية وسياسية كثيرة منها أن الأدب مساحته محدودة واهتمام الناس به قليل لأنه ليس جزءاً من حياتهم الحقيقية، فهناك هموم أخرى سياسية واقتصادية ورياضية وغيرها، وحين نأتي المهتمين بقراءة الشعر، فإن المجتمعات في العصور الحديثة لم تهتم بالشعر سوى شريحة بسيطة منها قياساً على مستوى الحجم الكمي وهو نسبة كبيرة جداً، هناك قراء للشعر وليس جمهوراً، ولا يمكن المقارنة حيث هناك جمهور للمغني، والسياسي، والرياضي، ولكن ليس لقارئ الشعر.

أحمد خضر

هل تتفق مع الآراء التي تحمّل واضعي المناهج الدراسية مسؤولية خلق ذائقة شعرية بليدة وكسولة بفضل نوعية ما تختاره من نصوص تعمد فيها إلى تغييب النص الحديث عن تلك المناهج بما يعمل على عزلها أو تهميشها ؟

نعم هذا صحيح إلى حد ما، فمعظم ما كنا ندرسه ويدرسه أبناؤنا في المدارس الآن، من نصوص الشعر القديم، هي منظومات شعرية سطحية وضعيفة، تعرض بشكل مدرسي وتشرح بطريقة آلية لا تهيىء الطالب مع الوقت للتعامل مع النص بعفوية، بل تقنن له المفاهيم السطحية، كل نص له شرح مباشر، هو الشرح نفسه الذي يدرس عشرات السنين، وحين تنظر إلى هذه الظاهرة تشعر بخطورة التأسيس للأجيال المتعاقبة حيث المعنى الواحد نفسه للنص عبر كل هذه السنوات كما لو انك تقولب مخيلة الطالب من الابتدائي حتى التخرج، وهذا لا يهيئه، إذا افترضنا أن النص جميل، لأن يقبل نصا حديثا يزعم بتعدد المعاني وتشغيل المخيلة.

عبد الله خليفة

هل ترى أن نتاجك قد حصل على مكانته في مناهج التعليم محلياً وعربياً؟

- لمناهج التعليم العربية عامة موقف مغاير لما يذهب إليه منظوري للأدب. إنهم يرون غير ما أرى ويذهبون إلى غير ما أذهب. لذلك ليس متوقعاً أن يأخذ النص الأدبي الجديد مكاناً في التعليم العربي الراهن. لكن هناك نصوص عديدة يتم تقريرها ودراستها في بعض المواقع الأكاديمية بالجامعات العربية (بما فيها جامعة البحرين) باجتهادات فردية من الأساتذة الذين يتصلون بالكتابة الجديدة، ويرون فيها عناصر فنية تستحق الدرس النقدي، وليس لقناعة منهجية، لدى المؤسسة، بضرورة الاتصال بالتجارب الأدبية في المناخ الأكاديمي وبالحرية العلمية. وفي أكثر من جامعة أوروبية وأمريكية أعرف عن دراسة نصوص شعرية لي منذ السبعينيات. لكن لا أعرف ما إذا كان هذا الأمر يعني الشاعر أم المؤسسة التعليمية. أظن أن هذا السؤال يعني غيري أكثر مما يعنيني.

رولا قباني

يجري الكلام دائما حول التجديد في التجارب الأدبية والشعرية، حيث يحاول البعض إلغاء ما قبله تماما.. كيف تنظر إلى تطور القصيدة الشعرية العربية؟

- التجديد ليس ابتكاراً آلياً ينفي ما سبقه، وليس هناك قطيعة بين القديم والجديد، والذين يقولون بغير هذا فان ذلك يصدر عن خلل في بنية الرؤيا التي تطرح هذه الأفكار لأن التجارب الإنسانية على الصعيد الأدبي هي تجارب متصلة في العمق، ومستفيدة من بعضها البعض ومكملة لمشهد التجربة الإنسانية، فنحن لا نزعم بان تجربة الشعر العربي الحديث الذي خرج عن العمود قد خرج من فراغ، هو خرج من تجربة سابقة اعتمدت على الأوزان والبحور والعمود، لذلك كل التجارب التي تلحقه هي تجارب من هذه الثقافة الواسعة العميقة، البعض يعتقد أن المبدع هو الذي يبدأ من الصفر، وان الذي يكتبه هو بحكم القيمة مبني على إلغاء السابق، وتأسيس شيء جديد، هذا على الصعيد الفيزيائي غير ممكن فما بالنا على صعيد النسيج الإنساني الشامل الذي يعتمد على ثقافة متعددة عبر الزمن والجغرافيا، إن كل جزئية من ثقافة في العالم عبارة عن هواء يستنشق منه المبدع لكي يصوغ تجربته، نحن نستطيع القول إن التجارب الإبداعية الجديدة هي إضافة نوعية تصقل التجربة، فقد أحب نصوصاً متعددة من كل العصور، كما لا يمكنني الزعم بأن ما اكتبه هو الإبداع، إذا زعمتُ هذه الفكرة فيجب عليَّ آن أتوقع ولا استنكر بأن الجيل الذي يأتي بعدي من حقه أن ينفيني، أعتبر نفسي اقتراحاً إنسانيا جديداً أرجو أن يكون جزءاً من هذا السياق التعبيري والإبداعي الواسع للبلاغة، ازعم ذلك وأتمنى أن يكون، من المؤكد أنني لا أستطيع أن انفي ما قبلي لأنني لا أتوقع أن ينفيني مَن بعدي. وبالنسبة إلي أعجب بنصوص كثيرة يكتبها شعراء الجيل الجديد وأشد ما لفت نظري في هذه التجارب أنها لم تفكر في تكريس عبودية التجربة حد القداسة، مثلما كنتُ وجيلي نفعل في مرحلة من مراحل البدايات. فهذه التجارب لا تقلد وإنما تعمل على تفعيل طاقة الإبداع في شرفة مستقبل وشيك وقيد التحقق دائماً. ثمة اتصال ثقافي عميق بينها وبين النص أو التجربة. إنها علاقة غنية.
المؤسف حقا انه أثناء نشأتنا الشعرية لم تكن مناخات نبذ التقليد مرسخة بعمق كما هو الحال الآن. كان عليّ، مثلاً، أن اكتب قصيدة مماثلة للسياب وأقلده لكي أكون شاعراً. ففي بعض القصائد وبعض تجارب البدايات عشت هذا الوهم، ولكني اليوم أجد انه من النادر في تجارب الجيل الجديد تكرار هذه الأوهام وتكرار التجارب المكرسة.
والايجابية هنا تنبع من كون هذه التجارب تستفيد من أدوات وآليات جوهرية عميقة في التجربة، لذلك فإنني أعجب بمثل هذه التجارب أكثر من التجارب التي تكرسني أو تنسخني.

عبدالله خليفة

- وكيف تنظر إلى المشهد الشعري الراهن ؟

- عندما نتحدث عن المشهد الشعري الجديد، يجب أن نتميز في أمرين هامين ونحن نرى هذا المشهد الشاسع من التجارب، أن نحسن الإصغاء إلى الأعمال الجديدة وألا نخضع للأحكام العامة التي تكرس سلبيا لها وتصفها بأنها تجارب فاشلة وقاصرة، وأن نتحلى برحابة الصدر بحيث نتقبل فكرة تنوع الاجتهادات التعبيرية لكي لا نقف عند ذائقة تعبيرية واحدة غالبا موروثة، مستقرة، مكرس لها، ينبغي أن نجعلها شرفة لقراءة التجارب الجديدة، هذا أمر على الأقل متصل بـ"مزاعمنا" عن الديمقراطية، مثلما كنا نطالب الأجيال التي سبقتنا بتقبل التجديد الذي نجريه في القصيدة العربية! ولحسن الحظ إنني لا أحسن دور الأستاذ ولا أرتاح للعلاقة الأبوية في أي مجال. ولأنني لم أتعامل أبداً بهذا الأسلوب مع أحد، فإن صداقتي مع الشباب تضعني دائماً في الركن الحميم من العلاقة. كلهم أصدقائي قبل كل شيء وبعده. ربما لأنني أشعر بالحميمية مع التجارب والنصوص التي أتابعها. والأهم من ذلك فإنني أتعامل مع التجارب الشابة تعامل الأنداد، فلا يشعر الشاب بأن ثمة أستاذاً يريد أن يلقنه درساً، على العكس (وهذا حقيقي جداً) فإنني أرى أن الموهبة الجديدة التي تدهشني تعلمني شيئاً أكتشفه معها وأتعلم منه.
والآن يمكنني الزعم بأن المسافة التي تحققت (فنياً وزمنياً) أضافت إلى تجربتي قلقاً مضاعفاً على تجربة الشباب. فبعد الانتصار غير المشروط للتجارب الشابة، لابد من القول أن ثمة قيماً ومفاهيم وقوانين تبدأ في الإفصاح عن نفسها في السنوات الأخيرة. ولكي لا نضع للتجارب الجديدة القيم والمفاهيم التي صدرنا عنها في الستينيات، فإن مسؤولية التعرف على النظام الذي تنهض به التجارب الجديدة هي مسؤولية مشتركة نتحملها معهم أيضاً. وليس مقبولاً التخلي عن ذلك كما حدث للنقاد الذين توقفوا عند تجارب شعراء الخمسينات.
لكن ينبغي الإشارة أيضاً إلى أنني أخشى دائماً من سلطة الصحافة الراهنة على موهبة الشاعر. وأذكر أنني كتبت عن هذه الخشية في مناسبات مماثلة أوائل الثمانينات وأشرت إلى تجارب محددة كانت تتعرض لمغريات الصحافة والأضواء التي تمنح الشخص أوهاماً تنزعه من موهبته، وأذكر أيضاً أن تلك التجارب التي أشرت إليها آنذاك لم تعد الآن حاضرة في الكتابة الشعرية، لقد انتهت تماماً. وتتضاعف هذه الخشية الآن بسبب تفاقم السلوك الاستهلاكي في المجتمع العربي، واستدارة وسائل الإعلام العربية لتدمير كل موهبة حقيقية تحت ستار تشجيعها.
وتتأكد هذه المحاذير إذا وضعنا في الاعتبار استعداد الجيل الجديد للاستجابة لمغريات مختلفة والخضوع لشروط الإعلام، وبالتالي استسهال الكتابة والشعور الكاذب بأهمية كل ما يكتب صباح كل يوم. ولعل في استهانة معظم الصحافة الثقافية بالذائقة الأدبية والشعرية ونشر كل ما يرد إلى الجريدة، من شأنه أن يمنح الكثيرين وهماً كاذباً بأن ما ينشر هو الشعر والأدب. ولا يجب أن نعزو ذلك فقط إلى غياب القيم النقدية المتبلورة في الواقع الثقافي. ولا يجب أن يدفع ذلك الغياب القائمين على الصحافة الثقافية لأن يؤدوا أدوار النقد الأدبي، وخصوصاً إذا علمنا بأن عدداً كبيراً من العاملين في الصحافة والمشرفين على الأقسام الثقافية هم على درجة من الجهل وانعدام الإحساس بالمسؤولية ما يؤكد انقطاعهم عن كل مما يتصل بالثقافة والأدب والذوق الفني.
وأعتقد أن المحاذير التي تحيط بتجربة الشباب تتوقف في نهاية التحليل على غفلة الشعراء الشباب عن أنفسهم، مما يفرض عليهم الحيطة الكبيرة وهم يتعاملون مع الصحافة، فالمسؤولية تقع على الشاعر نفسه، وعليه أن يحمي موهبته ويحصن كتابته ضد الاستسهال والأوهام الاستهلاكية التي تعمل على تدمير الجمال والفن في حياتنا. وإذا أراد أن يتعامل مع الصحافة، عليه أن يفعل ذلك بشرط الشعر وليس بشرط الصحافة. وفي ما عدا ذلك فإنني لا أخشى شيئاً ولا يقلقني على مستقبل الكتابة ما تحاول سلطات عديدة أن تفرضه على حركة التجديد. لأن أحداً لا يستطيع أن يمنع الشاعر من الكتابة الحرة إذا هو تشبث بحريته.
بعد ذلك كله، أرى في المشهد الشعري الراهن عناصر حية تأخذ في التبلور. وما يعنيني في هذا المشهد هي الأصوات النادرة التي تنم عن وعي ما تفعله. والحق أن هذا نادر لكنه موجود ويدعو إلى الثقة في أن ثمة تجربة تتحقق وتقترح علينا لغة شعرية مختلفة عما ألفناه في العشرين سنة الأخيرة. أقول هذا دون أن أغفل عن الأعداد الكبيرة من الكتب التي تصدر بوهم الشعر دون أن يكون لها علاقة بذلك. وهذا ما لا ينبغي أن يخيف أحداً ولا يدعو لاتخاذ المواقف المتشنجة من أية جهة. إنها طبيعة أشياء الواقع، لقد أفسدوا كل عناصر حياتنا بما يمكن تسميته ثقافة الاستهلاك، حيث كل شيء حتى الثقافة والشعر أصبح مادة تتطلبها الحياة اليومية التي ترى إلى الشعر بوصفه ظاهرة اجتماعية يستخدم كزينة تكتمل بها وجاهة الشخص أمام نفسه وفي المشهد الاجتماعي. وللأسف فإن دور نشر عربية مشهورة انساقت في هذا الضرب من الاستهلاك الذي يدر عليها مالاً، وهذا محذور إضافي غير مفصول عما يحدث في المشهد الشعري. ولا أميل أبداً إلى أخذ جميع الأصوات الشعرية في سلة واحدة يريد الآخرون بها تشويه المعنى الجوهري للكتابة الشعرية الجديدة.
إن الشروط الشعرية التي يتحرك فيها الشعراء الشباب باتت أكثر تعقيداً وخطورة من السابق، وهي بالتالي تستدعي شعوراً مضاعفاً بالمسؤولية، وإذا كنت أتمنى شيئاً على الشباب فهو أن يتجاوزوا الشعور الكاذب بالثقة المبالغ فيها، وينتبه البعض لما يمكن تسميته بالادعاء، فالموهبة الحقيقية هي دائماً قرينة التواضع.

نوري الجراح

هناك من ينظر إلى القصيدة الحديثة على أنها فعل تخريب في الشعر العربي، متذرعاً بأن شعراء هذه القصيدة تخلوا عن الموسيقى العربية ولجأوا إلى كتابة شعر يخالفها بل ويلغيها؟

- التخريب تهمة بهذا المستوى كافية لأن يكون الإنسان مهدور الدم أمام المنظومات العربية السائدة. يبدو أننا، من حيث لا ندري، نقع تحت سطوة قاموس العنف السياسي المهيمن. وأخشى أننا ضحية من يدفع بالمصطلحات العسكرية في الحقل الأدبي، وخصوصاً أولئك الذين يريدون مصادرة التجديد بتشويه منظوراته، فنسهو عن خطورة تداول التعبيرات التي تعتمد المبالغات. والتخريب تعبير لا يناسب عمل الشاعر. ومهما اعتبرناه تعبيراً مجازياً، لا نقدر أن نتخيل شاعراً يمارس التخريب.
الشاعر يبني ويهيم بالبناء، أما الذي يخرّب، فهو ذلك الذي يفضحه البناء، والذي يخترب يكون قابلاً للخراب، أو انه يكون خراباً في الأصل، ولن يكون لدى الشاعر الوقت لإضاعته في تخريب ما هو خراب أصلاً.
أما الخروج عن الإيقاع التفعيلي للموسيقى الشعرية العربية، فإنه سلوك جمالي تستدعيه تجربة الشاعر، في أي مكان وزمان. وهذا الخروج الشعري ليس تخريباً. إنه اجتهاد إبداعي يقبل الرفض والقبول أيضاً. ولكي نتعود الروح الحواري ينبغي أن نقبل أشياء الحياة بطبيعتها. أن يكتب الشاعر الجديد بطريقة تغاير من سبقه ليس شيئاً خطيراً يستوجب الاستنفار وتوزيع التهم. إنها مجرد طريقة تعبير وطريقة كتابة الكلمات والجمل بغير ما عهده السابقون. ماذا في ذلك؟ لماذا تهتز أركان المدينة عندما تتغير الموسيقى؟! لسنا أول من صادف هذه الظاهرة، ولن نكون آخر المجتهدين. ثم من قال أننا (شخصياً على الأقل) نرفض الموسيقى في الكتابة الشعرية؟! كل ما في الأمر أننا نعتقد بأن هناك طاقات إيقاعية يمكن أن تتحقق في النص الشعري بغير الطريقة التي (اقترحها) الخليل بن أحمد، وبصورة لم تزل قيد الكشف، دون أن تكشفها القصيدة العربية الحديثة (الموزونة).
إنني ضد تهويل المسألة الشعرية وتجليات التجديد فيها. إن أسلوب التهويل يكرس تقديساً لأشكال التعبير الشعرية السابقة والمعاصرة أيضاً. في حين أن الشعر العربي كله منذ المهلهل حتى الآن مشاع أمام الجميع، وغالباً ما يتساوى في اجتهاداته المبدع والمقلد. الشعر العربي متاح (ينبغي أن يكون متاحاً) أمام بناة الكتابة الشعرية بلا تحفظ. ليست هناك قداسة لشيء أمام حركة الحياة الجديدة عندما تريد أن تعبر عن نفسها. ليس من حق أحد (أو أية سلطة) أن يصادر حرية الآخر في هذا المجال، ولا أن يتهمه بالتخريب أو الاعتداء. ليست القصيدة العربية، ولا بحور الخليل بن أحمد ملكاً لسلطة ما، أو جهة ما مخولة، إلهياً، للدفاع عنها. أما إذا كانت القصيدة والبحور عرضة لخراب ما، فهذا شأنهما. إننا لا نأتي إلى الكتابة بقصد التخريب، لكننا لا نقدر على منع الموت عن جثة. الشعراء بناة العالم، عالمهم اللغوي على الأقل، وعلى مروّجي تهمة التخريب اللجوء إلى المصطلحات "الحضارية"، شعراء أكانوا أم نقاداً وحتى جمهوراً غُرّر به.

اسكندر حبش

كيف تنظر اليوم إلى الخارطة الشعرية العربية؟

- أقرأ النص وقرينه. كأن (الماء زاد على الطحين) كما يقول المثل الشعبي. لكنني أقرأ ما يصلني وما أصل إليه. ثمة كثافة كمية في الكتابة يتخللها شعر يحتاج للتمعن والإمعان في الفرز.
أتمنى أن لا يكون هذا الاندفاع العارم لكتابة الشعر سبباً للقلق. على العكس، ربما يستدعي هذا أن نثق بأن ثمة ما يعتمل في عدد لا بأس به من التجارب الجديدة على امتداد الشعرية العربية. ما يهمني في هذا العنفوان الشعري هو ما يكون على الأرجح خارج السرادقات، في الهوامش الهادئة ولدى من يكتب نصوصه درجة من التردد والحذر. إن ظاهرة كثرة من يكتبون ليس دليلا على وجود الشعر، غير أن الشعر سيكون موجوداً بالشكل والطريقة التي تتطلبها طبيعة جديدة مختلفة عما عهدناه في زمننا. لذلك علينا أن نحسن الإصغاء إلى التجارب الجديدة، الشعرية منها خصوصاً، لكي نتعلم كيف نقرأ هذه التجارب. وربما هذا التسارع المذهل لولادة الأصوات واحتدامها من شأنه أن يربك طبيعتنا القديمة في التفاهم مع ما يكتبه الشباب. لكن علينا أن لا نثق أكثر من اللازم في أن منظوراتنا وذائقتا وآلية تعبيرنا ستكون دائماً صالحة وبمثابة أحكام قيمة على ما يحاول الشعراء الجدد اقتراحه علينا. لابد لنا أن نكون حذرين عند هذه المسألة، وأن لا نتوقع تجارب شعرية واضحة المعالم والاكتمال، مهيبة الشخصية، تقليدية الشروط، مثل التي عهدناها في رواد وكبار شعراء الحداثة المكرسين. أظن أن علينا التخلي عن مثل هذه الأوهام. ثم إن هذا لا يحدث في مراحل المنعطفات الكبرى التي يرفقها غالباً تحول جذري في الأفكار الأساسية لمفاهيم الشعرية.
ثمة ما يتكون بشكل مغاير تماماً للسابق، فالأصوات الجديدة تذهب بعيداُ عن الشروط السابقة. الأمر الذي يجعل الناظر إلى الشعر من شرفة الخارطة الشعرية العربية معرضاً للإخفاق إذا هو جاء بأدوات النظر القديمة، لأنها لن تمنحه سوى تلك النظرة التي تشبه نظرة السائح إلى معالم الخريطة والمظاهر البارزة فيها. هناك تجارب شعرية باهرة وجديرة بأن تُقرأ جيداً. وأخشى أننا لم نعد نصادف من يقرأ جيداً لكي يتعرف (وان بصعوبة وبعض الجهد) على الشعراء من خلال نصوصهم وليس من خلال كلامهم أو الكلام عنهم أو الكلام عليهم. ثمة آلية تعاطي سلبية مع التجارب الشعرية الجديدة باتت تشكل ما يشبه الحجاب الذي يحجب نصوصا جيدة تحت طائلة الزعم المطلق بنفي جديد الشعر. هذا تحديداً ما يقلقني.

عبد الله خليفة

كيف ترى علاقة جيلك الأدبي بالجيل السابق واللاحق، هل نشأت علاقة صحية وإثراء متبادل على الجانبين؟

إذا اتفقنا على أن التراث (بمفهومه الإنساني) هو بمثابة الهواء في حياة الإنسان، فإن علاقة كل جيل بمن سبقه هي علاقة الدم بالهواء النقي والصحي الذي يجعل الحياة قابلة للتطور والنماء والتبلور ويمنح القلب طاقة الحب والولع. وهذه علاقة لا يمكن تفاديها أو رصدها بالمساطر والحدود. لذلك ليست ثمة قطيعة إلا مع ما لا يتصل بالمعنى الجوهري للإبداع. كلنا مستقبل الماضي بدرجة أو بأخرى، وبالقدر الذي نغاير ونتميز عن ماضينا نستطيع أن نكون أحفاداً وأبناءاً مخلصين لمستقبلنا.
أذكر عن أبي حادثة صغيرة تحضرني الآن، فعندما كنت أذهب معه يومياً بعد المدرسة إلى دكانه في سوق المحرق، كان يمر في ذهابه وإيابه من طريق واحدة طوال السنوات، وهي طريق تمر من داخل أزقة المحرق مختصرة المسافة، ولكنني عندما أكون وحدي أمر من طريق مختلفة قريبة من البحر قليلاً. وذات يوم سألني غاضباً لتأخري، فأخبرته بأنني أذهب من طريق غير التي اعتاد أن يأخذني منها، قال: لماذا تفعل ذلك؟ فقلت له إنها طريق أجمل، (وأذكر أن السبب المباشر أول الأمر كان خوفي من المرور وحدي في الأزقة التي غالباً ما تكون مليئة بالكلاب السلوقية المعروفة بالمحرق تلك الفترة). فطلب مني أن أقوده ذات يوم من طريقي الجديدة، كانت المسافة طويلة بعض الشيء، فقال: "طرقك بعيدة لكنها جميلة بسبب البحر، إنها لا تعجبني، حاول أن لا تتأخر مرة أخرى".
أذكر هذه الحادثة الصغيرة التي لم يكن والدي يدرك دلالتها آنذاك ولم أكتشف جمالية معناها إلا في وقت متأخر. (كما توقع لي أبي). لقد كان كلانا يحب الطريق التي اعتادها.
أما عن الجيل اللاحق، فإنني في الحقيقة لا أحمل شعوراً بكوني من جيل سابق. أعتقد أن الوقت ما يزال باكراً. منذ أيام فقط التقيت بالصديق الشاعر السعودي محمد العلي في الشارقة، وكنا لم نلتق منذ سنوات، وما أن رآني حتى قال مداعباً: "لم تزل شاباً يا قاسم، هل أنت خارج الزمن؟". ربما كان يقصد بذلك مظهري، وهي مجاملة معنوية أستحقها على كل حال. لكن دعابته مسّت لدي شعوراً داخلياً غامضاً بأنني قد لا أخضع للزمن بالمعنى الرياضي، وخصوصاً لجهة العمق الرؤيوي والفني. وهذا ما يجعلني لا أكاد أجد تخوماً محددة لتوصيف الأجيال وتقسيمها.
ومثلما حدث مع والدي حدث بعد سنين طويلة مع إبنتي طفول. فمنذ سنوات أحضرت إبنتي شريطاً غنائياً تحبه وطلبت مني أن أسمعه معها، ولكي لا تسمع مني رأياً لا يعجبها قالت: "لاتنسى يا بابا أنك عندما تبدأ بالاختلاف معي في تذوق الأشياء الفنية ستكون قد أصبحت متقدماً في السن، ومن جيل آخر..."، وكان الشريط رائعاً بالطبع.
أعتقد بأن علاقتي ببعض ما يكتبه الشباب الآن تتمثل في ما يحقق ما حلمتُ به وما يشكل جديداً بالنسبة إلي، إذ لدي شعور بالصلة بأحدث الأصوات الأدبية كما لو أنها تحاورني في اللحظة الراهنة. تحاورني إبداعياً وتحقق معي تجلياً إبداعياً يضيف إلى تجربتي ويأخذني إلى ملامسة أفق جديد يغري بالذهاب الغامض دون تردد، كما لو أنني أكتب تجربتي الشعرية الأولى تواً. وأظن إن في هذا مظهراً من مظاهر الإثراء والغنى المتبادل بين التجارب، دون الإلتفات إلى فوارق سنوات العمر. (أوشكت أن أقول سنوات الجمر)، فالمبدع يزدهر أكثر بين مبدعين، لذلك يغمرني الفرح عندما أقرأ نصاً جديداً كتبه شخص آخر، وخصوصاً إذا كان شاباً.

حسونة المصباحي

وبماذا تفسر عزلة "القصيدة الجديدة" التي تبدو وكأنها عاجزة عن الوصول إلى الجمهور العريض؟

- لا أفهم مصطلح "الجمهور العريض" إذ عندما يتعلق الأمر بالثقافة والفكر والإبداع في الحياة العربية، لا نستطيع الزعم بأن ثمة جمهوراً عريضاً لمثل هذه المشاغل في سياق المجتمع العربي. ليس هناك جمهور للأدب مثلاً، وبالتالي كيف نتوقع أن يكون للشعر جمهور، ومن ثم للشعر الجديد جمهور.
هذه مبالغة محفوفة بالمخاطر وسوف ينتابني القلق كلما جرى الكلام على عواهنه في هذا الموضوع. ليس مسموحاً (لئلا أقول ليس ممكناً) للشعر أن يكون له جمهور. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفكر. والشعر الجديد هو (في جوهره الفعال) ضرب من الفكر. قل لي أية منظومة أو مؤسسة عربية ترى في الفكر قريناً طبيعيا للحياة اليومية ولأي مشروع تنموي يتصل بالإنسان في حياتنا؟
العجز ليس في الشعر يا صديقي، العجز (عربياً) دائماً يكمن في المكان الآخر الذي يجري السكوت عنه والسكوت عليه. ولا يجوز أن نشارك الآخرين في تحميل مسؤولية واقع أو مستقبل حياتنا للشعراء والمبدعين الذين حرموا طوال التاريخ الحديث من المشاركة في صنع هذا الواقع أو المشاركة في مساءلة الأوهام العربية في الذهاب إلى المستقبل، وهو ذهاب متعثر على كل حال.

حسونة المصباحي

البعض يقول بأن قصيدة النثر سمحت لسهولتها لمن هبّ ودبّ بادعاء كتابة الشعر. كيف تنظر إلى هذه المسألة؟

كيف يمكننا أن نتفق على طرح سؤال كهذا بعد تجربة كثيفة عمرها أكثر من خمسين عاماً (عربيا) وما لا يقاس من النصوص المهمة أنجزها عدد كبير من الشعراء الموهوبين وهي الآن في مصاف أجمل الشعر في العالم. أقول كيف نقبل الإصغاء إلى هذا السؤال وهو يحجب هذه التجربة الغنية والمتنوعة ليشير إلى ظواهر هامشية تكرسها وسائل إعلام جاهلة أو متجاهلة ليدلل على أن ثمة أشخاصاً من فاقدي الموهبة يحاولون أن يكتبوا الشعر بلا جدوى. ترى ألا يحدث مثل هذا في كل مراحل التاريخ وفي كل أنحاء الجغرافيا؟

نوري الجراح

هناك جدل لا ينقطع حول الحداثة، ما هو مفهومك لها، وهل من إمكان لتحقيق حداثة أدبية بمعزل عن تحديث المجتمع ككل؟

- من النادر أن أتكلم عن المصطلحات المطلقة، ومن بينها مصطلح "الحداثة". ليس بسبب التباسها العربي فحسب، ولكن لأنني حقاً انشغلت مبكراً، في تجربتي الشخصية، بالبعد الاجتماعي لهذا المفهوم. وأجد نفسي منسجماً في ممارستي لهذه الرؤية، أكثر من الكلام عنها. والحداثة الشعرية عندي أحد عناصر هذه الرؤية. وكون المجتمع العربي بعيداً عن الحداثة، يعني أننا، حقاً، في حاجة خطيرة إلى أن نرى الصعوبات في حجمها الحقيقي. الفن لا ينتظر حداثة العالم، لكي يصبح حديثاً بعد ذلك. وما دمنا مأخوذين بتقدم حياتنا ومجتمعنا، فإن هذا يكفي، وخصوصاً أن الشاعر ليس مسؤولاً عن كل شيء في هذا الكوكب، ينبغي أن نترك للعلماء وغيرهم أن ينهضوا بعبئهم.

نوري الجراح

هل يمكننا ملاحظة أسس وتقاليد استجدت لقصيدة النثر من خلال إسهامك وإسهام زملائك في كتابتها؟

- القصيدة العربية الآن، ومنذ خروجها على التقنية الجاهزة، أصبحت ذات طبيعة شخصية إلى حد بعيد. التقنية صارت شخصية أيضاً. ومن هنا تأتي خطورة التجربة الجديدة. لا شيء يسعف التجربة إذا لم يكن الشاعر ممتلكاً لطاقته الإبداعية المميزة. عليه أن يبتكر شكلاً ورؤية فنية وطريقة تعبير مع كل نص، دون أن يتنازل عن جماليات الشعر. ليس هناك قانون سابق سوى شعرية الكتابة، وإذا أردنا وضوحاً أكثر لتجربة القصيدة الجديدة علينا أن نمنحها الوقت الكافي. ثلاثون أو عشرون عاماً، مدة غير كافية كي ينتقل التعبير الشعري من تاريخ إلى آخر. ثم إننا، في مثل هذه الظروف والملابسات والارتباكات التي نعيشها لا نقدر أن ننجز شيئاً واضحاً، مكتملاً، أو نزعم ذلك. إننا جميعاً، بلا مكابرة، نعيش مرحلة بحث فحسب، وعلى أهمية هذا البحث، القادمون أجدر منا بصياغة المستقبل الشعري. فنحن لم نزل في رماد ساخن إذا هيأنا للضوء، الشتاء المقبل سيكون عامراً بفاكهة ناضجة.

نوري الجراح

هناك من استعمل تعبير قصيدة النثر لطردها من فضاء الشعر، هل تعتبر هذا الاسم مناسباً لهذه القصيدة، أو انك تقترح اسماً آخر لها؟

- بدوري أتساءل لماذا هذا الهيام كله بالمصطلحات؟ ثم لماذا نبحث عن مصطلح لتسمية الشيء الذي يملك اسمه وطبيعته في آن، ألسنا بصدد الشعر؟ لماذا لا نسمي الأشياء بأسمائها؟ إننا نكتب شعراً، ويجب أن نسميه باسمه: شعر، شعر فقط. أولاً: "قصيدة النثر" اصطلاح مضطرب، منحنا مزيداً من الالتباس والإرباك على صعيد الشاعر والناقد والقارئ. وينبغي أن نكف عن تداوله لأنه لم يعد يعني شيئاً على صعيد التجربة الشعرية العربية الراهنة. وثانياً: "قصيدة اللاإيقاع"، تعبير لا يعني شيئاً يتصل بالشعر، إذ ليس هناك، حقيقةً، شعر بلا إيقاع. الموسيقى هي السر الغامض الخالد في الشعر، وإلا فإننا لن نستطيع التفريق بين المشي والرقص. في تقديري، إن من الخطورة تكريس القول باللاموسيقية في الكتابة الشعرية. وأظن أننا كنا ضحية الوهم الذي أشاعه اصطلاح "قصيدة النثر" منذ البداية، حيث ذهبنا إلى (النثر) في المصطلح، وتركنا القصيدة. ورأيي انه لابد من التشبث بكلمة "شعر"، بالقصيدة، فهذا هو كل شيء. وما دمنا نكتب شعراً، لماذا نبحث له عن إسم آخر، وخصوصاً أن كل إسم آخر لا يقدر أن يمنح صفة الشعرية التي تمنحها كلمة "شعر".

نوري الجراح

- هل تعتبر أن لقصيدة النثر قراءها. ثم كيف تتحدد العلاقة بين شاعر هذه القصيدة وقارئها؟

- كل كتابة لها قراؤها. قَـلّوا أم كثروا، إنهم قراء على كل حال. وعلاقتي بالقارئ علاقة تتميز بالشغف المتبادل. كأنني أعرفه شخصياً، كأنه يعرفني شخصياً. ليس له سلطة عليّ لحظة الكتابة، لكن رعدة الفرح تغمرني كلما شعرتُ برغبة الحوار تنتابه وهو يضع أصابعه على مقتلٍ في النص. فمشكلتي ليست مع القارئ، مشكلتي مع الكتابة.

نوري الجراح

ما الذي يحكم، في رأيك، غياب حركة نقد عربي تجاور الشعر في أطواره التجديدية ومحصلاتها الراهنة؟

- من يريد حركة نقد شعري بالمفهوم التقليدي، الذي استمر حتى حركة الشعر الحديث، لن يجد. أما النقد الشعري الجديد، فإنني أعتقد بأن الأمر يحتاج إلى بعض التأمل. بصعوبة يتكوّن الآن نقد يتفهم التجربة الشعرية الجديدة. لكن هذا يحتاج إلى بعض الوقت. النقد السابق كان يُكتب للقارئ فقط. بعض النقد الجديد أصبح يُكتب للشاعر فقط. وهذه هي الإشكالية التي علينا جميعاً أن نعالجها. لابد أن نعيد القارئ طرفاً ثالثاً في العملية النقدية.
وإذا كان البعض يتحدث عن حركة نقد قصيدة النثر (مع التحفظ على المصطلح) اعتقد أنها حركة لم تتشكل ملامحها الأساسية بعد، وقد تكون ثمة دراسات وكتابات نقدية جادة إلا أنها شحيحة ولا ترقى إلى مستوى تسميتها حركة.
أقترح دائما أن نقول الشعر فحسب، حتى وان قصدنا بالنقد حركة الهجوم العشوائي، على الشكل نفسه لا مضمونه، فهي مجرد حروب كلامية ومقالاتية بحيث تتشكل لأنصار العمود عصبة، ومثلها لأنصار قصيدة النثر ويتبادل الطرفان نبذ كل ما يكتبه الطرف الآخر، فيتهم الأول كتاب قصيدة النثر بالشذوذ فيما يُتهم أصحاب العمود بالرجعية، وهذا موجود في الوطن العربي كله، ومعظمه يتضمن ادعاءات خارج الشعر. الشاعر الحقيقي مع الشعر حيثما وجد، فهو باحث عن وردة الإبداع كلمسة إنسانية نوعية في أي شكل كان من أشكال التعبير. ثمة أسماء بارزة وتجارب نقدية حقيقية قادمة بضوئها الخاص.

محمد البنكي

- على ضوء هذا كيف تلقى قاسم حداد قراءات الآخرين لنصوصه سواء أكان ذلك من ناحية نقدية أم إبداعية؟ بمعنى كيف تقيم تلك القراءات في اقترابها من نصك روحاً وجوهراً؟

- أعتقد بأن القراءات سواء أكانت نقدية أم إبداعية قد وقعت تحت طائلة هذا المحذور بشكل من الإشكال، منذ بدايات المرحلة السبعينية وحتى الثمانينات، فعندما أقرأ نصاً نقدياً أو مقالة ما يتكئ فيها الكاتب على السيرة الذاتية والتاريخ الشخصي والموقف الإيديولوجي أشعر بأن ثمة مشكلا منذ اللحظة الأولى، فالكاتب قد وضع حجاباً متيناً أمام نفسه يحول دون الوصول إلى النص. يمكن أن تكون تجربة السيرة الذاتية السابقة أو جوهرها قد ساهمت في تأسيس هذا المنظور، لكنني كنت أحاول بقدر ما استطعت أن أتفادى هذا المأزق باقتراح نصوص على القراء والنقاد أيضاً، إما أن تكون تعالج هذا القلق بشكل واضح وإما أنها تطرح تجربة فنية يجب أن يجري التعامل معها كنص إبداعي بمعزل عن السيرة الشخصية. وللأسف لأن ذلك الأمر قد حدث متأخراً، فبدأت كثير من القراءات تتحرر من التاريخ الشخصي ومن الجانب السيري والمتخيل الجاهز عن تاريخ الشاعر، وكذلك تحررت من الشرط الأيديولوجي الذي وقعت فيه الثقافة العربية بشكل عام، وهذا أحد الجوانب التي كنت دائما أعمل على تفاديها. كنت طوال الوقت أتفادى اللقاءات والندوات التي تركز على تجربتي السياسية وأرفض أن تكون موضوعاً محورياً، إلا في بعض الحوارات التي تكون طبيعتها تستدعي الكلام عن السيرة الشخصية، لكنني كنت حذرا طوال الوقت رغبة مني في إبعاد القارئ والناقد كذلك عن الاعتقاد بأن هذا هو الموضوع الأساسي أو أن يكون ذلك بمثابة فعل ترويجي للنص. وأعتقد بأن السيرة الذاتية للمبدع أو الشاعر أو الفنان يجب ألا تكون وسيلة لتبرير النص فنياً أو ترويجه إعلاميا، كما يجب أن يكون النص الإبداعي على درجة من القوة التي تقنع القارئ بأنه إبداع من دون أن يتوسل الخطاب السياسي أو السيرة. ومن خلال حديث الشباب أجد بأن المشكلة ليست مقصورة على الشاعر فقط بل هي تطال القارئ أيضاً وحتى الأجيال التي ستأتي بعد الشاعر ستواجه هذه المشكلة، فثمة قطاع كبير سواء في الأوساط السياسية أو الحزبية أو الطلابية متحمس لقاسم حداد بوصفه مناضلا وأظن أن الكثير منهم لم يقرأ لقاسم شيئا، وهذا هو الشيء المقلق الذي أعتقد بأن على الجيل،¬ وهذا واضح من كلام الشباب، مواجهة ذلك الأمر بشكل صريح وطرح تجاربه بشكل إبداعي، إذ من المؤسف أن تجد بعضا من التجارب الحالية تتعرض لتكرار المشكلة نفسها وإن بدرجات مختلفة، وخصوصاً في ظلّ الزخم الإعلامي والسياسي المسيطر، وهذا يشكّل خطرا يجب تفاديه بحيث لا يوضع الشرط الفكري أو الإيديولوجي أو السياسي كشرط للنص.

عبد الله خليفة

بعد تجربة غزيرة من الإنتاج الأدبي والفكري، كيف ترى علاقات وسائل الإتصال والنقد والقراء تجاه تجربتك؟

- أولاً، لم أكن يوماً منشغلاً برغبة انتشار جماهيري بالمعنى الشائع للمسألة، فالكتابة بالنسبة إلي شأن خاص يتوجب على الكاتب أن يحسنه. أما العمل الثقافي فهو شأن آخر يأتي فيما بعد، وهو عمل جماعي متفاوت الأهمية والفعالية ومرهون بالظروف المحيطة، وهو لا يعنيني شخصياً إلا في حدود. من هنا أعتقد أن ثمة قرّاءاً يتواصلون (بدرجات مختلفة) مع ما أكتب، ولا يقلقني أنهم يشكّلون دائرة محدودة، فهذا هو واقع الحال في كل مكان عندما يتعلق الأمر بالأدب وبنسبة قرائه.
ثانياً، لن يستطيع الكاتب الإحاطة بالأعمال النقدية كافةً التي تتناول إنتاجه. وما عرفتُ عنه من كتابات نقدية تناولت إنتاجي، أشبع جانباً روحياً يحتاج إليه الكاتب عموماً. ومعظم هذا النقد كان بمثابة الحوار الواعي لجوهر الكتابة الشعرية التي انشغلتُ بها في سياق تجربتي الأدبية.
ثالثاً، وسائل الإتصال بوصفها إعلاماً لم تستهوني اطلاقاً، ولي موقف سلبي تجاه هذه الوسائل، ولذا غالباً ما أكون قلقاً تجاهها. وأجدني لا أميل إلى المقابلات في تلك الوسائل، ربما لأنني لا أشعر بالحرية عندما أتحدث معها أو من خلالها، وهذا يوقعني في كثير من الحرج بسبب هذا الموقف السلبي. لدي شعور، يتأكد دوماً، بأن وسائل الإتصال (بمفهوم الإعلام العربي ونظرته إلى الثقافة والأدب) ربما أدّت إلى الإضرار بالأديب أو الإساءة إليه أحياناً، حتى وإن لم تكن هناك نوايا بذلك. وهذا تحديداً ما يجعلني في منأى من هذه الملابسات.

عبد اللطيف الجعفري

صدر لك بمعية محمد بنيس وأدونيس وأمين صالح مجموعة من البيانات كلحظات إنسانية وجمالية للحوار بينكم، الآن لم تعد هناك بيانات. هل انتهى عهد البيانات؟ وهل هناك شكل من أشكال التحاور بينكم حاليا؟ وعلى أي مستوى؟

- لكل نص من نصوص تلك البيانات لحظات مختلفة ومتفاوتة في الطبيعة والتجربة، وإن كانت جميعها تصدر عن رغبة في التعبير عن رؤية لمفهوم الكتابة والحياة معا. وعندما برقت فكرة إصدار البيانات في كتاب كانت الفكرة في حد ذاتها تشي بذلك التبلور العميق الذي صقلته تجربة شاملة هيأت للحظة حميمة لخلق مناخ نصي مشترك من شأنه أن يشير إلى الحوار العميق بين تلك التجارب التي تأتي من مسافات مختلفة زمنياً ورؤيوياً، غير أنها تمتزج معاً في روح واحد يتصل بالمستقبل بوصفه الحلم الغامض الذي يذهب إليه الشاعر والمبدع.
إذا رأينا في رفقة تلك البيانات حواراً إبداعياً وإنسانياً معاً، فإن مشروع ذلك الإصدار قد اتصل ببعد مهم من أبعاد الكتابة في حياتنا. والقول الآن بأنه لم تعد هناك بيانات، فربما يمكن النظر إلى مفهوم (البيان) باعتباره شكلاً من أشكال البوح النظري في شكل حوار شعري (والعكس يمكن أن يكون صحيحاً أحيانا). فمن المحتمل أن تكون ثمة أشكال مختلفة وجديدة من الكتابة يمكن أن تعبر (بيانياً) بصورة أو بأخرى عما يريده الشاعر في هذه المرحلة، وخصوصاً أننا قد اتفقنا منذ تلك البيانات أنه علينا أن نواصل إعادة النظر في الرؤية وفي النص أيضاً.

عبد اللطيف الجعفري

في بيان من بين تلك البيانات قلتم "ينبغي إعادة النظر في هذه الرؤية". ما الذي تغير في رؤيتكم إلى الكتابة الشعرية، منذ صدور البيان المذكور وحتى الآن؟

- ربما تكون أشياء كثيرة قد تغيرت على صعيد الحساسية التي تصقلها التجربة. ومن الممكن أيضاً أن ما تغير في رؤيتنا إلى الكتابة أكثر عمقاً (وحزناً أيضاً) مما يتوهم البعض أنه تغير في الحياة. المشكلة بالنسبة إلى الشاعر أن رؤيته (بوصفها ترى إلى الحياة في الجوهر) تظل متقدمة بصورة تجعل المشهد الراهن (واقعياً) من الفجيعة بحيث لا يمكن الركون إلى مشاريع تصديق ما يحدث باعتباره من نتائج الجهود الثقافية، وهي النظرة التي تريد دائماً وضع المبدع في مقام المهزوم والعاجز والفاشل، باعتباره صانع أحلام (لا أكثر). إنني لا أميل إلى قياس ما تغير في رؤية الشاعر نسبة إلى ما تغير في الواقع. فإذا قصر الواقع عن مجاراة أحلام الشاعر ومضاهاة رؤيته ، فهذا ليس خطيئة الشاعر ولكنه إصرار الواقع على الثبات في المكان محركا أطرافه في الهواء، متوهما أنه يتحرك.
لكن يمكن الكلام أيضاً عما يتغير في رؤيتنا إلى الكتابة عموماً والشعرية خصوصاً. ففي عالم شاسع يزخر بحركة باهرة في مجال وسائل الاتصال، لابد لنا من التأمل العميق لدراسة واستيعاب ما يحدث في عمق هذا المشهد الهائل. في اعتقادي أن ثمة انتقالة معرفية نوعية، على المبدع العربي دراساتها واستيعابها من أجل اقتحامها بأدوات الموهبة والوعي والمعرفة أيضا، ولا ينبغي أبدا محاولة تفادي ما يحدث في هذا المجال. فمن المؤكد أن الكتابة الأدبية لن تكون هي ذاتها في المستقبل. إن مثل هذه المسائل تستحوذ على اهتماماتي كثيراً.

أحمد خضر

هل تعتقد أن للشعر دوراً في اللحظة الراهنة؟

- لا أميل إلى الكتابة الفورية لأنني لا أصمد إنسانيا أمام مشهد شهيد يقتل أمامي، فما بالك بالنص الذي أكتبه. اعتقد أن الإبداع يأتي في مرحلة لاحقة لأنه ليس وسيلة إعلامية، ولست من المؤمنين بأن للشعر وظيفة تحريضية، لأن هناك آليات وأدوات تعبير مختلفة لإبداء الموقف والاستنكار وتصليب الذات. ربما يكون لدى بعض الشعراء، السليقة، والقدرة لأن يتفاعلوا ويكتبوا ولكن هذا ليس حكماً ولا شرطاً، ولا يشكّل إدانة أو تبجيلاً لموقف الشاعر مما يحدث. المسألة غالباً ما تكون نسبية، وهنا لابدّ من التأكيد على ضرورة عدم تجيير الإبداع أو توظيفه بشكل إعلامي، فما يحدث في فلسطين مثلاً من جرائم بشكل يومي هو شيء اكبر من الآن. إن الكتّاب ما زالوا يكتبون عن تجارب سابقة كما لو أنهم يكتبون الآن، أظن بأن اتصالنا المباشر بالأصدقاء والأهل بفلسطين هو ما يجعلني متوافقاً مع نفسي، لكنني سأكون قلقا جداً إذا كتبت نصا فقط لتلبية هذا الانفعال القوي، من دون أن يتوفر على شروط اقتناعي به فنياً. ولي تجربة شخصية من هذا النوع، فقد كتبت ديوانًا شعرياً كاملاً في مرحلة من مراحل حياتي ولكني لم أجرؤ على نشره فيما بعد. أظن أنّ علينا أن ندرك، دور الشعر والشاعر ونرى إليه بشكل مختلف، بعيداً من مبدأ رهن موقف الشاعر بمدى ابتعاد قصيدته أو اقترابها من المناخ العام. هذا أمر مجحف لأن الشعراء والأدباء والكتاب العرب هم جزء من هذه الأمة، ويتفاعلون مع قضاياها بطرق ووسائل تعبيرية مختلفة، وليست قصيدة الشاعر وحدها الدليل على مواقفه تجاه ما يجري.

سامر أبو هواش

قلت في حوار سابق إن النقاش حول شكل القصيدة لم يعد يعنيك كثيراً بمعنى الكلام على النثر والشعر وما إلى ذلك من تصنيفات، وقلت أيضاً إن الشعراء "كائنات لغوية". يتيح ذلك لنا التساؤل حول مفهوم الشعر اليوم ؟

- لست متيقناً تماماً، لكنني أرى الشعر إذا لم يكن طريقة حياة بالنسبة إلى الشاعر فهو عرضة للعطب والخسران والفضيحة أيضاً. لأنني كنت طوال الوقت، ومنذ أن بدأت علاقتي بالكتابة، أجد نفسي منسجماً مع قناعة كون الشعر هو حياتي الحميمة وطريقتي في النظر والعيش في هذا الكوكب. وليس من المتوقع أن افهم معنى أن يكتب الشاعر شيئاً ويرى شيئاً ويمارس شيئاً ويتخبط في أشياء أخرى. مثل هذه النقائض قد تكون لعبة الخارج، لكن هناك، في الأعماق أعتقد بضرورة وضوح وصراحة وصرامة الرؤية حد الدم.
من هنا أرى أن أساليب الكتابة الأدبية هي أرواح تكتسب طبيعتها من حواس الشخص وطاقته الغامضة في شحذ مخيلة اللغة. وهو ما أعنيه بأن الشعراء كائنات لغوية. أقول ذلك وأحب التأكيد عليه لكي ألفت إلى أهمية الجهر بحق المبالغة في العناية باللغة عندما يتعلق الأمر بالتعبير الأدبي. فليس من الحكمة الزعم بعدم الاكتراث أو التهوين أو لامبالاة الشاعر بلغته لئلا يبدو منصرفاً عن مضمون وموضوع النص منشغلاً باللغة. إنني أرى على العكس من ذلك، فإذا لم ينشغل ولم يعتن ولم يسهر الشاعر على لغة تعبيره فبأي شيء ينشغل إذاً؟ إن الانشغال الحميم والعشق العميق للغة هما مهمة الشاعر بالدرجة الأولى، وهما الشرط الذي من شأنه أن يميز شاعراً عن الآخر. أما الموضوعات والمضامين فهي التي لا ينبغي الاكتراث بها أو القلق بشأنها، لأن ذلك يحدث تلقائيا وعفويا وبفطرة الروح في جسد الشخص والنص، انه يحدث تماماً مثلما يحدث الحلم في النوم. لأن تجربة الإنسان هي بمثابة النسغ في الغصون والدم في الأوردة، من الطبيعي أن يتمثلها النص لحظة الكتابة. بل إنها شيء يتحقق دون أن يمكن تفاديه مهما زعم الزاعمون، انه شأن داخلي يحدث في الباطن، غير أن اللغة هي فقط ما يستدعي الاحتفاء والاهتمام والإخلاص والعشق لكي تمتزج بالروح الداخلي للشاعر.

هذا تحديداً ما يجعلني أفهم بأن الكلام ومواصلة الكلام عن التخوم المتوهمة بين الشعر والنثر وأشكال وأساليب التعبير هي ضرب من إهدار طاقة الشاعر في ما لا فائدة فيه لحظة الكتابة، دون أن يمنع هذا بالطبع انشغال النقاد في ما يذهبون إليه من اجتهادات، فهذا شأنهم دائماً، ومن غير الافتراض بأن الشاعر هو مساهم (نظري) ضروري في هذه العملية، أو التوهم بأنه سوف يكون قادراً على فهم وتفسير وتنظير كل ما يتعلق بالكتابة. أظن أن في هذا خطأ شائع يتوجب تفاديه. الشعر شيء والكلام عنه شيء آخر.

عبده وازن

هل في إمكان الشاعر اليوم أن يكون شاعراً فقط في زمن المادة والاستهلاك والعولمة؟ وبعبارة أخرى ماذا يعني لك الشعر؟

- الشاعر في كل مرحلة، هو كائن في لحظته التاريخية. بمعنى أنه إنسان يتصل بكل المعطيات المعرفية والسياسية والاجتماعية. يمكن أن تتفاوت درجة اتصال هذا الشاعر أو ذاك بهذه المعطيات، لكنه، حتى بغير وعي كامل منه، سيكون نتاجاً لهذه المعطيات ومتأثراً بها. الشاعر لا يتخلى عن شعريته فيما يتقاطع مع أشياء الحياة. انه يمنح شعريته هذه الأشياء، ويرتفع بها إلى مرتبة أكثر سموا وأعمق رؤية ويحافظ أثناء ذلك كله بالمعنى النقدي الجميل الذي يمثله الشاعر في الحياة الإنسانية، حيث الجنة هي في المكان الآخر الذي يتوجب أن تذهب إليه الإنسانية. والظواهر المستجدة مثل المجتمع الاستهلاكي أو مسألة العولمة لا ينبغي أن تخيف الشاعر أو ترهبه، على العكس الشاعر لا يخاف من أية سلطة، فلديه شروطه التي لا يتخلى عنها. وبالنسبة لي، الشعر هو المبرر الأخير المتبقي في حياتي، ربما لأن الشعر هو ما يجعل الحياة جديرة بالعيش ومحتملة.

جمال الغيطاني

هل تعتقد أن الشعر العربي يمر بأزمة؟

- بوصفه إبداعاً، ليس دقيقاً القول بأزمة في النص الشعري. ربما يجوز لنا الكلام عن أزمة في المفاهيم السائدة، وأعني المفاهيم الثقافية العربية عموماً. وهذا الأمر لا يقتصر على مفاهيمنا للشعرية المعاصرة، لكنه يتصل بالبناء المعرفي الشامل الذي ما أن تعرض للانهيارات حتى بدا كل شيء في أزمة. فنحن مثلاً لا نستطيع الزعم بأن ثمة مفهوماً عربياً متبلوراً لمعنى القومية والوحدة و الديمقراطية والحب والأخلاق والحق والحرية. كل هذه المفاهيم تتعرض للانهيارات الجذرية يوماً بعد يوم في تجربتنا العربية. وعندما انهارت البنى الأيديولوجية التي اطمأن لها العقل العربي طوال الوقت، استدار الجميع (عجزاً عن توصيف ما يحدث ومعالجته وتجاوزه) ليرى إلى أبسط الفعاليات الإنسانية (والأدب في المقدمة) باعتبارها سبب أو مصدر الأزمة التي يمكن طرح الفتاوى حولها دون ضوابط ودون الإحساس بأن الفن والإبداع ليسا مجالاً لممارسة الإسقاطات الأيديولوجية بعد فشل تلك الممارسات في مجالها.
لا أميل إلى الاطلاقات التي تضع النص الشعري في حقل معطيات الأزمة، فالمشكل لا يكمن في هذا النص، لكنه يكمن في أمكنة أخرى ربما لا يجد المواطن العربي الحرية الكاملة لأن يقول فيها ما يعتمل في النفس. وأزمة المفاهيم هذه صادرة عن التراث (القديم و الحديث) الذي ظل يرى في الشعر وظيفة لابد لها أن تكون واضحة المعالم باعتبارها أداة. والأداة هذه غير مسموح لها بحرية الفوضى التي يستدعيها فعل المخيلة. وهنا سوف يلتقي التراثيون مع الدغمائيين المعاصرين لكي نحصل على قدر كبير من التشوش والتشويش الذي يتعرض له الجيل الراهن ممن يتصلون بالكتابة الشعرية. فقد تسنى لمثل هذا التشويش أن يبتعد ويغيّب المعنى الأول والبسيط للشعر. ليس في الأمر ما يدعو للقلق في ما يتصل بالشعر بوصفه إبداعاً. لكن القلق ينتج عن هذا الغياب الواضح للقيم النقدية لمعنى الشعرية التي ينبغي أن تكون بسيطة للقارئ. وإذا ما توفرت للفعل الشعري الموهبة والمعرفة اللازمتين، لن يكون لدينا ما يقال له أزمة.

جمال الغيطاني

هل الحداثة مسؤولة عن الأزمة التي نشهدها الآن؟

- هذا السؤال معطوفاً على سابقه، يفترض جدلاً أن ثمة أزمة نختلف فقط في توصيفها. لا أرى الأمر بهذا الشكل، كما قلت. لكن القول بأن الحداثة هي سبب الأزمة، فهذا يشبه القول بأن أزمة المرور في مدينة تاريخية جميلة مثل القاهرة سببه ارتفاع عدد السيارات والتنوع الهائل في موديلاتها، وبعد قليل سوف نلقي اللوم على المترو (وهو اختراع صار تقليدياً في العالم) لأنه حتى الآن لم يحل أزمة مشكلة في القاهرة.
لا أدرك تماماً معنى القول بأن الجديد يمكن أن يكون سبباً في مشاكلنا، في حين أن الجديد في الحياة (على كافة الأصعدة) يأتي لكي يجعل حياتنا أكثر يسراً وجمالاً ومتعة. لكن ماذا نفعل إذا راح بعضنا يستخدم السيارة لكي يضاعف عدد نزلاء القصر العيني، أو يستعملها لاكتشاف كائنات قاع نهر النيل. أعني أن الأمر يعود إلى خلل في المفاهيم التي نتداولها في حياتنا. ففي الشعر، كما في الحياة، ليس على الإنسان إلا أن يعيشها، وبعد ذلك يكتشف قدرته على الاستمتاع بها. ترى هل نستطيع الزعم بأننا محدثون بالصورة التي نعلن عنها؟ فنحن مثلاً على يقين بأننا مسلمون، فإن تاريخاً شاسعاً كالذي عشناه يبدو كافياً لأن نتأكد من هذه الحقيقة. لكن من يزعم أننا ديمقراطيون ومتحررون كما ينبغي لأي إنسان في العالم؟
ترى هل الحق على الحرية؟ أم أن ثمة حقائق نعاني منها هي التي يتوجب مساءلتها مباشرة؟

اسكندر حبش

قيل الكثير منذ سنوات عن موت الشعر وما إلى هنالك من مقولات مشابهة، ومع ذلك نجد أن الشعراء يتكاثرون ويكتبون. كيف ينظر قاسم حداد إلى ذلك؟

- على قدر ما قرأت عن هذا الموضوع، فإنني لا أستطيع أن افهم كيف يمكن إطلاق هذا التعبير على عواهنه في حياتنا الإنسانية. ثمة مشكلة نتعرض لها في الثقافة العربية تتمثل في استعدادنا العارم في تداول المصطلحات دون التثبت من فهمها أو استيعابها والاتفاق على دلالاتها. سوف يكون هذا القلق أكثر تجلياً في حقل الكلام الأدبي، فما ان تفشى الكلام عن الحداثة على عواهنه، حتى تداعت الاجتهادات بلا هوادة في وضع نظرية "النهايات" موضع التنفيذ. ففي حين أصبح الكلام عن ما بعد الحداثة، (فيما نتعثر في القرن التاسع عشر) كلاماً مشاعاً، حتى بادر الكثيرون في وضع الشعر واللغة والأدب برمته، في مهب الهباء النهائي. فصار القول بموت الشعر موضوعاً ناجزاً يجري تداوله كما لو أنه حقيقة لا يأتيها الباطل من أي مكان ولا تحتاج سوى للتزكية من البعض. والغريب أنهم يريدون من الشعراء خصوصاً أن يصدقوا ويوافقوا على هذا الموت ثم يؤكدونه.
أظن أننا ضحية خلل في التقدير الإنساني لمعنى الشعر في الحياة ومسؤوليتنا الكونية هي في عدم ترويج الأوهام الشائعة، ثم التريث والاكتراث الرصين بالرغبة الحيوية التي تكتنز في تجارب الأجيال الجديدة من الشعراء. ها أنت تشير إلى تكاثر الذين يكتبون الشعر. علينا أن نتعود على تفهم النزوع العارم نحو الشعر لدى الأجيال الجديدة من العرب، فربما عندما نقدر على اكتناه هذه التجارب في جوهرها سوف نتمكن من وعي أهمية وضرورة الجواب الصارم على الكلام عن موت الشعر، كناية عن رغبة يائسة في موت أشياء الإنسان في حياتنا. أتمنى فقط أن نتميز برحابة الصدر ونحن نشهد الصعوبات الطبيعية التي تعيشها تحولات التجربة الشعرية العربية الجديدة. لكن عندما لا نستطيع قبول الكلام عن موت الشعر من جهة، لا ينبغي فهم ظاهرة الزخم الهائل في الأصوات الشعرية كما لو أنه جواب ناجز أو حكم قيمة نوعي على هذه التجارب. لابد أن نتعود على الإصغاء إلى من يطرح تجاربه الجديدة يوماً بعد يوم نافياً فكرة موت الشعر. ففي هذا الموت نفي خطير للحياة نفسها. وأتمنى على المعنيين بفعاليات الصحافة الأدبية والثقافية والناشطين فيها، من الشعراء خصوصاً، أن يعملوا على تخفيف غلواء مثل هذه الاطلاقات التي من شأنها أن تصرفنا عن تأمل الظواهر الشعرية الأكثر أهمية وجوهرية، وأقول أكثر اتصالاً بالشعر بوصفه نصوصاً وليس بتوهمه مزاعمَ وتجاربَ افتراضية فحسب.

سلام سرحان

كنت في قلب حركة التجريب طوال ما يزيد على ثلاثة عقود، اتسمت بسرعة هائلة في الانقلاب على الشكل والمضمون، الآن وبعد أن اكتسبت كل الأشكال والأساليب شرعيتها، إلى أين ستتجه القصيدة؟

- لا أكاد أدرك تماماً ما تعنيه بتعبير "تجريب"، فمصطلح التجريب، مثلاً، أصبح يشعرني بأننا داخل مختبر مقطوع عن الحياة الإنسانية، كما لو أننا نحاول إعادة الحياة إلى جثة ورثناها من أسلاف لم يحسنوا تقسيم التركة على أحفاد لا يفرطون في حريتهم إزاء الموت. ليس من الحكمة قبول مبدأ التجريب كما لو أنه مرحلة عابرة في حياة الشاعر لكي يختبر شكلاً ما أو أسلوباً محدداً لقدرته على معرفة درجة الحب في القلب.

سلام سرحان

وبعد إنجاز النص يجري قبول التجربة أو إلغاؤها. ترى هل يمكننا تصور مثل هذه العملية في الشعر؟

- القصيدة يا سيدي لن تذهب إلى مكان آخر غير المكان الذي يأخذها الإنسان إليه. القصيدة حرة بقدر حرية الشاعر. وكلما تحرر الشاعر من ربقة الأوهام المتداولة، والمتمثلة، معظمها، في وهم القطيعة مع التجربة السابقة والانقلاب على المنجز. ليكن معلوماً دائماً وخصوصاً للأجيال الجديدة، أننا لم نكن ننفي التجربة السابقة، قديمة أكانت أم حديثة، بل إننا كنا نعمل على إقناعها بحيوية حقنا في الأخذ والرفض والحوار والنقد والنقض والإضافة واقتراح خصوصية تجربتنا الجديدة، وكل هذه الملامح لا تعني بأي شكل من الأشكال نفياً لتلك التجارب أو إلغاءً لها أو القطيعة معها. فإن طبيعة أشياء الحياة تفرض كوننا جزءاً من سياق تاريخي وإبداعي وحضاري لما سبقنا، ومن لا يعترف بأساتذته ومعلميه لا يستطيع الزعم بأنه جاء من الهواء. القصيدة، هي إذاً، تأتي إلينا.

سلام سرحان

إسمح لي بذلك السؤال الأزلي: لماذا الشعر؟ حياتيا ووجوديا؟

الشعر، ببساطة العاشق، هو لكي أعرف أنني موجود في الحياة، أنني استحق ذلك بجدارة. وهذا لا يحدث إلا إذا نجحت في كتابة الشعر الجميل والجديد، وهذا لا يحدث كثيراً.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى