فتنة السؤال

فتنة السؤال

(لا تثقْ، واسأل الشكَّ، وامشِ على شوكِهِ)
قاسم حداد

تحرير: سيد محمود

 

أوركسترا

صبحي حديدي

في ضوء ما استجدّ، في النصف الثاني من القرن العشرين، على صعيد التنظير الأدبي، وصعود نظريات ومفاهيم لم تقطع بعمق مع التراثات النقدية الكلاسيكية حول التأليف والنصّ والمعنى واستجابة القارئ فحسب، بل ذهبت إلى حدّ التشكيك في هوية المؤلف ذاته، أو إعلان وفاته ونعيه ليس أقلّ (كما في نظرية "موت المؤلف" عند رولان بارت، وقبلها مفهوم "المواربة القصدية" عند و.ك. ويمزات ومونرو بيردسلي). ورغم التعديلات الجذرية التي أدخلتها سجالات أمثال ميشيل فوكو وإدوارد سعيد وجاك دريدا حول الأصول المعرفية للخطاب الأدبي، وصلاته الظاهرة والخفية بمختلف أنساق السلطة، فإنّ الارتياب في ما يقوله المؤلف عن التأليف ظلّ مكيناً، واستدعى ويستدعي سؤال المؤلف مباشرة، بصرف النظر عن المجازفة الكامنة موضوعياً في هذا التمثيل الذاتي للنصّ.
وهكذا، فإنّ الأصل في الحوار الأدبي، سيّما حين يتوفر له طرفا المعادلة السليمة: الأديب المثقف والمحاوِر العارف، أن يكون رافداً إضافياً في التغطية النقدية للنصّ، من جانب المؤلف هذه المرّة، وبعد التغطية التي تتراكم عبر استقبال القارئ ودراسة الناقد؛ وأن يقدّم، في الآن ذاته، ما يشبه الشهادة الشخصية عن ملابسات كتابة النصّ، وربما بعض الركائز القصدية وراء فعل الكتابة ذاتها.
وفي هذا الطراز، إذاً، يصعب ان ينقلب الحوار الأدبي إلى مجرّد استنطاق حاذق من جانب السائل، ومراوغة بارعة من جانب المجيب، لبلوغ سلسلة أغراض على الطرفين، متكاملة أو متعارضة، قد تتضمن تحصين النصّ وتحسين مزاياه، أو قد تستهدف النقيض تماماً، أي نيل السائل من النصّ ودفاع المجيب عنه. كما انحسرت كثيراً، لكي لا نقول انقرضت إجمالاً، تلك النزعة التلصّصية التي كانت تطبع الحوارات الأدبية، وكأنّ الأهداف الأولى الأبرز للحوار هي فضح أسرار النصّ وكشف سوأة الكتابة؛ أو تلك النزعة الاخرى الإستعراضية، التي لم تكن تكترث بأكثر من تلميع اسم الأديب على غرار نجوم المجتمع مثلاً، وترويج الأدب بوصفه سلعة ومادّة استهلاك.
ومنذ خمسينيات القرن الماضي، حين صار الحوار الأدبي نوعاً مستقلاً من التأليف، لازماً بصفة عامة وضرورياً تماماً في حالات محددة، لم يعد ما يقوله الأديب عن نصوصه وكتاباته ومقاصده محض محادثة بسيطة، بل أصبح فضاء للأداء الإبداعي والنقدي على حدّ سواء، وميداناً يتيح للمؤلف ـ خلال زمن الحوار، على الأقلّ ـ أن يكون قائد أوركسترا لذاته، بذاته. هذا، في يقيني، ما يؤديه قاسم حداد على امتداد حوارات الصفحات التالية، بعَوْن من محاورين ذوي مراس في معرفة الأوركسترا، وأفضل طرائق الإنصات إليها؛ وتحرير ذكيّ من سيّد محمود، أحد أفضل محرّري الصحافة الثقافية في العالم العربي.
والحال أننا أمام كتاب حوارات فريد في التركيب، لأربعة أسباب جوهرية، بين أخرى ليست أقلّ أهمية:

  1. أنّ صيغة الكتاب لا تقوم على تجميع عدد من الحوارات مع المؤلف، أجراها محاوِر واحد؛ أو على سلسلة حوارات معه، بتوقيع عدد من المحاورين؛ بل هو ببساطة أقرب إلى حوار داخل الحوار، يضيء مفهوم الحوار في حدّ ذاته، بقدر ما يدير حوارات (متبادلة، وليست البتة في صيغة سائل/مجيب فقط) بين قاسم حداد ومحاوريه.
  2. مادّة الكتاب تعتمد، بالتالي، على انتخاب بالغ الدقة، وعالي الحساسية، لعدد من الأسئلة التي جاءت في حوارات، متغايرة السياقات متباينة الأمكنة والأزمنة، جرى انتقاؤها وتبويبها في فصول مرنة الموضوعات عريضة النطاق، ضمن منهجية تكاملية تضفي على تعدّد أصواتها تناغماً أوركسترالياً رفيعاً.
  3. هذه التعددية في أصوات محاوِري قاسم حدّاد لا تقتصر على تباينهم في الرأي وتغاير اهتماماتهم وأولويات ما يبحثون عنه عند الشاعر فحسب، بل هم يتعددون أيضاً على أسس وظيفية تخصّ موقع كلّ منهم في سيرورة التأليف والكتابة: منهم الشاعر والروائي، وبينهم الباحث، وفيهم المفكّر، فضلاً عن الصحافي. وليس هذا بالتفصيل العابر إذا تفحّص المرء، بانتباه أكبر، مدى ما يدخله موقع السائل من خصوصية على السؤال، وفي متابعة تفريعات السؤال على نحو خاصّ.
  4. قد تبدو الفصول وكأنها، للوهلة الأولى، تفصل بين موضوعة وأخرى وتصنّف الأسئلة في نوع من التقسيم أو الأقسام. لكنّ الحال ليست هكذا، لأنّ الفصل الأوّل مثلاً، المعنون " موسيقى الحديد الحزين"، يحتوي أسئلة حول القضايا التالية: النصّ، الكتابة والحياة، الشكّ، ولادة القصيدة، البحث عن الوثوق، العمر، تجربة السجن، اليوميّ واسطرة الواقع، حضور الوعي، العاطفة، العقل، لحظة الكتابة، الغموض في القصيدة، الحدس والحلم، ضمائر النصّ، الموت، السيرة الذاتية، الدور الإجتماعي للكاتب، الشاعر والصحافة، علاقات النثر والشعر في الكتابة، التنظير للشعر، الهاجس القصصي، القلق والقلق المطمئن، العزلة...

وعلى امتداد هذه المنتخبات الحوارية، يظلّ قاسم حدّاد شاعراً أوّلاً وثانياً وعاشراً، قبل أن يبرهن على سويّة عالية من اليقظة والوعي والشجاعة وحسّ الإنشقاق والصراحة والوضوح، كما يظلّ في ممارسة هذه السجايا كلّها: متماسكاً في اليقين، عازفاً عن الإطلاق، متواضعاً في الجزم، بليغاً في الإفصاح، ونزيهاً في الكشف عن خبايا الكيمياء الشعرية التي يعتمدها في كتابة قصيدته.

* * * *

لكنّ قاسم حدّاد يظل، في البُعد الآخر الذي يخصّ طبائع القراءة، دائب التطلّع إلى القارئ في مختلف أنماطه وأنساق استقباله للنصّ. ومن جانبي أستطيع رصد خمسة من هذه الأنماط، إليها تتوجّه إجابات قاسم حداد دونما اصطفاء محدد أو ترجيح تمييزين وعلى شاكلة لا تقوم بما هو أقلّ من ترقية التناغم الأوركسترالي بين سؤال وآخر، قياساً على هذا أو ذاك من أنماط القراءة:

  1. هنالك "القارئ الفعلي"، أي ذاك الذي أمسك بين يديه واحداً، على الأقلّ، من أعمال قاسم حدّاد، وقرأه عن سابق تصميم، وليس مصادفة أو عشوائياً. وهذا قارىء يمارس فعل القراءة في صورته الأعمّ، والأكثر أهمية في الواقع، وإليه تتوجّه الأبحاث الميدانية التي تتناول علم اجتماع القراءة، وأبحاث السبر الميداني الأخرى. وبالنظر إلى التنوّع الهائل في ردود أفعاله على النصّ فإنه، للمفارقة، صيغة تجريدية رغم وجوده على نحو ملموس تماماً في الحياة اليومية، لا لاعتبار آخر سوى أنّ تعدّد ردود أفعاله يجعله خارج كلّ تأطير قياسي. بصدد هذا القارئ يتحدث قاسم حدّاد، مثلاً، عن "تشغيل المخيّلة على الجانبين: الكاتب والقارئ. وما ينتج عن ذلك فإنه يأتي في ما بعد. وعندما يتمكن الكاتب من إقناع القارئ بأنه إزاء نصّ قادر على النفاذ إلى النفس، فهذا جدير بالاهتمام. وخلال هذه العملية، سيكون علينا الإستعداد لإعادة النظر في كافة التسميات والمصطلحات المتداولة في التعامل مع الأشكال الفنية المتاحة".
  2. وهنالك "القارئ النَصّي"، الذي ينشدّ إلى ما تتابعه عيناه على الورق من كلمات وسطور ومعاني، ويسعى ما أمكن إلى استبعاد السياقات الخارجة على النص،ّ مثل المعلومات الببليوغرافية، والدلالات المباشرة أو الرمزية، وزمان ومكان وموقع النصّ. وهذا القارئ سوف يتابع (بعناية فائقة في الواقع) ما يوفّره النصّ ذاته من لغة وجماليات فنّية ومعانٍ وخصائص أسلوبية، وقد تعجبه البنية الإيقاعية في النصّ أكثر من بُنيته الدلالية، أو يستميله التواشج البارع بين المعنى والمبنى. لكنه ليس القارئ الذي يمكن أن يقبل بأيّ تفريعات سياسية أو رمزية مستمدّة (تعسّفاً، كما سيقول) ممّا تخلّفه التضمينات والرموز من أصداء دخيلة على النصّ (كما سيقول، أيضاً) ولكنها سوف تتردّد في بنية القارئ الشعورية والوجدانية والثقافية والتاريخية. وإلى هذا القارئ يقول قاسم حدّاد: "الحقّ أن إحساسي بما يكشفه النقاد والقراء من تجارب على صعيد النصّ هو إحساس المكتشف معهم، وبالرغم من كل الحوارات التي لا تكاد تهدأ مع الذات والعالم حول قضايا الفن والإبداع، فإن منجزات النصّ تحدث في غفلة مني شخصياً، ومن المؤكد أنّ أجمل تلك المنجزات هي التي أكتشفُها في ما بعد، وخصوصاً بمساعدة ما يُكتب عن كتابتي أو ما تكشفها القراءات المختلفة".
  3. و"القارئ المدرَّب"، وهو تعبير مستعار من الألسني الأمريكي نوام شومسكي، هو ذاك القادر على استخراج معنى النصّ، وإدراك علاقاته الداخلية (الدلالية والصرفية والبلاغية)، ونظامه العميق مثل بنيته السطحية، وأعرافه الكتابية (شعر، قصة، مقالة)، وما ترتّبه بالتالي من أعراف تأويلية. باختصار، هو قارىء قياسي أو يكاد، ولهذا فإنه يبدو أقرب إلى آلة تحليلية مبرمجة منه إلى كيان إنساني ذي أهواء ومواقف وانحيازات. غير أنّ إلمامه بجميع، أو معظم، أبعاد النصّ أمر قد يختلف تماماً عن تفاعله الإبداعي مع النصّ. "الشيء الوحيد الذي تمنيناه على القارئ هو أن يعيدَ النظر في كل ما ورد في النص (...) وأن يهدم النص بعد اكتماله"، يقول قاسم حداد وهو ضمناً يحثّ هذا النمط من القرّاء على اقتراح "تأثيث مخيلته النشيطة بأدوات القصيدة الافتراضية".
  4. وثمة "القارئ المُضمَر" وهو، حسب طائفة من نقّاد مدارس استجابة القارئ، ذلك القارئ الإفتراضي الذي يضمره الأديب، واعياً أو غير واعٍ، لأنّ المؤلّف يخلق في النصّ «صورة عن نفسه وصورة أخرى عن قارئه، كما يقول الناقد الأمريكي واين بوث. وهو «يصنع قارئه تماماً كما يصنع نفسه الثانية»، ويُفترض في هذا القارئ (المُفتَرض في الأساس) أن يكون على معرفة نقدية وجمالية بمقدار كبير من خصائص النصّ، خصوصاً تلك الخافية المعقدة. وليس مفاجئاً أن يعلن قاسم حدّاد أنه إنما يشرك هذا الطراز من القرّاء في واحدة من أرفع سجايا الشاعر، أيّ حسّ التمرّد: "ينبغي أن نُحْسن التعاطي مع مفهوم التمرد الذي لا ينبغي أن يتوقف عند المبدع. وعندما يتحول الإرث اللغوي والفني إلى حجاب يمنع رؤيتي الخاصة وبالتالي يمنع القارئ من التعرف إلى ما تشير إليه تجربتي المختلفة عن تجربة الجيل السابق ورؤاه، عندها لابدّ لي من وضع ذلك الإرث وتلك البلاغة في المكان الذي يليق بهما (تاريخياً)، وخلع القداسة عنهما، والالتفات الجادّ نحو ما يستجيب مع حساسيتي الجديدة".
  5. وأخيراً، هنالك "القارئ الأمثل"، الذي يستولي على معظم خصائص القارئ في الأنماط الأربعة السابقة، فضلاً عن كونه مجهّزاً على أحسن وجه لفكّ ألغاز النصوص، وعُدّته تتراوح بين المعرفة الواسعة، والقدرة على التذوّق، وتوفّر الحساسيات والإنحيازات، والخبرة الطويلة في استراتيجيات القراءة. هو، إذاً، حامل عبء مع المؤلف، أو أحد الوسطاء بين الكتابة والإستقبال، إلا إذا تضخم تفاعله مع النصّ فبلغ درجة الغطرسة والتعسف. ورغم أنّ قاسم حدّاد لا يشير مباشرة إلى هذا الطراز الأمثل من القراءة، فإنه يحتاط منه على نحو مبدئي صارم وشجاع، حين يتحدث عن "إرهاب القارئ"، وتلك "الجاهزيات" التي "يصدر عنها بعض القراء وهم يخضعون، في اتصالهم بالنصوص الجديدة، إلى قوانين قديمة تشكل، غالباً، نقيضاً لأدوات التعبير الجديدة". ويخصّ بالإشارة "المفاهيم السائدة في الثقافة العربية"، و"المنظورات النقدية التقليدية" التي "تجعل القارئ، بضغط من الناقد، يأتي إلى النص بقوالبَ مسبقة وأحكامٍ تكاد تكون حديدية لا يقبل الخروج عنها، وبالتالي يجد نفسه مؤهلاً (بدعم من نقدٍ قاسٍ) للحكم مسبقاً على التجارب الإبداعية الجديدة بأنها ليست أدباً ولا فناً. الإرهاب الذي نعنيه هنا هو ما يقع على القارئ ويخلعه القارئ بدوره على الكاتب".

* * * *

ما ينجزه هذا الكتاب كثير وغنيّ حول مفهوم الحوار بين طرفين عموماً، وما ينطوي عليه ذلك من ديناميات التقاء السائل بالمجيب والذات بالآخر، والحوار الأدبي بوصفه ممارسة من جانب الكاتب لمهنة الكتابة، وتحمّلاً لمسؤولياتها ولأعبائها. ولا تكاد فقرة في هذه الحوارات تخلو من مواجهة قاسم حدّاد لهذه أو تلك من القضايا التي تتطلّب رفع الصوت، واضحاً عالياً وصريحاً من جهة أولى، وصادقاً نزيهاً مبدئياً من جهة ثانية.
خذوا، مثلاً، ما يقوله حول مفهوم "خلجنة الثقافة"، الذي يقول بوجود ملامح خاصة للثقافة والأدب في الخليج: "أنا لستُ ضدّ المحلية أو الخصوصية، أو ضدّ أن تكون لكلّ منطقة وبيئة جغرافية ملامحها الخاصة. هذا شيءٌ متاحٌ، وليس مذموماً بالإطلاق، لكنني ضدّ توظيف هذه الأشياء توظيفاً سياسياً وتكريسها لأسباب ومصالح سياسية خصوصاً بعد إطلاق فكرة مجلس التعاون الخليجي ونهوض الأوهام السياسية والإقتصادية لمشاريع أعتقد أنها تهمل الجانب الإنساني والحقوق الإنسانية المشروعة في المنطقة وتركّز على صفات وخصائص تعزل منطقة الخليج عن غيرها من المناطق العربية. وأكثر من ذلك فإن البعض يبالغ ليس بوجود الأدب (الخليجي) وإنما بوجود الأدب الإماراتي والبحريني والكويتي... إلى آخره".
كذلك يرتقي مفهوم الحوار إلى ما هو أبعد، حتى إذا لم يكن دائماً أعمق، من شفرات النصّ الإبداعي وأسئلته. هنالك تفاصيل حول السياسة اليومية، وتجربة السجن، والمفاعيل المذهبية والطائفية، والسيرة الذاتية في جوانبها الإنسانية والشخصية الصرفة، وسيرة المكان (المحرق، خصوصاً) من خلال سيرة الكائن (ليس قاسم حدّاد وحده، بل أسرته وجيرانه ومعارفه)... وهاهو يستعيد، على نحو مؤثّر شفيف، تجربته الشخصية مع حركة القوميين العرب ("بعد نزع التطرف الشوفيني في سلوك بعض أوهامها"، كما يقول)، فيرى فيها "نوعاً من التاريخ العطر في تجربتي الإنسانية. لقد ولدتُ نضالياً في ذلك الأفق الحميم، وحتى بعد التحولات التنظيمية والسياسية التي خضتها مع الكثير من رفاق النضال، عبر الجبهات والحركات المتناسلة بعد حركة القوميين العرب، أجد نفسي إبن تلك الخليّة الصغيرة الحميمة في مدينة "المحرق" في ستينيات القرن الماضي. وأحتفظ بأجمل لحظاتي مع أصدقاء لم يكفّوا عن أن يكونوا أقران روحي الأوائل. وربما ليس ثمة "يسار" سيكون أجمل من يسارنا الستيني الذي كان متصلا بأبعد تجربة يسارية في العالم، من ثورة الطلاب في فرنسا، إلى الرفيق أرنستو تشي غيفارا في يومياته القتالية، إلى إشتراكيات أوروبا التي طرحت أسئلتها مبكراً على المنظومة الإشتراكية".
وأخيراً، تنجح هذه الحوارات في جعل محاوِر قاسم حدّاد، ومعه الشاعر نفسه مراراً، بمثابة قارئ من نوع خاص، ثنائي الشخصية على نحو ما، منخرط في حال نشطة من التداول والتباحث والتساؤل عن هذه التجربة الشعرية في مستوى أوّل، وعن قسط كبير من أسئلة المشهد الشعري العربي، وذلك بفضيلة الموقع الخاص الذي تشغله تلك التجربة في المشهد بأسره أوّلاً، ثم في حركة الحداثة ثانياً وجوهرياً.
ويحلو لي أن أختم باستعادة فقرة من مادّة تشرّفت بكتابتها لتقديم أعمال قاسم حدّاد الشعرية، حول شخصية «طرفة بن الوردة» التي ابتكرها الشاعر لتكون اسمه الأدبي المستعار، أو قناعه الشعري الذي يتيح هامشاً تراجيدياً في التعليق على عذابات الشخصية الخليجية من داخل الموقف أو من خارجه، أو في منزلة مركّبة تجمع المنزلتَين معاً. وطرفة بن الوردة هذا كائن الفقد الإنساني، ورَجْع الرثاء، وقيثارة الشجن الروحي العميق؛ ولكنه، في الآن ذاته، بيان المقاومة الثقافية والجمالية والأخلاقية، وفنّانها الذي يحفر عميقاً في الجسد والروح.
وحين نتذكّر، كما يقتضي الإنصاف أن نفعل دائماً، حقيقة استقرار قاسم حدّاد في الوجدان الخليجي (المعاصر، والشابّ تحديداً) على هيئة ترتقي بصفة الشاعر التحديثي الرائد إلى صفة «العلامة» الثقافية المقاوِمة، فإننا عندئذ ندرك عمق الحَفْر الجمالي والمعرفي والسيكولوجي والسوسيولوجي الذي مثّلته تجربته الشعرية والسلوكية. وما امتلاك طرفة بن الوردة لتلك المساحة الكريمة من قرائن اللقاء بين الحريّة الفردية للفنّان والحريّة الجَمْعية للأمّة؛ وما تمثيله البارع لحالة التماهي الوثيق بين الفنّان والمعذّب والراثي والثائر، سوى خلاصة كبرى للموقع الفريد الذي شغله صانع القناع ـ قاسم حدّاد ـ في وجدان أهله: وجدان الكارثة مثل وجدان الأمل.

********

 

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى