نفتديك ببتولة عذراواتنا يا مهندس الكوارث المسائية
نرخي لك أعناقنا خاشعين وأنت ترشد سنابك الفتك
لئلا تخطىء أحلامنا صلينا لك صليناك
أوشكنا على التلاشي ننتظر قدومك، تهدهدنا بك أمهاتنا الحانيات لنغفو،
فلا تعرف عيوننا النوم ولا نهجع في مكان. نتوقع رنين أقدامك على جليد
الليل ذات شتاء، فقد قيل إن البرد أحلى المواسم، حيث تصاب دراعتك
بقشعريرة الماء كلما شاغبها المطر وطاردها الثلج. نتوزع في المنعطفات
وأبراج الوديان، نرصد قدومك عن كثبٍ، لندرك تأجج نار الأضاحي لحظة
نلمحك تلوح بالبيارق في الأفق. ساررنا أصدقاءنا قطاع الطرق وبعثنا
بهم كشافين يستظهرون أمامك السبل ليسبقوك بأخبار الغزو. لم يكن لنا
شأنٌ سوى إنتظارك، وكلما طال الوقت وتأخرت، ازددنا يقيناً بك، وأوشكنا
على هزيمة اليأس. لم نيأس لك، أرسلت إلينا الدليل والأدلاء يبشرون
بحتمك. لم نعرف عن وجودك، مجرد وجودك الغائب لغزٌ. توغلت في الخرافة
ولم نزل نتجرع يقين قدومك، نتمرن كل يومٍ على قرابيننا بين يديك آن
حضورك. نتخيل الحدث كأنه الآن، كأنه هنا. نتخيله ونؤدي الشعائر بالتفاصيل.
يتحسن أداؤنا. نصبح أكثر خبرةً وحماساً لاستقبالك. صار كل منا يتقن
واجبه في حضورك. نتخيلك، نحن الذين لم نرك ولا نعرف لك شكلاً ولا
هيئة. طاغياً تقبل من جهاتٍ لا صلة لها بهندسة الطبيعة. يتقدمك غيمٌ
كثيفٌ يشف، فيما تتقدم، ويفسح لمواقع خطواتك، لتبدو في كوكبةٍ من الملائك،
ترفل في جبةٍ وهبها لك الوجل ذات ليلٍ، لنتخبط في براثن الخجل. ترتعش
أطرافنا لفرط الذهول. نتهيأ ليومك، ونصاب بالبغت. مخلوقاتنا الصغيرة
مثل الأطفال، تهرع في أرجاء المدينة، تتدفق بألوانها الباهرة في اتجاه
موكبك لتبدو، وهي في زينة البهجة، كمن يسكب سلة الأزهار في الطرقات،
موسيقى تنبعث من المكامن الخفية مختلطةً بضحكاتٍ تشبه الأجراس. مواكب
الأطفال تتدافع، ينتظمها شغف اكتشاف القادم الغريب. وفي الشرفات المندلقة
من أردان المنازل مثل أثداءٍ مثقلةٍ بالنبيذ، تقف نساؤنا الوقورات
لابسات فساطينهن البيضاء برائحة زفافهن، يزين شعورهن بالورود الحمراء
فاضحة الدلالة، ويرشقن المارة بنثار الياسمين، تلك الزهور الثلجية
الصغيرة. ويصطف رجالنا على أكتاف الطرقات يتبادلون لذة ارتعاش العضلات
الحميمة وهي تفلت من الصبر. أجسادٌ في صلابة الثلج وضراوة العمل. آلاتٌ
تنحت الوقت والتغضنات. لم يبق موقعٌ إلا وسقطت عليه شظية بركانٍ
تحرسه يقظة الطين، يصهر العناصر الغامضة لحياة المدينة. تصطف الأجساد
مترنحةً بفعل النشوة. تتأرجح في تصديق ما يحدث وخلع آخر حالات الموت
الدائم. فقد قيل لهم، منذ الليل السابق، أنك في ظاهر النخل، تبدو بهالاتك
السديمية. فنفض كل منهم يده من طين الشغل، وتنادوا لطقوس إستقبالك.
أما أكثر شبابنا فتوةً وحماسةً، فسوف يخطف كل منهم صديقته المهتاجة
مندفعاً بها إلى الساحات الزاخرة بالصخب لتزداد صخباً، برقصٍ ينتخب
موسيقاه من الأقدام وهي تعصف بالأرض النائمة لتصحو ثم لا تعرف النوم.
ماعليك إلا أن تصل لترى مدينةً يتأجج فرحها. مدينةً سرعان ما تخرج
عن رزانتها لتصعد إلى شاهق الغيم، مثل امرأةٍ خارجةٍ من سريرٍ مشبوق.
لن ترى مدينةً مثلها. لقد درسنا التفاصيل كلها، حتى أن عدد المرات
التي ستقرع فيها الأجراس محسوبةٌ مثل ساعة القلب، تصحبها مآذنٌ تعلن
صلاة البهجة. وهي صلاةٌ لا يجوز فيها حزنٌ ولا كآبةٌ ولا خشوع، ولايتعب
عنها الجسد. عندها سوف ينسكب نهرٌ من شهوة الشعير، منساباً في شوارع
المدينة وأزقتها، متخللاً الأجساد الصاخبة، نهرٌ يفيض لتنتخبه الجموع
بأقداحٍ لا تكاد تترع حتى تفرغ. ومن يتخلف عن إنتخاب الماء الذهبي
سوف يرشه الآخرون لكي يغتسل ويتوهج. وما إن يتوسط موكبك ساحة المدينة
حتى تكون النشوة قد دفعت الناس إلى التهدج. ساعتها لن نعرف ما الذي
سيفعله هذا الإحتفال الفاتن. فهذه الساعة الفوضوية لن تكون تحت السيطرة.
سيجد الجميع فرصتهم لإطلاق مكبوت العمر. سينفجر الصبر الضاري الذي
صاغ في أذهان الناس صوراً لك لم يحتملها خيال البشر. وربما جاز للحب
أن يفتك بالعشيق والعاشق. ليصير الحلم أجمل أشكال القول. وماعليك إلا
أن تتهيأ لاحتمالاتٍ لا تحصى. فقد غبت طويلاً. تأخرت عن المواعيد كلها،
المواعيد التي كنت تزين بها رسلك وسعاتك، الذين سرعان ما يتحولون
إلى جندٍ مدججين ويمعنون في البطش. أما نحن الذين صدقنا بشاراتهم
وترغيبهم، وخضعنا لترهيبهم، نحن البشر العاديون، الخطاة الجناة، المنذورون
لتصديق ما لا يصدق وانتظار ما لا ينتظر، فلا جناح علينا إذا نحن أطلقنا
ذخيرتنا عليك دفعةً واحدة، مثل انتفاضة الأقاصي. نتمرغ في أجمل ذرواتنا
نشوةً بفضيحة حضورك، نبجلك للمرة الأخيرة، بفتكٍ يمحوك ويفدي بك المدينة.
مدينتنا المريضة بحبك. المدانة بوهم انتظارك، المشغوفة بفك طلاسمك
وقراءة زعفران محوك. مدينتنا الفخورة بأنها، من دون المدن ، التي ستنالك
وتنال منك .
|