قاسم حداد
الفهرس
- فصل الأناشيد
- دفتر خولة
- دفتر طرفة
- دفتر انساء
- فصل التحولات
- دفتر السجن
- دفتر قاسم
|
|
- كتاب الشعراء
- كتاب الشهادات
- دفتر الملك
- فصل الاشراقات
- كتاب البحر
- الأمثولة
- كتاب الجرَح والتعديل
|
***
اهداء
بقلبها الواهن، لفرط الحب، والمفعم بالحنان شاركتني هذه التجربة، الحياة والكتاب أضاءت الليل وصقلت النهار لتجعل هذا الحلم ممكناً وجميلا. إليها أهدي هذا الكتاب إلى أم طفول.
(فصل الأناشيد)
رَأيْتُ بَنِي غبْرَاءَ لا يُنْكِرُونَنِي
طرفة
باب الغرائز
أيقظْ غرائزك الغيومُ بعيدة، والرملُ أقسى من مزاجِ الموج والبحارة انقلبوا على ربانّهم عند ارتفاع المدّ، قلبك ضائعٌ أطلقْ غرائزك الخيامُ خديعةٌ، والشعر أن تهذي وتصقلَ سرجك، الأسفارُ بيتك والنبوءةُ أن ترى في الغيم خطوتك اندلاعاً نافراً والبحر أبعد ما يكون
لا تضع حجراً على رملٍ ولا تأمنْ مكاناً دَع لهم أن يفقدوكَ فأنت في تيه المهبّ مغامرٌ يهذي غرائزك الدليلُ اتركْ لهم حرية التأويل غيمك غامرٌ أطلقْ لجامك هائماًواسكنْ رحيلكَ لم تعد هذي الخيام خبيئة المذعور دعهم يسألونَ الماءواذهبْ نافراً أطلقْ غرائزك الغيومُ وحيدة والبحر يقرأ سرَّك المكنون، يكتبك الرحيل
***
البحر الطويل
قلبي على البحر الطويل شموخه في هودجٍ، ويموجُ أكثر خفةً من ريشة التذهيب يسري كالنبيذ ويصقل البلور وشمٌ في يدٍ، ورشاقةٌلغةٌ كأن الله صاغَ لشاعرٍ ماءً على البحر الطويل
عربٌ حُداةٌ يمدحون الإبلَ يحتكمون في الحانات ينتخبون بحراً ثالثاً لولا الفتى لولا تعفّفه وحكمته الكريمة وانتحارات الرواة لولا نحاةٌ ينحتون البحر لم نسمع نحيب رحيله السكران يذهب في الترنح في ثمالاتٍ مذهبةٍ على البحر الطويل
ثلاثةٌ في واحدٍ فعلٌ فعولٌ فاعلٌ والبحر أطول من رمادٍ باردٍ وأقلُّ من موتٍ كأن الله قال لشاعرٍ سراً على البحر الطويل إن شئتَ حـَنَّ الإبلُ أو أرخى رجالُ البحر تسعَ حناجرٍ في وردةِ الفولاذِ أكثر خفّة وأشدّ خوفاً من غبارٍ عاشقٍ إن شئتَ كل مجنحٍ بئرٌ وكل سفينةٍ بابٌ على البحر الطويل إن شئتَ هذا الرملُ حبرُ صحيفةٍ تُطوى لنا قبل الرحيل *
****
عفة الفيزياء
تضرعتُ للفيزياء، لأسمائها، وهي تهدي الخُطى في سديم النجوم كأن التخوم التي تفصل البيت عن آلهِ يا بلاد الغيوم اكسري سَيفَهم أيتها البدوية في الموج، في صمتها عن بلادٍ توزع أبناءها في الدماء تضرعتُ صُدّي عن القلب نيرانَهم يقتلون دمي يشهرون على الشعر ليلاً يموجُ، فينتابني
وارأفي أيتها الفيزياء قبيل انحسار المساء عفيفٌ هو الدمّ، هاتي، افتحي للنشيد الشريد انتماءاته .
***
نهاية الأرب
مثلَ صوتٍ جئتُ محمولاً على ليل المراثي أسبقُ الأخبار قرآنُ الغبار قرينتي والمعجزات صحيفةٌ تُتلى وكنتُ بداية القتلى
تداعتْ أمّةٌ، أرْخَتْ رباطَ خيولِها للرومِ غضَّتْ طرفها عن سيرة الأسرى وسَمَّتني شهيداً فائضاً رَجَعَتْ تَعدُّ المعجزات وتكشف الأسرار تمحوني لتنسى، أمةٌ ثكلى
هنا، في منحنى الأشياء، كنا في اندلاع البحر عند جزيرة العرب، فقدتُ أبي وكان قرينة أخرى على أسطورة الكذب، على أن الغبار حقيقة تخفي نصوص الموت في الكتب.
هنا، عبثاً نَرُدُّ الموتَ وهو ذريعةُ الأحياء مثل الماء، مثل بداية الصحراءوهي نهايةُ الأربِ .
***
آية الرمل
سميتُك الرملَ، وكنتُ أعرفك حبةً حبة أكاد أحصيك وأميزك في التراب فالرمل يصغي ويحنو نعومة تشفّ عن زجاج وشيك أقداح قديمة تفيض بالخمرة الجديدة وكنت إذا اختلجت ريحٌ سمعتُ انثيالك، وتحسستُ وقعك الهش فوق الخباء وقع حباتك المضطربات مثل حفيف الفَراش ينزل على درج وكنت إذا وضعت قدميّ العاريتين في ليلِك سَرَتْ برودتك الطريّة في العظم المتعب واعتراني غيمٌ غامضٌ كلما سمعت برقاً ينادي شعرتُ بعطشك ساعة الظهيرة، وهرعت أتضرع إلى السماء أن تسكب مطرها موجةً موجةً تبلّ نسغك وترويك. أجلس، أصغي لنشيش حباتك وهي تسكر، فإذا ما انتابك غضبٌ وجلدت الصحراء بالغبار، شرّعتُ مسامّي كاملة لكي أتنفسك مثل طفل يكتشف الحلمة والثدي وحنان الصدر وأُمَّاً شاهقة في الأناشيد
لن تصدق ما يحدث لي وأنا أحدق في سرابك برقٌ مثل امرأة توقظ الآلهة لكي ترأف بالأرض التراب لا يفعل ذلك أسميك الرمل وأعرف أنك لستَ رملاً .
***
رداء الرعشة
1
ابسطْ رداءكَ
هؤلاء تهيأوا، بدأوا مديحك، ربما سمّوك يوماً نرجساً في الماء شَقُّوا نزهةً في وحدة الصحراء وانثالوا طرائدَ مسرعاتٍ خلف ظلك دَع رداءك وارتعشْ تسمعْ زفيرَ النرجس المغرور يتلو في قميصك آية تنسى، كأنك خارج التقويم
أبسطْ للصعاليك الفضاءَ
الوحشُ يستهدي بهم وازجرْ ضحاياهم يوارون الفضيحة تبدأ الفوضى وهم يحصون أخطاء الطبيعة تسعةٌ في منحنى النيران خمسةُ ضائعين ثلاث طفلات سقطنَ من الهوادج وهي تلهج بالرحيل أبسطْ رداءك في ضياعهم الطويل
2
نسوةٌ يمدحنَ جرحك
أنت في مرمى انتخاب قلوبهنَّ قميصك المقدود من قُبُلٍ لهنَ شجاعةٌ في قلب منتحرٍ كأنَ مديحك الباقي نجاةٌ من فرارٍ مستمرٍ
دَعْ رداءك هؤلاء يرين فيك سبيلهنَّ ارأفْ بهنَّ إفتح قميصك مثل خيمة فارسٍ مستغرقٍ في الفقد إمنح هؤلاء ذريعةً أو جوقةً حَرِّرْ قميصكَ، تصرخ المستذئبات إفتحْ لنا جرحاً جديداً في عذابك
*** قبل الحبّ
لا تمتْ قبل اندلاع الحب في قلب الجزيرة
لا تغادر هذه الغابات قبلَ النار إن كانت قصيدتُك انتهتْ في وقتها، فاتركْ لها أحلامَها واتركْ لنا وقتاً لنقرأها
قصيدتـُك انتهتْ ؟ فلتبدأ النيرانُ في قمصاننا وعليكَ أن تصغي لنا قبل الرحيل سيبدأ الجرحى وجمرُ النوم والجغرافيا تبقى لتحرس صبرنا جرحُ الجزيرة وانجرافٌ جامحٌ والخوفُ في أخبارنا فانظر إلينا نحن في الأسرى فإنْ سافرتَ أو أهملتنا متنا انتحاراً فاكترثْ نصحو قليلاً لا تمتْ قبل اندلاع الحب .
*** نخب خولة
سهرتي كأسان
واحدةٌ لـخولة وهي تفتح نجمةً في خيمة النسيان، كي تمحو دماً وتغضّ طرفاً عن بكاء قصيدتي يدُها النحيلة نجمةٌ في الليلفي نهر الزجاج مزيجُها عطرُ البَهار وجنةُ الرمان تحرسُ عرسها غنوا لخولة في هزيع الليل لي كأسان كأسٌ فَصُّها في خاتم التيجان، تشفي علة في القلب والأخرى لموتٍ كامنٍ في الحان أو في دفتر السجان ***
يقظة المعنى
أيقظْ حصانك واستعنْ بالناي
رحلتك انتهتْ فابدأ بكأسك ريثما يرويك غيمٌ غامضٌ أيقظْ حصانكنخبك التالي رؤىً وشقائق النعمان تِسعُ ممالكٍ، ومدائنٌ تسعى برمتها لصَلبكَ قبل صوت الطير أيقظْ سرجك الملكيّ هذا الغيم بحرٌ من مجاز المكر في باب الغموض أيقظْ حصانك وانهرْ المعنى قصيدتك الطويلة أقصرُ الخطوات نحو الموتلا تغفلْ لديهم ما يشفُّ عن القرائن وامتحانُك في كتاب الطيش يكفي لاستثارتهم طريقك تنتهي فلتبتكر سفراً، لتستثني الممالك حيث يحتربون فلتوقظ حصانك ولتدع للناي أجنحة الغناء غموضَ موسيقاك إيقاع التهدج واحتمال الفقد دَع للناي أن يرقى بأحلام البراق ودَع لهم يتوهمون الصلبَ والفتوى لتصعدَ في قصيدتك الأخيرة بارئاً أيقظْ حصانكواستعنْ بالناي *** سؤال الموت
إذا متنا معاًمات الخزامى في تعرِّيهِ وغطتنا الرمالُ
إذا متناانتهى سيلُ الجنائز عن غناءٍ صاخبٍ وانهالَ إيقاعٌ وصاح النعشُ فينا يا شمالُ إذا متنا معاً ماذا سيبقى للقبائل كي تباهي في انتصاف الليل ما المعنى الذي تحظى به الأشعارُ إن طُرحَ السؤالُ
إذا متنا استحالَ رحيلُهم سفراً بلا ماءٍ ولا عشبٍ إذا متنا إذن فليسقط الندماءُ في ندمٍ وتُكسرْ أجملُ الأقداح لا خمرٌ غداً يجري ولا أسطورةٌ إلا محالُ سنبقى وحدنا في الموت لا تفتح لمن يأتي إلينا وحدنا متنا معاً كي ننقذ القتلى وكي تسعى إلى الماء الرجالُ معاً في الموتتلك حياتنا وشمٌ وفقدٌ غادرٌمثل انتحارات مؤجلةٍ إذا متنا معاً متنا لنا شعرٌ يؤلفه
ويمحوه الخيالُ *** كأس شقراء
كأسك شقراء، وجندك يقسون عليّ
كأسك تصخب وتعربد كأسك سيدةٌ في الغربة كأسك تكتب أحلامي ليتك تفتح قنديل الخطوات فجندك فوق كتابي ليتك تكسر بابي، ينهال عليك الشعرُ، فتصحو من غفوتك العطشى، وحدي أنتظر الليلَ اللاهيوالكأس الشقراء أمامي .
*** شهوة الخيل
أيقظْ حصانك
ربما اشتهتْ الخيولُ الغزوَ أو رَدتْ على أعقابها حذراً، فبعضُ الحرب إهليجيةٌ تخفي الخصومَ وتكشفُ الأعداء أخطاءٌ مفخخةٌ ونصرٌ للهزيمة وانتحار غامضٌ والخيل في الشهوات والموتُ الصديقُ يحوم قبل الطير أيقظْ ريشك المغدور وامنحنا جناحاً في حصانك قلْ لبعض الحرب أن تصغي لهندسة الحياة فربما كانالمشقّرغرفة للغدر أو كانت حصونهمُ ملاذاً للوقيعة ربما ضاقتْ بك الأرضُ الوسيعة كنْ مكانكَ عندما توقظ حصانك وانهرْ القتلى وهم يهذون في حربٍ تقاوم نفسها كنْ في مكانكربما يكبو حصانك بعضُ هذي الحرب طائشةٌ عن المعنى وكل فهارس الصحراء سعيٌ في الغبار فخذ مكانك واسعفْ العطشى وفسّرْ للسراب دلالة الأسرى فهُم حسرى على ماءٍ يناقضُ نفسه اهمزْ حصانك واتخذْ شكلَ القصيدة وهي في غيبوبة القاموس خُذْ وضعَ الكتابة، واغفرْ الأخطاء في جيش يقاتلُ نفسه، واسألْ حصانك عن صديقٍ يصقل الأعداءَ كي تسأل ثلاثاً شمعة الفانوس
*** بوصلة
كلما هَـبَّتْ شمالاً عابساً
إذهبْ جنوباً كل قلبٍ في جنوب الأرض بيتك
أيقظْ الرقلاء (*)
واخرجْ من تهامة عندما صنعا اليمن إذهبْ هبوباً
***
نظام الكلام
ليس هذا كتاباً
إنه لغةٌ تشغف كلما حرَّك الله فيها كلاما كلما غيَّر إيقاعه في الطبيعة لغة كالوشيعة تنهال ألوانها، كلما نام خيطُ الضباب بها، كلما اختلَّ فيها نظامٌ كل هذا كلامٌ من الله يخرج عبر حدود الكتاب
***
تاجٌ مُضاعٌ
الليلة انتصفتْ
ونصفُ زجاج أشعاري يلاعب خولة كي تكفَّ عن الذرائع وهي تمحو كاسرات الضوء في ريف القصائد نصفُ أشعاري يؤانسها ونصفٌ في مديحٍ الوشم يغزل شعرها لتهبّ عاصفةوخولة في هيامي كتبتُ أشعاري لها منذ الظهيرة في نشيدٍ ضارعٍ حتى انتصاف الليل وهي تخالني شبحاًفتقرأني وتمحو كاسرات الموج بحراً طائشاً في لوعة الشطآن يسمع صوتها، ويغضُّ طرفاً عن ضياعي تائها تاجٌ مضاعٌ في هياج الموج بحرٌ مستحيلٌ سوف يسمعها وينساني، وخولة في خيامي
***
على جرحي
مَرّوا على جرحي يرون نزيفه،
ويؤلفون نشيدهم من عزفه مروا يوارون المعادنَ حول حزني قبل أن أبكي ويسقون الحديدَ نشيجُهم ريشُ الغريب على حَمَام البيت مروا كلما مروا على جرحي انتشيتُ كأنهم مرضُ المحارةِ وهي تمنحُ صُدفة الأحياء ذاكرة الجواهر كلما مروا نسيتُ الموت عطرٌ في غموض الصوت أجنحةُ الملاك ونزهةُ المنفى وشعرٌ شاردٌ ورأيتهم مروا رأيتُ رفيفَهم ورأيت ريفاً وارفاً يحنو على جرحي ويرسم رايةً ورأيتهم يسقون جرحي زعفران الله ينتخبون أقداحاً على حزني إذا مروا يرون قصيدتي تبكي، فيدخرون بعضَ نبيذهم قتلى قضوا حباًولا يتأخرون عن الزيارة كلما جاءوا إلى سجن المشقر يسألون الله عن أسمائهم مروا خِفافاً عند جرحي يستعيدون النشيدْ .
***
قنديل الأخطاء
فتىً في حكمة السبعين
صحراءٌ تموجُ به وطقسٌ كالذبيحة هذه الأخطاء قنديل العذارى يبتهجن وتنتشي أعطافهنّ شفيفة تهذي لمن هذي القرابين؟ اشتهتني وردة تبكي سألتَ الماء صحراءٌ تصلي للملوك وللحجارة حكمتي بيضاء أخطائي أرى مستقبلاً ينثال مثل الرمل والأحجار سيدة ويأتي من يؤسس للسراب على الكتاب انتابني شكٌ بأن المذبح التالي من النص القديم جنائزٌ (ويكون أن يأتي/ إذا جاءَ) انتحابٌ جارفٌ يستشرفُ الأخطاء حكمةُ ناسكٍ وسلالةٌ ترث الحجارةَ كي تُعيدَ الذبحَ والقربان (أن يأتي/ إذا جاءَ) الفتى في نزوة السبعينوالأشعار تقتله فتى يبكي لنا،يبكي العذارى ينتشين به إذا غامتْ ملامحه سديمٌ أو صهيلٌ في كتاب الليل
***
وردة النساء
هل تلدني وردةٌ كي أستعيرَ حزامَها في وحشة التذكار
هل تحنو على دميَ المضاع لكي أعمّدَ بالنبيذ شهيق شهوتها فكم تلدُ النساءُوكم ستثكل وردةٌ أحفادَها أثلاث مراتٍ ولدتُ، وضاع لي قبرٌ، وتِسعُ وقائعٍ تُروى لقتلي كنتَ مثلي يا نبيَّ الناس أمكَ ثاكلٌصليتَ سراًوادَّعتْكَ الأمهاتُ جميعهنَ ربطنَ سرك في حزام الرضع يوماً، وانتهتْ أسطورة التأويل في دار الولاية في سراب الماء والأسماء في الدول الخفية كنتُ مثلكَ والملوك يمجدون قصورَهم بقصيدة من شِعري الوحشيّ يا أمي حزامُكِ شدَّني في خيبة الرايات وانهارت فتوّةُ ساعدي في خيطكِ المحمي بالنايات يا أمي انتهتْ، لولا حزامُكِ، أجملُ الغاباتِ تسعٌ ضَمَّني قبرٌ وقيل على صليبٍ قيل أطرافي مقطعةٌ وقالوا إن فَصْد الدم أنهاني وقالوا شدَّني خيط النجاة وأيقظتْ روحي ذبالتها رأيتك تغزلين الشمسَ، مثل خطيئة النارنج وهو يصوغ صفرته رأيتك تزجرين النفسَ وحدك سر قافلة القبيلة تفضحين لطائم التجار وهي تائهة بِخيلٍ جامحٍ يَـنْـزو ويَشبقُ، وهي غافلة وتخسرُ أو تضيعُ رأيت في غيم الولادة كنت في فيض المخاض وتكتمين الطلق شَدُّوكِ على وهم السلالة شدني خيطُ الدلالة كلما في يوم ميلادي تأكد مقتلي واشتدَّ نزفُ الطلق وامتدَّ الحزامُ فغادرتني شهوة النسيان وانبثق الكلامُ
***
يا أمي، حزامُكِ حزَّني في النَّحرِ هل كنتُ النهايةَ في البداية؟ حَزَّني حُزْني على موت المرقش قبل أن يمحو حجارته ويبكي كلما أوشكتُ ضاعتْ جنتي في آخر الفتوى، وضاءتْ في الأقاصي كي أموت مبكراً قال النبي قبيل أن يهذي بنا تسعاً قُتلتُ ومرةً قلتُ القصيدةَ كي أبالغَ في ابتكار العشق أذهبُ في الشغاف ومرة أخرى قُتلتُ على الضفاف ومرة أخرى أخافُ، ومرة أخرى.
***
على وطنٍ يخشى الفتى
هذي بلادٌ لا أميِّزُها
دخانٌ أم يدٌ مغلولة أم فكرة تهوي؟ بلادٌ، كانت الصحراء تمضي فاستحالت حاضراً مستقبلاً من أين لي ماذا أسمّي خيمة في الرمل لا ماءٌ ولا غجرٌ ولا يصغي إليك الغيمُ حين تقول نمضي للأفول فكيف لي، كنا على وشك الحديقة، مثل حلم عابرٍ فاستيقظ الكابوسُ واختلط اليتامى بالثكالى دارتْ الفتوى وحَلَّ النعشُ في عرشٍ بلادٌ لا أميزها حياةٌ أم تموت
هي انتحارٌ صارمٌ يا ليت لي "هل كنتُ مقتولا ومتُّ أم كنتُ في سفرٍ وعدتُ" لم يعد لي، هذه الصحراء تفقدني، وكل تراثي المنهوب يمحوني، وصوتي وحده في هذه الأرجاء يسمعني
**** أشلاء
صَنَعَ الشعرُ بي
مثلما تفعل الريحُ بالرمل بَـدَّدَ أشلاءَ روحي مضى بي إلى تهلكاتٍ وأغرى بي النارَ أودعني وحشة الغائبِ
**** الدرس
صعبٌ على الشعر أن ينتهي
مثل أسطورةٍ في البكاءِ النحيل بكاء يخيط الظلام ذريعة خولة في خيمة الليل هذا هو الدرس أن تستعيدَ غيابكَ، كلما ينساك قومٌ، سوف يقتتلون، كي تنسى سلالتك البعيدة كلما في وشم خولة، كلما تطوي عباءتها وتبكي مثل ثاكلة الظلام هل حفظتَ الدرسَ صعبٌ، مستحيلٌ، خارقٌ والموتُ أن تبكي وتبكي كي تخيط الليل بالدمع الطويل دع لخولة درسَها واقرأ كتابك واستعنْ بالمستحيل .
***
الطفل في الخوف
تخطيتُ الغبارَ وصرتُ مائياً
تجلى لي سحابٌ في الهوادج وهي تهتف بالسماء لكي تسيل قلبي عليها قبل أن ترتد روحي في جروحي لم يعد لي في رماد الغيم بيتٌ صار بيتي جنة التذكار أعطتني يداً أبكي عليها مثل خوف الطفل في ليل الغريب
**** تاج الموج
جاءتْ تموجُ
تجرُّ كوكبةً من الأعراس من ماء المرايا سوف تستثني طبيعتها لترقى أن تكون ذريعة للرمل تحنو مثل بحرٍ شطَّ في ماء الضحايا توقظ الأسرى تموج وصوتها في راية الذكرى تغني هذه أسطورة أخرى ستبدو بعدها الصحراء نائية عن الشعراء تبدو مستقَراً للرحيل ونزهة للماء كي تحظى بمحتملٍ، تموجُ وتخدعُ الحراسَ يقتتلون في غيم المسافة بين زرقتها ورملٍ سادرٍ لا ينتهي
يا غيم دعها تنتمي دعْ خولة الفرسان تصغي مرةً أخرى لوقع خطاك تفقد نجمةً كانت دليلكَ نحوها وتضيعُ في تيهِ القبيلة كالقتيلة أيهذا الغيم دعها وردةً في الكأس، تسبق خطوها وتموجْ
***
خمسون ماءً
سَكبتُ لك خمسين ماءً لتغتسلي بغير الصهد
حيث الأنهار الصغيرة تزخرف جسدك تداعبه وتوقظ فيه الفتنة خمسون ماء تتحدر من أعطاف الطبيعة متموجة تحفُّ بمركبك اللطيف وتمنحه نعمة الأجنحة لكأن هذا الجسد المتوهج بفعل الوشم وصليل الذهب يبحر بالشهوة المكبوتة نحو سديم الشغف خمسون لا يكفيك ولا يطفئ لك ناراً ولا يلجم دورة الدم المجنون في الأروقة
***
شهلاء
تفتح شرفةً وتقول لي هذا سريرك، عرشك الجسدي
خذني قبل هذي الكأس، قبل رحيلك التالي فلي خمرٌ لديك أريده لأريقَ عطري في كيانك شهلاء فاتحة النعيم تسرُّ لي شهلاء شهوة شاخِصِين إلى الجحيم تردُّ لي نَرْدَ المغامرة القصية كلما مدتْ يداً أرخيتُ أعضائي لها، لتقول لي عرشي ينالك وانتعاشة جنتي تاجٌ يسير إلى مكانك ماذا يريد الشعر أكثر من يدٍ ممدودةٍ وثلاث جنيات، أخطاء ملفّقة ومغفرة الحنان وشاهدٍ ينسى وشهلاء الشهية زهرة في عنفوانك ***
فرسي إليك
فَرَسِي إليكِ تخبُّ، فارويها بعطرك وهي عائدة إليّ
وحمّليها ما يقالُ عن القصيدة وهي تسمو واشفعي للغافلين فسوف يغفر سيدٌ للعبد وحدي في انتظارك، جللي فرسي مطهمةً بماءٍ نادرٍ من جنةٍ في آخر الصحراء وحدي والرسائلُ ذاهبات مثل قافلةٍ بلا معنى بلا أسطورة مثل انتظاري أنْ أموت
تأتيك أخبار المراثي وهي خائبة فإنْ جاءت إليك الخيل عارية، خذي ثوب القتيل وجللي خيلي كأن قرينة تكفي لكي أبدو قتيلاً قبل موسمِه
***
ما تبقّى من الله فينا
(كتابُ السيرة)
وظلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضةً
على المرءِ من وقعِ الحسام المهندِ
طرفة
شجرة الخلق
رويَ أن "وردة" كانتْ في نساءٍ، في قافلةٍ، في رحيلٍ، في مسافةٍ بين النخل والخيام خرجنَ من الرمل إلى طين الله في نهار طازج للنزهة قيل، فأدرك المخاضُ وردة وكانت في تاسِعها ركضتْ بها النساءُ ناحية ظل شجرة قريبة يتداركنَ طلقها ويعالجنَ وضعها فيما ترفعُ صرخةً وتكتم صرخة والطلقُ يشتدُّ ويتصاعدُ النساءُ يبسطن تحتها النطُوعَ وحولها الوسائدَ وفوقها الأغطية تقدمتْ فيهنَّ قابلةٌ تطلبُ منهنَّ جمعَ الأغصان اليابسة وتجميرها لغلي الماء وكان كلما تصاعد مخاضُ وردة نفح عطرٌ في غيمةٍ خفيفةٍ تغمر المكان ووردة تتشبث بما تطاله يدُها متوترة الأطراف محلولة العصائب، تنداح بجسدٍ ينتفضُ ويرتعشُ ويتقوّسُ وتصبُّ منه السوائلُ بأخلاطٍ وتلاوين النساءُ يعملن على صَدِّ الغيبوبة عن جسدٍ هو الآن في البرزخ بين الاحتقان والخلق فإذا بالصرخة العظيمة ترجُّ صخور الوادي لتزِلّ أقدامُ النساء في مواقعها، حتى تكاد تنغرس في الطين الرحيم الوردة تمنح أحشاءها حرية الخلق تشعرُ بهول الفَقدِ وهي تعطِي وهجَ الحياة بما يشبه الموت تنتبه النساءُ لصرخة الطفل بين يدي القابلة ترفعه مثل رايةٍ ملطخة بخلائط الخلق، فيدركنَ أن وردة قد صَدقَتْ بظنها عندما ترددتْ في الخروج معهنَّ هذا الصباح
أتركوني هذا يومٌ يبدأ فيه الخلقُ فالسديمُ يغمرُ حواسي لكنهن يلححن عليها أن تخرج معهن فتخرج وضعتْ القابلة الوليدَ على صدر أمهِ قائلة لها - ماذا تحبين أن تسمِّيه؟ استردتْ وردةُ أنفاسها - أبوهُ غائبٌ في سفر، فهو مَنْ يسمِّيه قالت القابلة - كل طفلٍ يولد اسمُه معه هاتِ اسماً نناديه به الآن، وعندما يعود أبوه يخبرنا بما يريد أدارتْ وردة نظراتها حولها ورفعتْ رأسَها قائلة - ما هذه الشجرة التي تكاد تلامس جسدي لفرط حنوها؟ أخبرتها إحدى النساء - إنها شجرة الطرفاء التي لا تموتُ نارٌ استطعمتْ حطبَها فقالت وردة - سَمُّوهُ طرفة رُويَ، أنه لم يُسَجّر العربُ شِعراً بعد ذلك مثلما فعلوا باللهب الذي في قصائد ذلك الطفل وروي، أن البحارة الذين أبحروا بسفنَهم مصنوعةً بخشب هذه الطرفاء المباركة لم تغلبهم غضبات الموج ولا خذلهم السفر كما قيل إن نبياً يأتي بعد طرفة بحينٍ من الزمن سيأخذُ من الطرفاء أغصاناً يضفرها منبراً يصعدُ على درجته الثالثة ويكرُز في الناس ورُوي، أن ثمة أربعةً من عرب ذلك الزمان أخذوا هذا الاسم وضاعوا به في سديم العرب فقد ذكر الآمدي في المؤتلف والمختلف من اسمه طرفة من الشعراء أربعة، أولهم هذا والثاني طرفة بن ألاءة بن نضلة بن المنذر بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم والثالث طرفة الجذمي أحد بني جذيمة العبسي والرابع طرفة أخو بني عامر بن ربيعة قيل، فلما انبثقَ خيطُ الفجر الأول انتبهتْ وردة لطفلها فإذا به يتلمظ بعطشه، فمدتْ يدَها إلى أوراق شجرة الطرفاء وراحتْ تعصر الوريقات الخضراء في فم الطفل، فإذا به يرشفُ القطرات النديّة كمن يرضع اللبن قيل، فلما انتصفَ النهارُ وهَمَّ الركبُ على العودة إلى الحيّ، قالت وردة للنساء - ادعكوا باطنَ قدمي الطفل بوريقات الطرفاء، فربما طَرَقَ هذا الطفل سبلاً كثيرة ساعياً للحياة، والموت في انتظاره أخذتْ النساءُ يدعكنَ قدمي الطفل بورق تلك الشجرة فراح ماءٌ وفيرٌ يطفرُ ويسيل ويغسل القدمين الصغيرتين قيل فلما صار طرفة شاباً يافعاً، وراح يرحل في البرية، كان ينبت في أثر خطواته زهرٌ أصفر صغير، يمكن الاستدلال به على المسارات التي يرتادها الشاعر تتقدم وردةُ تضعُ عطرَها في أردانِه تحكي له، وتصقل قلبه بالحجر الكريم وتُعدُّه للجرح الغادر تقول له عن النوم النادر وهو يصوغ أحلاما مرتجفةً في ظلام الوديان تقول له وتنهار بين يديه كلما همّ بالسفر تقول له لا تذهب عني لا تذهب عني لكنه يذهب
***
اكتشاف الأب
يُروى أن طرفة لما بلغ الثالثة التفتَ فلم يجد له أباً وكان كمن اكتشفَ حقيقة اليتم فقد أصبحَ وحيداً مع أمه فسألَها أين أبي؟
فاضطربتْ وردة لسؤال طفلها الذي كان يقف أمامها لأول مرة ليطرح عليها هذا السؤال الشاق وهو لا ينوي أن يذهبَ من دون جوابٍ شافٍ أخذت وردة يدَ طفلها ودخلتْ به الخيمة رفعتْ تختها الخشبيّ القديم عن حفرةٍ صغيرةٍ وأخرجتْ صرة قماشٍ حائلةِ اللون معقودة بعناية الحريص وضعتها على الأرض وفكتها ثم بسطتها وطرفة جالس بجانبها ينظر بدهشة الطفل المأخوذ ثم رفعتْ من الصرة ثوباً قديماً نشرته في حضنها وراحتْ تتحسسه بأصابعها وهي تنظر إلى طرفة هذا هو والدك هذا ثوبه الأخير وضعَ الطفلُ يدَه على الثوب كمن يجسّ جسد أبيه ثم نظرَ إلى عينيّ أمه فعرِفتْ أنه يسألها فقالت : في هذا الثوب قصة العبد كاملة أنظر إلى هذا الأثر اليابس في صدر الثوب إنه دمُ أبيك فقد ماتَ مقتولاً غدراً - ومن فعل ذلك يا أمي؟ - إخوته - عمومتي؟ - بعد ولادتك بدأتْ مشاكلهم فقد اختلفوا مع العبد على خيرٍ كثيرٍ تركه لهم جدك من التجارة فكمنوا له أثناء عودته من الشام وزعموا أن قطاعَ طرقٍ قد فتكوا به غير أن فتىً كان يرافقه جاءني بالخبر وحمل لي هذا الثوبَ بدمِه في خُرْجٍ صغيرٍ كان أبوك يحفظُ فيه زاداً وبعض هدايا كان حملها معه من الشام - وكنت تقولين لي طوال الوقت إن أبي في سفر؟ - يا ولدي هذا سفر لا يعود منه أحد ***
في وصف الصورة
لفرط الطين الذي تمرَّغَ فيه لحظةَ التكوين، صارَ جسده زجاجةً صهباء تشفُّ عن الأحشاءِ والأخلاطِ والعناصر جرمٌ لا مكتنزٌ ولا نحيل رأسٌ أصغر من طيرٍ على كتفين لولا منديلُ الرمادِ المطوي لما تسنى لسيفٍ أن يدركَ رأسَه. شَعرُه حالكٌ يعول عليه الليل، يتركه هَمَلاً لئلا يظلَ كتفاه عاريين في البرد شفتاه صائمتانِ عن الكلمات السود منذ كلامه الأول أسنانٌ ناعمةٌ تَجرحُ الماء مصقولةٌ بمساحِلَ الثلجِ وبلورِ اللبن أنفُه الهاجم اللطيف يكاد يسيلَ لفرط بَوحه باندفاقٍ في شُرفةِ الوجه مثلَ صَقرٍ وشيكٍ وللعينين لونُ الأسى والخسارة تحديقٌ توجسٌ وذعرٌ مقيمٌ فمٌ أقلُ من المَحارةِ، أكثر حرصاً منها لسانٌ داكنٌ صقيلٌ فرغ تواً من قصعة الدبس يذرعُ المسافةَ بين اللؤلؤ والصَدَفِ وعتمة الأعماق جوهرةٌ أصغرُ من خاتم العرس يداه فارغتان إلا من الريح والكأس واللجام وعطر نساء لا يحصين ذراعان مشرعتان في جناحين يحفظان للجسد رشاقة السكون والسفر دليله توازنُ الخمرِ والقدح قدمان يَخُبّانِ في الخُفِّ لم تسعيا إلى بابٍ عالٍ لا تسأمان الرحيل، لا تأمنان الإقامة، وينبتُ في حوافِهما ريشٌ ناعمٌ قدمان خلقتا للإقدام والتقدم
أرادَ أحدُهم أن يصفَ هيئة الشاعر فقال إنه،آدم ، أزرق، أوقص، أفرع، أكشف، أزورُ الصدر، متأوّلُ الخلق. وفي لسان العرب آدم والآدَمُ من الناس الأَسْمَرُ أزرق والزُّرْقة خضرة في سواد العين أوقص والوَقْصُ قِصَرُ العُنُقِ أفرع وأَفْرَعَ فلانٌ طالَ وعَلا أكشف وأَكْشَفَ الرجلُ إكشافاً إذا ضحك فانقلبت شفَته حتى تبدو دَرادِرُه أزور الزَّوْرُ الصَّدْرُ، وقيل وسط الصدر، وقيل أَعلى الصدر، وقيل مُلْتَقَى أَطراف عظام الصدر حيث اجتمعت، وقيل هو جماعة الصَّدرِ من الخُفِّ، والجمع أَزوار
***
ما تبقى من الله
جئتُ من ثوبٍ مهلهلٍ، من رُقَعهِ الكالحة
جئتُ من خيطِه الألمعيّ، من الريحِ مغزولة بالرؤى السانحة لم أكنْ مُشتهى فكرةٍ كنت قبل السديم تبطنتُ شعراً نافراً ينهر الخمر خبأته في الخطى الجارحة جئتُ، كان النشيدُ صدى الحرفِ والحجرِ الأوليِّ سيقرأ والأبجدية في آلةٍ فاضحة كنتُ مثل التعاويذُ تترى ومَنْ كان يقرأ لي، قال لي شعرُكَ الآن في ما تبقى من الله فينا شعرك السحرُ قبل النبيّ الذي يصطفينا قرأَ الشعرَ لي جَديَ الأوليّ
مثل بحرٍ يعمِّدُني بالرؤى الراجحة
***
الفتى المستوحش
خائفٌ، كشرارةٍ في الدم، في بلّورها المذعور،
في وحشٍ، وفي جرحٍ يلوبُ ولا يدٌ تمتد لي صحراءُ شاخصة، وكُلُّ فرائصي في الريح هذا البردُ ضارٍ والحجارة جمرةٌ والجنسُ مأوى صحراءُ تزدردُ المدى فأطير وحدي هارباً خَوفِي دليلي جمّة تلك الشراك أظلُ وحدي تحتَ هذا الليل أحداقُ الحَصى وجنادبُ الأخطاء تحصِي لي وجيبَ الخوف زهرُ الزمهريرِ يهزُّني كي أدركَ الكابوس ليلٌ داهمٌ فأخوضُ مثل تثاؤب الجاثوم في هذا السواد كأنَّ خوفي خائفٌ قدماي في الفولاذ والوحشُ الطليقُ يشدُّني بالخيط مثلَ النوم هذا الكونُ مَـيْـتٌ هذه جَبَّانَةٌ وأسيرُ وحدي عبرَ هذا الخوف صحراءُ انتحارٍ واستفاقة جثةٍ وتَشَبُّهٌ بالخيلِ لو أنَّ الظلام ذريعة القتلى لَـمِـتُّ نكايةً بالموتِ لم أتركْ بلاداً جئتُ في جُرحٍ أخافُ كأنما خوفي بلادي في دمي المذعور، في بلّورةٍ قلبٌ يَقِفُّ إذا دَنا أنسٌ إليه ***
انظروا الرواة
لوَّحَ طرفة بيده شاهقاً، ممسكاً بموجة عارمة من الكحول تترنح منتشية به في مرآة الكأس خَبطَ بكأسه صاخباً تختَ الحانة فطاشتْ فضة الذهب وطارتْ أسرابُ الملائكِ في نجومٍ وفي حباحب تملأ فضاءَ المكان
تعالوا انظروا ماذا يفعل هؤلاء وهم يذهبونَ بنا كل مذهبٍ في غيومٍ وغيبوبات تعالوا انظروا الرواة يروون .
***
غربة الغيم
كلما توغلتُ في الغيم شَحَّ الزادُ في القبيلةِ وازدادَ النسلُ في الملوكِ وازدحمَ الجندُ بالمناكب وضَجَّ صليلُ الأسلحةِ في المداخل غيمٌ كريمٌ يشفُّ أكثر مما يخفي يلهمُ الغريبَ بالبيتِ ويشدُّ الغربة عليه ***
آلة الشاعر تنوء بي ثم تخفُّ مثل هودج مثل موجٍ وهي مركب الكون طيفٌ لا تطاله سلطة لا يجمعه ملك ولا يمنعه وحدي لها امرأة في المرايا كائنٌ يغمر الروح لا يصيبها العطبُ ولا تبلى
*** أنظر إليَّ وخلصني
صرخ في وجهه ممسكاً به يرجّه رجّاً هل هو صنمٌ أم وثنْ ها أنا أدعوه أن يساعدني أياً كان أي إلهٍ هذا، لا يسمع ولا ينظر ولا يتكلم ولا يُخلّص الناس من عذابهم ما حاجتي لأحجار وأخشاب ورسوم تصدر عن الوهم وتذهب إليه أريد أن أحلم
ترك طرفة المكان وخرج يدمدم بكلمات هي بين الغضب والنزيف فاض به الشكّ وتفجرت الأسئلة ليلته الماضية كانت أقسى عليه من لحظة خروج الروح من الجسد توغل بأسئلته كثيراً وهو يتحقق مع راعي كنيسة دير العذارى الأسقف مار يوحنا الأزرق في صمت الآلهة عن شعوبها، مستعصياً عليه هذا الصمت فهو لا يفهم لم لا تكالم الآلهةُ الناسَ الذين يعبدونها أليس من حق الإنسان أن يكالم سيده يناشده ويساجله الحديث هو ضربٌ من الحب، هو الصلاة في لحظة العمل غير أنه لا يرى آلهة تعبأ أو تكترث بمن يصلي لها ويعبدها ويتضرع إليها حين بسط طرفة للأسقف سلامَ الاحترام، سأله عن صمت الآلهة إزاء بطش الملوك في الناس سأله عن تكاثر الأديان ونقص الحب، وعن تناسل رجال الكنائس والمعابد من دون أن تردّ الآلهة التعاسة عن بشرٍ لا يتوقفون عن الصلاة والشكر ولا ينجون من العذاب كانت تلك الليلة محمومة بفعل الأسئلة التي حسبها الأسقفُ الأزرق ضرباً غير مسبوقٍ من التجديف الذي لم تعهده كنائس الحيرة ولا أديرتها لقد وصل جدالُ الشاعر حدود الفزع، فاضطر الأسقف أن ينزع الصليب من يديّ طرفة فيما كان يصرخ في المذبح إن كنتَ تسمعني، أنظرْ إليّ وخلصني تمكن الأسقف الأزرق من الحيلولة بين طرفة والخشبة، خرجَ به إلى حديقة الدير يتلو له كلمات تردُّه عن الغَيّ مما جعل طرفة يترك دير العذارى إلى حانة قريبة طفق طرفة يبوح بكوامنه في فضاء المكان الذي يذهب إليه في البحر والبحرين يطلق أشعاره ويوقظ أسئلة الناس المحبوسة لا ليصقل الحياة في الأرواح المستسلمة فحسب، لكن ليضع القناديل للخطوات المذعورة في طريق الخروج على آلهةٍ تُعِينُ الطغاةَ على الناس غير أن أحداً لا يقرأ قلبَ الشاعر ولا يرى إلى نبوءاته، فأتاحَ ذلك للملوك أن يستفردوا بالشاعر ويغدروا بأحلامه ***
المرقش الثالث
وحدك في سديم الخلقِ
شيطانٌ وسربُ ملائكٍ لتهدج الكلمات خفقٌ ضاربٌ في التيه سوفَ تضيعُ لكنَّ القصيدةَ وردةُ القنديل تسعف رمية في النرد فاعلمْ كيفَ تكتبُ كيف تقرأُ نجمةً في الشمس إنَّ لديكَ ما يهفو هناك لديكَ جَدٌ رَقَّشَ المعنى لكي يغريكَ بالكلمات درسٌ ينتهى بالفقدِ، مثلك بعد أنْ أوصى بكَ النساك في الحانات حيثُ الأبجدية تنقذ القتلى، وتقرأ سيرةَ الشعراء فاعلمْ كيف تصغي للملائك برهةً في الصمت بيتك في ظلامِ الشرقِ يقتلك الكلامُ وتسعفُ القتلى بشِعرِكَ بالمرايا مشرئبات كأنَّ شُجيرةَ النارنج تؤنسُ غرفة الأسرى ووحدُك مرةً أخرى ستعرفُ كيف تكتب وردةَ الأنخاب كأسٌ وانتعاشة خالقٍ ورماد أخطاءٍ ملفقةٍ كفِعلٍ ساكنٍ يصحو وفصحى عند يقظتِها وباب أول للفتح
***
الكلمة هي أن تكتب
وضعتْ الكلمةُ يدَها على رأسي وأخرجَتني من النوم
أيقظتني الكلمة وقالت اكتبني قلتُ كيف وأنا لا أعرف قالت اعرفْ أن تفعل، أن تكتبَ فالكلمة هي أن تكتبَ، والبدء فيها ومنها تنشأ حياتك وبها تصير ارتعشت بي الأوصالُ والفرائصُ نهضتُ مشدوهاً كأن الغيم يخترقني وتنال مني حرائق الصهد وقفتُ إلى وردة أسألها كيف أكتبُ؟ قالت يا بُنيّ، لا تبلغُ الحلمَ إلا حين تكتب، ولا تكتب إلا إذا قرأت الكلمة، ولا تقرأ إلا بعد أن تعلم فمن توقظه الكلمة لا يعرف الغفلة أبداً الكلمة أول الكتابة وفاتحة الكلام سألتها كيفَ، ومن أين لي أن أفعلَ ذلك قالت أخرجْ من نومِكَ إلى حلمك، واذهبْ إلى الحيرة كأن الحلم أطول من الليل كأن لم يكن ليلاً وأول عهدي بالحيرة عندما سمعتُ عنها من وردة، التي سهرت بي بقية الليل تحدثني عن جدي المرقش الذي عرف الكتابة هناك، فأدركتُ أن الحيرة مكانٌ يقصده أناس مختلفون لغايات كثيرة قالتْ إذهبْ إلى هناك وابحثْ عن البيت الذي عرف فيه المرقشُ القراءةَ والكتابةَ وستجدْ من تأخذ الدرسَ عنه دَعْهُ يضعُ لك الكلمةَ في القلب ***
شهلاء تشهق شهلاء، شُرفةُ طرفة على حريات اللذة وفتنة النزوات في فضاء الحيرة قال لها ? أتزوجُكِ الليلة قالت له ? تأخذني بشَرطي أكونُ لك بشرطك وجدَ فيها حضنَ حرياتِه الفاتنة تسكُبُ له فينهلُ منها ويغمرها فتذهَلْ
شهلاءُ، امرأة في حانةٍ في حيرة الليل، ستأخذُ طرفة إلى المعلم الحَيريِّ العجوز حيث كان الشاعرُ يبحث عنه ليأخذَ على يديهِ الكتابة، حسبَ وصية جده عن أبيه على لسان وردة ? ابحثْ عن بيت رجلِ في الحيرة يقال له (الكامل) أخذ عنه جدٌك المرقش الكبير رسمَ الخطِ والقراءة سمعتْ شهلاءُ طرفة يروي تلك الوصية فشهقت إنه جدّي أيها الشاعر، سآخذكَ إليه؟
***
في حضرة الكتابة
وقفَ يسترد أنفاسه بين يديّ صاحب الكتابة، مرخياً كيانه المتعب، وهو ينظر إلى الشيخ الوقور الجالس على حشيةٍ في حوش الدار، ويداه مرخيتان أمامه على تختٍ أصغر من كفّه ذات الأصابع المستعرضة لفرط الخطّ فوق التخت دواةُ الحبر وبعض أوراق الكتان المصمتة بصفرتها العتيقة احترمَ طرفة صمتَ شخصٍ استقبله عارياً من الاستغراب والترحيب معا كأن العجوز قد اعتاد اقتحام الغرباء عزلته بهذا الشكل الداهم لكن ابتسامة صغيرة مرّت على شفتيه عندما رفعَ رأسه ينظر إلى الزائر الغريب تنحى طرفة عن مدخل الحوش اختار ركناً في جانب المكان وجلس
هل تعرف أني ذرعتُ الزمان وقطعتُ المسافات لكي أصل إليك؟ اتسعت ابتسامة العجوز - أعرفُ، وكنتُ انتظرتك - تعرف ؟ من أين تعرفني؟ - أخبرني أبي أن شاعراً أوصاه بشاعرٍ من أحفاده يقصده ليأخذ الكتابة منه ولم أتوقف عن انتظارك مع الكتابة منذ البدء إن الكتابة تنتظر من يسعى إليها فهي النعمة التي لا تذهب إلى أحدٍ لا يطلبها
***
الفضاء والطير
ثمّ ذهبتُ إلى صاحب الكتابة، وقفتُ بين يديه، أسأله أن يعلمني النظام في رسم الكلام فأخذ كلامي يمتحنه ثم قال لي ها أنت ترسمُ الكلامَ بنظامٍ من عندك، فلماذا تريدُ نظاماً من غيرك أنت لا تحتاجُ في كتابتك لسواك
قلت له سمعتُ أن ثمةَ حدوداً موضوعةً لكي تكون الكتابة مقيدةً حسبَ نظامٍ مجموعٍ مسموعْ، وأريدُ أن يساعدني هذا على صنيعِ الكتابة قال يا بُني، اذهبْ إلى الكتابة وحدَك أخشى أن أعلمكَ نظاماً تهتم بتخومِه فلا تعودُ تكتبُ نفسَك اذهبْ فإن كلامَك نظامُك من ساعتِها رُحتُ أضعُ الكلامَ وحدي، والكتابةَ وحدي، والخطَّ وحدي، وكنتُ كلما ذهبتُ إليه بكتابتي، مرسومةً مرقومةً، أخذَها وخَلَّصَها من خجَلِها وترددها وأطلَقها من إسار الدرس، وقال لي اذهبْ فأنتَ الفضاءُ والطير . ***
صادفَ عندما قِيل
يُروى أن المتلمس خالٌ غير مؤكدٍ لطرفة
(وصادف أن وردة لا تلتفت ناحية المتلمس إلا لكي لا تراه) قيل إن طرفة لم يكن يعرف أن المتلمس خالٌ له (وصادفَ أن رواةً أشاروا بأنَّ المتلمس قد حمل لطرفة ضغينة مبكرة منذ أن كان صبياً، لكونه تجرأ على انتقاد تعبير له لا يصلح في المعنى ولا يصح في الصورة، مما جعل بعضُ الرواة يُعدُّونَ المتلمس في الإبل أكثر منه في الشعر) قيل إن أولَ من تَحَدَّثَ عن حضور طرفة في بلاط عمرو بن هند هو المتلمس لا غيره وهي الرواية الأولى الوحيدة التي نقلها الأصمعي وابن السكيت عن مصدر وسيط مجهول (وصادفَ أن شكاً سوف يخالط شخصية المتلمس من جهة أنه من مبتكرات الرواة الذين استهدفوا تأثيث الحكاية برمتها بأسباب وعناصر تريد أن تجيز قتل الشاعر من قبل الملك) قيل إن الرواة وجدوا في شخصية المتلمس عنصراً حاسماً "شاهد ملك" تقوم عليه مجمل سيرة طرفة، فعملوا على استنطاق المتلمس عن رفقة طرفة له في بلاط الملك، وراحوا يبنون على ذلك ويجمعون القرائن، لا ليؤكدوا ذهاب طرفة إلى بلاط الحيرة فحسب، ولكن ليجدوا للملك الأسبابَ التي تبرر لجوءه لإيقاع العقاب بالشاعر، من لحظة دخوله المستهتر على الملك حتى تجرئه على هجائه القاسي له ولأخيه قابوس (وصادف أن خيال الرواة في شتى العصور ومختلف السياقات قد تفتق عن أسباب عديدة لمقتل طرفة، نخصُّ منها خمسة، كل سبب يضرب شططاً في ناحية، فيجعل الحكاية قائمة على تهافتٍ يَشي بالنية المبيتة لقتل شاعرٍ خارجٍ عن سلطة القبيلة وتقليد المجتمع وحكم السلطان) رواة اجتهدوا للاتفاق على تأييدٍ مضمرٍ فظّ لفعل الملك والقبيلة قيل، فلما التقط الرواة الأوائل شخصية المتلمس، بحقيقتها الهشة، دون أن يتريثوا للتيقّن من مصداقية تاريخها في ذاتها أولا، ثم التبصر في إمكانية قبول حديثها وروايتها كحقيقة لاحقة وناتجة عن ذاتها ثانيا، إنما سارعوا إلى تكريس شخصية المتلمس من أجل أن يتسنى لهم إنشاء الرواية واستكمال القرائن التي تجعل من تلك الأسباب حكماً ناجزاً (وصادف، أن الخيال الهامد سيقبل هذا السرد الهشّ لوقائع الأحداث روايات ابتكرتْ شخصية المتلمس من أجل الفتك بطرفة) قيل، وضع الرواة الشاعر في قفص الإدانة بتهمة الاستهتار بالملوك وعدم احترامهم، صادرين دائما من رواية المتلمس، هذه الأكذوبة التي ستواصل سرد الأكاذيب، فيما هم يواصلون جمع القرائن، رواية بعد رواية وعصراً بعد عصر، دون العناية بشروط تماسك الروايات ومنطقيتها أدبياً وتاريخياً (وصادفَ أن جميعَ الرواةِ كانوا، فيما يسردُون أسبابَ ضَغْنِ عمرو بن هند على طرفة وسعيه إلى تدبير قتله إنما يضمرون كراهيةً خارجةً عن حدودِ رواية الأخبار وسردِ الأحداث، ليبدو الأمر جمعاً للقرائنِ التي تُجيز الفتك بالشاعر وفي ذلك سلوكٌ قمينٌ بالقضاةِ والجلادينَ لا المؤرخين والأدباء) قيل، هذه هي أسبابُهم التي توافقوا عليها، دافعين بها، مجتمعةً، بحيث إذا لم يُقنع سببٌ واحدٌ أقنعَ الثاني أو دعمه الثالث وبهذا يسوقون لنا تبريراً لغضبة الملك لئلا يفلت الشاعرُ من مصيره المحتوم (وصادفَ أن أسباب غضب عمرو بن هند وقرائن الرواة الرائجة ضد طرفة كانت الأول عدم تواضع طرفة، وتكبره واعتداده بنفسه في حضرة الملك الثاني تغزله بأخت الملك الثالث هجاؤه لعمرو بن هند وأخيه قابوس الرابع وشاية عبد عمر بن بشر مستشار الملك بـالشاعر بسبب ما قاله في هجائه الخامس مرافقة طرفة لعمرو بن أمامة، الأخ غير الشقيق للملك، إلى اليمن مناصرة له ضد أخيه) لعمري، أن كل تلك الأسباب كفيلٌ الواحد منها بفضح جميع الملوك وهي كلها لا تسوّغ مصادرة حق شاعرٍ واحدٍ في حريته
***
آية المائدة
كنتُ في غجرٍ وصعاليكَ وجَرحى وطُهاةٍ جبارينَ
كنتُ إذا جُـنَّ الليلُ، تذكرتُ رفاقاً رَحلوا، ورفاقاً وصَلوا ورأيتُ رفاقاً شَقُّوا راياتِ قبائِلهم، وأقاموا في محرابِ كنائِسهم، يقتَتِلونَ قُبيلَ الذبحِ فما صَلُّوا عند البابِ وما دَخَلوا غَجرٌ في الحب إذا خَجَلوا تلمَعُ تيجانُ الشِعرِ بِهمْ يَهْجُونَ الريحَ، وينحرفونَ عن الغيم أدِلاءُ يَضِيعُونَ ولا يمتثلونَ فكنتُ إذا جنَّ الليلُ سمعتُ نحيبَ جنائِزهم تَسعى هائمةً في هيئةِ محّاراتٍ ثاكلةٍ، تنسى البحرَ وتخشى غزوَ الصحراء أدلاءُ، وأسمعُ أجراسَ صلاةِ الخوفِ تَفُرُّ بهم غجَرٌ في سَفَرٍ والعمرُ قصيرٌ وأطباءُ يداوونَ القلبَ بماءِ النشوةِ يَدَّخرُونَ رثاءَ العطشى لمديح البحر دواءُ الغجر المهدورين كتابٌ يَحظى شعبُ المفؤودين به غجرٌ وصعاليكَ وأسرى كنتُ أعالجُ خوفَ الروحِ بهم غجرٌ يرتعشونَ لفرطِ الدهشةِ في الجَرحِ وفي التعديلْ
***
انجراف المسعَى
أجيءُ منجرفاً
على طللٍ ولا أبكي عليه وَقْعُ أقدامي حروفٌ ويدي في عُنقِ الخيلِ وأخباري طريقٌ وأمامي أفقٌ أسعى إليه
***
يقظة الرماة
أخطأتُ في التقدير
أسماءُ السُلالةِ بابُها السري مَنْ يقفو سُلالته سيبقى خارجاً هَمَلاً ومَنْ ينسى الهواءَ يضيعُ في برد المنافي، في فيافي الريحِ، منسياً على جُرحِ الطريق وكلُ منْ ينسى يُذَكّرُه الرماةُ فلا ملائكةٌ يَرفُّ جناحُها لا أغنياتٌ سوفَ تكترث، ولا تَرِثُ الرمالُ ولا تنالُ سوى النواجذ واحتمالات المقاصلِ كلها تمحوه من حبرِ الكتابة لم أكنْ أتلو كتاباً كلما حاولتُ تأويلَ الصَدى، أخطأتُ في التقدير نصفُ الشمسِ يكفي لو أضأنا الليلَ قبل تَشَرُّدِ الأطفالِ من أحلامهم حاولتُ رسمَ الماءِ في غيم الجحيمِ كأنني أخطأتُ في التقدير لم أدْرِكْ سوى ظلِ الهواء كأنما شخصٌ يؤلِّفُ غابةً من وردةٍ، ويسوقُ قافلةً من الأخبار في صخرٍ تُرى أخطأتُ في ليل من الأخطاء؟ أن تهجو الطريقةَ، أن تَرُدَّ عن الطريق، وأن تَرى في غرفةِ الأحلامِ وحشاً إنْ تكنْ فرداً تجدْ فيكَ القبيلةُ خصمَها اليوميّ أنتَ عدوُّها إن كنتَ قد أخطأتَ فارجع، واعتذرْ واخضعْ لتقويمِ السُلالةِ لا تصدقْ غفلةَ المرآةِ عندَ بقيةِ المعنى رَؤىً تفنى وأسرارُ السُلالةِ كلها مكشوفةٌ إن كنتَ قد أخطأتَ في التقدير لن يكفيكَ أن تنسى جناحَكَ كي تَطِير الماءُ بحريٌ ونصفُ الأرضِ لا يكفي لشعبٍ شاخصٍ كالشمسِ
***
الذريعة
قيل،
فلما استحكمتْ حلقات طرفة عن يدِ عمرو بن هند ولم يطقْ صبراً عليه، وتيقنَ أن شاعراً مثلُه لن يمتثلَ لسلطة ملكٍ مثلَه، ولن يسكت عليه، ناهيك أن يسعى إلى مديحه، اجتمعتْ لدى الملك الأسبابُ التي تجعله يرى في الشاعر المتمنع عن بلاطه خارجاً عن كل سلطةٍ وكل عُرفٍ وكل قانون. فلكأن عمرو بن هند يرى في الشاعر سماءً بعيدة عليه، لا يطالها ولا هي تنظر إليه. قيل، بعد أن اطمأن الملك إلى أن قوم الشاعر يستبعدون عنه، وأن قبيلته وأعمامه ضاقوا ذرعاً بسلوكه المتحرر، الذي يشيعه في الناس ويجتذب إليه الفتية ويسحرُ به الجميع، وبعد أن أصابَ مقتلاً بعدم مرافقة المتلمس إلى بلاط الحيرة، اعتبر الملكُ ذلك قمةَ الاستخفاف ونقضاً لاحترام المقام وشذوذاً عن شعراء ذلك الزمان. قيل، وكان من عادة ملوك الحيرة أنهم نَهّازونَ للفرَصِ، واستغلال الخلافات والمنازعات الداخلية بين أحياء وقبائل البحرين، في سبيل توطيد سلطة بلاطهم وتمكين سطوته في هذه البلاد.. «فالشعر من وسائل الخدمة السياسية التي استعان بها ملوك الحيرة في بسط نفوذهم في جزيرة العرب» (حسب جواد علي في «مفصل تاريخ العرب قبل الاسلام»). ولم يفوّت عمرو بن هند ذلك لكي يحكم قبضته فيهم وتحقيق نيته المبيتة في التنكيل بطرفة بأيدي قبيلته وأدوات قومه. حتى قيل إن أعيان قبيلة «بكر» قد وعدتْ الملك أنها ستعمل على دفع طرفة لمرافقة المتلمس للقدوم إلى القصر.. وهي القبيلة التي عُرفَتْ باعتدال صلتِها بالحيرة، وميلها إلى التفاهم والمهادنات مع الملوك اللخميين والتواطؤ معهم، حتى قيل إن طرفة هو الاستثناء الأبرز في «بكر» لمعارضته سياسة عمرو بن هند، الأمر الذي سيشكل الشذوذ المحرج للبكريين في علاقاتهم التقليدية مع الملك، إذ إن أول ما سيُضربُ في تلك العلاقات هي المصالح التجارية لشيوخ البكريين، وذلك لما يعرفُ عن ملوك الحيرة من أنهم عصب التجارة، حيث تجوبُ لطائمُهم أرجاءَ جزيرة العرب والشام. قيل، إن طرفة كان يعي كل تلك الملابسات التي ستكون ذريعةً لقبيلته من أجل التنكيل به. فلم يزده ذلك إلا رفضاً للامتثال لصلف عمرو بن هند ورغبته الجارفة في اضطهاد أهل البحرين، التي ستكون الهدف الدائم للاستغلال والاضطهاد والظلم وإهانة الشعراء وتكريس امتثالهم. قيل، فبعث عمرو بن هند والياً جديداً على البحرين يدعى «عبد هند» ليكون عبداً فعلياً يحكم بما يمليه عليه «عمرو بن هند» لكأن الاسم هو أيضاً جزءٌ من تأثيث الأسطورة بما يستقيم مع دور الشخص في الحكاية. فيكون خبرُ موتِ الشاعر متحققاُ بأبطاله المعينين، اسما وفعلاً، بالصيغة التي تمنح الأمر أسطوريته الخاصة. وقد جاءَ والي البحرين الجديد بثلة من الجند المدججين المكلفين بتولي مهمة الفتك بالشاعر. قيل، فلم يكد «عبد هند» يصل إلى دار إمارته حتى بعث بالعسس خلف طرفة يتقصّون عنه ويطلبونه. فعرف أنه يعود كل يوم آخر الليل بعد سهرته مع رفقة القصف والمتعة، فترك الجند يذهبون إليه قبل الفجر ويأتون به مقيداً بالأغلال إلى سجن الولاية. وزيادة في الحيطة بعث بصاحب السجن شخصياً منذ منتصف الليل لكي يشرف على تنفيذ أمر القبض. قيل، فلما حاصر الجند الدار في ذلك الليل، ووقف كبيرهم يطرق الباب منادياً على طرفة أن يخرج، إذا بفتية يزيدون على العشرين يخرجون من الدار معلنين أنهم جميعاً يدعون طرفة. بوغت الجند وقائدهم بالأمر. وبعد تردد لم يجد بداً من أن يقود الفتية جميعهم إلى دار الإمارة، معلناً للوالي أنه لا يعرف على وجه التعيين أي طرفة فيهم المقصود بأمر القبض. وأن على الملك أو أصحاب الأمر ممن يعرف طرفة أن يختاروه من بين العشرين طرفة المتقدمين. قيل، فأدرك صاحب السجن المكلف، بأن ثمة من هم على أهبة الاستعداد للدفاع عن طرفة والذود عنه وتحمّل العقاب فداء له. افتر ثغره عن ابتسامة رضا مكتومة متخففاً من شعور الوحشة في هذا الموقف الصعب. ثم أخذ يجول بين الفتية كمن يستعرض كائنات أليفة، مستعيناً بصلابتها على اجتياز ما هو فيه. فإذا بطرفة يبرز من بينهم مبتسماً متوجهاً إلى صاحب السجن: - على الملك أن يعرف ماذا يريد. أما أنا فقد عرفت، فماذا تريدون مني؟ فقال له صاحب السجن : - أنت تعرف أيضاً أننا لا نريد منك شيئاً، إنما هو الملك الذي يريد. وهذا أمر بينك وبينه. فالملوك لا يطلبون. إنهم يأخذون فحسب. ضحك طرفة وأشاح بيده قائلاً : - فليأخذ عمرو بن هند ما يريده من طرفة، واترك هؤلاء الفتية يذهبون. إنهم لأحرار هذه اللحظة أكثر منا. قال صاحب السجن: - جاء الفتية بمحض إرادتهم، ويذهبون متى يريدون. الملك لا يريد أحدا سواك. قيل، فلما دلف طرفة داخل السجن كان الجند لا يزالون يقفون مثل القيد المحكم خارج السور. فقال طرفة لصاحب السحن: «ألن يفك جندك حصارهم ويذهبوا إلى راحتهم. ألا تطمئنون لشخصٍ جاءكم بقدميه؟ هل يريدون أن يأخذوني إلى الملك أسيراً؟» قال صاحب السجن: - لقد بعث الملك والياً جديداً ليعمل على أمرك. فرد طرفة: «إذن لتمنح الجند راحةً للنوم، ثمة كوابيس في انتظارهم. جلسَ صاحب السجن على أريكته وطلب من طرفة الجلوس ريثما يجهزون له الزنزانة». قيل، مرّت الدقائق طويلة ثقيلة. الاثنان ينظران إلى بعضهما دون أن ينبسا بكلمة. إلى أن كسر طرفة جهامة الصمت: - والآن. ها أنا بين يدي سلطتكم، ماذا تريدون؟ قال صاحب السجن: - إنه الملك. قال طرفة: - إن خضوع مثلي لمثله أمرٌ إذا جاز له فهو لا يليق بي. وإذا قبلته فلا يغفره الشعراء لي. فنهض صاحب السجن بتثاقلٍ واضحٍ كمن يحمل الجبال على كتفيه: - لو صح للسجان أن يختار سجناءه، لتخفف من مشقة حبس نفسه في قيد هو الجحيم بعينه. لكأنك تدرك أننا مكلَّفون بما يسحقنا. فوقف طرفة ينظر إلى صاحب السجن ملياً كمن يريد أن يخفف عنه عبئاً بات محسوساً. ثم اتجه ناحية نافذة تطل على باحة السجن: «يهجو شاعرٌ ملكاً، فيذكرون الملك بهذا الشعر. ويقتل ملكٌ شاعراً فيعرفُ الشاعرُ مقتولاً بالملك. على عمرو بن هند أن لا يغترّ بهدر دمٍ ليس للنسيان».
***
فهرس النزوات
كنتُ في الحيرة. في حاناتِها
في القصيِّ الخفيِّ من الرمزِ. ممّا تأبّى على القتلِ حيث الغيومُ التي امتزجتْ وانتهتْ في يدِ الله خمراً وحبرا. وكنتُ انتهيتُ إلى فهرسِ النزوات نهاياتها هودجٌ يترنحُ يأخذني أتهجاه أهجو وأهتاجُ كنتُ ابتدأتُ بعيداً، تقمصتُ ناياتها حرسٌ حائرٌ. تقمَّصتُها قال لي صمتُها: «فلتكنْ يقظةً إنهم يتبعونك يُحصُونَ أنخابَك الساهرةْ نداماكَ بيضٌ، فلا تأمنْ السحرَ والساحرةْ» كنتُ في الحيرة. في دَيرها. أبحث عن جنة الشعر في خمرِها. عن رؤاها المصانَة بالصمتِ. في مهبطِ الطينِ والكاغد الحُرِّ. في دهشةِ القصبِ المستهامِ بأحبارِها بالكتابة ترفعني للسماء قال لي: «غيمةُ الله تحنو عليكَ ولكنهم يبصرون. فأقوى من الغيم صوتك يستعجلونك للموت، فاسبقْ دم السيف في غدرهم». فانتهيت انحنيتُ على كتفِ أمي وأدركتُ سِرَّ حكاياتها الحائرة.
***
مهندس الدسائس
ثمة رواية تقول إن قبيلةَ «بكر» اجتمعتْ على أن تطلبَ من طرفة أن يكون رسولها إلى بلاط «الحيرة». يسعى لدى عمرو بن هند الملك، بالدفع إلى استرضائه، للنظر بعين العدل إلى حال حيِّهم، زاعمين لطرفة أن ذلك من صُلب مهمات الشاعر في قبيلته. وليس من اللائق أن يتخَّلفَ عن ذلك، وعليه أن يرافق المتلمس الذي ظل يقصد بلاط الحيرة منفرداً. غير أن طرفة استنكر طلبَ «بني بكر» واسترابَ في مقاصدهم، وهُم الذين صنعوا به ما صنعوا. فلما أبلغ أمَّه بما يريده القوم. صرختْ برأسٍ محسورةٍ : «يا ويلهم ويا ويلكَ معهم. إنهم يبعثون بك إلى مكيدةٍ دبروها مع الملك، فخذ حذرك من الجميع». قيل فلم يذهب طرفة إلى الحيرة إلا لاهياً في حاناتها، أو ساعياً لتعلم الكتابة. وقيل إنه لم يزر بلاط الملك. فقد أدرك أن «بني بكر» لم تكن لتريد إنصافاً من عمرو بن هند، وهي من بين أكثر القبائل صلةٍ بالملك. ولديها من الامتيازات ما جَعلها شريكاً كاملاَ مع ملوك الحيرة، في اللطائم التي تجوبُ جزيرةَ العربِ والشامِ بالتجارةِ، الذين كانوا يحكمون ويملكون في آنْ. ولأن طرفة لم يقصد بلاط الحيرة، اعتبره عمرو بن هند شاعراً متكبراً ينزعُ إلى تمردٍ يصلُ حدَّ الاستهتار. وهذا سلوكٌ لم يعهده ملوكُ «الحيرة» ولا يقبلونه ولا يصبرون عليه. فما كان من الملك إلا أن حرّض «بني بكر» على شاعرهم، وزيّن لهم المزيدَ من الامتيازات والعطايا عندما يستكملون معه تلفيقَ ما يؤدي إلى النيلِ من الشاعر، بما يشي بأن طلب بني بكر من طرفة الذهاب الى بلاط الحيرة لم يكن سوى مشاركة واضحة في مؤامرة القصر لإخضاع الشاعر. ***
كأنّ الحرف طفلك
تعلمتُ الكتابةَ قبلَ أن أُحصي شروطَ الموتِ
صارتْ جنتي لغتي. وجَدّي قادني في الأبجدية مثلَ مشكاةٍ. وزَيَّنَ لي القراءةَ كالثمالة في مساء الكأس قال: ابدأْ كتابَكَ بالحروف المشتهاة اكتبْ كأنَّ الحرفَ طفلك واجعلْ الباقي من الكلمات رفقتك الصديقة. هذه لغةٌ تضاءُ وتُصطفى وتنوبُ عنا كلما تُهنا بها. افتح لها في قلبك السريّ مملكةً لتحفظَ حقها في حبك. اصقلها بماء الروح، واطلقْ في حجارتِها الكريمةِ شِعركَ المجنون، واكتبْ باسمِها ما يجعلُ التأويلَ حُـراً كي ينوبَ عن الملاك. وأنتَ تهذي بالمعاجم. تفتحُ القاموسَ كي تنسى دَع الفوضى النبيّة في دليلَك كلما أبحرتَ غُصْ حُراً وحيداً في وريدي يا حفيدي عندما تأتي بعيداً في قصيدتك الوحيدة نحو غيم النص حين ترى الكتابةَ جنةً أعلى، وتنهالُ اللغاتُ عليكَ مثل الحلم لا تخشَ المغامرةَ. انتعلْ برقاً فدُرُّكَ في حديدي يا حفيدي سوف لن يكتبْ سواكَ قصيدةً تحنو على غدرِ القبيلة لا تخفْ واقرأ كما يدعو الملائكةُ انتبه واكتبْ كما يُملى عليك وما يفيضُ الوحيُ فيكَ هذه لغةٌ تَرى لكَ ما يُضيء وتصطفيك اذهبْ بها حراً بعيداً سوف يأتيك الملوكُ ويقتلونك كنْ بعيداً في حِمى الكلمات، وارسمْ في كتابك شرفةً، فالموتُ دونك أطلقْ حروفَك غيمةً في وحشة الصحراء تملكها وتؤنسُ روحَها وتصيرُ جيشاً واحداً إقرأ لهم.
اكتب كتابَك في زجاج الرمل وأتركْ في «النمارة» ما يفيضُ عن الإشارة هذه لغةٌ تُحبُك كلما صليتَ في محرابِها ستصدُّ عنكَ الموتَ إقرأ غيمها. أكتب لها أوصيكَ يبقى الشِعرُ رَقشاُ في قميصِكَ كالشهادة فليكن نقشاً على قداسها ***
من الله
لم أكنْ في مكانْ
كانت الريحُ تنتابُني والقوافلُ تسعى لقتلي على مهلِها أملك الآن أن أمنعَ الموت عنِّي لأنِّي من الله في السرِّ والآلهة.
***
«المشقّر»
مثلكَ،
برهةٌ أتوجهُ فيها إليك. برهةٌ تشعُّ مثلكَ. شمسٌ متعامدةٌ على سجادة الرمل فيسطع نورٌ كثيفٌ، ، على حباتٍ لانهائية. تكادٌ لفرط تأججها تنفرز حبَّةً حبّةً. تلك شقرةٌ غامضةٌ ممتزجةٌ بالفضاء الملتهب. كان الذهبُ ينهمرُ في الطريق إليك. شغفٌ يغمر المكان. الشمس من أعلى والرمل ينبسط برحابته الصارمة. تلك هي الشقرة الأزلية. تلك البرهة أدركت من أين أخذت هذا الاسم الفاتن الذي استحوذ على حواسي حين قالت لي «وردة»: تثبَّتْ من مواقعَ أقدامك، فثمة بوابة اسمها «المشقر» لابد لك أن تعبرَها ذات يومٍ، فتعرف أن الحياةَ تستحقُك كلما اكترثتَ بها». أيها المشقر الشامخ. من أين أتيت وإلى أين ستأخذنا في آخر المطاف. من أنت ما أنت. تذرع بنا المسافةَ بين السجنِ والسوق والقصر والحصن وتستعصي على الدلالة. وقفتْ «الرقلاء» بي وهي تنفثُ رغوتها الفضيّة موجاُ طائشاً في أشفارها المتهدلة، ملتفتة ناحيتي لكي أكفَّ عن هذا المسير الطويل المتواصل. تسأل: «ماذا تريدُ من الصحراء أكثرَ مما أخذت؟» فيا أيها المشقر الشقي، هل نجد لديك مكاناً آمناً نتبادل فيه الأنخاب معك؟ هل أنت معهم أم علينا؟ وهل لدينا خيارٌ آخر في مفازاتٍ تحرسك وتصدنا عنك؟ ثمة من يجد لذة في كونك الزرد، فنتضرعُ من أجل أن تنبسطَ لمسارنا القلق نحو النزهة والتجارة واختبار الغياب عن الأحباء كلما فاضَ علينا السفر. فأنت في الطرف الرحيم من مضارب البدو وعلى مشارف النجاة من ملوك الحضر. أيها المشقّر الشاهق. ينالك القويُّ ببأسه وتنالُ المطارَدَ ليأسه. أية ذريعة للمصابين بالصحراء أمثالنا، ونحن نسعى إليك مضمَّخينَ بعطر الغضب، مجللين بتاجِ الشمس، صدرك سريرُ أحلامنا مثلك نجمةُ أحلامِنا تسطعُ كلما احلولَكَ الليلُ حولنا مثلك. ***
أبٌ مغلوب ومالٌ مغصوب
الصحراءُ ذاتها
التي نالتْ من أبي عندما غادرَ لكي يمتحنَ طاقته على السفر، فاستقرت به الرمالُ في غدرِ الأهل. لماذا ينبغي على الرجلِ أن يكونَ وحشاً لئلا تغلبه الصحراء، أو يكون ضبعاً ليصدَّ الأهل؟ لم يبق لي منه سوى ريشةِ دمٍ يابسٍ في قميصٍ ممزقٍ، وقطعة جلدٍ عتيقةٍ مثقوبةٍ، مثلَ رسالةٍ تائهةٍ لا تصلُ إلى مكانْ. أيُّ طفلٍ هذا الذي يرثُ تركةَ لا إرثَ فيها سوى أبٍ مغلوبٍ ومالٍ مغصوبْ. ألهذا كلما وقفتُ عند بابٍ أغلقوه، أو سألتُ عن حقٍ أنكروه، أو طلبتُ طريقاً قطعوهْ. وجعلوني أمضي حياتي شخصاً سَقطَ من سريرٍ الكونْ. مائي بلا قدحٍ وطعامي بلا قصعةٍ، ولا نارَ لي، وليسَ للخيلِ رباطٌ في خيمتي. الشِعرُ وحدُه أنقذني من العدمْ. شعرٌ هو الليلُ والنهارُ والمكانُ والوقتْ. وحدُه القرينُ الذي خَصَّنِي بحياةٍ في هذا العالم، ومنعَ عن روحيَ الغيابَ والمحو، وعندما استطاعوا أن ينزعوا مني كل شيء، امتنعَ عليهم أن ينالوا قريني الوحيد. الشعر هو حصنِي القويّ على ضَعفِه، العظيمُ على صغرِه. شِعرٌ هو القلبُ في الجسد، يَصُوننِي ويصدُّ عني ويصقلُ الأملَ في روحي. يأخذونَ مني كلَّ شيءٍ، فيأخذني الشِعرُ عنهم. ليس أشدُّ من الشاعر في شعرِه. وليسَ أمضى منه عندما يضعونَ الغمدَ عنه. هذا طفلٌ يشبُّ قبل أوانه وفتىً يَـرْقى إلى رجولتِه خفيفاً كمن يسبق أيامَه قالت: ماذا ستفعلُ بأعمامٍ قتلوا أخاهم؟ عرفت أنها لا تـريدني أن أذهبَ إلى القتال، فذهبتُ إلى الشعر. إن حاولوا أن يفعلوا بي ما صنعوا بأبي، فسوف لن ينالوا من القصيدة. كأني ابنُ القصيدة أكثرَ من كوني ابن العبد في الشِعرِ ينبغي أن تكون حريتكَ باسلةً.
***
حق الوردة
«هل قتلوا أبي حقاً. من أين لهم كل هذا الذي يرفلون به ولا ننال منه شيئاً؟
فقالت له: كنتُ الزوجة «النزيعة» قادمةً من قبيلةٍ أخرى، محصورةً بطفلين تائهين، فاستضعفونا وشحنوا النساءَ والرجالَ علينا. أتقدم في العمر وتتوغلُ في هجائهم، خارجاً على وصاياتهم لا تكترث بحدود مجتمعهم. خرقت سلطتهم. فيرون فيك طيشاً يُجيز لهم حماية القبيلة دونه. فأحكموا حصارَهم بتعضيد أصحاب الجمع والمنع هنا وهناك. لا أحد يطيق الشاعر صامتاً، فكيف إذا كان جهير الهجاء للسلطان. مما جعلهم يستقوون عليك ببلاط الحيرة، في سبيل عدم المسّ بمصالحهم، متواطئين مع ملكٍ لا تعوزه القرائنُ. يَضغِنَ عليكَ ويسعى إلى الانتقام منك.
***
زهرة العنفوان
رُويَ أن طرفة كان جريئاً على كبار قومه الذين يهادنون ملوك الحيرة ويسكتون عن ظلمهم وعسفهم، بل ويخضعون لدورات الجباية والعشور المهينة التي يستخلصها جُباةُ البلاط غصباً يصل حَـدَّ النهبِ. وقد تمكن طرفة من التوغل في نفوس شباب أهل البحرين، وحازَ على حبهم. وهُم تولعوا بطريقته في القول والحياة. يتداولون أشعاره ويعيدون إنشادَها. صاروا يُقبِلونَ على السهر في لياليه، ويَسْعُونَ لحضور مجالسه، والتشبُّه بتحرره، معجبين بجرأة خياله وطرافة أفكاره. وهذا أمرٌ استثار زعماءَ القبائل ورأوا فيه خطرٍاً يتهددُ سلطتَهم. وهم يرقبون تململَ فتيانِهم وتزايدَ تذمرهم وتفشي ذلك في الأحياء والعشائر، مما يَشي بتزايد نزعة الخروج على سلطة القبيلة وأعرافها. وجدوا في هجاء طرفة للملك ورهطه تطاولاً من شأنه أن يعرضهم لانتقامات البلاط واقتصاصه منهم، فاشتغلوا على شبكة المكائد التي تسعى لمنع طرفة عن بيت قومه بتشويه صورته، وتمكين سلطة الملك منه بإنفاذ الانتقام فيه.
***
قصيدة
وكان إذا كتبَ قصيدتَه ووضعها على جسدِه، يكونُ قد وَضَعَ جسدَه كاملاً فيها. وتكون استبطنته وتقمَّصَها. تـدرَّعَ بها مثل خوذةٍ. وتقدم بها. فيبدو كأن جسدَه محجوبٌ عن النظر. محصّن بالكتابة. لا تراهما أعينُ الناس، ولا تصيبهما السيوفُ، ولا تنالُ منهما الرماحُ، ولا يكونُ للزمن سلطةٌ عليهما. يتقدمان معاً. الشاعرُ وقصيدته. متلابسان. متماهيان. يجتازان المسافات. يذهبان إلى التحولات اللانهائية: القصيدة إلى الشعر كله،
والشاعرُ إلى الكون جميعه، وهذا ما يجعل الشعرَ عائشاً والشاعرَ حياً. فلا أحد يعرف حدودَ الشخصِ من حدودِ النصّْ.
***
توأم الدم
كلما جاءَ راوٍ زادني شِعراً وقالَ روايةً أخرى عن القتل المبكر
لم تَعُدْ ترنيمةً تكفي لمرثاةٍ بكتْ زنزانةٌ وتذكرتني شبهةُ الأسماءِ. هل بيني وبين دمي علاقةُ توأمٍ هل ينتمي خوفي لمملكةٍ يؤلفُها رواةٌ خائفونَ هل سينجو شاعرٌ من موتِه وهل قَصَبٌ لوراقينَ معتدلينَ فضلُ الكاغدِ الروميّ كي تحظى قصيدته الوحيدةُ مرة بالمصحف الشَفّافِ والحبر المَطَيَّب زَعفرانٌ، عَنبر، مِسكٌ. وراويةٌ له حقُ ابتكارِ الوَصْفِ هل جاءَ الرواةُ لكي يُسَمُّونَ الكنيسةَ حانةً والبيتَ منفى؟
***
أرى الموت فيها
أتقرّى.
هذه طريقي إلى الموت تلمستُ أحجارَها شجرُ الزنزلختِ يسوِّر أخبارَها. فأراها طريقي أرى الموتَ فيها صديقي وأرسمُ بالخطو آثارَها مثلها. كنتُ أمحو وأكتبُ نسيانَها في القصيدة تاريخَها أيها الموت ألمسُ مثل الحنين المهدَّم أعلمُ هذا سبيلي إليك تقرَّيته موحشاً. شارداً. شاخصاً كنتُ أعلمُ هذي طريقي أرى الموتَ في ما تبقى من الكأسِ في الرأسِ هذي طريقي. تلمستها. ضِعتُ فيها أرى الموتَ فيها .. حريقي. ***
شهادة الغائب
نصُّ شهادةٍ واحدةٍ وحيدةٍ. اختلقها المتلمسُ في رواقٍ معتمٍ من الملابسات. لكي يشيرَ إلى مرافقة طرفة له في بلاط الملك. زاعماً أنه لم يكن هناك وحده. رواية هي على قدرٍ من الخِفَّة والخُبث وسوء الطوية. لماذا وجبَ على المؤرخين الثقة والأخذ بهذه الرواية بوصفها الشهادة الناجزة، دون أن يتعثروا بما يشوب أفكارَها ولغتها من الافتراء والمبالغة الخرافية وقصد الإساءة، بما لا يليق بوصف رجل لابن أخته المفترض. فما بالك بوصف شاعرٍ شاعراً آخر. بل إننا نكاد نرى في وصف المتلمس لطرفة باعتباره شخصاً يتخلَّجُ بحركة القيان، لا رجلاً معتداً بنفسه، جريئاً واثقاً في رجولته ومكانته في الشعر والحياة. لكن يبدو لنا فعلاً أن طرفةَ لم يكن هناك وأن المتلمس كان قد ذهبَ، إذا كان حقاً قد ذهب، وحدَه. سَعياً إلى العطايا وحدَه. تحَمَّلَ المهانةَ وحدَه. حَمَلَ رسالة الغدر بمفرده. وليس أدلُ على ذلك من أن الرواة قد تناقلوا القول، الذي ذهبَ مثلا، على تلك الرسالة بوصفها «صحيفة المتلمس»، كناية عن ذهابِ المرء إلى حتفهِ بنفسه، ولم تذكر الصحيفة مقرونةً بطرفة وهو الأشهر شعراً ومكانةْ، يفترض أنه قد حَمَلَ صحيفةَ القتل ذاتَها. لكن يبدو أن المتلمس قد بَيَّتَ نيةَ الإساءة إلى طرفة، وتصوير الحكاية على أنها قد جمعتهما معاً، لئلا يبدو وحيداً في سياق سَعيه إلى بلاط الملك. يبقى القول ثانية، لماذا علينا أيضا أن نقبلَ تلكَ الروايةَ الفاجرةَ بَمَكرِها الخبيث، فنُصَدقَ الرواةَ جميعاً وهم يضعون الشاعرَ في مصاف الحمقى، كما سيسجل ذلك أبو القاسم حبيب النيسابوري صاحب كتاب «عقلاء المجانين». لابد أن شبكة توافقات عديدة قد شارَكَتْ فيها الأطرافُ المختلفة ذاتِ المصالح المتقاطعة، لتحكم خناقها على الشاعر، وتنفذ قرارات القتل المتعدد المستويات، العابر للزمن، المتنوع الغايات والمآرب.
***
بحر يحزّ الكاحلين
كلما ضاعوا برملِ ملوكِهمْ رَدُّوا بعكسِ التِيه:
هل قالَ طرفةُ حزنَه المائيَّ كنا مُسرعينَ. وكانَ جرحٌ. والغبارُ يضللُ الرؤيا ونحن أمةٌ تَهذي. إذا كانَ السَرابُ يقودُها هل قال طرفة عن يَدٍ في الليل عن بحرٍ يَحِزُّ الكاحلينِ عن المعادنِ وهي تطفو والخدائع تستميلُ الخيلَ عن سيلِ الخرابِ عن الكتابِ. هل قالَ طرفةُ كل ذلكَ دونَ أن نصغي إليه؟
هذا الفتى الفتانُ كان قرينةً كانَ الأدلاءُ الذين يؤججونَ غيابَنا يهجُونه ويَرُوْنَ في أخبارِه عن مَدْحِنا خَوفَ الملوك. فيصقلونَ الماءَ في المرآة. نلتهم السَرابَ كأنه أسماؤنا الأخرى وطرفة يطرق الأرجاءَ كنا في العَدُوِّ ولا نرى غيرَ العَدُوَّ كأننا شخصٌ سيقطعُ زِنْدَهُ هل قالَ طرفة. لم نَعُد في كوكبٍ يجري فقد شَطَّ الملوكُ بنا وطرفةُ فاتـَنـا. عُدنا بعكس التيه.
***
حانة شهلاء
ليست ساقيةً في حانةٍ. هي امرأةٌ تُحسنُ صقلَ الأقداح باللطف، وسكبَ الراح بالظرف، وملاعبة أرواح المولعين باللهو والعبث. وَرَثَتْ الحانةَ من أبيها وأتقنتْ عنه المِهنةَ وبَزَّتْ أمَها في الجمال والحيلة. فلم يبق شاعرٌ مَرَّ الحيرةَ إلا زارَ «حانة شهلاء» و تولعَ بها. ولا عاشقٌ إلا تدلَّه بغنجها. حتى قيل: ليلتان في الحيرة تغنيان عن العمر الباقي. ليلةٌ في هوائها وليلةٌ في هواها»
وكانوا يَعنُونَ حانة «شهلاء» بهوى الليلة الثانية. فما إن انتهى طرفة من كأسِه الثالثة حتى التفتَ إلى «المتلمس» قائلاً: يا متلمس، أظنكَ ستذهبُ إلى ملكك وحدك. انتفضَ المتلمس كمن استشعرَ تخلي طرفة عن الأمر برمته: لكنهم حَمَّلوكَ رسالتَهم وأودعوكَ أمانةً لابد لك من أدائها. فقال طرفة مستخفاً: ها أنتَ أحرصَ مني عليها وأقدَرَ على صونها، ولك خبرةٌ في حضرة الملوك. أما أنا فلا قِبَلَ لي بالملوك. لا أقصدُ ملكاً ولا أقفُ بباب ملكٍ ولا أنتظرُ ملكاً ولا أطلبُ شيئاً من ملكْ. فاذهبْ عني. ثم مالَ ناحية شهلاء مداعباً: يا مليكة الليل والنهار. بحق ملكٍ لن أذهب إليه تعالي أتزوجُكِ هذه الليلة. وقع هذا القولُ صاعقاً على شاعرٍ يقال له «الأقيشر» كان حاضراً في الحانة ليلتها، وكان مأخوذاً بشهلاء، فالتفتَ منقضَّاً بكلامِه على طرفة: «لكنكَ نصرانيٌ يا طرفة». فردَّ عليه طرفة: «وماذا يعني هذا؟». وكانتْ شهلاءُ قد اشتملتْ كأس طرفة لتسكب له. فيما تقول له مستجيبةً لدعوة طرفة: «أهذه الليلة أمْ لهذه الليلة؟» طارَ عقلُ «الأقيشر» صارخاً بها: «ولكنكِ يهوديةٌ يا شهلاء». فالتفتتْ إليه مستنكرة: «وماذا يعني هذا؟» فارتجتْ أرجاء الحانة ضاجَّةً لفرط الترنّح الذي بعثه بوحُ طرفة، والغنج الذي استجابت به شهلاء. فأمعنَ طرفة تحديقاً في جيبِ شهلاء، الذي يَفْسحُ لصدرها العارم ما يكفي لاندلاعة نمرين هاجمين يتجليان في مرمى نظرات الثملِ وبصيرةِ السكرانْ. حتى إذا ما تجاسَرَ طرفة على مَدِّ يده لجَسِّ الجسد البضّ. نهرته شهلاء: «لا أسمعُ كلامَ السكارى ولا أقبلُ تطاولهم». رَمَقَ طرفة المتلمس المذهول، الذي كان قد بدأ يتخبَّط في وحشة مهمته المتعثرة. منحه ابتسامة صارمة. وأمسك يد شهلاء بثبات كمن يؤدي طقساً: «كوني بيتي في الحيرة كلما قصدتُها. تعالي أبني بكِ وأكتب عليك». فرَدَّتْ شهلاء: «أخرجْ من خمرتك الليلة تدخل بي غداً. فعلينا أن نذهب إلى من يشهد على ذلك. فهل تأتي نحتكم إلى النار؟». فقال طرفة: «هل تأتين أحتالُ بكِ أمامَ الجنة؟» هبّ المتلمسُ صارخاً كمن فاضَ به: « أيها الغلامُ الفاجرُ. تترك رسالة قومك لتذهبَ الى جحيم هذه اليهودية. ما أجبنك عندما يطلبك الموقفُ الشجاع ». فانفجرَ طرفة: «فلتأخذك شجاعتك إلى ملكك. وليذهب كل منا إلى ما يُحبْ. أما أنا فلستُ من باب الملوك. ففي الحياة ما يُغني عنهم. وقلْ لقومي أن يعدلوا في ما بينهم قبل أن يطلبوا عدلاً من ظالم». تفجرَ الغضبُ بالمتلمس. وعرف أنه لا محالة ذاهبٌ بالرسالة وحدَه. فعمد إلى ترهيب طرفة: «اعلمْ أن الملك يعرفُ انك قادمٌ معي غداً للقائه. فإذا بلغه رفضُك الذهاب فلن يغفر لك» فعاجله طرفة: «أبلغه ألا ينتظرَ مني زيارةً ولا مديحاً». قال المتلمس: «بحق المسيح إنك تلعبُ بالنار مع ملك فاتكٍ. هذا الذي يدعونه «مضرِّط الحجارة» لفرط بطشه». ضَحكَ طرفة مستجيباً لنزوع السُخرية والعبث في كيانه. فيما الخمرةُ تصعدُ به: «لا أفهمُ كيفَ أن ملكاً يقبل بمثل هذا الوصف. لولا أنه فعلاً كيسُ ضراطٍ كبيرٍ». ثم نهض متألقاً بخمرته: «اِذهَبْ إلى ملكك وقل له إنني ذاهب إلى العرس وعليه أن يذهبَ إلى ما يُريد». هاجَ المتلمسُ خارجاً من الحانة. كمن يهرب عن سَماع كلامٍ يُضاعفُ ذعرَه، راكضاً نحو مهمةٍ أدرك بغتةً أنها أثقلُ على كاهلهِ من القتل.
رُويَ أن أحداً لم يعرف ما الذي كان يذهبُ إليه المتلمس. غيرَ أن روايةً قالت أن قوماً صادفوه هائماً على وجهه في طريق الشام بعد أيام. ورَوى بعض السابلة أنهم صادفوا شخصاً يعبر دجلةَ يهذي سائلاً عن أقرب طريقٍ إلى الجزيرة. ويتلفتْ مذعوراً كمن يهرب من نارٍ تلحقُ بثيابه. وقيل أن طرفة هو الآخر قد فَرَّ هارباً بعد ليل شهلاء. تاركاً الحيرة نحو الأرجاء الشاسعة. وقيلَ أن عمرو بن هند قد سَمعَ عن وقائع حانة شهلاء. فغضبَ وعزمَ على مطاردة طرفة والفتك به. فأرسلَ إلى عماله في طلب طرفة وملاحقته بعد أن دخل عليه المتلمس وحده. ماذا يريد ملكٌ من شاعرٍ لا يريدُ شيئاً ؟ ***
الوشاية
رُويَ أنه لما طار غضبُ الملكِ عمرو بن هند شَراراً، التفتَ إلى المتلمس الماثل أمامه، يسألُه عن ابن أخته المترفِّع المتمنِّع عن البلاط دونَ سائر الشعراء. ولما كان في سؤالِ الملكِ غيظٌ لم يرحمْ النفس الصغيرة التي ينطوي عليها المتلمس، شَعرَ هذا أنَّه ليس في مقدورِه حمل وزرَ طرفة في حضرة ملكٍ تفجَّرَتْ نيرانُ غضبِه، وليس لأحدٍ الصبر على أسبابه. قيلَ إن المتلمس في ذلك الموقف تشبَّثَ بتلابيبِ كيانِه الهشّ، وصَفَـنَ برهةً محملقاً في مَنْ حوله، محدّقاً في الوجوه المسمّرة عليه. ثم استجْمَعَ أشلاءَ روحِه التي بَدَتْ كأنهّا تتفَسَّخ في مسكنها، وتتحدَّرُ من بدنِه. ثم بدأ ينهضُ من جثوتِه ببطءِ المذبوحِ كمنْ عزمَ على أمرٍ ذاهبٍ به لا محالة. وما إن اكتملتْ وقفتُه وخرجَ من صفنَتِه، استدارَ على عقبيه دورةً كاملةً، ماسحاَ بنظره الوجوهَ الشاخصةَ، لكي يصلَ أخيراً بعينين ذاويتين إلى الملك، الذي كان يرقبُ من مكانه لحظةَ التحولات العنيفةِ، التي كان المتلمس يكابدها بقدرٍ محسوسٍ من العويل المكتوم. فيما يكمل دورته، كأنه يريدُ أن ينتقلَ بكاملِ كيانِه وحواسِه، من كوكبِ الشِعرِ إلى حضيضِ الوشايةِ، مستعيناً بأقصى ما يمتلكه من فذلكةِ الطهاةِ الدهاةِ، وهُمْ يُولِمُونَ بأقربِ من يَحِبّونَ في مائدة أقصى مَنْ يَرهَبُونْ. ورُويَ عمَنْ جاوَرَ موضع المتلمس في تلك الوقفة، أنه سَمعَ ما يُشبُه صوتَ زُجاجٍ يتهشَّمُ، صادرٍ عن جسد المتلمس ويتحَرك حوله، في حَتٍّ وفي شظايا، وأن صَريراً انبثقَ لحظتها من أعطافِه، يُضاهي صريخَ الكواحلِ منحولةً بفعل صليلِ أصفادٍ باهظةٍ حول العظام البشرية، وقيل إنَّ بعضَهم سَمِعَ المتلمس يكتمُ صوتاً غريباً هو مزيجٌ من النحيب والتضرَّع، فيما يُخرِجُ رقعةً مُهَـلْهَـلةً من ثنايا قفطانه ويرفعها في فضاء الأحداق المترقبة، كمن ينشر أرشيفاً حائلَ اللون والطبيعة، متوجهاً بجماع حضوره إلى الملك: «مولاي، لا أعرف كيف تكترثون بشاعرٍ مثله كل هذا الوقت، وهو الذي قالَ فيكم وفي آلِكم ما تمنعني الخشيةُ من مجرد ذكره في حضرتكم». فهبَّ الملكُ ناهضاً في تخته: «لا تخفْ. أخبرنا بما لديك، فالكلامُ كلُه مهما ارتفع لا يصلُ إلى كعبِ هذا العرش». انتفضَ جسدُ المتلمس برهةً، وأغمضَ عينيه وهو ينفصل عن لحظة المكان وحقيقة الأمر. منطلقاً في حالٍ من الهذيان والغفلة: «انه يا مولاي يُخادِنُ ضدَّكُم الصعاليكَ قراصنةُ البرِّ ويستقوي بهمْ عليكم. ولديَّ في هذه الرقعة ما يمحق القائل». فاستعاد الملكُ مقعدَه كمن يتحصَّنُ لمواجهة الكلام: «اقرأ .. ولنسمع». طفق المتلمس يقرأ كأنه يطلقُ نواحاً يرثي نفسه. مرتعشَ الفرائصِ لفرط الخوف. خوفٌ يتجاوز الملكَ والبلاطَ والجندَ والعسسَ والكوكب برمَّتِه. فخشيةُ الواشينَ في موقف الغدر تتجاوز المكانَ وتعبرُ الزمانْ. راح المتلمس يتلو أمام الملك ورجال البلاط ما تيسَّر له من سورة الغضب التي تنتابُ كلَّ شاعرٍ يشهدُ على الدم في الناس، وهي قصيدة ذاعَ صيتُها في البدوِ والحضرِ.. يهجو فيها طرفةُ عصراً كاملاً ويمدَحُ البحر جميعه. ***
فذلكة الرواة
ومما نستخلصه من توارد الروايات المختلفة، المتناقضة، التي هي أقرب إلى الخرافة الساذجة منها إلى النصوص الموثقة، والتي تبدو في معظمها ارتجالاً بيِّناً اخترعه حَكّاؤون يَصْدُرون عن ضَعفِ صلةٍ بالتاريخ وفقرٍ في المصادر من جهة، أو أنهم يتميزون بخفّةٍ لا تليق بجدية الشخصية الأدبية وجذرها التاريخي من جهة أخرى.
ومثل هكذا سلوك سوف لن يعبأ بتماسك التاريخ في النص وموضوعيته وصدقه. بل غالباً ما يلجأ إلى اختراع الأشعار ونقلها على لسان الشخصيات من أجل تلفيق عناصر رواياته بنصوصٍ توحي بورودها على لسان الشاعر. وهذا ما لاحظناه في غير قصيدةٍ من المنسوب إلى طرفة والمتلمس. حيث تراكمتْ أشعارٌ تؤثث حكاياتٍ مفككةٍ تسردها الروايات المتواترة، ويتداولها الرواة، كما لو أنها الحقيقة الناجزة في تاريخ الشاعر وسيرته. في حين أن هذه الروايات، التي تشي بالتناقض وعدم الانسجام، لا مرجع تاريخياً موثوقاً تصدر عنه، ولا معلومة أكيدة تدعمها، سوى تلك العنعنات التي تتناسل وتتناسخ بأقوالٍ على ألْسِنةٍ ركيكةٍ واهية الحجة، أمتعُ منها أقاصيصُ العجائز الخرافية. من بين مجموع ما وصلنا من أشعارٍ وروايات عن طرفة، ثمة الكثير الموضوع لغاية واحدة فحسب، هو أن يكون كل ذلك سنداً لفصول ووقائع مختلقة ضعيفة لا مصداقية لها، عمل الرواة على اختراعها لاستكمال مروياتهم الخيالية المتصلة بالأسطورة المرتجلة. أكثر من هذا، سنجد بعض الرواة قد اخترعوا شخصيات ذات تفاصيل أسطورية ساذجة للغاية ذاتها. وليس أدل على ذلك من شخصية المتلمس التي سوف يحيطُ بها الشكُّ والقلقُ في غير موقع وفي أكثر من جهة. فمثلما كان لامرئ القيس خالٌ اسمه «المهلهل»، أظهرت الرواياتُ صلته بالقصص الشعبية ليكون جزءاً من تراث الأساطير الشعبية المشهورة (الزير سالم)، سوف نصادف، منذ اللحظة الأولى لحكاية طرفة، شخصية خاله المتلمس التي سوف تتشابه مع شخصية «المهلهل»، مع بعض الاختلاف في درجة الأسطورة. سوف نرى، مثلاً، المتلمس يعود في النهاية إلى بلدته «بُصرى» بعد أن هجرها سنوات طويلة، ليجد حبيبته، ليلةَ وصوله بالذات، تتزوج غيرَه، ولنجد أنفسنا إزاء مشهد درامي بالغ السذاجة مستخفاً بعقل القارئ، من جانبه التاريخي، إذ نقرأ شعراً يتبادله المتلمس مع حبيبته وزوجها الوشيك، الذي سيتنازل بدوره عن زوجته لكي تكتمل الحكاية بلقاء الحبيبة وحبيبها المتلمس الذي ظهر فجأة في ذروة الحدث. مثل هذا المشهد من شأنه أن يدفعنا إلى عدم الاستهانة بالتوقف المتشكك الذي ساقه بعض المؤرخين المتنبهين حول أصل شخصية المتلمس برمتها. حيث لم تكن هذه الشخصية طوال سيرة طرفة سوى عبء موضوعي وعنصر دخيل في حياة الشاعر، ومدعاة لمواقف الحرج المركّب على الصعيدين التاريخي والأدبي، منذ لحظة الشكّ الأولى في حقيقة مرافقة طرفة للمتلمس إلى بلاط الحيرة، حتى الرسالة المزعومة التي ارتبطت شهرتها بالمتلمس وليس بطرفة. ***
ماذا تعرف عن الدم؟
في الفَصِّ الصغير الذي ينعقدُ في شِريانِ الكاحلِ يتوهجُ دمٌ يتهيأ للكلام الأخير. كأنه انتظرَ كثيراٌ هناك. في منحنى الكعب وعقدة القدم. انتظرَ مثل حارسٍ كسولٍ لأسطورةٍ نشيطة. حبلٌ نحيلٌ من العَضَلِ الشَفيفِ. رَشحته الآلهةُ لشفرتين: السهم من هناك والنصل من هنا. انتظرَ كلَ هذا الوقتِ من كعبِ «أخيل» حتى كاحل طرفة. الأسطورةُ ذاتُها لقتلٍ كامنٍ ومرصودْ. ما إن تصيب الشفرة ذلك الوتر المشدود حتى ينهار كل شيء. كلاهما محاربٌ في مكانٍ ومقتولٌ في زمانْ.
أيها النبيذُ الإلهيّ ماذا تعرفُ عن الدمْ؟. ***
سعي المنايا
تلمستُ آثارَ أقداميَ الشاردات إلى الشام
خشيةَ أن يطالَ الرمادُ كتابَ الأمل تلمستُ أن يسمعَ مني صديقُ الطريق ويلوي عنان الخيال ويفلتُ من أرخبيل الأجلْ بكيتُ له أو بكيتُ عليه سيعرفُ أن الكتابَ المدمّى نشيدُ الملوك علينا ويعرف أن النبوءة تفلتُ قبلَ اللسان وأن الذي كان في نزهةِ أيامنا صارَ سَعيَ المنايا إلينا تلمستُ أن يعرفَ طفلُ البدايات أفلاكَنا وهي تعبرُ فينا سديمَ النهاية. منذ اللسان إلى الرأس حتى الحدود التي سوف تفنى ليبقى لنا النصُّ يبقى لنا أن نؤجلَ أخطاءنا.
تلمستُ رملاً سوى أن في الشام لي غير ما تشتهي الروحُ حتى ندمتُ كأن الصديق الذي فاتني قبل موتي هو المحتملْ.
***
شظايا في الرمل
هائمٌ،
عينان رمليتان. من أين جاء إلى أين يذهب. مشردٌّ سحقتْ أعضاءه كائنات الحنين. يتقدم بعينين محتقنتين لفرط الغبار. الحجر الضاري. يتعثر بقفطانه الطريّ عابراً أقدم المدن تضرعاً وأكثرها عتمة، باحثاً عن النجمة الضائعة. الرحيل حقيقته ودفتره مشحون بالتآويل. بالوهج المجهد في عينيه. يهم بالمديح فتطيش فلذات الهجاء في وجوه الملوك بلا فهرس ولا إشارة. حكمته فضيحة الخزف وهو يشفُّ تحت وطأة الجحيم. ليس ثمة مدينة تحسن القراءة ولا كتباً تشمل النشيد. عينان رمليتان لفرط التحديق في المفازات. أين يضع قدمه في أرخبيل الضباب. كلما طرقَ باباً اندلعتْ قصيدةٌ واشتعلتِ الكلمات في القمصان والقصص. كلما وضع قدميه الداميتين بالذعر في طينٍ يابسٍ تَفَجّرَ ماءٌ وانبثقتِ البقولُ والتراتيل. يهرب، فتسبق الفصولُ خطواته. يترك أثرَه في العائلة ويتقمَّصُ السفر نحو أمكنةٍ وأوقاتٍ ليس لها خططٌ ولا أدلاء. هذا الذي هو في حلٍّ من البيت، له في كل خطوةٍ صِفةٌ ومعنى. يفيض على الآنية ويترنح خارجَ القبيلة ويخلبُ الناسَ. يحجبونه عن الماء والفئ في ظهيرة الرمل ويمنعون الفتية المأخوذين عنه. فيأخذه التحديقُ حتى يَطفُر الدمَ من عينيه. عيناه قنديلتان منذورتان للمحو. سهمانِ يذرعانِ المسافةَ بين البؤبؤ وبهجةِ الخيل. من أين إلى أين. يسألُ الشمسَ ويصغي لهمسَ البحرْ.
***
ما البحرين؟
حتى إذا سألته: ما البحرين؟، قال: «إذا كنتَ تقصد البحرين عندنا، فهي التي إن بدأتْ في رأس عُمان فلن تنتهي عند نهر البصرة, وأن كل ما بينهما فضاء مزيج بين الوقت والمكان. وسوف يشمل أقاليم ساحل البحر وداخل الجبل. ويطال هجر والإحساء جميعها. غير أن هذا كله لم يكن ليعني شيئاً عندما نهمُّ نزوحاً عن مكان أو نسعى رحيلا إلى مكان. فالبحرين عندنا هي الآفاق التي تستعصي على التخوم وتفوق الوصف. فإذا انتهى بنا الزمان إلى هذا اليوم وسمعنا أن قوماً، في جزيرةٍ صغيرةٍ إلى هذا الحدّ، قد طفقوا يزعمون نسبةَ شاعرٍ لفسحةٍ معلومةٍ محدودة، ويؤلفون من أجل ذلك الكتب ويلفقون الوثائق والأدلة لكي ينسبوا شاعراً إلى بلدٍ محدود، من أجل اختزال حقبة شاسعة من التاريخ في فرسخٍ من الجغرافيا، ويقيمون السرادق والمهرجانات بوصفه شاعرهم فحسب. لعمري إنني لن أصادف خبراً أكذبَ من هذا. فكيف تسنى لهم حبسَ حلمٍ شاسعٍ مشحونٍ بالتجربة والروح، في وهمٍ ضئيل الدلالة، بائس المعرفة، شاحب المعنى. فإذا سألوك عن البحرين، قل لهم، إذا هم رأوا ذلك المكان رحباً شاسعاً مفتوحاً متصلاً متواصلاً بالشكل الذي رأيناه، فسوف يصحُّ لهم الظنُّ بأن ثمة بلاداً تتجاوز البحرين لتصير بحاراً كثيرة، فيها من الشعر ما يكفيها، وتزداد بحرا كلما استيقظ في زرقتها شاعر جديد. وإذا كنت تعني أرضا مجزأة ممزقة أمضيتُ عمري القصير أرفوها بالشعر شلوا شلوا وأخيط فتوقاً ساحقة فيها، أنشد في جبال عُمان فيسمعني أهل البصرة. إن كنتَ تعني أقاليم مقسَّمة سهرتُ أزكِّيها بكلماتي، وأمشي في عطر لياليها بالنخل والورد واللؤلؤ. إن كنتَ تعني حدودَ الأفق ذاك .. فذلك بيتي».
***
طفولة الوقت
وقال لها :
إن الطفل الذي سترينه ساعة قتلي هو وقتي الباقي المستمر بعد الموت اذهبي إليه وادخلي في عينيه الدامعتين هناك القصائد هائمة إليك. ***
هاتوا النبيذ
خطّ كلمته الأخيرة في منتصف السطر، في عين الورقة، في المسافة بين الحبر و الدواة. بسط ريشته العليلة على خد الورقة، رفع رأسه بتثاقل الحالم وقال لهم:
هاتوا النبيذ. اجتاحت أجساد الحرس رجفة الدهشة. -نبحث لك عن طريقة لموتك وأنت تطلب النبيذ؟ -ها اني قد اخترت طريقتي في الموت. لا يليق للشاعر أن يموت كما يحلو للآخرين. مثلما عشت أموت. وما عشت معه أموت به. ثمة موت يضئ للشاعر مواقع أقدامه. هاتوا النبيذ. - وكيف؟ - أشربُ حتى الثمالة، و في اللحظة التي يصعد الدم من عروقي في جمرٍ وفي شظايا،تفصدون كاحلي في المكان الذي حملني الى المجرات، فأنزف حتى ينفد الأحمران في مزيجٍ واحد. الجسدُ هو زجاجةٌ أيضاً. وإذا كان لأحدٍ حقُ بذل زجاجته بنفسه فهو الشاعر. يرفع كأسه الأخيرة بجذوة الروح في الجسد، وينتخب حريته الأخيرة، فلا يكون للملك ميزة حق القتل وحق اختيار الشكل. هاتوا النبيذ، فجاءوا له بالنبيذ، فيما كان يرتب أوراقه الأخيرة ويحزمها بالابريسم الأخضر، ويختمها بزجاج القدح والنبيذ يندلق ويمنحها القرمزي الحزين الذي استُدرجَ ليكون شاهداً على الفجيعة. أخذ يصبُّ الاقداح ويعبّها وهو يستسلم لاندلاعاتٍ متتاليةٍ من البوح والهذيان والهلاس، وقمصانه تتهدل بما يطيش من النبيذ ويطفر من القرمز وما يفيض من الولع. كلما انتهتْ قارورةٌ وترنحتْ فارغةً لفرط الفقد، جاء الحرسُ له بالمزيد، وهم ينظرون ويسمعون مذهولين إلى ما لا يُصدَّق. -لكي تذهب الى موتك حراً كما في حياتك، يتوجب عليك أن تختار السبيل الجميل إليه، فحقيقة الموت تكمن في انتظاره والطريق إليه. إذا تيسر لك أن تذهب وأنت في ذروة الانتشاء، فسوف تقابل الموت وأنت أقوى منه. ليس مثل الخمرة سلاحٌ يهزم صَلَفَ الموت وعنجهيته ومزاعمه. هذا النبيذ قرمزٌ يمنح الدمَ طبيعته الخالدة، فاللون ليس صدفة، كما الشعر والحب في الحياة. هاتوا النبيذ أيضا وايضاً، وتعالوا أطلقوا دمي من أسره، فها أنا أشعر الآن بالنيران تتفجر في أوردتي، والكحول يتصاعد شواظاً في الشرايين. افتحوا الطريقَ له، هاتوا أكثر شفراتكم رهافةً واجرحوا كاحلي بين الجوزة والكعب. هاتوا النبيذ هاتوه.
قيل، فلما جرحوا العرق النافر، انفجر نهرٌ صغيرٌ من القرمز الدافئ، وطرفةُ ينظر في سكون، لا يصرخ ولا يتوجع، ممسكاً بقدحه الأخيرة وهم يصبون له الشراب كلما فرغ. يشرب وينظر، وابتسامة غامضة تطل من شفتيه المصبوغتين. قيل، فلما ارتختْ أعضاءُ جسده، كان النهر الأحمر الصغير يكبر ويتسع ويفيض، حتى امتزج الأحمران في برزخٍ شامخٍ بين اليد والكاحل. واختلط على الحرس الحدُّ بين الدم والنبيذ. فتجلى لهم شكلٌ من الموت لم يعرفوه ولم يسمعوا عنه.
قيل، فلما جاءوا يفحصون جسد الشاعر، وجدوا العطر الزكي يفوح من الجثمان، ورأوا ورداً أحمرَ يتفصّد من أردانه، وعندما رفعوه عن الأرض يحملونه أحسوا كأنهم يحملون ريشةً صغيرةً في حلم. قيل، فلما سمع الملك عن طريقة طرفة في اختيار موته، صاحَ في حسرةٍ: « آهٍ ، قتلني طرفة قبل أن يموت».
***
حقّ "ليلى"
بعد طرفة بزمن يأتي شاعرٌ يدعى عمرو بن كلثوم يقبل ما رفضه طرفة. شاعرٌ من «تغلب» يسعى لدى بلاط الحيرة وعند الملك عمرو بن هند نفسه، من أجل النظر في معالجة خلافٍ نَشَبَ بين قبيلتيّ «بكرٍ» و«تغلب». يكون لذلك الشاعر أن يؤكد مجدداً أن الملوك لا يقبلون شاعراً يرى غير ما يرون. ولا يتجاوزون شاعراً يستنكف المديح في حضرتهم ويجلسُ عنه. وقيل أن عمرو بن كلثوم سبق له أن تأخر متكبراً عن ارتياد بلاط الحيرة، بل أنه حين قَصَدَ الملك لم يأت مادحاً ولا ساعياً لغاية شخصية، بل جاءَ في ما يشبه المهمة السياسية كلَّفه بها قومه، مما جعل عمرو بن هند يضغن عليه، حتى قيل أنه من جهته قد عمل على استدراج الشاعر ليعرّضه لمهانةٍ في أمه «ليلى» فينتقم من كبريائه. الأمر الذي جعل الشاعر يثأر لكرامته وينقضّ على الملك ويقتله في قصره. وتلك روايات لا تزيدُنا إلا ثقة في أن الأسطورة التي لا تتوقف عن صياغة تاريخٍ يظل قيد النظر وإعادة النظر. تاريخٌ يمنحنا الثقة في شكِّنا. لكأن الشاعر عمرو بن كلثوم سيقول لنا لاحقاً: «لقد كان عليَّ أن أتعظَ بدرس طرفة. فلم يكنْ من الحكمة الذهابُ إلى ملكٍ قَتَلَ شاعراً. هل كنتُ أردُّ التحية المتأخرة لشاعرٍ متقدم؟». ***
الشاهدة عُثِرَ على شاهدة قبرٍ في «هجر» بالبحرين. تاريخها الميلادي 563 . كُتِبَتْ بخطٍ نبطيّ يابسٍ في خمسة أسطر. تقول: «دُفنَ هنا طرفة بن العبد البكريّ. لم يظلم أحداً. ظلمه أهله. وغدرتْ به قبيلته. استنارَ بالشعر في حياته واستجارَ به في مماته. تم قتله بأمر ملكٍ في زمنه».
كشفَ هذه الشاهدة ذئبٌ كان يُنَقِّبُ في ظاهر القفر. وقرأها شاعرٌ نائمٌ في حلمٍ، في ليلٍ طويل، فاستحال الحلم إلى نحيبٍ يغنّي الشاعرَ القتيل ويرثيه.. ولم يزلْ. ***
ماء ينهر الآلهة (دفتر الصحراء)
«يقولون لا تهلك أسىً وتجلد»
طرفة
صحراء/ بلاد
ماذا أسمِّي هذه الصحراء،
وهي تدورُ بي وتدير أخلاطي، وتمحوني كما يمحو الغبارُ حروفَه. فسيوفُها رملٌ وماءٌ غائبٌ، ورماةُ أخطاءٍ. اسمِّيها بلاداً، كي أراها غيمةً مغدورة الأسماء.
صوتُها وهي تعوِلُ في الغبارِ. تعلن حضوراً شاسعاً لجيوشٍ الذهبِ مستنفرةً لاقتحام كثافة الصفوف لكائنات تنبثق في أعوادٍ داكنةٍ الخضرة. صوتها نحيبُ المنتصر بجراحهِ محدقاً في عتمةِ المداخل. مشحونةٌ بذعر الاندفاعات. تندفق في موجٍ رشيقٍ. يتخطى ويجتاز. صوتٌ بعينين فاجرتين يخط بأقلامٍ لامعةٍ. بحبرٍ ساطع. كلمات طازجة لنهارٍ يصعب احتماله. صوتٌ صادرٌ. هادرٌ. ساقطٌ من أقاصي الخجل. صوت يصوغ كلمات المعنى وشهوة التأويل في شغف الشعر وعنفوان الطبيعة. تحت رحمة شمسٍ منتظرة في غبار الأوج. أصغي لحشرجة الجليدِ يحُكُّ جلدي والزجاجُ الناعمُ الوحشيّ يبْرُدُني رخامٌ غائبٌ وحجارةٌ جمرٌ وجازٌ جاهز وجنازةٌ كسلى وثلجٌ ناضجٌ في الليل. نجمك الليليُّ تاريخ القبيلةِ وهي تستثني تمرَّغنا بهامشها أسَمِّي جرحكَ المكتوبَ بالياقوتِ في نسيانهم عنوان مَنْ ضاعوا بلا ذكرى أسمي الجنةَ الأخرى بلاداً فرّطتْ في مائِها. أسماؤها منذورةٌ للتيه. نمْعنُ في هوامشها. أسمِّيها. لنصقل ليلَها بنجومِكَ الحَسْرى أسمِّيكَ. اختزالاً. قلبَها. وهي النحيلةُ كاحتباس الروحِ في جسدي. فهلْ تُجدي ثمالةُ كأسِكَ السَكرى أسميكِ. احتمالاً. نجمةً. ليردَّني أهلي الى بلدي. شظايا إرثيَ المنهوب. لا شعرٌ لهم. لا بابَ أغنيةٍ تؤلفهم. وهامشُهمْ لنا بحرٌ وبعضُ سفينةٍ. ولهم ضياعٌ باهرُ الشكلِ. وبابُ قصيدتي في الليل سميتُ انتحابَ الخيلِ مرثاتي، إذا ما اغتالني ظِلي.
***
انتخاب الخيل
ثمةَ ما يشطرُ هذا الزفير إثنان أو أكثر
مَزَّقتَني، قَسَّمتُ أسمائي على شاطئ أعطيتُ أشلائي دماً نافراً فانتابني برقٌ كأن النفير، يجتاحني. موتانِ أو أكثر هل تمتحني هل تَرى حكمتي أن تستحيل النارُ في جنتي أحبولةً هل هذه الصحراء مستقبلٌ يزدردُ الشارد والمستجيرْ يرتد .. أو أكثر؟
شخصٌ ينقلُ خطواته الواهنة في تثاؤب أقل من الوقت وفي نأمة تختلج بسرها. تزيح الندى. وتسأل بلورة العشق عن شمسٍ تتماثل في رداء مخضلٍّ بحلمٍ طريّ. فاضح العري. تأويلُه يسبقُ الضوء. هل الشمسُ أقدامُ آلهةٍ في القلق. هل يبدأ النهارُ في خيطٍ خائفٍ. هل الضوءُ يدٌ أمْ كلام. هل النارُ تذبلُ في زجاجةٍ. هل بابُ الوقت أم شرفة المكان. قنديلٌ يوقظ السديم وينهر البدء. هذا البردُ يحرسني ويمحوني يبعث جندَه بعدي ويتبعني كأني أستعينُ به أصدُّ ضراوة الصحراء، كي يغتالني وحدي.
***
براءة الوحش
حيوانٌ يأخذ من صفاتي. كل يومٍ صفة. يحسن أن يتحول ويصير ويصعد وينشأ مثل الأشجار. في كل صباحٍ أفقد صفةً يتخذها. فأكفُّ عن الشخص وابدأ في وصف الكائن. حيوان يأخذني صفة بعد الأخرى.
يتقدم خطواتي يكتبني ويقرأني ويمحوني. أشرع في التأليف كأنّ كلامي خلقٌ ثانٍ وصفاتي تتلاشى في جثماني، وكيانه يتفتح مثل وردة. حيوانٌ يبرأ من الوحش كلما حاز الحب.
***
النجوم في الشرفة لدينا الأساطير،
نحن ضحايا الرواة، ويقتلنا السَردُ أخبارُنا سَفَرٌ في السَراب يختبرُ الموتُ أشعارَنا. كلما طاشَ عقلٌ لنا، جُنَّت العاشقاتُ واستدارَ الندامى يُغنّونَ للغيم فصلَ النهايات فَصْدَ الدماءِ الحبيسةِ سردَ النقائض نقرأُ في دفتر الماء أسماءنا
لم تكن الشرفة تَسَعُ نجومه وهو يستريح في سهرةٍ طويلة. ليلٌ ليِّنُ العريكة، يخرج من مجابهاته. يذرع النوم بين الحلم والكوابيس. طاب للشرفة أن تندلع بتسعة سلالم من حبالٍ مغزولةٍ بأكثر المُقَلِ بياضاً لفرط التحديق وأكثر المحاجر دكنةً لفرط السهر. بردُ الوحيدِ علامةٌ للفقد. لا امرأةٌ، وخولة وحدها لا سَيفَ لي والكأسُ تاج الماء في عِلمِ الكحول بردٌ سيزدردُ الفصول. لم يكن لي بين البحرين والحيرة غير خيطٍ من الولع. أجلس في مكان الشمس اقرأ الكلمات. أتهجى أبجدية الكشف. شمسٌ تذرع المسافة بين الحانات، تضيء لي خطواتي نحو الكرمة الكريمة في أقبية الحيرة. حيث الجِرار في قامة الشخص الناضج. أقف عليها تسعة أيامٍ حتى أدرك ثمالتي. خيطُ ولعٍ أمشي إليه فيأخذني الى حانة شهلاء. في هواء الحيرة الأبيض العليل الذي لا تصيبني علة فيه. حين يضطرب قدحٌ في يدي ذات ليل، وتنسكب خمرةٌ على طرف التخت، أشعرُ بدفء شهلاء وهي تضع يدها تحت إبطي. تجلسني على بساطها. امرأةٌ جميلةٌ من بنات الحيرة اللواتي يعرفن من الشعر ما يكفي لأن يصغي شاعرٌ إليهنّ وهن ينشدن. في الحيرة ليس من الحكمة أن تقول الشعر فحسب، لكن يتوجب عليك أن تسمعه، فتصدِّق أن ثمة شمساً ثانية تسكنُ ذلك الغيم، بمعزل عن المُلك والمملكة. خيطُ ولعٍ يضع الحيرةَ في مهبِّ الفتنة. ليس لي في الحيرة شيءٌ يستحق السعي إليه غير الخمرة والخطّ. ***
مرآة الأعمى
يكتبُ الأعمى عن الضوءِ. ويَروي أنَ بابَ الليلِ قنديلٌ بعيدُ
ما الذي يفعله الأعمى إذا شَطَّتْ به أحلامُه، وتوارى في التجاعيد الحديدُ هل يرى الصحراءَ قيداً هل له أجنحةُ المهدورِ هل يقرأ شعرَ الموتِ في الأحياء.. أمْ أنَ يداً تَملكُ تاجَ الضَوءِ تَهدي قلقَ الأعمى ويَهديه النشيدُ.
هنا، في برهة القلب المولع بإيقاع دمه في الأروقة. لذَّ لليل أن يحلَّ شكيمةَ المأسورين تحت الشرفة، ويطلق كائناتٍ غضّةٍ ويرقبها وهي تتأوَّد محتدمةً تتراكضُ مندفعةً لتمسك بأطراف حبالٍ مفتولةٍ تتصاعد نحو سماءٍ غائمةٍ في رحيلٍ يضاهي إسراءَ الملاك.
أصغي، فيصعقني دبيبُ الدمْ رملٌ باردٌ ويدٌ كأنَ الله أطبقَ هذه الصحراء فوقي، واصطفاني سيداً للوحش هذا البردُ لا يكفي لكي أصغي له وحدي، فمن يبكي معي في ثلج هذا الليل. دفءٌ نادرٌ للروح يقرؤني ويؤنس وحشتي ويذوبْ.
****
الأقحوان (*)
لك ما تشتهي
يصعد الطينُ كالعطر في الأوكسجينْ لك ما تشتهي مَلكٌ أو سجينْ لك ما تشتهي حصةٌ في الحنينْ لك ما تشتهي يهرب الشعراءُ الى الحيرة الفاجرة لك ما تشتهي نجمة ساهرة لك ما تشتهي لغة الله في الآخرة.
***
المكنان
سينالك حال أن ترخي لحصانك مقبلاً على راحة أعضائك بعد مسير النهار والليل في بردٍ ثاقبٍ وشمس فاجر. وريقات أصغر من خطوات القصائد. صفراء بحمرة مكنونة مكنوزة بعطرها تتكلم مثل بلورٍ يهطل في قصعة اللبن. ما إن تضع لجام خيلك في أرضٍ حتى يصعد إليك رسول الغبار يستدعيك فترخي ساقيك في ظل خيلك تصغي لرائحةٍ طالعةٍ تصعدُ لك وتصعد بك فترى غيماً يخفيك عن سواك، فتأخذك غفوةٌ تظن أن الليل هو الحلم كله والعمر جميعه.
***
الخزامى
غيَّرَ الخدُّ مجرى الدمع لئلا يوقظ الجمرة النائمة. شهوة في مهدها. ترقب خطوات البكاء. مطرٌ سوف يحكي عن الفقد.
هل قلت غيماً يغير لك اللذة وغدر الوقت. هل قالت الأرض لك. فتنة للطبيعة أن يأخذ الماء شكل الهجوم. مطرٌ هاطلٌ مستمرٌ وبردٌ ومسترخيات. غيَّرَ الخدُّ شكلَ الطبيعة في البوح. ***
الشقاري
أشقرٌ مستهامٌ يسعى الى شفتيك.
كلامٌ هو الذهب المستعاد إلى أصله. ***
الحربث
يومٌ يلوِّح بأوراقه التي تشهق مثل الصلاة. يوم يباهي الحياة. أغانيه تحرس خطوات القصيدة. تمسح عن شاعرٍ صهدَ الكتابة. مثل التعاويذ قبل العناق وبعد الشبق
سبحان هذا الشفق يقبِّلها ثم يضحك هل يلثم الحبُ قلبي. دع الأرض تنشر أخبارَها حرةً في كتاب القلق.
***
العرفج
صفراءُ تضحك مثل ضوءٍ يندفق فيوقظ صمت الصحراء. صفراء. بينها وبين الطين لغةٌ ودَرَجٌ يصعد حتى مقعد الريح. كل خيمة تنتخب زهرة الذهب وتغفو قبل المساء. تضعها العروس في جيب فستانها وتذهب الى الحفل. عندما يبدأ الرقص، على الموسيقى أن تقرأ خطوات الذهب السكرى لفرط الرحيق.
***
الصقل
بين نهرين من لبن الجسد النبويّ، يسطع زهرُ التآويل حيث لا شعر قبل الشهيق. كأن الرحيق الإلهي يصعد في الطلع. في زهر الشهوة الفاجرة. بين ساقين. في الملتقى. في قصب الجنة المشتهاة. مما تبقى في الخسارة بعد النجاة. زهرة مصطفاة.
************
(دفتر خولة)
جَنُوحٌ دِفَاقٌ عَنْدَلٌ ثمَّ أفْرِعَتْ
طرفة
أدلاء
غَرَّرَتُ بالأدلاء قصاصي الأثر،
وهم يجوبون الكتبَ يقرأون في الوشم نكهةَ الإبريسم وملح الإثمد يتقرُّون مواقعَ أحلامي ويصبُّونَ لكل قدحٍ خمرةً ويروزون إبرةَ الميزان أدلاءُ يتهدجونَ في شهوةِ الغيمِ والتأويل
غررتُ بهم حتى أوشك الندم أن ينال منهم ***
نزهة الناقوس
جئـتُـكَ أتبعُ صوتَ النواقيس، كنتُ في الطرف البعيد من الجزيرة جئتُ مأخوذةً بنحاس قديم يفرُّ من الصدأ ويصرخ كنت كلما وصلتُ أشاروا إلى تخوم أبعد
أنظري إلى ذلك الضوء، إنه هناك، يتصاعد في معبدٍ مهجورٍ أرى شعاعاً يتصاعد مثل الشواظ، فأسعى من صحراء بعيدة أسعى وأنتحبُ كمن يُحصي حبات الرمل قادمةً إليك تقودني حنجرةٌ في نحيبٍ لا ينال منه تعبٌ ولا يبلى وكلما تقدمتُ تكشفتْ تخومٌ قريبةٌ تبتعدُ وكلما أوشكتُ أشاروا إنه هناك أراك في الوهج شاعراً يكتب عن أنبياء يستيقظون فأقرأ ما تشي به نواقيسُ تعول في صحراء تكاد أن تطبق بوحشتها على شفتين مفعمتين بالرسائل أجدّ في السعي خشية أن ينال الوقتُ من يقظة الحجر، فيترمَّدَ البركان ويقع نبيٌّ في الوهدة من بعيد الرمل أسعى بقلبٍ مضطربٍ، أقيس الشغف بالنواقيس، وأنتَ تتأججُ في حبلٍ موصولٍ بالسماء تشدّه تُرخيه تشدّه وتضربُ الأرجاء الزرق به تطلق النحيب الصارخ مثل وترٍ نشيطٍ وحيدٍ في المعزف العظيم فأعرفُ أنني في الطريق إليك، أدرك صوتاً يوقظ الخلق ويعيد الخليقة إلى رشدها ناقوسُ فتىً يَشِي ويبوحُ ويُفضي بشعرٍ ينهر الآلهة ***
انتظار
كنت انتظرتك في نهايات القصيدة،
كي نسافرَ في الذهبْ كنْ لي انتظاراً واحداً ناراً مولَّعةً لأنتظر اللهبْ
***
حصة الموت
كنتُ خمسين انتظاراً يائساً
وعرفتُ أنكَ لن تجيءْ كنتُ امتحنتُك في غيابِ الدرسِ في القاموسِ وهو ذريعةُ التأويلِ أسألُ عنكَ نسيانَ الدفاترِ كانَ يستثني قصيدتكَ الجميلةَ ينتقي للحرب أشلاءً ويمنحنا ضِعافَ الخيلِ كي نكبو فيأخذنا بكاؤك لانتظارٍ صارمٍ خدي على باب الكتابة ربما تأتي انتظرتكَ خاشعاً في حصةِ الموتِ البطيء
***
غصن مريض ومكسور
كانت الريحُ تفاحتي
وهي مرتاحة في انتصاف الحروف كنتُ في الغيم في الكلمات التي تسبق الوقتَ في المنتهى أحتفي بالغصون المريضة مكسورة في الطريق الموازي هل كان لي بيتها والصدى واهنُ الصوتِ شخصٌ يرتِّبُ أخطاءه في الحديقة هل كانت الريحُ أعلى من الوقت والرملُ في ساعتي في الخفيِّ من الخوفِ والشاعرُ المستهامُ يضيّعني ويضيع
***
تسْمية
سَمّاكِ زنبقةً وسَمّاني صدىً ففتحتُ نافذتي على ليلِ الحديقة كي أرى عطراً يغني للسماء ***
الحائر
كلما عادَ من حيرةٍ جاء مستنفراً تسبقه الشكوكُ، وتتبعه الأسئلة ***
لكَ
مثل أحلام الفلكْ
أبحرتُ نحوكَ قاربي جسدي وقمصاني شراعٌ وانتحاراتي انتعاشٌ صارمٌ والقلبُ لك
***
تأويل
وردةٌ / لغةٌ زفيرُ قاموسٍ لها وتبادل الأنخاب في تأويلها عطرٌ وإرث قبيلةٍ منهوبةِ الأخبار مثل سلالةٍ تهذي وكأسُ الغيم يُسكرنا ويوقظُ ليلها ***
ألفة
غصنان مخضوضران
والحديقة تفْرط في الحب بيتٌ تؤجلهُ وحشةٌ والشجيراتُ تؤنسُ وحدتَه النادرةْ جمرةٌ صابرةْ كل هذا الجليد المريض على الباب هذي الوريقات تبكي على خضرة حاسرةْ
***
قدمان في حلم
لم تخرج خولةُ من حلمها . استسلمتْ للنوم وتركتْ قدميها تؤنسانني حتى الصباح لخولة قدمان صغيرتان إلى هذا الحدّ طفقتُ أتأملهما في دهشة من يكتشف قدمي ملاكٍ لأول مرة
يا لقدميك الصغيرتين في البرد ترتعشان بين يديّ وأنا أدعَكُ لهما الكعبين بجمرة الولع وأغسلهما بماء القصائد قدمان صغيرتان حتى إنني أخفيهما معاً في كفي، وأدثرهما بفروة الذئب كلما جَنَّ ليل وتشهَّتْ قلوبٌ وأظلُّ أسردُ لهما الحكايات لأرى أصغر قدمين تصغيان إليّ وتنسربان في نومٍ ناعمٍ، وسربٌ من الملائك يحرسهما قدمان صغيرتان تنامان في أحلامي أسهر على أحلامهما فيليق بهما التأويل
***
(دفتر طرفة)
«وما زال تشرابي الخمور ولذتي
وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي إلى أن تحامتنــــــي العشيرة كلها وأفردت إفـــــــــراد البعير المعبد»
طرفة
نهار نافر
بيني وبين الأناشيد ليلُ
بيني وبين الأساطير سيفٌ وخيلُ ولي نحو بيت الحريق طريقٌ سينفر في خطواتي النهارُ وينهارُ في ليل شِعريَ وحشٌ جميلٌ ويحلو
***
شرفة كونية
أكتب الكلمات مخلوقة تواً
خارجة في لحظة الكون يتكون تخوما بعيدة عن مرمى الآلهة صادرة عن الإصغاء الحميم لدبيب الدم في الروح اكتب فأنجو معك من حيفٍ وشَكٍّ يصوغه الآخرون لسنا لهم، يسعون إلينا بالوسائل والغايات، ويولمون بنا قبل الحفل وبعده غير أني من شفيف الشرفة الكونية، أكتب إليك فتشهقين، تدفعين وشمك في أعطاف الخيل، وترخين العنان هائمة في انتظاري أنصبُ خيمتي في ليل المكان كي نسهرَ العمرَ الباقي في الزمان كله
***
عروة بن الورد
قل لي يا "عروة" كيف أهيئ الصحراء لخيمتي وأزرع فيها أوتاراً تشدني إلى جهة الأقاصي وأنال القدرة على الحلم
عليك أن تقول الفهرسَ كاملاً، والعذابَ كله، وبقيةَ الورد، أجل أن تضم سهرتُـنا صعاليكَ الأرض وخوارجَ السماء، وتَسَعَ العشاقَ المقتولين بحناجرهم العارية عليك أن تفتح مملكتك لنقائضها وتضعَ دمي في أبجديتك عليك يا عروة أن تلقاني في يومِك وساعتِك وقراحِ مائِك نتقاسمه معاً، فقد أمضَّني العطشُ وذبحتني الوحشة ***
صداقة كلما فقدتك في غيابٍ،
وجدتك في كتابْ صديقٌ مثلك لا أحدَ مثله يكتبني حين يمحوني الآخرون
***
"الرقلاء"
منَ الإبل إلا قليلا
منَ الله أكثر، من صُلبِ آلهةِ الناسِ من حلمهمْ من رؤاهمْ
مَنْ رأى ناقةً نارُها درجٌ صاعدٌ نحو برج السماء مَنْ رأى الندماءَ يُصَلُّونَ لله ؟
ناقتي هودجُ الشعر والأنبياء يجيئون بعديَ جيلاً فجيلا
***
أحفاد
إلى أحفادٍ كثيرين
أقربَ من أسلافٍ غير مكترثين
***
أخت قلبي
رأيتك يا أخت قلبي في غيمٍ وفي أنين ينالك العذابُ مثل وجع الماء في الكأس إرثك الحزنُ والمراثي بين يديك تنشأ ولائدُ النمور، وفي كتفيك تبزغ الأجنحة وتفرُّ النجومُ في عينيك
يا أخت قلبي انبثقَ حولك نهرٌ فطلعتْ الغاباتُ وازدهرَ نحيبُ النايات في عرسٍ وفي مرايا وكلما استيقظ ليلٌ تصدّين الضباع عن سريرك وتذودين عن بيتك بالضوء والشعر وشهوة السفر
***
حجاز
لا تكنْ في مُلوك الحجازِ
ولا تطلب المُلكَ كنْ خارجاً خارجاً في الرسائل في ريشة الطير في أوجِهِ نافراً نافراً لا تكنْ في أقلَّ من الرمز
أو في المجازِ؟
***
الحيرة
قلتُ أذهبُ إلى الحيرة اليومَ أقرأ عليها سؤالاً لا تسمعه، وأكشف لها جرحاَ لا تراه فغداً لن يعود ثمة متسع للسفر ولا مسافة للكلام فهي لا تعرفني وأنا لا أثق بها
قلتُ أذهب إلى الحيرة لأمرين خمر حاناتها وحبر كتابتها قلت أذهب إلى الحيرة لئلا يقال إني تأخرتُ عن إيقاظ الجمر في أوانه أذهب إلى مملكة سمعت أنها تزخر بحرية العدل حيث يروى عن ملكٍ هو فيها الأول بين متساوين في شعبه قلت أذهب لكي أعرف لا أطلبُ منهم شيئاً وليس لهم عندي شيء قلت أذهب إلى الحيرة إنْ صادفتُ ملكاً يصغي، حملتُ له رسالة الناس حرٌ من الاثنين إن فشلتُ وحرٌ معهما إذا نجحتُ قلت لبني بكر أذهبُ، على أن ينظروا بحق وردة كما يَعدِون عدتُ أمْ لم أعُـدْ قلتُ أذهبُ للملك فالشعر ملكٌ أيضاً قلتُ، ولم أذهبْ أبعدَ من ذلك
***
العنبر
ليس لي من جراحي غير هذا الزجاج الذي يتحدَّرُ
هذي النجوم التي تُـنـثـرُ ليس لي أن أُسَمِّي دماً فضةً تسكرُ فأجرحي وأحرقي يَصعَـدُ العنبرُ
***
الزفير
وضعتُ لها كتابي كي تراني غائماً
هي امرأة، لها خوفي من الإيقاع فاستثنيتُ في قلقٍ تفاصيلَ القصيدةِ وهي تنمو في قميص الليل أججتُ الغوايةَ كي أفِي بالوعد، حتى إنها في ذروة التجديفِ مَسَّتنِي بباقي شهوةٍ بزفيرِ أنثى أبلغتْ روحي رسالتَها الأخيرةَ ثم مالتْ بانعطاف، واشتهتْ وَهَذَتْ، فأوشكنا نذوبُ لفرط لذتنا ترى مُـتنا قليلاً دون أن ندري هي امرأةٌ تسمي غيمَ أحلامي حقيقتها الأثيرة فانتبه لي أيها المجنونُ بي زَعزعْ يقيني يا قريني في كتاب الشك واقرأ في جنوني
***
دار الله
كنت سّمَيتُ السماءَ دار الله
ضاهيتُ الملاكَ بالحلم لونتُ الدمَ الشريدَ في الوريد وانتحيتُ خارجَ القبيلة عارياً من التفسير والوسيلة جاورتُ دار الله كي أراه فخصَّني بالأبجدية الأولى قُبَيلَ النص والصلاة
***
حجر جامح
لك هذا الحجرُ القديمُ
كتبتُ في نسيانه صاعقةً عابرة رأيتُ فيه أسمائي بحرفٍ ناقصٍ شخصٌ ضاقتْ عليه طبيعة النيران، واختبرته آلة الوقت هديتي إليك حجرٌ جامحٌ تسندين به قلبك في وحشة الناس تمحين لهو النسيان وشطرنج الذاكرة لك من غير ندمٍ على الغياب وبأجنحة لا تُحصى من معاجم أصدقاء ينتخبون لي السبلَ القصية قبل الموت وبعده
***
وصفها
عينان ساهمتان
وبحر السماء رداءٌ لها للنبيذ الشفيف لعري البكاء النحيف لها البدءُ والمنتهى ليتني في الحرير على شالها يموجُ بنا الليلُ نرحل مثل المرايا تسيل إلى الماء والخوف حتى ننال من الحب ما يُشتهى
***
دمٌ يبكي
لديَّ ما يكفي
عدوٌ محْدقٌ يختارُ أخطائي ويفتكُ كلما غنيتُ رَنَّ الخمرُ في أقداحه ولديَّ ما يكفي لي امرأةٌ بكى الوشمُ القديمُ على يديها فانتهتْ بي ضائعاً ومضتْ تضلل نجمتي وتدلني بالغيم لي أمٌ ستثكلني قريباً كي يقال بأنها يا وردةَ النسيانِ ينساكِ الفتى وتنالُ منكِ جمرةُ الحسرات قالت وانتحتْ بي في ظلامِ اليأس لي أختٌ على مرآتِها شجرُ البكاءِ لعلها تبكي لئلا يغفل الموتى عن التذكار هل يكفي صديقٌ ساهرٌ يمحو الخطايا مثل باب النوم ينساني ليذكر أنني أنسى وأحلمُ
ربما يكفي دمٌ يبكي ونفسي تشتري نفسي ونفسي لم تبع نفسي
دمٌ يكفي أضاعوا وردةً في الريح ضاعوا نجمةً في الليل
***
رؤيا الملك
أمضيتُ هذا النهار بتأويل أحلامه
فمما رآه الملكْ، شُهبٌ هاوية، وبحرٌ عظيمٌ من الرمل تنداح فيه الخيامُ، وتنثال فيه الخلائقُ كالطين مما رآه الملكْ، ذئبان في غرفةٍ من حجرْ، ينقذان البشرْ، يغسلان الحقيقة بالوقت، حتى يجفّ النهر
مما رآه الملكْ، شعبٌ يطلق ضحكة الشياطين ويطبق بيد على عنقه المذعورة ينفضُّ عنه حرسُه ويتركونه وحيداً في قصرٍ مهجورٍ تئزُّ فيه الرياحُ وتمرحُ البوم كان عليّ أن أفسِّرَ هذه الرؤى قبل الشمس، غير أن النبيذ لم يتح لي الوقت كي أنهي التأويل وهو في الكوابيس لا يزال
***
هل متّ حقّاً
1
هل مـتُّ حقاً
هل حياةُ المرء أقصرُ من قصيدته وهل عبثٌ ولادةُ شاعرٍ كحياةِ عصفورٍ يرى في الكأسِ بحراً غيرَ مأمونٍ وهل غيري يموتونَ ارتجالاً مثلما يبدو؟
إذا قالوا : "تعشْ عمراً"
فأين العمر ؟
2
كان الهواءُ يزيح أوراقي،
وأكادُ أُنهي آخرَ الكلمات مَنْ يُكمل قصيدتي الأخيرةَ كنتُ أوشكُ أن أقبٍّـلَ "خولة"، وأقيس أحلامي بخيطِ ردائِها بالكادِ كانَ الضوءُ يوقظني كما البوح الحميم لقلبها هل حقاً يموتُ الناسُ قبل نهاية الدنيا وأيةُ حكمةٍ في الخلقِ إنْ كانَ الفَـناءُ بهذه الجدوى فهل لي أن أصدقَ خالقاً يقضي طويلاً في ابتكاري ثم يقتلني
3
هل مِـتُّ حقاً؟
لا أصدقُ كنتُ في باب الحياةِ أهيئُ الأسماءَ للأطفال أحلمُ أنني مستقبلٌ وخرافة الصحراء ماضيةٌ وطيشٌ قادمٌ فلديّ ما يكفي من الأشعار بحرٌ واسعٌ لو أن هذا القلب ليس حقيقةً هل متُّ قبل الموتِ هل عُمرُ القصيدةِ قادرٌ أن يبلغ العشرين؟
4
يخلقني ويقتلني
ويزعُمُ أنني عشتُ الحياة
***
شطح
ما الذي ينتابني
وينال مني كلما أرخيتُ شعري في نبيذكْ ؟ ***
شغف الطين
كلما متنا
اشتهتْ في طينةِ الكلماتِ بوصلةٌ وشاختْ طفلةٌ وتباطأتْ لغةٌ لكي تصفَ اليتامى في انتظارِ الموتْ
***
بلا آلهة
ليس لاسمي مكانٌ ولا غيمةٌ
لي ألقٌ يضيءُ خطواتي وتيهٌ سيدٌ انتهَبَنِي كونٌ يضيع انتهبتني سُلالةٌ ويداي فهارسُ الغيب كلما التهبَ وردٌ في كتابٍ صَعَدَ الحنينُ في الناسِ كلما بكتْ امرأةٌ جنيناً، احتضنتني قلوبٌ تضيعُ أسمّي مكانيَ زماناً وأغفو يداي مشغولتانِ صلاةٌ بلا آلهة
***
ترْكُ الأثر
ذاهبٌ أبعد مما تنالُ الأقاصيَ مني
كأنيّ أمزقُ أخطاءَ روحي أوزِّعها في شهيقِ الضحايا شظايا بعيدٌ وفي النفس سيفٌ يغني سأذهبُ عن عتمةٍ عن تمائم مهتاجةٍ تطلبُ الدمَ في نجمةٍ حرةٍ لستُ مُـلْكا لكم لستُ إلا الصدى والبقايا سأذهبُ أتركُ ما يُسْتَدَلُ به خلفَ خطوي لئلا ينالَ الهدايا سِوايا
***
رسالة
قل لهذا الملكْ
أن يُعَدّلَ في تاجِه المائلِ عِفةَ السائلِ قلْ له، وقته شاغرٌ والرسائلُ ضائعةٌ في الطريقِ فحراسُه يحجبُونْ والذي يكتبُ النصَّ ينسى التفاصيلَ في يأسنا الماثلِ . ***
غربة
أبقى بعيداً عن بلادٍ سوف تهجوني
أبقى بعيداً عن مليكٍ سوف يقتلني أبقى بعيداً عن بحارٍ عذبُها دوني
***
قُبّرة
شَكَتِ القبّرة
عندما فاتـها الفَخُّ في المقبرة وحين استعادتْ توازنها في الكتاب بَكتِ المحبرةْ
***
لا تهلك
يقولون لا تَهْلَكْ وهم يفتكونَ بي
وهندسة المهاميز تجتاحني، بالعضلات والفرائص، حتى إذا ما انتبهتُ لسرب النصال، ارتبكَ الهجومُ والتفتَ يغيّرُ الآلة بأدوات لا تهلك في صوتِهم لهجةُ الضواري وعريكة المحاربين كلما أزَّ سيفٌ لهم فقدتُ شلواً أتعافى لأرفع جرحاً عن الموت أعرف أنه عبث الأقفال والمفاتيح اثنان في جسدٍ يفترقان في نظرتين القفلُ للحجب والمفتاحُ للكشف يقولون لا تهلك
***
الأقانيم
مما تشتهي الروحُ
ادخرتُ لكم أيها الشعراء فاكهة الغيم جعلتُ القصائدَ في جمرةِ الله في جنةِ الناسِ تشعرون بها رشفة الكأس في نشوة الرأس أيها الشعراءُ تخيرتُ للحرف، للكلمات النبيذَ القديم وبجلته من ماءِ روحيَ هذي اللذائذ
أجلتُ موتي وروّيتها ***
خارجاً مع خولة
أسمّيها انتعاشاً فاتناً في باب أحلامي
شراعاً خاطفاً يهفو وشالاً أخضراً من لازوردِ البحرِ قدامي فلم أزعُمْ سَعَتْ لي خيمةٌ لتضمني في خدرِ خولة هارباً وتصدَّ عني السيفَ يا وحدي ولا أن أستجير ولم تكُنْ أوهامُهم في بعض أحلامي بعيدٌ سوف لن يأتيك بالأخبار إلا خارجٌ من ليل أيامي
***
وشمها فتحتُ لها بابَ قلبي لونتُ هالاتِ أقمارها قبَّـلتُ وشماً لها آهِ منِ ليلها ***
"متلمس"
كذبَ المتلمسُ لم أرافقه إلى قصرٍ ولم أمدح بلاطاً ربما ضعنا معاً كان النبيذُ نديمنا في الليل كنتُ مؤرقاً متلمس الأوهام كان مُخالِطاً يَرعى ضغينته وينسى كأسَه المكسور شخصٌ خائفٌ ويسير في قومٍ مضوا يستنوقون جِمالَهُمْ ويَـشُونَ بالأسرى
أرى شخصاً مضى يمحو كتابي مرةً أخرى ويمحوني فلا أصغي إليه يروي كما يحلو له وله الرواةُ وجنة الهذيان حين يَفرُّ من غدرِ الملوك متلمسٌ، يحتاجُ درساً في السلوك ***
مجرة
سافرتُ في غيمِ الفرارِ
جناحيَ الناريُ شِعري فانتهيتُ مجللاً بالثلج في ليل الغـرابِ وطوحَتْ بي شهوةٌ في سلسبيل الموت غامضةٌ كأنَ مجرة منسية تصحو على صوتِ العذاب ***
أصدقاء القمر
أيها الأصدقاء
عندما تكتبون ليَ الشعر قبل امتداح القصيدة لا تغفلوا عن دمي ربما تطفر الخمرةُ في كأسكم، ويروق لكم، أن تروا في القصيدة مخطوطة في كتاب السفر أيها الأصدقاء الذين ستحلو لهم ليلةٌ حول كأس السهرْ لا تغفلوا عن فمي كلما حاولَ الغادرون استعادةَ شِعري لتأنيبِ أحلامنا، ومديحَ الحجرْ أيها الأصدقاء انتهيتُ انتشيتُ وطار بي الشعرُ لم يبق لي غير ظل القمر .
***
هاوية
لم تكن الهاوية،
غير الدرج الحر نحو الأقاصي امشي، يدي تشخص في خشبٍ يتهرأ، وينقطع ويتلاشى بدتْ الهاوية أبعدَ أبعدَ مما يريدُ الغبارُ سديمٌ ونارٌ كأني بها نَعَمُ النافية
***
يا نصف أمي
مازلتَ تولغُ مثل ضبعٍ في دمي
يا نصفَ أمي كيفَ من أينَ استقيتَ الويلَ قبل الخيل سوفَ تنالك الصحراء حتى تندم فإذا سعيتَ بأرضِ بُصرى تستجيرُ وتحتمي تنتابك الحسراتُ شِعرُكَ شائكٌ ويداكَ ضارعتان مثل محاربٍ لا ينتمي مازلتَ، والدمُ شاخبٌ في شاربيكَ، تلغُّ في قتلي وتنسى أننا في الليل والحانات في كأسين يصطفقان مثل العلم والمتعلمِ من أين جاءتكَ الشجاعةُ واخترعتَ رسالةً أخرى لتوصي الموتَ خلفي كلما لفَّقتَ شِعراً لَـفَّـكَ العارُ الطويلُ عَلِمْتَ أمْ لمْ تعلمِ مازلتَ فاشربْ ليس في الشعراء ما يرويكَ أن تسعى إلى كأسٍ وتطلبَ خمرةً سأموتُ حراً في نبيذي. كلما تهذي تسفّ الرمل .. حتى تهرم. ***
فصاحة الطين
خُذ يا أبي باقي القصيدة واعتبرها جنةً
فلقد ذهبتَ بغفلةٍ وتركتَ لي هذا الجحيم خُذْ يا أبي شجرَ الأراك لكي تُصدقَ أنني أحيا وشيكَ الموتِ بعدكَ يا أبي خذني لغربتك الشريدة وانتظرني ثمةَ الماءُ الشحيحُ وقصعةُ السجانِ والطينُ الفصيحُ يَصُبُّ حنجرةَ الغناء خذْ ما تيسرَ من رمادي ريثما أُنهي قصيدتيَ الوحيدةَ آيةً مُـتْ مرةً واتركْ تفاصيلَ الهلاكْ
***
الرقلاء
ترغو
كأن حنينها بيتٌ وجوقةُ ظاعنينَ تؤبِّـنُ العطشى وهُمْ يروونَ عن رملٍ غريبٍ وحدَهم ترغو، غناءُ الماءِ في الصحراء في أقدامِهم مؤنُ الضحايا وانحسارُ الليل عن بعض النهارِ رأيتها عنقاءَ ترغو سَمِّها الرقلاءَ أو سَمِّ البقايا باسمها لكأنها أختُ انتظاري وارتحالي ضائعاً أحدو بجوقة ضائعين
***
اِبن الوردة
لم أكنْ في مكان
أنا في التحول في مشتهاة الأقاصي بعد المدى والفصول إن يكنْ مقتلي يقظة مُنِحَ الكشفُ لي تهجيتُ بالأبجدية شعباً تخطيتُ بابَ الزمان ولونتُ ماء الأصول
***
(دفتر النساء ) *
عددنـــــا له ستاً وعشرين حجة لما توفاها استوى سيـداً ضخما
فجعنا به لما رجونا إيـــــــــــــابه
على خير حال لا وليداً ولا قحما
الخرنق
الرباب
كلما مَرّ بي
مَسَّنِي رَجَزٌ وارتجَّ إيقاعُ روحيَ وارتعشَ الوترُ النائمُ،
رجلٌ ظالمُ
* غيمتي في متاهات أخبارِه ضائعة أتقرّى تفاصيلَ طقسِ احتمالاته أولَ الليل وهو يُحيلُ انتظاري على شمسِه الراجعة
كلما مرّ بي * نَهضَ الحُلمُ والحالمُ رجلٌ غائمُ، * ربيتُ أخطاءَه وانتخبتُ النشيدَ له وانتظرتُ تجرَّعتُه مثلَ جُرح الجناح تقمَّصتُ أسماءَه كي أجاري البكاءَ الذي نالني ? مثلما يفعل الكوكبُ الهائمُ
كلما مرّ بي سَلَّنِي سَيفُه الصارمُ
وَجَلٌ عارمُ ***
هـِـرّ
سمعتُ أن له حصةً في العذابْ
فشاطرتُه النصَّ حتى حدود الضبابْ رأيتُ القبيلةَ تخلعه فارتديتُ له قمراً يستدلُّ به ومَحوتُ الغيابْ
كتبتُ احتمالاته ثم أصغيتُ للنادبات يؤرِّخنَ بالدمع شخصاً سمعتُ بأنَ له سورةً في الكتابْ هداني له العشقُ والشوقُ والقلقُ المستذابْ
***
خولة
كنتُ قبَّلتُه
وهو يمحو هوامشَه في القصيدةِ كنتُ تعلقتُ حتى خيوطِ القميصِ لئلا يغادرَني بغتةً كنتُ في نشوة النص، والشَّرَر المستثار يؤجِّجُني والكلامُ الشظايا هدايا مؤجلةٌ لا تُطالْ كنتُ أنهالُ في ظلِه وهو في هامشِ الانتحار قال ? يا أولَ النص ثم انتهى وانتهيتُ قبيل النهار
***
سلمى
سأسهرُ في بهو انتظاراته
سوف يأتي ويغمرُني بالذهبْ ذهبٌ هاجِرٌ كلما جاءني يستبدُّ العجبْ
***
الذئاب في جلالة الحزن
(التحولات)
لَعَمْرُكَ إِنَّ المَوتَ مَا أَخْطَأَ الفَتَـى
لَكَالطِّوَلِ المُرْخَى وثِنْيـــَاهُ بِاليَـدِ
طرفة الذريعة
اَصلحْ غموضَكَ،
سوف تذهبُ سادراً في الغيم لا سفر سواك إلى مواقع أهلنا الماضين لن يفهم غموضَك مستجيراً بالأدلاء الرماة أصلحْ غموضكَ، كنتَ في بيت الندامةِ قبل أن يأتي صهيلُكَ مستثاراً بالرسائل قبل أن يروي لهم حمّادُ تسليةً فيعتقدونْ هل كان الغموضُ ذريعةً يبني الرواةُ بها تفاصيل الهواء ويؤمنون بأننا متنا قُبيلَ أواننا أصلح غموضَكَ، لا تدع نجماً يفوتك لا المعاجم تدركُ المعنى، ولا الكتبُ الصقيلةُ لا نداماك انتهوا في حانةٍ، لا جنة تؤويكَ خلفكَ إخوةٌ تبعوا خطاكَ ونحوك المعنى يضيع مشرداً، أصلح غموضك
***
تجليات اليأس
هل غادرَ الشعراءُ ميزان القصيدة مرة أخرى
تريثْ واتعظْ واسألْ ولا تغفلْ عن الشعراء حين يرون في بهو السراب حديقة الدنيا فثمة فرصةٌ لليأس كي يُخفي دلالته ويسعى بالقصيدة نحو باب القصر ثمة لحظةٌ كونيةٌ في منتهى التأويل ثمة شاعرٌ يهوى يَشُطُّ بآخرِ الأسرى ويزعُمُ مرةً أخرى بأن بداية المعنى ستكمُنُ في المعاجم مثل كهف الله تنتاب القصيدةَ وحشةٌ في لحظةِ التكوين حرفٌ تائه في الأبجدية والكلامُ مؤثثٌ بالهجر والشعراءُ ينثالونَ مثلَ قبيلةٍ تمحو سلالتَها وتنقرضُ احتفاءً بالنهاية مثل تقدير المسافة لحظة القاموس، بين القلب والنسيان تريثْ واتعظْ واسألْ ولا تغفلْ عن الشعراء وقتَ الموت ينتبذون أقداحاً، ويبتكرون ما يُفضي إلى بيت السلالة نزهة الذكرى ولا تغفلْ تريثْ مرةً أخرى ستكتشفُ الدلالة وهي تسعى بالقصيدة في رمادٍ كامنٍ في جوقةٍ سَكرى
***
آية النساء
في انعطافتكَ الأخيرة،
خارجاً من حلمك الفاتن مندفقاً بعنفوان انفعالك الكثيف، ابدأ قصيدتك بالجمل الناهضة ذات المطالع المهتاجة أطلقها بالحروف الجهيرة وكلمات اللهب ساعة اليقظة إصقلْ زجاجَها بحفيف الشهوة تهتاجُ نساءُ النص ويتشبثنَ بذيل ردائِكَ وأنت في غيوم اللغةِ في بهو الكتابة مستعداً للهطول الماجن في طين القصيدة هطولٌ يهيِّجُ مواقع أحزانك أرخِ لفَرَسِكَ أن تنتفضَ بعرقك الغزير على مرأى قومٍ يتوقعون وقوعك يتلُونَ وصايا زوجاتهم وهُنَّ يغسِلنَ قمصانَهنَّ في عطر الليل، ولا يحفظ ذلك غير الشعر دَعْ لقصيدتك أن تكترثَ بنساء الفتنة، لئلا يستفردَ بِهنَّ رجالٌ مستوحشون بالدفاتر السود والحبر الأبيض. وحين تبلغ المستضيق الثاني من قصيدتك إنهرْ، بأكثر الكلمات جرأةً، مخيلةَ الفتية العاطلين في تجاعيد الخيام، وافتح نار أرواحهم على هشيمك. ودَعْ قوافيك تفي بوعودٍ يكتنز بها غيابُك الغامض تلك هي انعطافةُ قصيدتك المنتظرة ذات القوافي المذعورة المنهوبة من أكثر المعاجم نعومة وسرية وشهوانية منطوية على منحنى اللغة وتحولات المعاني وخسارة الدلالات تكتشف، مثل بغتة المنجم، البرقَ الخاطفَ في الكلمات وهي تتحرَّرُ وتَـشي، بما لا يُدرك، ساعيةً إلى ما لا يُنال ارخها، إجعل القوافي لا تختمُ كلاماً ولا تصدُّ صورةً ولا تكفي لاستعادة الأنفاس ليس لها دليلٌ تعرفُ به الطريق قوافٍ تأسرُ شغافَ الفتية وتغرِّر بالنساء وهنَ يأسرن رجالهنَّ بغوايات وتآويل تأخذ القصيدة نحو المهاوي تلك هي شرفة أحلامك ترى منها الكلمات في هيئة قطاةٍ تتدافعُ متسارعةً لئلا يفوقَها مكانٌ شامخٌ في النص
***
القراءات
سأرى في المرآة سبعَ قراءاتٍ
أنسى فيها النحوَ وصرفَ اللغة الفصحى وهي تشفّ عن الحجر النائم سبع قراءات هامَ التأويلُ بها في الجَرح وفي التعديل، ليرسب ماءُ القلب بقاع الماعون يشطُّ القراءُ بأهواء النص يَشِذُّونَ ويُغوون الخط بسحر الصوت أراهم، مثل النقش المُسند في الحجر المنسيّ غبارٌ سبعٌ ويضاهون أمامي
أكثرَ من سِرِّ الشعر وأقصى ما ينتابُ الحقَّ من الشكّ
كأن قراءات الله معلقة في غيم القلب كأن رواة طاشَ الوجدُ بهم، فتقمصهم جِنٌّ يقرأ سبعاً يقرأ تسعاً حتى كاد النصُّ يفيض عن الماعون ويُفرِطُ في التعليل أرى التأويلَ يقول قرأتُ على سبعينَ اختلفوا سوف يُجَنُّ الشعرُ، ويهذي عربٌ ينتابُ الله كتابٌ يختلفون عليه سبعاً عشراً وأرى مرآة الرمل زجاجاً ينسابُ أمامي ها قد قُلتُ كلامي ورأيتُ قراءات الماضي قُدامي .
***
معلقات
أسيرُ في المعلقات
أسير في سديمها في الغيم مما ينتهي فيها ويبتدئ. ***
وجد
كلّ هذا الظلامِ الذي يسبق الموت
هذا السديمِ الذي يفضح الخلق نهران من أين جئتهما يسألان انتظارات روحي نهران خطان للنهاية والبدء من أين من أين غيمٌ وغيبوبةٌ كلما تاهَ بي هودجٌ، تيقنتُ أني إلى الله
***
ذئاب
لولا ذئابُكَ وردةُ الميزان، شرطُ الشاعريةِ
فاضتْ الأحزانُ لولا جنةُ الأهواء بين الخمر والغيرة أضحينا بلا عنوان وانفضتْ بنا السيرة
لولا كتابك لانتهتْ أخبارُنا وارتدَّ سهمُ الشعر ضاعَ بريدُنا وبقيتُ حلماً شاهقَ التأويل فاستعصتْ علينا حانةُ الحيرة ***
وشم وردة
أيتها الكيمياء التي ابتكرتْ إثمداً من ذهبْ،
ما الذي جُـنَّ بي كي أرى جنةً في اللهبْ؟
بدأ الخلقُ بي
بدأتْ خولة
وشمُها يَكشفُ المحتَجَبْ
شجرٌ ناعسٌ
غصنُ ريحانةٍ
خضرةٌ شهوةٌ
يقظةُ الكيمياءِ الجريئةُ في مستحيلِ العجبْ
خولة حرةٌ وتغرر بالمشتهى
بالعناصر في حلمها المرتقب
***
وشم "خولة"
إبرٌ ناعمة
إبرٌ نائمة إبرٌ حالمة تقرأ في الجرحِ ما يستعيدُ الحروفَ الصغيرةَ في الكتب الغائمة هكذا تبدأ الذكريات كأن الحياة طريقٌ إلى القتل أولُ أحلامه خاتمة إبرٌ سوف تغزل أخبارنا بالحميم من الدم، بالسرِّ في العين، بالمنتهى وهو يبدأ، بالمستثار من الخضرة العارمة ***
وشم "طرفة"
كلامٌ يؤلف ألوانه بالخفيِّ من الموت من فكرةٍ من بلادٍ تقايضُ أحلامَنا بدمٍ ناعمٍ من دخان القناديل، من نيلجٍ، من ظلام كل هذا الكلامْ بكاءُ النساءِ الوحيداتِ في الليل يغزلن أخبارنا يكتبن أسماءنا، ويتركن في البيت آثارنا الباقية أيهذا الكلام الذي قبلنا كيف ألَّـفْـتَـنا في العصيِّ من الموتِ في فكرةٍ نائية ***
معجز الذئب
ذئبٌ مثلك الآن يؤدي دوره في معجزات الغاب
أشجارُ الغموضِ البيض تغريكَ بأنْ تبقى، ففي بعض الغموض حصانة تغنيك عن غاباتهم حرٌ وحيدٌ فاقدٌ مفقودْ ذئبٌ مثلك الآن، انتهى في قاعة الأحزان، باعَ الدمعَ واختارَ المهرّجَ سيدٌ في الجوع، فيما يولمون لِمَ الجنونْ الذئب ذئبك إن تعفَّفتَ استداروا درسك القاسي لنفسك ربما انصاعوا لقانون الغيابِ الغابُ أوسعُ ما يكونْ إذا أردتَ الكفَّ عن جرح الكتابة والكتابْ، فكلهم كانوا ذئاباً في جلالة يأسهم وَرِعُونَ يرعَونَ انتخابَ عدوهم فأصابهم سأمُ السلالة وانتحارات الضباب ماذا تريد من الكتابة واحتمالات الجنون فهارس الأسماء، بعض الماء يا الذئب الحنون ماذا جنيتَ الآن من بيتِ الغموضِ جرحاً راعفاً، عرش الضحايا، هامشاً في المتن هذي غابة ماذا تريد الذئب ذئبك فانتخب أقداحَه وجراحَه واصبرْ عليه
***
جنّة الفرار
لم يبق لي في هذه الصحراء غير الظل في شمس الظهيرة
شاحبٌ وفرارُ أشباحٍ ورحلتي العسيرة لم تبق من حبل الخيامِ وسيلة لأشدّ ظهرَ الخيل وهي تطيرُ بي مذعورةً تهذي كأن لجامَها وترُ المسيرة ضاقت وسيعتهم على روحي وطاشت عندما خَصُّوا بها من لم يُصِبه الجرحُ في حربِ العشيرة فرَّتْ خطايَ وجُنَّت الصحراء بي فتناهبتْ إرثي قبائلهم ونالتني ذرائعهم هنا واستفردوا بي كي أرى في مستحيل الموت جنتي الأسيرة صحراء تزدردُ المدى وتباغتُ الأحلامَ تفتك بالذي يصحو من الليل الطويل، وينتمي للنوم أنسى أنها شمسٌ على رملٍ، فيحرقني رمادٌ كامنٌ، وتجيرني الرمضاءُ جنتيَ الأخيرة ***
المشكاة واللهب
سأرى،
كلما انتهيتُ من طريقٍ، تأخذني طريقٌ إلى ما أمقتُ وما تَعفُّ عنه النفس وما ينزُّ له الدمُ في الرأس طرقٌ تتناسلُ في قدميَّ غباراً شرساً وماءً شحيحاً وليس لي أن أكفَّ عن السفر كتابٌ هو ما يبقى في العمر من التجربة أبحث عن شيء أهربُ من شيء أمْ أن شيئاً يغرّر بخطواتي ويستدرجني ويزيّنُ لي الطريقَ سئمتُ نظام الصحراء، صوتٌ واحدٌ قبيلة واحدة والأشكال لا تحصى سأرى، فيما أكتبُ، قصيدةً تَنْقَضُّ على الشعر وتَنْقُضُ النثرَ تأتي بهاوية المعاجم وتهلكة اللغة قصيدة هي الطريق والطريقة المشكاة واللهب وكل ما يجعل الرملَ صديقاً للرسائل، والماء مرآة للأسئلة يقال لك من أنت؟ فتعرفُ يقال لك اقرأ فتقرأ يقال لك اكتبْ فيطيشُ في صدرك الحرفُ مثل ملاكٍ يأخذ بيديك
***
انتشاء
يَخِفُّ عن الأرض
عيناه مفعمتان بالورد واللازورد والريش تاج الجناح يمشي تكادُ الريحُ في بيتِ الهواء قالوا له كُـنْ لها فانهال مثل الهلال استَخفَّ وشَـفَّتْ يداهُ عن النار عن المستدقِّ من الجمر يغزلُ أو تشغفُ الروحُ فيهِ بأخطائها كُـنْ لها يا أيها الشعرُ أجِّلْ تآويلها، كي يتاحَ ليَ الموت من أجلها
***
يقظة الخمر
نخبٌ واحدٌ لتهزَّ بابَ الليل
ينداحُ الندامى خمسةٌ في تسعةٍ كأس المرأة الأولى وتاريخ البكاء مؤجلٌ افتحْ بكأسك دورة الأنخاب عند الباب كانت رفقة تهفو إليك، جوار بيتك واشتهتْ أن ينتهي وبكتْ معكْ عمراً من العشق انتخبْ كأساً لها، واسألْ نداماكَ انتظاراً واحداً كي يحضرَ الأصحابُ
نخبٌ واحدٌ يكفي ليوقظ أمةً لتظل تمحو الوشمَ حتى العظم تنسى ثم تذكر رفقة ماتوا كثيراً قبل خولة وهي تذهبُ مثل صحنِ المحوِ ماءٌ هائمٌ وثلاث آياتٍ من الفصحى الجميلةِ وانسكابٌ فاتنٌ للخمر صَعِّدْ في نداماكَ انتخاباً، واستعدْ ذكرى، وأيقظْ خمرةً يكفيك نخبٌ واحدٌ لتهزَّ باب الحلم
كأسُ المرأة الأولى دليلٌ للغواية فانتخبه مثل مرآةٍ ترى فيها طريقكَ كلما صَخِبَ الندامى غامتْ الرؤيا وغابت خولة في الوشم حتى العظم لن يكفيك هذا الليل أنخابٌ ومنعطفٌ ستهذي والذي يسعى وراءك يكسر الأقداح كي يمحو خطاك اشربْ لتُكمِلَ سهرةَ الأصحاب قبل الباب هُـزَّ الليل لن يدخل سواكْ أطلق بكاءَكَ لا تؤجلْ روحَكَ السَكرى انتخبْ مرآتها يكفيكَ أن تنسى لتذكر
***
ضوء الصعاليك
لغتي سأمُ الخارجين عن الوقت
لغتي مثلُ تاريخها وهي تنهال، أو تتلاشى تهيم على رسلها وتضيءُ أضئ أيها الوقت يخرجُ فيك الصعاليكُ يبتكرون التفاصيلَ لك ويمتد فيك الطريقُ البطيءُ
***
لحظة الولع
جربتُ موتَكَ،
فانتميتُ ثلاثَ مراتٍ إليكْ قلادةٌ في عنقكَ المرصودِ خمرةُ عاشقٍ، وصداقةٌ تسعى إليكْ جربتُ موتكَ فانتشيتُ كأنَّ في نهرِ النبيذِ قصيدة وكأنَّ مَنْ يَسعى لقتلكَ، واهماً، سرعانَ ما يبكي عليكْ
***
مملكة
وزعتُ أخطائي على حاناتها، واحترتُ فيها
أمّةٌ، مجدٌ من الحسراتِ أنتخبُ القيودَ وأفتديها كلما خمرٌ مدينة خاطئين يؤثثون غيابَهم هل أمةٌ مفقودةٌ، وجميع أخطائي ملفقة وأبعدُ حانةٍ في الحيرة البيضاء رقعةُ حالكٍ يسعى إليها النردُ والأفعى شباكُ خديعةٍ والماءُ منفى
أمةٌ تخشى زفيرَ الشعر هل زنزانةٌ ولعٌ بجلادين محترفين كنتُ مجدّفاً في هيبة الملكوت قرآنٌ وجوقةُ أنبياء وأشقياء يزوّجون الموجَ للصحراء أخطاءٌ بلادٌ حانةٌ بجَّلتها واحترتُ فيها ***
حزام الفقد
اِصقلْ حزامَكَ يا بهيّ السمت
خمرُ الموتِ أقربُ من وريدك فانتعلْ برقاً يَقِيكَ وقُـلْ لهم ماءٌ ووردةُ ضائعٍ تبكي فتىً إصقلْ حزامكَ لا تصدِّقْ أيها المجنون هذا البحر مركبك الأخير اذهبْ تجدْ ماءً وتفْقدْ وردةً وتشدَّ في حبل الكواثل مركبَ اللذات والشهوات والنزوات قبل الموت خُذْ ما يستعين به حزامُك عندما تنهار لا ماءٌ يقيك ولا ترى في وردة الأيام غير البحر مركبك الأخير اصقلْ حزامك واستعنْ بثلاثةٍ تَفقدْ ثلاثاً ***
روحٌ تموجُ
لم أزلْ أصغي إليكْ
شجرُ الأسماء صوتٌ ويدي منسيةٌ بين يديك فأرى هودجكِ البحريَّ في الأفق كأن الموج أعراسُ ملاكٍ سيغني كلما رَفَّ الجرسْ شغفٌ قلبي وأحلامي تآويلُ ولي فيكِ احتمالُ الليل أن ننسى يدينا كلما اصطفَ الحرسْ كلما مالَ بكِ الهودجُ طاشَ الموجُ كي يزهو انتظاري بدويٌ طائرٌ يكتشف البحر ويصغي لاصطفاق الروح
وحدي كلما شَطَّتْ بيَ الشطآنُ أرخيتُ الفَرَسْ
***
عبث
أحرسُ الليل وحدي
أترجمُه في هذه العتمة النبويّة أشتهي أن أموت مثلما ينتهي كوكبٌ موغلٌ مستوحشٌ في السماء القصيّة راحلٌ في انتظارٍ طويلٍ وأعرف أنه ليس يُجدي
***
من الأنبياء
فيكَ منَ الأنبياء وتـَفْدي
تَرى يتراءى لكَ أم جوقةٌ من ملائكَ فاضتْ بك يا أيها الريش طِرْ واستمرْ مثل حلم الجناح، ذاهباً نحو برد الصباح ولا تستقرْ
كتابك ليس يكفيك وفَيِكَ من الله يا أيها المنتهى
***
فهرس الظلام
هذا ظلامٌ مقيمٌ، تهجع فيه الشعوبُ وتستعارُ الحياةُ
زجاجةُ القلب فيه تشكو وفيه فهارسُ مشحونةٌ بالبكاء وليس للجرح فيه تَخَلُّصٌ أو نجاةُ هذا الظلامُ القديمُ شاخصُ العين فينا، شفيفٌ مثل الحديد خفيفٌ تخاف منه الليالي وتستفز الصفاتُ هذا الظلام نظامٌ كلما امتد في الوقت، امتدّ فيه المكانُ ينالنا وينال منا ظلامٌ مَهينٌ مُهيمنٌ ملكٌ مالكٌ يحكم الطقس والطبيعة ينزُّ غيماً كثيفاً وفي ثناياهُ عتمٌ وبدءٌ للنهايات فيه هذا الظلامُ الظلامُ، كتابٌ تضيئه الكلماتُ
***
مبتكرات الغائب
أنهالُ بالذكرى وأستعصي على التفسير
هذا السيل تاريخٌ ولي حرية أنسى وأذكر أستعيد جنازتي وأصدُّ جيشا كلما عَـرَّيتُ أخطائي أمامَ الريح، ظنوا أنني وحدي وأخفوا جنتي عني ولي في شهوة القاموس تأويلٌ خفيُّ من ترى يرسمني موتاً ونعشا من مراثيه على تغريبة الأخطاء يبكي عندها وأنا منجرفٌ أمحو وأنسى وأغني مثلما يبتكرُ الغائبُ في وحشتِه جنـتـه قصراً وعرشا
***
فيض الكأس
يداكَ تبتهجان بالطين الفصيح
كأنما وحشُ السماء دلالة الفوضى وبابٌ أولٌ عيناك أمْ عرّافة تنساك في أرجوحة الرؤيا وخيلٌ شاردٌ في غربة الصوت الجريح يداك من أعطاك صلصالاً وكأساً فائضاً وتهدجُ الأعمى يجسُّ الماءَ يهجو الأبجدية وهي تقصر عن رؤاه يداك في طين الإله يداك في طللٍ وتمدح قاتليك يداك في الخلق الصريح تصوغُ ما يبقى وتبدعُ ما يَـليك
***
كي تكون
أطلقْ لجامك كلما مرُّوا عليكَ تنهدتْ أرجاءُ نجدٍ،
واستراحت في حجارتِها فراشات وتاهتْ نجمةٌ أطلقْ لجامَك يَحبسُونَ مطالعَ الأنفاسِ تلك قصيدةٌ تهذي وغيمُكَ طائشٌ وحزامُكَ المشدودُ يُرخي خوفَهم أطلقْ تخبُّ الخيلُ دعهمْ في بُـلهنيةِ الفرار فكلما مرّوا عليكَ، تماثلت صحراءُ نجدٍ، واشتهتْ شَبَّتْ شكيمتُها وأغوتْ بدوَها بالشعر أطلق يدركونكَ كلما مروا رَمُوا نرداً وأجهشت النساءُ ثواكل يجهرن بالفقدان لو أن الفتى
أطلق لهنَّ يجئنَ تسعاً يستبحنَ غبارك العبثيّ
في نجدٍ نساءٌ جارحات الروحِ منتحرات يطلقنَ الفتى من عقله أطلقْ عنانك واستعدنا من نساءٍ ينتحلنَ قصيدةً سكرى، ويطلقن الحبيسَ كأن في قلب الفتى غيماً يطيشُ كأن قافية الجنونْ أطلق خيالك كي تكونْ .
***
نبوءة
قَبْلَ النبيّ قلت لهم
أشرتَ بشِعرٍ نبيٍّ وأعجزتَ فاضَ القلبُ بالدمْ قلتَ لهم فاستداروا لكي يقتلوني شعرٌ ، نبيّ يموتُ فمن يا ترى سوف يهتمْ
***
هل نحن موتى
هل نحن موتى؟
كنتُ في قلقٍ فمَنْ ينهر خُطاي ينوبُ عني في الطريق إلى جحيمي تاج كأسي ليس من ذهبٍ ولم أنهبْ لأشرب خمرتي حريتي في الليل أحلامي مطهمةٌ وحربي تسعفُ القتلى وضوءُ النجمة القصوى نديمي كنت في قلقٍ وأهلي أسلموني للسديم وأشعلوا نارَ الخيام وأطفأوني حكمتي في العدل أن أنسى وأسكرَ ملءَ رأسي كلما احتدمتْ ضغائنهم غفرتُ لهم وأرخيتُ الحماقة في الحليمِ منْ يردُّ الموتَ عني وهو يسألني فهل أنتم غريمي .
***
هودج خولة
جاءتْ تموجُ
تجرُّ كوكبةً من الأعراسِ في ماءِ المرايا وهو يستثني طبيعتَه ويَرقى أن يكونَ ذريعةً للرمل كي يحنو على بحرٍ يَشطّ جاءت بالضحايا توقظُ الأسرى تموجُ وصوتها في راية الذكرى تغني هذه أسطورةٌ أخرى ستبدو بعدها الصحراء نائيةً عن الفرسان عاصيةً على الشعراء تبدو مستقراً للرحيل، ونزهةً للماء كي يحظى بمحتمل من الرؤيا تموجُ وتخدعُ الحراس يقتتلون في غيم المسافة بين زرقتها ورملٍ سادرٍ لا ينتهي فيضطربون غيمٌ أيهذا الغيمُ دعها تنتمي تصغي لوقع خطاك تفقد نجمةً كانت دليلكَ نحوها وتضيع في تيه القبيلة كالقتيلة أيهذا الغيم دعها وردةً في الكأسِ تسبق خطوها وتموج
***
وراقون
توقفتُ بين الكوفة والبصرة أقرئُ أهلَ التدوين سلاماً أصغي لوجيب ضمائرهم يبتكرونَ النصَّ ونصفَ النص
يختبرون الشعرَ بوهج النثر ويجتازونَ الشخصَ رواةٌ خطاطونَ جُباةٌ ورّاقونَ نحاةٌ يفتون "بأن الله سيخلقُ ما يفنى أما نحن فنخلقُ ما يبقى"
بين الكوفة والبصرة حاناتٍ يسهر فيها الشعرُ ويَسكرُ فيها النثرُ وقفتُ لأشحذَ أخطاءَ الخوف بأشعاري، فسمعتُ ضمائرَ أهلِ التدوين تدوزِنُ أخباري، ورأيتُ حقيقةَ ما لا يفنى في ما سوفَ يموتْ
***
الفريسة
هدأتُ مثل البرق في الحيرة
في حاناتها الأنيسة تموجُ بي ارتعاشة الشريدِ وانتعاشة المغامرِ العنيدِ أذرع السهرةَ بالنبيذ بين السيف والفريسةْ هدأتُ مصلوباً على قصيدتي، رأيت قتلي مسجداً وجثتي كنيسة
***
سأم الله
اخرجْ،
قال لي الشعرُ، خرجتُ هذا هو الشعرُ سألَ اللهُ القبيلةَ عني، تفسِّرَ أخبارَها في كلامي، وأرسلَ من يستعير النبوءةَ من خمرةٍ في لساني
اخرجْ أيها الشعر اخرجْ خرجتُ ولم يكُ شعريَ أرجوحة الله في نومه كنت في هامش الخلقِ والله في سأمه الصوتُ في القلب أُصغي إليه يسألني ما يريدُ له الخلقُ والصوتُ والأمرُ والنهيُ والحُكمُ والمُلكُ والصولجانُ ولي ما أريدُ
***
الثلاث
تناوبنا عليه
الكأسُ وهي ذريعة العطشى وسكينُ السلالة ريثما يتجرّعُ النسيان، والسمَّ المصفّى وابنُ شرقٍ غارقٍ في التيه أوشكنا عليه ***
(دفتر السجن)
(متى تأتني أصبحك كأساً روية)
طرفة
اليوميات الحرة
1
ليلٌ،
لم تكن النافذة تَسَعُ نجومه وهو يستريح في سهرة طويلة ليلٌ لَيّنُ العريكة يخرج من مجابهاته يذرع النوم بين الحلم والكوابيس فطاب للشرفة أن تندلع بتسعة سلالم من حبالٍ مغزولةٍ بأكثر المُقل بياضاً لفرط التحديق، وأكثر المحاجر دكنة لفرط السهر.
2
أصغي لحشرجة الجليد يَحكُّ جلدي
والزجاج الناعم الوحشيّ يَبْردني رخامٌ صارم وحجارةٌ جمرٌ وجازٌ جاهزٌ وجنازةٌ كسلى وثلجٌ ناضجٌ في الليل
3
زاغتْ روحي وأنا أقرأ هذه الأبجدية المشحونة بالرموز والألغاز، حتى أوشكتُ أن أدرك الموج وهو يبسط سجادته في خطوات الريح وتيه المراكب
4
ينال مني الوهن، والشعلة منتعشة تسأل وتمعن في السجال،
حتى إذا ما طرحتُ شكاً بزغ شكٌ آخر غيره ينحجب أمرٌ وينكشف أمرٌ وأفضي إلى أمرٍ ثالث
5 ليست عيناي هاتين اللتين أرى بهما، إنهما خطوات الخيل الشاردة وهي تدرك المسافة بين زجاج الشمس المكسورة وتنهدات الوحش المحبوس
ليست عيناي إنها اللغة وهي تتناسل مثل كوكب يتفجر في أسرابٍ وفي شظايا، تقرأ السديم وتؤلف المجرة
6
يقظةٌ تسبق الحلم وتليه
لا هو نومٌ تنهض منه ولا ليلٌ تخرج عليه جناح فراش لا تخسره ولا تناله
7 ذاهبٌ حتى الثمالة
قدحٌ تدركونه ونشوةٌ لا تطالونها كلما لمسته بوردةِ روحي انتابتني النشوة خذوا الصحراء جميعها والماء كله أطلقوا فهرس الضغائن على آخره واتركوا لي هذا النديم
8 أخرجُ من غاباتكم أدخل في غيبوبتي حجبكم مهتوكة وفضائي على الأفق تقرأون ما أكتب وتتنزهون في حدائقي معطلي الحواس
فتصيبكم حسرة الخسارة
9
هنا
بردُ الوحيد علامةٌ للفقد لا امرأةٌ وخولة وحدها، لا سيفَ لي والكأسُ درسُ النار في علم الكحول بردٌ بَرى قلبي،
وصوتُ الريح يزدرد الفصول
10
سؤالٌ تُمتحنُ به روحٌ مصقولة بالغدر
وجسدٌ ينفذ من سم الإبرة ودمٌ تائه في الأوردة
11
هذا القيد لا يكفي
لكي أصغي لها وحدي فمن يبكي معي في ثلج هذا الليل دفءٌ نادرٌ للروح يقرأني
ويؤنس وحشتي ويذوب
12
ظمأٌ يصيب الحروف محبوسة في كلماتها
ظمأٌ أزرقُ مثل حدقة الصقر في مخدعِ غيمةٍ تشرف على وهدة الجبل
ظمأ الكشفِ منصباً على فريسة
13
أصغي
فيصعقني دبيبُ الدم رملٌ باردٌ ويدٌ كأن الله أطبقَ هذه الصحراء فوقي واصطفاني سيداً للوحش
14
مَنْ يقوى على إسكات هذا الدم الصارخ في الأوردة
15 بلا مغزى،
ضغائنُ تجوبون بها الأرجاء
16 الشظايا تتحدر من القلب في فلذات وفي قصائد
أتكفل بها كلما تركتموني وحدي غير أن البحر بعيدٌ بعيدْ والأصفادُ مثاقيلُ العمى والمتاهات 17 هذا الذئب المنتظر مثل سيد التلال
تشعرون إزاءه بالذنب ذاته كلما فتحتم كتاباً يضوع منه عطرُ الفقد الحزين
18 العمل العاطل
يصقل عربة الملك الذهبية لعبور المأزق فتذهبون إلى الغيب ولا تعوزكم الذرائع
19 ليست الآلهة
إنها أنصابٌ جائعة لأكباد الناس يخفق الحرس في صيانة الحياة فتطفق الصلوات في الترجل
20 يقف في رمل الماء يؤرجح أحلامه
فتمر سفنٌ مكتظةٌ بعبيدٍ يرفلون في الأصفاد ويصدحون بالنشيد الكوني تلك هي حناجر الحديد
21 ربيتَ هذا العدو
ودربته وها أنت تتمرغ في الأوسمة
22 لا أنصحُ أحداً بها،
هذه الحياة، لقد تجرعتُها فحسب
23 ينبغي أن تكون لديكم مباردُ مكان أصابعكم، لكي تحسنوا قراءة أقداركم برفقة ملوك يخلطون السمّ بالدسم ويولمون لشعوبهم بالأساطير،
ينبغي لكم الشك في الشمس
24 لا يعرف ندماً
وليس لطريقه رجوعٌ، لن تدركه البعثات ولا يناله صائدو الجوائز كيف تهزم قتيلاً يذهب إليك حاملاً جنازته
25 نرجس يحرس السجن
والخلق ينقرضون في هوامش دفاترهم أحداقٌ تسهر في بياضها الطيور والمسافة شاسعة بين المكان والمكانة
26
زجرتُ نفسي وهي تشتهي ففاض قدحي بالنحيب وكنت كلما رشفتُ
شَفِيتُ من العِلة ووقعتُ في الخِلة
27
يحرس أحلامي
يمحوني، يبعث جنده بعدي ويتبعني كأني أستعين به لأصدَّ ضراوة الصحراء كي يغتالني وحدي
28
يفيض دمي في القوارير
وأسمع في نصالكم سعياً يعرف الطريق بين الحنجرة والإحليل
29 مثل حرية العبد وأغلظُ ولعاً
مثل براءة الذئب وأخفى صلاة مثل شبق العشق و أعلى نحيباً،
كلمتي وهي تصعد المدارج إليك
30
يذهب الوشاة بسقط المعنى
وتخفق المعاجم في الفقه والتفسير وتبقى خولة وحدها بوشم شامخ تلوب به في انتظارٍ يخضرّ في كفها ويحمرّ في كتابي 31 أسمّي نجمك الليلي
تاريخ القبيلة وهي تستثني تمرغنا بهامشها أسمّي جرحك المكتوب بالياقوت في نسيانها عنوانَ من ضاعوا بلا ذكرى أسمّي الجنة الأخرى بلاداً فرَّطتْ في مائها، أسماؤها منذورةٌ للتيه نمعن في خوافيها، أسمّيها لنصقل ليلها بنجومك الحسرى أسمّيك، انتعاشاً، قلبَها وهي النحيلة كاحتباس الروح، هل تُجدي ثمالة كأسك الأبدي
أسمّيك، احتمالاً، نجمةً ليرد لي أهلي شظايا إرثي المنهوب لا شِعرٌ لهم لا باب أغنية تؤلفهم وهامشهم لنا بحراً وبعض سفينة ولهم ضياعٌ باهرٌ في الشكل باب قصيدتي في الليل سمّيت انتحابَ الخيل مرثاتي وطفلاً ضائعاً في الظل
32 فجرٌ،
يقظة قنديل يتماثل في قطرة الزيت المرتعشة شخص ينقل خطواته الواهنة في تثاؤب في أقل من الحركة في نأمةٍ تختلج بسرها تزيح الندى تسأل بلورة العشق عن شمسٍ تتماثل في رداءٍ مخضلٍ بأثر حلمٍ طريّ فاضح العري تأويله يسبق الضوء هل الشمس أقدام آلهةٍ مرتبكةٍ هل يبدأ النهار في خيطٍ خائف هل الضوء يدٌ أم كلام هل نارٌ تذبل في زجاجةٍ هل بابُ الوقت أم شرفةُ المكان قنديلٌ في يقظة السديم يبدأ 33
شمسٌ، صوتها وهي تعول في غبار الأقبية تعلن حضوراً شاسعاً لجيوش ذهبية مستنفرة لاقتحام كثافة الصفوف لكائنات تنبثق في أعواد داكنة الخضرة
صوتها نحيبُ المنتصر بجراحه، محدقاً في عتمة المداخل، مشحونة بذعر الاندفاعات تندفق في موج الذهب الرشيق، يتخطى ويجتاز صوتٌ بعينين فاجرتين يخطُّ بأقلامٍ لامعةٍ، بحبرٍ ساطعٍ? كلمات طازجةً لنهارٍ يصعب احتماله صوتٌ هادرٌ صادرٌ من الأعالي، من أقاصي الخجل الكونيّ لحظةٌ في غفلة الذهب، حيث ليس للزنزانة صدىً ولا هواء، صوتٌ يصوغ كلمات المعنى وشهوة التأويل، في شغف الشعر وعنفوان الطبيعة، تحت رحمة شمس منتظرة في غبار الأوج
34 في برهة القلب المولع بإيقاع دمه في الأروقة، يلذ لليل أن يحلَّ شكيمة المأسورين تحت وطأة سماء تنخفض، ويطلق كائنات غضّةً، تستيقظُ محتدمةً مندفعةً، لتمسك بأطراف حبالٍ مفتولةٍ، تتصاعد نحو سماءٍ غائمةٍ، في رحيلٍ يضاهي إسراء الملائكة
35 وكلما توغلت في الغيم
شَحَّ الزادُ في سواد القبيلة، وازدادَ النسلُ في الملك، وازدحم الجندُ بالمناكب، وضجَّ صليلُ السلاح، واصطفقتْ الكواحلُ الواهنة في أصفادِها، وصَدَقَ الغيم
36 من البطء في القتل
من حبسة الوطء في القيد، يستلني خزفُ القانطين وينتابني خارجٌ أنني ملء حريتي أن في نيتي أخطفُ الكأسَ من نادلٍ ماكرٍ قيل لي إنني آخرُ النافرين
***
(دفتر الصحراء)
«يقولون لا تهلك أسىً وتجلد»
طرفة
صحراء/ بلاد
- 1 -
ماذا أسمِّي هذه الصحراء،
وهي تدورُ بي وتدير أخلاطي، وتمحوني كما يمحو الغبارُ حروفَه. فسيوفُها رملٌ وماءٌ غائبٌ ورماةُ أخطاءٍ أسمِّيها بلاداً، كي أراها غيمةً مغدورة الأسماء.
- 2 -
صوتُها وهي تعوِلُ في الغبارِ. تعلن حضوراً شاسعاً لجيوشٍ الذهبِ مستنفرةً لاقتحام كثافة الصفوف لكائنات تنبثق في أعوادٍ داكنةٍ الخضرة. صوتها نحيبُ المنتصر بجراحهِ محدقاً في عتمةِ المداخل. مشحونةٌ بذعر الاندفاعات. تندفق في موجٍ رشيقٍ. يتخطى ويجتاز. صوتٌ بعينين فاجرتين يخط بأقلامٍ لامعةٍ. بحبرٍ ساطع. كلمات طازجة لنهارٍ يصعب احتماله. صوتٌ صادرٌ. هادرٌ. ساقطٌ من أقاصي الخجل. صوت يصوغ كلمات المعنى وشهوة التأويل في شغف الشعر وعنفوان الطبيعة. تحت رحمة شمسٍ منتظرة ٍفي غبار الأوج.
انتحاب الخيل
- 1 -
ثمةَ ما يشطرُ هذا الزفير اثنان أو أكثر مَزَّقتَني، قَسَّمتُ أسمائي على شاطئ أعطيتُ أشلائي دماً نافراً فانتابني برقٌ كأن النفير، يجتاحني. موتانِ أو أكثر هل تمتحني هل تَرى حكمتي أن تستحيل النارُ في جنتي أحبولةً هل هذه الصحراء مستقبلٌ يزدردُ الشارد والمستجيرْ
يرتد .. أو أكثر؟
- 2 -
شخصٌ ينقلُ خطواته الواهنة في تثاؤب أقل من الوقت وفي نأمة تختلج بسرها. تزيح الندى. وتسأل بلورة العشق عن شمسٍ تتماثل في رداء مخضلٍّ بحلمٍ طريّ. فاضح العري. تأويلُه يسبقُ الضوء. هل الشمسُ أقدامُ آلهةٍ في القلق. هل يبدأ النهارُ في خيطٍ خائفٍ. هل الضوءُ يدٌ أمْ كلام. هل النارُ تذبلُ في زجاجةٍ. هل بابُ الوقت أم شرفة المكان. قنديلٌ يوقظ السديم وينهر البدء.
- 3 -
براءة الوحش
حيوانٌ يأخذ من صفاتي، كل يومٍ صفة. يحسن أن يتحول ويصير ويصعد وينشأ مثل الأشجار. في كل صباحٍ أفقد صفةً يتخذها، فأكفُّ عن الشخص وابدأ في وصف الكائن. حيوان يأخذني صفة بعد الأخرى.
يتقدم خطواتي يكتبني ويقرأني ويمحوني. أشرع في التأليف كأنّ كلامي خلقٌ ثانٍ وصفاتي تتلاشى في جثماني، وكيانه يتفتح مثل وردة. حيوانٌ يبرأ من الوحش كلما حاز الحب.
النجوم في الشرفة
- 1 -
لدينا الأساطير،
نحن ضحايا الرواة، ويقتلنا السَردُ أخبارُنا سَفَرٌ في السَراب يختبرُ الموتُ أشعارَنا. كلما طاشَ عقلٌ لنا، جُنَّت العاشقاتُ واستدارَ الندامى يُغنّونَ للغيم فصلَ النهايات فَصْدَ الدماءِ الحبيسةِ، سردَ النقائض نقرأُ في دفتر الماء أسماءنا.
- 2 -
لم تكن الشرفة تَسَعُ نجومه وهو يستريح في سهرةٍ طويلة. ليلٌ ليِّنُ العريكة، يخرج من مجابهاته. يذرع النوم بين الحلم والكوابيس. طاب للشرفة أن تندلع بتسعة سلالم من حبالٍ مغزولةٍ بأكثر المُقَلِ بياضاً لفرط التحديق وأكثر المحاجر دكنةً لفرط السهر.
- 4 -
لم يكن لي بين البحرين والحيرة غير خيطٍ من الولع. أجلس مكان الشمس اقرأ الكلمات. أتهجى أبجدية الكشف. شمسٌ تذرع المسافة بين الحانات، تضيء لي خطواتي نحو الكرمة الكريمة في أقبية الحيرة. حيث الجِرار في قامة الشخص الناضج. أقف عليها تسعة أيامٍ حتى أدرك ثمالتي. خيطُ ولعٍ أمشي إليه فيأخذني إلى حانة شهلاء. في هواء الحيرة الأبيض العليل الذي لا تصيبني علة فيه. يضطرب قدحٌ في يدي ذات ليل، وتنسكب خمرةٌ على طرف التخت، أشعرُ بدفء شهلاء وهي تضع يدها تحت إبطي. تجلسني على بساطها. امرأةٌ جميلةٌ من بنات الحيرة اللواتي يعرفن من الشعر ما يكفي لأن يصغي شاعرٌ إليهنّ وهن ينشدن. في الحيرة ليس من الحكمة أن تقول الشعر فحسب، لكن ينبغي لك أن تسمعه، فتصدِّق أن ثمة شمساً ثانية تسكنُ ذلك الغيم، بمعزل عن المُلك والمملكة. خيطُ ولعٍ يضع الحيرةَ في مهبِّ الفتنة. ليس لي في الحيرة شيءٌ يستحق السعي إليه غير الخمرة والخطّ. مرآة الأعمى
- 1 -
يكتبُ الأعمى عن الضوءِ. ويَروي أنَ بابَ الليلِ قنديلٌ بعيدُ
ما الذي يفعله الأعمى إذا شَطَّتْ به أحلامُه، وتوارى في التجاعيد الحديدُ هل يرى الصحراءَ قيداً هل له أجنحةُ المهدورِ هل يقرأ شعرَ الموتِ في الأحياء.. أمْ أنَ يداً تَملكُ تاجَ الضَوءِ تَهدي قلقَ الأعمى ويَهديه النشيدُ.
- 3 -
هنا،
في برهة القلب المولع بإيقاع دمه في الأروقة. لذَّ لليل أن يحلَّ شكيمةَ المأسورين تحت الشرفة، ويطلق كائناتٍ غضّةٍ ويرقبها وهي تتأوَّد محتدمةً تتراكضُ مندفعةً لتمسك بأطراف حبالٍ مفتولةٍ تتصاعد نحو سماءٍ غائمةٍ في رحيلٍ يضاهي إسراءَ الملاك.
الأقحوان*
لك ما تشتهي
يصعد الطينُ كالعطر في الأوكسجينْ لك ما تشتهي مَلكٌ أو سجينْ لك ما تشتهي حصةٌ في الحنينْ لك ما تشتهي يهرب الشعراءُ إلى الحيرة الفاجرة لك ما تشتهي نجمة ساهرة لك ما تشتهي لغة الله في الآخرة. المكنان
سينالك حال أن ترخي حصانك مقبلاً على راحة أعضائك بعد مسير النهار والليل في بردٍ ثاقبٍ وشمس فاجر. وريقات أصغر من خطوات القصائد. صفراء بحمرة مكنونة مكنوزة بعطرها تتكلم مثل بلورٍ يهطل في قصعة اللبن. ما إن تضع لجام خيلك في أرضٍ حتى يصعد إليك رسول الغبار يستدعيك فترخي ساقيك في ظل خيلك تصغي لرائحةٍ طالعةٍ تصعدُ لك وتصعد بك فترى غيماً يخفيك عن سواك، فتأخذك غفوةٌ تظن أن الليل هو الحلم كله والعمر جميعه.
الخزامى
غيَّرَ الخدُّ مجرى الدمع لئلا يوقظ الجمرة النائمة. شهوة في مهدها. ترقب خطوات البكاء. مطرٌ سوف يحكي عن الفقد
هل قلت غيماً يغير لك اللذة وغدر الوقت هل قالت الأرض لك. فتنة للطبيعة أن يأخذ الماء شكل الهجوم مطرٌ هاطلٌ مستمرٌ وبردٌ ومسترخيات غيَّرَ الخدُّ شكلَ الطبيعة في البوح. الشقاري
أشقرٌ مستهامٌ يسعى الى شفتيك
كلامٌ هو الذهب المستعاد إلى أصله.
الحربث
يومٌ يلوِّح بأوراقه التي تشهق مثل الصلاة. يباهي الحياة. أغانيه تحرس خطوات القصيدة. تمسح عن شاعرٍ صهدَ الكتابة. مثل التعاويذ قبل العناق وبعد الشبق
سبحان هذا الشفق يقبِّلها ثم يضحك هل يلثم الحبُ قلبي. دع الأرض تنشر أخبارَها حرةً في كتاب القلق.
العرفج
صفراءُ تضحك مثل ضوءٍ يندفق فيوقظ صمت الصحراء. صفراء. بينها وبين الطين لغةٌ ودَرَجٌ يصعد حتى مقعد الريح. كل خيمة تنتخب زهرة الذهب وتغفو قبل المساء. تضعها العروس في جيب فستانها وتذهب الى الحفل. عندما يبدأ الرقص، على الموسيقى أن تقرأ خطوات الذهب السكرى لفرط الرحيق.
الصقل
بين نهرين من لبن الجسد النبويّ، يسطع زهرُ التآويل حيث لا شعر قبل الشهيق. كأن الرحيق الإلهي يصعد في الطلع. في زهر الشهوة الفاجرة. بين ساقين. في الملتقى. في قصب الجنة المشتهاة. مما تبقى في الخسارة بعد النجاة. زهرة مصطفاة.
* الأقحوان -المكنان - الخزامي - الشقاري- الحربش - العرفج- الصقل : نباتات صحراء الشاعر.
***
|