النهاياتُ تنأى
Endings away

النهاياتُ تنأى

قاسم حداد
Qassim Haddad

(لستُ لسقيفةٍ تشتبكُ فيها النهايات
وتفتحُ الصديدَ والصدى)

("يمشي مخفوراً بالوعول" 1990)

يقظة الصمت

شخصٌ في الصمت. يبحث عمَّن يكتبُ الكلام. له من الكتب ما يكفي مدينتين وتسعُ قرىً وبحرٌ ثالثٌ. فهارِسُه في حبر التجربة. لم يَقرأ له أحدٌ نجمةً في كتاب. فطفقَ يمحو الكتبَ ورقةً ورقة. قبل أن يأكلها ظلامٌ يتماثلُ. ثمةَ صمتٌ يوشكُ على اليقظة. كائنات لا تُحسنُ غيرَ البحث عمَّن يتبادل معها الكهوف.
ثمة صمتٌ يصغي.
والناسُ في الناسِ سادرون.

الكلمة

كلما أوشكتُ على قولها. خشيتُ أن تموت.
الكلمةُ قبل أن تقال.
وبَعدَها ... ما الذي بعدها.
واحترتُ أن أقول.
أن تموتَ
أن أموتْ.

الغزالة

فرَّ الغزالُ إلى حقول الغيم
لم تلحقْ به عينُ الفتاةِ
وآلةُ التصوير
قبل رشاقة القمر الشريد
تفرُّ غزلانٌ من الغاباتِ للغابات
من خوفٍ خفيفٍ
من ضراوةِ خُضرةٍ مكنوزةٍ في العتم
تبحث عن مدىً يمضي بها
الغزلانُ، أنْ تمضي بها في الأفق
لا فرٌ ولا كرٌ لها في منتهى الغابات
لا عدساتُنا ترقى إليها وهي طائشةٌ
ولا بيتُ القصيدةِ آمنٌ
كي تحفظَ الأشعارُ غزلاناً مروّعةً
لها في القلب مأوىً غيرُ منتظرٍ
لها في الصورة العجلى
دمُ القتلى.

جرح الحسرة

لستُ مَصْنعُ الحسَرات. لم يفتني شيئٌ مما ينال الآخرون. حريتي معي. فما طلبتُ شيئاً. الخساراتُ لمن يشتهى. والخيبة للذي اتكأ على خشبةٍ نَخِرة. والخذلانُ للآملين. يستيقظ جريحُ الحرب. فتنهره شذرةُ الدم. ويُربِّتُ على جرحٍ يابس.

مَنْ أنتَ

من أنت يا وطني. أعني ما أنت في التفاصيل. جراحك أكثر من الموت. والنصالُ لا تُحصيك. من أنتَ. إن لم تنتخبْ مراهمك ومراميك. إن لم تعرفْ من أين أتيتَ. كيف تدرك طريقك وأقاصيك. تزعُمُ لنا أنك فرْوُ الدفءِ وانتباهة السهام وخزينة الأسرار. وحين نسألك الرأفة. تتلعثمُ وتكشفُ لنا القميصَ عن جراحك. من أنت. تُدرّبنا على الجمر. وتمسحُ بدمنا حُمرة الخجل كلما متنا. فنتدافع إليك بالمناكب. ونتقدمُ لك بالقرابين والهدايا. وأطفالنا أضاحيك. نقدمُ الروحَ في الرايات والمواكب. ونكون لك. حين يستبسل الطغاة في محرابك. والطهاة في مرآبك. والنحاة في كتابك.
وحين / مَنْ أنتَ. لكي نعرفَ / مَنْ نحن. تتلعثم. وتتقفَّصُ الكلمات في فمك. وتكفُّ اللغة عن إسعافك. كمن لا يعرف أسماءَ أبنائه. وتدور زوايا الدائرة عليه. فتضيق بنا الوسيعة.
يا وطني الذي .. ما أنت؟

صداقة النار

صديقتي نارٌ. تمسُّ الشغاف مصغيةً لعويلي. صديقتي ليلٌ يرتعش في الأرجوحة بين الضوء والحريق. صديقةٌ تنام على كثبٍ من دمي أحتمي بها. مثلُ وهج الذهب المنسيّ. تحتَ العقب النارّية. وهي تُمعنُ في الصَقْلِ وفي الفريسة.

منعطف

في منعطف الطريق. كلما رَفَّ جناحٌ ضائعٌ استعادتْ روحُه الحياة. خَلْفَ الشجرة الوحيدة في ليل البهو. شجرة لها أقدامٌ تتقدمُ وتضيعُ وتكبو. في منعطف الطريق. ليلها طويلٌ ويزخر بالبكاء. يرصد التحولات ويضع جسده على الشفير. لكي تأخذ روحه درسَ الحب.

ذرائع

نستعين بأخطائنا كي نصدّقَ. نُواري جثثَ الأكاذيب. ونَعكسُ أشباحَنا بالمرايا. لتنكسر صورُنا في حديقة الدار. قبل أن ترفعَ الجذور أطرافَها متضرِّعة للماء. قبل انفلات الذرائع الفجّة في أسافين الغيلان. تشقُّ الأرضَ بلا زَرعٍ ولا حصاد. قبيل سدنة الثورة. نستدركُ الهواءَ وهو ينفذ.

المدن

يا رُعبنا الواضح.
عائدون من المدن المستثارة بذرائع القتل.
المدنُ وهي تنسى.
المدنُ وهي تفنى.

عصفور الكنيسة

في بهو الكنيسة
حامَ عصفورٌ على رأس الصلاة
ورانَ صمتٌ غيرُ مضطربٍ
وقهقه أصغرُ الأطفالِ خلفَ الجوقة الكسلى
بدتْ أحلى
صلاةُ القسِّ، موعظةُ الصباحِ،
وريشةُ في صفحة النجوى
بدتْ أحلى
رَجاةُ المؤمنين بما يُثير المعجزات.
هل طارَ في قلب المُصلّين انتظارٌ
حَطّ طيرٌ مرةً في حرفكِ الرمزيِّ
في قلب الكنيسة طائرٌ
سيَضيعُ في الذكرى
بدتْ أحلى
صلاةُ الطير، تفسيرُ الرعية للكتاب، ورعشة العصفور.
في بهو الكنيسة لحظةٌ للنور.

فراشة

سهرتُ أُلاحقُ فرّاشةً. من قنديلٍ إلى شمعةٍ إلى دُخان. فأخذتني في الأعالي. حيث القمر هناك. الفراشة إلى هناك. تصعد بي. فأقذف بأطرافي نحوها. هناك. وأنا خلفها. نافذتي صغيرةٌ والقمرُ بعيد. والفراشة تعرف الطريق. تذهب ولا تعود. فأضأتُ لها فنارَ النهار والليل.

وجائع

لا أحد يحمل الأوجاع عني. أحلامي حصونٌ. قطعتُ المسافات أحملها. لا أسهو ولا أشتكي. أدْحَرُ بها النسيانَ وأنْهرُ الوقت. ما من شهقةٍ إلا وكانت هناك. يتنوّر القتلى بها. فلا يخطئون الطريق. ومن يريد أن يمحو كتابه عليه أن يجهرَ بذلك ويبرأ. فليس للأوجاع أنيسٌ.

سلالة

للإنتصار طبيعة الأرجوان. والهزيمة لونٌ فادحٌ. دَعْ سلالة الحزن ذريعة لك. كلما أيقظتكَ القذيفةُ دعهم يمرون. دعْ لهم فجوة في جرحك. يمنحونك مجدَ القتلى. يخسرونك في المُلمات. تُدركهم شهوةُ الأرجوان .. ولا ينالونها.

الكمنجات

قُلْ للكمنجات شيئاً
لعل الكلامُ يَخبِّرُها أننا غرباء
وأنَّ الموسيقى تؤجلنا
وفينا من الرقص ما يستميلُ المدينةَ كاملةً.

نجهلُ كل اللغات التي ترطُنُ الآن
هاتِ الكمنجاتِ .. أقربَ .. أقربَ
كي يجهشَ القلبُ في حضنها
قُل لها
إننا سنذوبُ سريعاً مع الكأس
إنْ لم يذُبْ يأسُنا
فالكمنجات تشعرُ أنّا فهمنا
وتدركُ أنَّ القلوبَ الغريبةَ تُحسِنُ تأويلَها
أيها النادلُ الفذُّ

هل في النبيذ احتمالٌ لنا
وهل في نحيب الكمنجات منجاتُنا
هاتِها
سوف ندركُ كل اللغات التي فاضَ مقهاك
في لغزها
إنه بيتنا .

أيها النادلُ الوردُ
هاتِ الكمنجات .. أو هاتنا.

الخبيئة

على نارِها. أغفلُ عنها في عتمة الوهج. حقي في النجوم شحيحٌ. والوردة في حزنها ينضجها خجلُ الجمر. في بهجة النار شبه منسيةٍ. في الدلالة وهي تخفق بأجنحتها. في الكلمات والشهوة.
ناري خبيئةٌ. ليلي عفيفٌ. والوردة كأسُ الحزن.

دمٌ على سطر

لم تعد الريحُ تُسِعفُ الأجنحة. أكتبها أول السطر. فتنزلق في الحاشية. هواءٌ صغيرٌ وأجنحة قانية. تُرنِّـقُ الكتابةَ بجرحِها الخفيّ. فلا تدع الدمّ يسقط في الورقة. يمحو الحلم.

سماء

سماءٌ بطيئةٌ. وجراحي في البراعم. والغابة لا تنتهي. كأنها لا تنظر إلى بكائي. ولا تراني. سماءٌ كلما صلّيناها تعالتْ. وتباطأت في زرقة النبي. من أي بابٍ وأي طريقٍ وأي المعارجُ تأخذنا إلى يقظتك. أيتها السماء البعيدة.

خشية

أفعلُ مثلما يفعلُ الخاطئون
لهم يدُهُمْ
والنصالُ الكثيرة تسعى لهمْ
ولهُمْ أن يظنُّوا بأني سأفعل ما يفعلون
خوفهم من كفيفٍ يُصوِّبُ أشلاءَه نحوهمْ
وكأني بهم سادةٌ يَفْرُكُ الكُركُمُ الغضُّ أعضاءهمْ
ويكتبهم زعفرانُ الجنون
سوف أغزو بِهمْ
كلما نالني سيفُ أعدائهِمْ
كلما نامَ حلمُ المصابين بالوهم
يا سادتي
جنتي في انتظاراتكم
وحدَكم تغفرون
وحين تموتون لا تُغسلون
بما يُغسلُ الآخرون.

سوف أنسى بكم حصتي في الجحيم
فهل تفعلون.

فقْد

أما زالت الشمسُ واضحة. مثلما في الصلاة. أما زلنا ننتظرها ونستقبلها. مثلما لا نزال نؤديها. بالخشوع المتقن نفسه. وبالارتخاء الفظيع نفسه. وبنفس التلاشي في الذات. دون سأمٍ ولا مَظنَّة. ألمْ يَضُكُّ على كبدنا السؤال الكامن عن الخذلان والفقد. وخسارة المستحقات المغصوبة بِسَدَنَةٍ يزعمون؟

الجدوى

لم يدرسْ أحدٌ جدوى الحياة. ثمة جدوى تثقل كاهلي بالمهمات. كأنَّ على الأبناء التكفل بالجدوى. وهم يُحصُونَ الندوبَ التي تنشأ مثل فطرٍ مجنونٍ في التجاعيد. ندوبٌ تعوِّقُ غسل الطينَ الميت في ذلك اليوم الوشيك. لعل في ذلك جدوى.
لئلا يبدأ أحدٌ حياةً قبل الدرس.

درس الليل

ليس لليلِ وقتٌ ينامُ به. ساهرٌ على أحلامنا لئلا تَفْرُطُ منا ونحن نيام. ليلٌ تبكي لأجله مصائرُ الدمّ. تضيئ أرجاءَه بالدمع وتحنو الاخفاقاتُ عليه. نزعُمُ المنافحات. فنكتب ليلنا. نحتاج سنوات الضوءِ ليتاحَ لنا العمر والشهوات. وغرائز الغزو لندرك درس الليل. لئلا نخسرَ النومَ وأحلامَه.

الأسرى

صَرَخَتْ في الأسرى. ثاكلٌ تغزلُ الأكاليلَ لجنائز القرية. وحين جاءَ دورها فقدتِ الوسائلَ والأدوات ونسيتِ اللغة. صارت تصيحُ في الأسرى:
يا أسرى تشبثوا بالجُبِّ ففي الأفق جبّانة.

تحولات الدلالة

ثمة من يخلع اللغة من دلالاتها. فلم تعد المعاني ذاتها. الأبجدية برمتها صارت نقيضاً. وتعني العدو. اللغةُ في قوة الصمت وشهوة القطيعة. ثمة من يرى في اللغة طاقة الخرس. والكتابة موهبة المحو.

تهكم

التهكُّمُ اللاذعُ الذي تسفعَنا به المتاحف تاريخٌ مشحونٌ بالأراجيف. تهكمٌ فذٌّ يحزُّ كتفيَّ. فيما أقرأ الورقَ القديم في إطار الذهب. سديمُ الكذب يغمر وجهي. غبارٌ ضاربٌ في الكسل. يتعاوره الضجرُ. رأيتُ في التهكم لغةً محبوسة. في سقف الحنك وبهو الحنجرة. فيما يتماثل الطغاة في سباتهم. متأبطين الكتبَ ذاتها. بالكذب ذاته. بالغبار ذاته. والوقتُ يصبحُ خارجَ الوقت.

قهوة القبرات

القهوة باكرةٌ
حتى إذا تأخرتَ عنها
ستأتيكَ في وقتها
قهوةٌ رغوتُها ثرثرات
وهي في صمتِها
قهوةُ القبرات
ستوقظ أجنحةً في الصباح
توبِّخُ شمسَ الإشارات
تلك التي تخطفُ المشطَ من أختِها
قهوة الليل ساهرة الأغنيات
لها رشفةٌ حرةٌ
تحرق رقتُها صبرَنا
عندما نقرأ فنجانَها
سوف تأتي على مهلها.

دسائسُ منسية

ليس النسيانُ علاجٌ للجرح. حبره في الحلم. شهيقه في حشاشة الروح. وله أجنحة تصعد كلما انحدرَ به النحيب. يَرعَف مؤججاً ذاكرة الناس. والناسُ في الضغينة حتى النعاس. لا الكتبُ توقظهم ولا تنهرهم الجنائز وليس في النسيان علاجٌ لجراحهم. الثكلى لا تنسى. القتيلُ لا ينسى. والنصل بلا ذاكرة.

امرؤالقيس

في بيت امرئ القيسِ تَسَنَّى للهواء
شرفةٌ يصطفُّ فيها عسكرُ الرومِ
يُؤدُونَ صلاةَ الخوف من قيصر
قبل الحرب
كان الشاعرُ الفاجرُ
يجتازُ صفوفَ العسكرِ الثوريّ
يُخفي ثوبه المسمُوم في النصِّ
وينسابُ قليلاً في غبيطِ المرأةِ النشوى
هنا بيتُ القصيد
فقُبيْل الموت يغتالُ الخرافيونَ
أسطورتَهم سراً
يَمرُّونَ على بيت امرئ القيس
خِفافاً مثل نصل الخنجر السريِّ
جندٌ ومرابونَ وأسرى
وقميصُ السمِّ والفتوى بأن الشعرَ محظورٌ،
وكِسرى
سوف يستنجد بالروم
ويرتدُّ إلى قيصر.
مُلكٌ ضائعٌ، أخدوعةٌ،
والمَلكُ المغرور لا يَقنعُ بالشعر
فيسعى..، آهِ ..
في بيتِ امرئ القيس
لك الجنةُ،
والجمرُ لمن يحمل نارَ الشعر
نحو البيتِ في يومٍ من الخمر
صديقاي قِفا.
سيموتُ الميتون
ويرُدُّ العسكرُ الخيلَ إلى الشام
لئلا يكتفي كسرى بكأس الخمر
مكسوراً بماءٍ من رخام
فقفا،
منزلنا التالي هو الحانات
حتى مطلع الفجر
غداً ينكشف الأمرُ
ويرتدُّ الظلام.

أختام الحافة

طيرٌ يجلس على الحافة. أختامُها مغمورةٌ بالريش. مغموسةٌ في سلسبيل الخيط. معقوداً بناصيتها الويل. يقودنا نحو بهو السماء. طيرٌ سادرٌ في التيه. في الحافة المشغولة بأختامها. الرسالةُ في جناحِ السفر. والطيرُ يبحث في فهارس البريد.
مَنْ يريد أن يعرف.
فليسأل.

الحربُ

هناكَ مَنْ يصرخ ضدّها لكي تندلع. ومَنْ يهرب ذاهباً إليها. ومَنْ يقود النحيبَ نحو الوهدة. فضيحتُها أنَّ شيئاً لا يشبهها. مثلما يفعل الفلاحون في القحط. فتتحول أشياء الحقل. ويصير العطش كائناً يقوم بمهام الحياة في الموت. حيث يأتي المطرُ بلا صلاة. الحرب فضيحة الله. أنها بلا جنسٍ ولا جنسيةٍ ولا كلام. وليس لك أن تطردها بحربٍ مثلها.

خضرة الحديد

بخضرته الدمثة
بانتشاءاته وهو يفتح للهاربين من الموت تفاحةً
وأسماءَ لا تنتمي للدماء
ولا تحجبُ القلبَ عن حبِّهِ
بما يُستعانُ به عندما يستخفُّ السُكارى بأخطائهم
بجرحٍ وديعٍ يؤجِّلُ فاكهة الليل
بكل الذي يُوشِكُ أن ينتهي ويتركنا ضائعين
يربِّتُ بالحب أحلامَنا
ويقول لنا: أزفَ الوقتُ
لا تنظروا خلفكم
اذهبوا أينما يأخذ الدربُ أسمالكم
ولكم في الغريب من الأرض بيتٌ بعيدْ
سوف ينتابكم حزنُكم
وتقولون للأرض هل من مزيدْ
اذهبوا
يتعبُ الطينُ في النار
والنارُ خلقٌ لصلصالكم
فاذهبوا .. يقظةً في الحديد.

على كثبٍ من الأرض

كلما فتحتُ حقيبةً هَرَعَ شارعٌ في المدينة. وكلما أرخيتُ قميصاً طلعتْ غيمةٌ شاردة. حين أتصفحُ كتابَ أسفاري تنثالُ التفاصيلُ ومنتخبات الذكرى. وما إنْ وضعتُ يدي على ضَمَّةِ أقلامي حتى فاحَ ضوعُ العربية الفصحى. ترافقني في السفر والإقامة. مَنْ يزعُمُ أنني ابتعدتُ عن البلاد. من يريد أن يخبرني عن سُبلِ الغياب لئلا أخطئ الحضور. من يفسّر لي جملة واحدة في الدفتر المكنوز بما لا يوصف وما ليس في الحسبان وما لا يمكن تفاديه.
هو ذا القلبُ عندما يتعلق الأمر بالبيت الأول.

السيدة

أرضٌ في متناول القلب. أغرُسُ أصابعي في أردانها. فتشبُّ اليقظة في أطفال الحلم. يتدربون على الضحك. أرضٌ لا تنأى ولا تنسى ولا تبتئس. دمنا يسيلُ من الأكتاف متدرجاً على الذراع. ويقطر من الأصابع في رشاقة الطينة الناعسة. والأرض جالسة بلا اكتراث. متاحة ومتكبرة ومشتهاة. أكتب الوردة فتطلع. أكتب الشمسَ فتشرق. أسألُ الملحَ في الخبز فتفوحُ النكهة الساخنة في متناول اليد.
الأرض والكتابة.

يا قليل الكلام

الى أين تسعى بعينينِ مخمورتين
وأين الذي سوف يُصغي لصمتكَ
يا أيها المستهامُ
ما الذي يختفي في الكتاب الذي تحتَ إبطك
تمشي وعيناكَ مأخوذتان
ونَخبُكَ في وَهدةِ الكشفِ
وحدَك
تنسى وتشربُ
وحدَك
مثل الذي في الظلام
يؤثثُ أحلامَه
وحدَه .. وينام.

أصدقائي

طيورٌ هائمةٌ في رؤوس الأشجار. فواكهُ فجّةٌ في أغصان متهدلة. تزخرف الطوبَ الأحمر. أصدقائي البعيدون أستحضرهم بالأجنحة النشيطة. يقرأون مخطوطاتي. يتداركونَ اللغة. ومنسيات الذاكرة. يُقْنِعُونَ كتابي بالمحو وحجب الحشرات عن الأبجدية.
أصدقائي أبوابٌ موصدةٌ ومفاتيحُ تصدأ
وأجنحة كثيرة ... والريح تشحُّ.

من نحن

بسطاءُ الناس. كلما حلُمنا بنافذةٍ في بيتنا أغلقوا باباً آخر. هل نحن أقلّ من أحلامنا. فيما يكمنون لنا في النهار والليل. هل نحنُ حجرٌ في الطريق. أم أننا المفقودون في البيت. نتدرَّبُ على البحر فيجفُّ. نَقنَع بكسرة الشمس فننال الطين. المؤمنون لا تُسمعُ صلاتَهم. نلوبُ في ممرات التيه. نزعُمُ أنه بيتنا. ويزعم أننا في الرعية.

الفقيد

وبختُ أخطائي ولذتُ بأقرب الأسماء
كانَ الماءُ قنديلَ المرايا وهي تنسى
كانتِ الأشجارُ تصغي
والدَّمُ المذعور يصقلني
ويسألني عن الباقي من الحشد الشهيد
أنا الفقيدُ،
ينالني سيفُ الخطايا
أفقدُ المعنى وتهربُ منيَ الأسماء
شخصٌ واحدٌ يكفي لتوبيخ المدينة
وهي تزدرد الحشود
كأنما ماءُ المرايا شاهدٌ
وكأنَّ ما يبقى لنا
يبقى لتفسير الخسارة
ساعةَ الأخطاء.

جنون

ليسَ أكثر من سؤالٍ جامحٍ
في زهرة الفوضى
سألتُ العقلَ
جاءَ الصوتُ: يا نجمَ الجنون.

زعفران

الصداقة للدفءِ
لم يبق لنا سوى جرحنا
وحده
ربما يحنو حديدٌ على قلبنا
ربما توقظُ الصداقةُ،
وهي نائمةٌ، حلمَنا.
هاتوا قليلاً من الزعفران
ونسيانَ قلبٍ
وترتيلةِ المؤمنين
وجمرةِ أخطائكم
وحدَها
فالصداقة للدفء
للخفق في قلبها وهي تبكي لها
مثلما يستعيد الشتاءُ تآويله
مثلما .. وحدَه
يهمس في روحها
إنها دفتر الأصدقاء
لئلا تنام .. وحدها.
أبي

موتى كثيرونَ
تذكرتُهم
واخترتُ أحلامَهم واحداً واحداً
كي أؤلِّفَ مخطوطة عن حياتي
محوتُ صفاتي
وخالجني أنني يا أبي
لم أكنْ عند موتِك
هل تغفرُ الآنَ لابنِكَ هذا الغياب
الذي لا يزال؟

لم يكنْ والدي وحده
كثيرون كنا
نموتُ كثيراً
ووحديَ أقرأ ما يستعان به
كلما هبّ موتٌ جديدٌ علينا.

تذكرتُ كيف وضعتُ يدي
فوق صدر الحنان الذي ضمَّني
لم يزل دافئاً تحتَ كفّي
فهل كانَ يكفي ليغفرَ لي
أنني لم أكنْ،
ويشفعَ لي عندما اخترتُ خاتمه المعدنيّ
الذي صاغه بيديه
والذي لا يزالْ
دافئاً مثل جرح الغزالْ
لعلي أكون هناك.

موتى كثيرون
تذكرتُهم واحداً واحداً
وألَّفتُ مخطوطةً عن أبٍ من عجبْ
لم يزل خاتماً معدنياً يضاهي الذهبْ
سيترك لي نجمةً لا تزال
تفوقُ الخيال.

موتى كثيرون

ينامون حول كتابي
فهل تغفرلي يا أبي
وتنهي عذابي؟

اليدان

يداه في الحبال. يحاول إقناع البحر بالتريث. الإعصارُ يشقُّ الأرض. يداه في الحبال. مثل طفلٍ على حُلمةٍ. شَرَّشَ الحبلُ لحمَ يديه. وعندما انفرطَ الحبلُ كاملاً في اليدين الضارعتين. خَفقتْ أشرعةٌ مالحةٌ تغمر السفينة. فإذا باليد الملوّحة في عصيان الريح تهيمُ باحثة عن نخلةٍ تنقذها من الفَوَات. اليدان الداميتان أعطتا لجذع النخلة بقية اللحم المشلشل. في اليدين التائهتين. ذات اليدين المالحتين. في جذع ضارٍ في نخلة مغصوبة. يدان كسيرتان. تفرّان من حبل البحر. لتقعا في حبل النخل.
لا الإعصار يصغي. لا النخل يسمع. ولليدين صنيعٌ يحرس الخلق.

حكمة

حكمةٌ أنَّ للطير أخطاءَه
مثلما يستبدُّ العجَبْ
ومن حكمةِ الطير
أن الخطايا ذهبْ.

نساء

نساءٌ حاربتُ بهنَّ بلاداً شتى.
فزرعنَ اليأسَ بقلبي
نساءٌ أحببتُ الموتَ عليهم
حتى متّ.
رحلتُ بِهُنَّ
ويممتُ البحرَ العاصي
فسبقتُ الوقتَ.
نساءٌ يرسمنَ يداً بيدي،
يبذلنَ الألوانَ بلا عنوان
حتى .. تجتاحُ الشمسُ بلاداً .. حتى.

*

نساءٌ يغزلنَ رداء الخوف
وحيداتٍ
ويضعنَ الملحَ على الجرح
فكيف أِّسمِّي الأسماءَ لهنَّ ..
وكل رجال البحر الأزرق .. موتى.

بيت قلبي

لا أكره أحداً يكرهني. بيتُ القلب الذي دأبَ على محاكمتي يدفعني في أكتاف الأفيال ومنعطفات القصف. وانتخاب الدم لجراح العائلة. وحسم الأمر قبل الأسئلة. لا أكرهه لكي أحبه. فالمسافة كفيلةٌ بمداواة الفقد بالخذلان. لا أريد منه. لا أريده. لا رغبة في مجافاته. بيتُ القلب القابع هناك على أشلائي المنسية.
لا أتذكره .. ولا أنساه.

الغلامُ والمَلك

لستُ بعيداً بما يكفي. فالدمُ الطليلُ طالني حتى الشغاف. طفلُ الوردة. فالمنادبُ التي تحزمُ القرى طالت المدينة. ليس ثمة مسافة كافية لكي تكون بعيداً. فالمَلكُ ذاتُه. المَلكُ الذي اغتالَ الفتى ذي القصيدة. هناك .. لا يزال. يقصل غلاماً هنا. مَلكٌ لا يصغي ولا يسمع الكلام. لا تدركه نصيحةٌ ولا يقرأُ الدرسَ. وليس قريباً بما يكفي .

السفن

سفنٌ تجوبُ النهرَ
باحثةً عن الماء الأخير
يقودُها غيمٌ
تضللها نجومٌ مستريحاتٌ
على صحن النحاس
مساقطُ الماءِ الطويلةِ
شمعدانُ الساحل الطينيّ
نورسةٌ تهاجرُ وحدَها
ماذا يُريدُ النهرُ من سفنٍ
مدلاةٍ على الشلال
عطشى،
سوف ترشدها نجومُ الماء
في سفنٍ بلا بحارةٍ وبلا صَوارٍ
كلما انسابتْ رياحُ الموج
هاجت شهوة الأسماك.

إضحكْ قليلاً

أين أنتَ عن أطفالي. لقد صَلّى لك الكون. الرجالُ ركعتْ والنساءُ سجدتْ. وتضرعتِ الحشودُ لئلا يطالَها عسفٌ. ولا يسحقها ظلمٌ. ولا تلهو بها متاهة. أين أنت لكي نُصدّق أنكَ هنا. هل أنتَ هناك. ومن نحن لكي ندرك من أنت.
كيفَ يُمكنُ الظنّ. وكيف نصدُّ شكاً ضارياً. وأنتَ لا تضحك لنا ولا تمنع عنا جوعاً ولا عطشاً. تعبسُ في وجوهنا بالرهبة. تسمِّي الشمسَ لنا والظلَّ علينا. إضحكْ قليلاً يا الله. نحبك مبتسماً. لنقنعَ أطفالنا بالصلاة.

منسيات الذاكرة

مواكبُ العزاء تزخرفُ الحزنَ الدامي. بصناجات الإيقاع الفجّ. تسحق عظمة الروح. لا تدركُ حدودَ ما ترى وما تسمع وما تستعيد. هل ثمة من يعزفُ موسيقى الندم على المفقودات. أم أنه نشيدُ التجهيز لإيقاظ المنسيات. كنتُ حين أعصب رأسي بخرقة العزاء يسمُّونني بيرقَ الحداد. زَيغُ الذاكرة كلما طغى النسيان.

انتظارات

في المطر الطفيف. انتظرناهم. الأحباءُ الذين وَعَدُوا الخريفَ بحصيرة الكستناء. انتظرنا في حضن الله. رجاةَ أن نحصي زرقة الورق معهم. ونمنحهم حمرة قلبنا. لكي يختلطَ عليهم النبيذُ بشهقة النشوة. انتظرنا في مواقف الحافلات. وعلى أرصفة القطارات. وفي شفير جحيمنا اللذيذ. مخافة أن نغيب لحظة وصولهم
الأحباءُ. عشاق الكستناء النيئة. مواعيدُهم مرقومةٌ في الفهارس. ولقاؤهم موشومٌ بخريفٍ حافلٍ بالعطايا. قالوا أنه وعدٌ. فعقدنا الأملَ على جعل الشتاء ثقيلَ الخطى. وانتظرنا. نحن العراةُ إلا من موهبة الانتظار. دفاترنا مشحونة بالقصائد. والأواني مكنوزة بأزهار "فان غوخ". والشحوبُ طبيعتُنا في الانتظار. الأحباءُ الذين لم يأتوا تركوا الخريفَ ينسى أشجارَ الغابة. وبقيَ الماءُ في مكانه.

تداول

أسلَمَنا اللهُ للأنبياء. فتُهنا في نسيانهم. توارينا في صلاة الخوف. كانَ الله يهملنا قليلاً في البنفسج. والأنبياء ينسخون الكتبَ بحبر الله. دونَ اكتراثٍ بالسهو والنسيان. فتتعثر النصوصُ بين ذاكرة الأنبياء ونسيان الله. كلُ صلاةٍ جرسٌ. وكل نبيّ جوابٌ للرهبة. يسلمنا الأنبياءُ للطغاة. فتصير بيننا وبين الله مسافة لا تدرك.

الراهبات

سربٌ من الراهبات
يخرجنَ من حانةِ الغيم
يهتز نهرٌ على خطوهنَّ
كأنَّ النحيب الذي خلفهنَّ
يفوقُ الكنائسَ والصلوات
خرجنَ يؤدينَ دَيناً
وينشرنَ جبتهنَّ التي
صارَ لونٌ لها فوقَ الحديقةِ
سربٌ من الراهبات
تَرَنَّحْنَ كي تستقيمَ الحياة
وحُجتَهُنَّ
بأنَّ على المؤمن المستهام
أن يجدَ الله في كل شيئٍ
ففي كل حُلمٍ نجاة.

تجارة

كانَ لي أن أجلبَ البحرَ
كي أستعينَ به
لاكتشاف الخسارةِ في الربح
كانَ للبحرِ أن يتبعَ الأشقياءَ
الذين يلوبونَ في جرحهم
باحثين عن الماء قبل المطرْ
كان للبحر أن يشبهَ الماء
أن يسبقَ النهر
ما الذي تترك الريحُ لي
غير ريش الجناح المهيض
الذي قال لي .. وأنتحرْ؟.

سجال

جرحان في جسدٍ واحدٍ
يئنان نزفاً وينتقمان من النصل بالنصِّ
جرحان منتحران في جسدٍ واحدٍ
واحدٌ نازفٌ
واحدٌ عارفُ
والجسدُ المستعارُ من الله
يكتظُّ بالرفضِ في مركبٍ عارمٍ
طائفٍ في الأعاصير
والمستعان من الله
مستنجدٌ
ضارعٌ
خائفُ.

انتحار الأصدقاء

على كثبٍ من الجرح القديم
رحتُ أستثني انتحارَ الأصدقاء من الفهارس
كلما جادلتُ في الحانوت عن ورق الكتابة
قيل لي : خُذْ ما تُريدُ
فسوف تنشأ قيمةُ المكتوبِ من أسماءِ منتحرين
تكتبهُم
وسيرتُهم ستجري مثل ماء الزعفران
فَخُذْ لهم
وأكتبْ لنا عن صَحبِكَ الماضين
دَعْ سوقَ الوِراقة
وانتخبْ حبراً من القلب الجريح
ولا تؤجلُ موتَهم
فالأصدقاء ذخيرةٌ للنص
خُذْ ماءَ الكتابة
وانتظرْ خفقَ الملاكِ.
فكلما جادلتَ حانوتاً بكى الوراقُ
وانثالتْ دماءُ الأصدقاء.

مرحُ النجوم

للنجوم طريقةٌ في النوم
دونَ إساءةٍ لليل
تسهر نجمةٌ وتنامُ أخرى
كي يظلَّ الضوءُ في ميزانه
تجري الملائكةُ الصغارُ وتفتح الآفاقَ
ثمةَ سهرةٌ تضفي على نوم النجوم
تناوبَ الجرحي على موتٍ وشيكٍ
نجمة أخرى تضلل صائدي الأحلام
تباً للسماء
ستكشف الأسرى لمحترفي الظلام
وينتهي سهمٌ إلى كبد الملاك
نوم النجوم وظيفة الأسرى
لكي تفضي إلى ليلٍ بديلٍ
ينقذ القتلى من الخذلان
مرحى للنجوم
تعيد تنظيم المجرَّة مرة أخرى.
جلنار
ماذا صنعتَ بزهرة الرمان؟
ينظرُ سيدٌ في عبدِه
كي لا يقالُ:
مخاتلٌ يبني حديقته على ماء الغريب.
أفنيتُ عمري كي أذوبَ مغامراً بالخمر
هذي زهرة الرمان في القمصان
ماذا ستفعلُ لو مضى نصلُ الحقيقةِ
لو بكى نايُ المغنِّي بعد مقتله
وتسأل زهرة الرمان
عن ضجرٍ طفيفٍ
سوف ينتابُ العبيدَ قبيلَ حصد الحقل
هذا سيدٌ شادَ الحديقة من عذابي
وانتحى بي
كي يقالُ:
مزارعٌ يُرضي ضميراً عاطلاً
ويحيط بالشكوى.
فمن يقوى على زهرٍ يُرمِّمُ جنةً
ويزيِّنُ البلوى؟

في البحر

ظننتُ أنَّ البحرَ خلف الريح
أرخيتُ الشراعَ
لكي أضللَ موجةً تعلو على سُفني
لتبدو زرقةٌ في الأفق
كانت شرفةُ الأشجار
تسأل ما اسمكَ
ما ترى في فهرس الأخطاء
غير الماء؟
مَدَّتْ لي يداً
هذي الصواري وهي ضارعة تنوحُ
ظننتُها مُدني
وظَنَّتْ خضرةُ الغابات أني ضائعٌ في التيه
صلينا معاً

بحرٌ ورجفةُ شاعرٍ وتنفسُ المَرعى
وتسعةُ أخوةٍ صَرعى
وأبعد ما يكون البحرُ عن كفني
بعيداً كانت الأحلامُ قاسيةً
تراءى أنَّ لي سفناً على الميناء
كنتُ ضحية الأسماء والسفن.

جرحان

تجلى ليَ العِلمُ
أنِّي أموتُ جُزافاً على الدرب ِ
بين التآويل والعاصفة
تراءتْ ليَ النزهةُ المشتهاة
كأنَّ الحياة
كما السير في موكب العائدين
من الموت بالحجّة الخائفة
بدا ليَ أنَّ المعزِّينَ يأتونَ مبتهجين
لأنَّ الذي ماتَ
ضَحْى بهم في الكتابة والمعرفة
غنّى بجرحينِ
كي يُوْلِمَ الحفلَ والمائدة
بالقوى السائدة
وأنَّ الذي خَطَّهُ في الدفاتر

أخطاءه المنتقاة
قبيل الممات
ولم يستعنْ، كي يموتَ سريعاً،
بما يشغلُ البعضَ في الربح والفائدة
بدتْ للرواة الحقيقةُ
قبل اكتمالِ الحكاية
لم ينتبه أحدٌ،
أخفقوا في التفاسير
باتوا على حزنهم والتهوا بالجنازة
عن مستثار الرؤى الرائدة.

الوقت

كم سوف يبقى من العمر كي أسألَ الله أن يجمعَ الأصدقاءَ ويرسمَ حبَّ العدِّوِ لهم ويؤلفَهم في الكتاب الجديد بما يمسح الحقدَ من قلبهم ثم يسعى بهم للبعيد القريب من الناس يستوعبون الجراحَ ويَحْنُونَ أعناقَهمْ للصديقْ.
كم يا تُرى سوف يكفي من العمر نرجو السناجبَ كي لا تقوّض هيكلنا في الطريق الى الله يبقى من الله فينا قليلاً نؤجلَ أخطاءنا ونحضُّ السماءَ على العفو كي لا يزيد الطغاةُ من العسف في بيتنا ليتنا نسألُ الله في غفلةٍ أن يكفَّ الدعاةُ إلى الموت باسم الكتاب العتيق.
كم سوف يكفي من الدَّم كي نحتفي بالضغينة وهي تزول من النص يبقى من العمر وقتٌ نؤدي به حاجةَ الروحِ بعد النقائض قبلَ الحريق.
كم سوف يحتاج ترميمُ أرواحنا بعدما هشمتها الشظايا فهل من بقايا من الشمس تكفي لمستقبلٍ عاطلٍ في المحطات قبل البريق.
يا ربُّ هاتِ الأحباءَ يستقبلون معي غدهم في الحقول البعيدة عن عتمات المعابد هات الندى في القلوب الحسيرة
قل هو الوقتُ يكفي ففي الحب بوصلةٌ للطريق.

الضحية

أبثُّكِ في الصورة المشتهاة. في انبثاقة الفجر. أصطادكِ في السناجب وجندب العشب الطازج. أنتخب سطراً لك وسطراً لي. أجلس بين يديك. حوذياً يُحرّر الفرسَ من اللجام والسرج ويطلقها في حرية السهوب. أروزُكِ بشباكِ الشبق. وأخلع ركائز السور. لئلا يَحُوْلَ دونك الخشبُ. تقعين في حضني. في موجة الخضرة الذهبية. نشتبك بلا رَوّية. لا نكاد ندرك مَنِ الطريدةُ مَنِ الصائدُ مِنْ أينَ يبدأُ القنصُ. وكيف تقع الضحية في سقيفةِ الندمْ.

مَنْ لها
يا قلبُ ما الجدوى
هذه الخريطة ضاقَ واسِعُها
والبوصلات كثيرةُ الشكوى
من أينَ بابُ البيت
ليستْ صدفةٌ أن يُستعانَ لجمرة التأجيج
بالفتوى
يدي في مستحيلٍ فاتنٍ
كغزالةٍ مذعورةٍ في موجةٍ نشوى
قلبي ضائعٌ في الحب
مثل سفينةٍ في الغيم
كان لها
نجمٌ يضلُّلها،
فناراتٌ ورعشةُ ضائعين لها
وميناءُ السكارى والقراصنةُ الخرافيين
والإعصارُ، كانَ لها،
كي يستقيمَ الموجُ،
حقٌ في اندلاع العشقِ
في بحّارةٍ متباسلين
يُفَزِزُونَ النارَ في الفوضى
عراةُ الصدر
يسقون الصواري نخبَهم
يتجاسرون إذا طغى المعنى
وضاعَ دليلُهم
ويكابرون إْذا بكتْ مرآتُهم
و ارتاعَ ربّانُ السفينة ساعةَ النجوى
فما الجدوى
من السفر الطويل وجنةٌ في البيت
يا بيتَ الصديق القلب
طاشَ الموجُ بي
وتساءلتْ روحي
وهامَ الشوقُ بالفحوى
فمن يبكي إذا طالَ الرحيلُ
ومن يفسّر محنةَ الأسفار
من يقوى
وما الجدوى
إذا فكرتَ .. في الجدوى.

الغريب/1

قدمايّ في أرضٍ تتصدَّعُ وتنبعجُ. صلصالٌ مكسورٌ بزخَّة الحشد الأخير. أنسربُ في سنجابٍ. أقطعُ المسافةَ بين الباب والحديقة. في تعرِّج الكائن المتريث. لا الوقتُ في حسباني ولا قدماي تعرفان الطريق. فالطريق ليس صديقاً. تستضيقُ المتاهةُ بين المدخل المتسارع وأروْمة الشجرة الكالحة. بنكهة التراب الكسول. أقعُ في حضن الأخضر فيبدأ هيجان الغريبِ مشرفاً على الضياع. ليس ثمة فهرساً للتجاعيد. وما من خريطةٍ لخطوات الغريب. فكلما رفعتُ قدمي من هجعة. وقعتُ في سقيفةٍ مخبوءة. فأصابُ بالرؤيا. منهاراً في الأخاديع المتكاثرة. بفعل الحركة المضطربة بلا حذر. المنجرفة في مهاوي الخوف. لم تعد المسافة تكفي لفرارٍ فاتنٍ من الطبيعة.

وحدة البحر

بلادُ الأعاصير. يحتدم فيها ربابنةٌ مذعورونَ بسفنٍ ضالةٍ على مبعدةٍ من السواحل. يتدهورون في اللجّ. حتى أنكَ لا تعرفُ. هل هُمُ الحصارُ أمْ الحرسُ. قادةٌ، قيودٌ، قناصونَ. بلادٌ في الموج. يتكاسرُ حولها قراصنةٌ ورماةٌ. الصواري بارقةُ النصال. صارمةٌ تصقلُ العاصفة. تصدُّ الريحَ والقناديل. مستعيضة بالشموع عن الفنار. مؤجلة صيدها وتجارتها. هاجرة أسفارَها. لئلا تفوتها لحظة اقتسام الغنائم وحصة الأسلاب. فأوشكنا على مناهضة الصيادين. ظناً أنهم القراصنة.
بلادٌ طائشةٌ في البحر.

همس الجذور

... وإذا صادفتني في الجذور. فتلك ذاكرة الطوفان. كنتُ سأنسى. لولا أنهم جرّدوا سيوفاً وحفروا خنادقَ ونصبوا الشباك مموهة بالموسيقى. أنا الضعيفُ في الأغاني. لذتُ بأصول الأشجار وحفرتُ في أرومتها بحثاً عن جذر الصوت. تستدرجني الموسيقى في خدائعَ وتراتيل. حتى وجدت ظلال النصال فوقي. فظننتها الأغصان. انحنيتُ أصغي للجذور. فانهالتْ سيوفٌ تُحصي أشلائي. وتبذرُها في حوضِ أكثر الأشجار هرماً. بخشبها العتيق. لكأن تابوتاً يفغر الأشداق لي. لاستقبال الجثمان الطري. ممتزجاً بذاكرة تكاد أن تنطفئ.

ذخيرة الأصدقاء

ثملٌ يحصي قُبلاً سوف يَلثمُ بها أصدقاءه الغائبين. أمضى الأيام يَعِدُهم بالعناقات. يدَّخرُها لهم في نبيذٍ ولبنٍ وعسلٍ وخبزٍ ونعناعَ يخْضرُّ في الانتظار. يزِنُ الثملُ ترنّحه الرشيقَ بغصنٍ مثقلٍ بتفاحات تنضجُ. تُرْعِشُه نسمةُ الولع. تغير جاذبية الشجرة وانتظارات الرفقة. التفاح للعسل والنبيذ للذاكرة. والغياب الطويل للمحنة.
أؤلئك الغائبون بلا مبرر. تاركين صديقاً يفهرسُ العناقات والقبل. يُحصيها وينتظر. يَعِدُونَه بالمؤانسة في العزلة ويتأخرون عنه. فيذهب إلى الثمالة وحده.

الفقيه

مالَ الفقيهُ على الكتاب
وقال لي: من أينَ أبدأُ،
كلما عالجتُ إثماً ثارَ إسمُ
هل تريدُ الريفَ جنتك الأخيرة
ربما كان الجحيمُ يكافئ القتلى
فترنو للهوامش
تحتمي بالحبر في شجر المساء.

من أين ابدأ،
لا الكتابُ يُجِيزُ لي
أن أستعيرَ النصَّ كي أُخفِيكَ
لا في الخمر وَهْمُ.

مالَ لي،
ورأيتُ غرباناً تحومُ على الحقول
كمن يقول:
قال الفقيهُ له فلم يُصغِ
وطالتُه يدٌ مسلولةٌ من مرجع الفتوى
وحصتُه من الخوفِ الكثيفِ
وسادةٌ مشحونةٌ بالفَقدِ والخذلانِ
لو قالَ الفقيهُ له
لكان الطيرُ هودجَه
وكان بريدُه الآياتِ والتأويلَ
لم يمنحْ له سَعيُ الفقيهِ
سوى الخطايا
والجوائزُ كلها مرصودةٌ
بمقاصلٍ تسعى إليه
فبكى عليه
وراحَ يقرأُ سورةَ الكهفِ القديمة
والفقيهُ مضرجٌ بالذُعر
لم يدركْ من الحب الأخير
سوى انتحابةِ عاشقٍ مقتولْ
لو مالَ الفقيهُ وقالَ لي،
ما نالني موتٌ،
أنا الشخصُ الغريب
بلا حبيب.

أمل اليأس

فقدتُ اليأسَ في تلك البلاد
فقلتُ أبحثُ عن بلاد اليأس بالأمل.

حلم

خمسُ ساعات من النومِ السريع
لِأرى في حانة الفندق شخصاً
يدفع الأقداحَ قبل النرد
فالنادلُ في هذا النهار الفظّ
يأتي من فراديس الغياب.

نِمْتُ حتى آخر الأحلام
قلبي في كاتدرائية النهر
ومَنَّيتُ يدي بالقلم القُدسيِّ
كي تأتي الكتابة.
فتماثلتُ،
سقاني نادلُ الحانة كأساً خامساً
ثم نهاني
وأتى بالدفتر الأزرق
والحبر ومحو الزعفران
ومضى قبل الأوان.

خرجَ الساحرُ من جُبَّته
أخذ الوراقُ يَحْسُو كأسَه
في حضرة الشاعر
واسمُ الله في التأويلِ
لا يعرفُ من أينَ سيأتي الشعرُ
كيف انحرفَ النادلُ عن مهنته
وتمادى في تفاصيل الكتاب
كيف تاهَ الحبرُ
غامَتْ خمرةٌ
وتفاديتُ بكاءَ الشخصِ في الحانة
يسقيني وينهاني
ويذهبُ في كتاب الشِعر
في تهويدة تحنو على كأسٍ
من النوم السريع.

ماء

اتكأَ على تعبِ الانتظار. لا المطرُ له ولا النهر. جسدٌ أكثر رهافة من الولع، والخريف يصقله ويحميه من هشاشة الطقس. كل عكازٍ ينكسر تحت وطأة جسدٍ شفيفٍ لفرط انتظاره. يلتقطُ فلذات الماء المنثالة في الممرات. يتعثرُ بغصنٍ ويقوم في إعصار والفراشات. جسد ليس له، وعيناهُ طيورٌ طائشةٌ في الحريق. لا خوفاً ولا ضغينة. العناصر تهرم والخلايا تذوبُ في أقداحٍ وفي مرايا.
اتكأتُ على ماءٍ. تعبتُ، انتظرتُ، وتعبتُ. تعبتُ.
يا سيد التيه تُهتُ.

عبث

الغابات في مكانها. لا يلتفتُ الناسُ إلى النعمة. من الذي يعبثُ بالكائنات. والحزنُ في هامش الفرح. هامشٌ يمنح الحياة. عبثٌ يُغلقُ البابَ. في كوخٍ على كثبٍ من الغابة. عبثٌ يفتك. عبثٌ يعسفُ بالباقي. في هذا المهبِّ وهو يهوي.

الفتنة

هذا صنيعُ الليل. ذهبتُ إلى النوم. لم تكن الدفاتر موجودة. ولم تكن الأبجدية في حوزة الحبر. والقنديل بلا زيتٍ. الليلُ يفعلُ هذا كله. أجلَ أن لا يتركَ لي ذريعة. أتأخرُ بها عن القصيدة.
الليل.
الليل وحده لا يتركني وحدي.

الباب

ما كنتُ لأعرف الألم. لو لم أفتح الباب. نصحني الملاكُ ألا أفعل. وحذرتني زهرةُ البيت. وأشجارُ الغابة وعدتني بكل ما أحلم. شريطة أن لا أفكر في الباب. الباب نفسه. يطلق تلك الصيحة الصاهلة. حين وضعتُ قدمي على عتبته. كانت رمانته ناضجة. وتنورُ الفضول في اللهب. كأنْ لم يبقَ لي في الحياة سوى أن أفتح الباب. الألم أن تعرفَ.

النهايات تنأى

عند المحطات ينتظرُ الناسُ
في المنحنى الدائريِّ الأخير
محنتَنا الدائمة
ويُرخُونَ راياتَهم كيفما اتفقَ القانطون
ويُعطونَ تلويحةً للتعبِ المُرتَجى
ويستسلمونَ لمأوى انتحاراتِهم
كي تكفَّ الضحايا عن النوم
لكنَّ شمسَ الضُحى الساهمة
لم تزل نائمة
والمصابونَ يستعذبونَ انتهاءاتهم
لهم حَقُهمْ في انتظارٍ طويلٍ
ليكتشفَ الماءُ أقداحَه
فالمدى يستضيقُ هنا
يحاصرنا البحرُ بالاحتمالاتِ
حيثُ النهاياتُ تنأى.

يحملُ الناسُ أشلاءَهم
ويستنبطُ الراحلونَ عن الحرب
فتوىً تُجيزُ المماتَ لهم
بحرِّيةٍ في النشيد
ودونَ التفاتٍ لفقه التآويل
فالاحتمالُ الوحيدُ
لما نشتهي
لا يعودُ لنا
والفناراتُ تدعو الأعاصيرَ نحو السفائن
تكبو الصواري مكسورةً
والشواطئُ تغفو .. وتنأى

كل شيء هنا سوف ينأى
وليسَ لنا
ليسَ للناسِ
ليسَ مستبعداً أن يساومَ نوتيةُ البحر
رُبانَهم
ويفتعلُ الموجُ أسطورةَ التيه
يفتقد الله حجته في الرجال الضعاف
فيفتح للنسوةِ الباب
يُطلقنَ أحلامَهنَّ الكريماتِ
يُدركنَ أفقَ الجسور الكسيرة،
حتى إذا ما انتبهنا
رأينا القواربَ فارغةً
وهي تنأى.

الصخرة

حولُكَ العاصفة. هل أنتَ صخرةٌ في الجبل؟. الصمتُ حصنك. وتراتيل الكنائس تحيتك الشاهقة في الحقول القصيّة. ماذا تُسمِّي الأعاصير في قدميك. كيف يأتي إليك النومُ والأبواب تصطفقُ والنوافذُ تتخلع والأشجارُ تَمُورُ في الصمت.
تكتبُ النصَّ وتنام.
صَمتُكَ يَبذُلُ الذرائعَ لورشة الضغائن. صمتٌ تزعم أنه حصنك. من قال أنك سيدٌ في اختيارك. ومَنْ سَرَّ لك بمن ينصُبُ الشِراك وما ينالك من النيران. هل أنت النارُ أمْ الحريق. هل الماءُ أنتَ أمْ العطش. انتبه لشظاياك المتأججة. فمن شذراتك يقيمون سرادقَهم ويوقدونَ مدافئَهم وينصبون العواصف. ثم يَقْصُرُونَ عن المجابهات.
هل أنتَ صخرةُ الجبل؟

كوكبٌ ضائعٌ

كل أرضٍ تُضمَّدُ فيها جُروحي
ستوقِظُ روحي
كل أرجوحةٍ تَبعثُ المهدَ
تمضي بما ينتهي نحو بدءٍ جديدٍ
لها وَقْعُ بلورةِ الحب في القلب
أصغي لها ذائباً ثم أفنى
كما تستعاد المدينةُ بعد الفتوح.
في كوكبٍ ضائعٍ
خرجتُ مرتعشاً
باحثاً في المجرات
عما يخبئني في حنانٍ ودفءٍ.
مضى بي خرابٌ
وجنَّتْ بي النارُ،
شيَّدتُ ما يُستهامُ به
فانثنى مثل أسطورةٍ هشةٍ،
قلتُ هذا جموحي.

رغبة

ركضتُ بين الجذر والأجنحةْ
بالرغبة الواضحة
كيف يسير القلبُ في جنةٍ
قبل نهارِ الشهوةِ الجامحةْ.

غابة حرة في النهر

ليست الغابةُ تيهاً
إنها أنشودةُ الريفِ
شهقةُ الفجأة النبويّةْ
شُغفنا بها
نبَّهتنا لما يَفتحُ للروح طُرقاً في الطريق
لا ظلامٌ ولا عتمةٌ
غابةٌ تتحرّرُ من نهرِها
تهزمُه بالجهات القصيّة
وتؤلفُ من نار أخطائنا جنةً
ولنا حصةٌ في التفاصيل
في ما تبقى لنا
من شهيق الحياةِ الشَهيّةْ.

الغريب /2

يمرُّ الغريبُ على مائنا. طيراً شارداً من حريق الحروب. بعد اقتناص سربه كاملاً. يتقدمُ بخطوات الوزة بالجناح المنهك. بساقٍ مكسورةٍ وكتفٍ مخلوعة. وثلاثة مثاقيل من اليأس الناضج. يسير في طرقات القرية قتيلاً يجرُّ جثته. بذراعٍ معطوبةٍ وذراعٍ مفلوتة. وكلما هَمَّ بالاقتراب سَمِعَ صفقةَ بابٍ تطرده.
الغريبُ في البلاد الغريبة. لم يكن عدواً. لم يشترك في حربٍ. كان يحرثُ خصبَ الطين. ينتظر المطرَ فقصفته زَخَّة الضغائن. جاءَ من الجحيم. يبحث عمَّن يفهم الجراحَ ويعالج الروح. مكانٌ ينامُ فيه ويحلم.
الغريبُ في البلاد الغريبة.
حين همَّ بطرْقِ الباب التالي سمع أجراساً تنوح.
فأدرك أن الضغينة تحكم الكون.

تحولات الفصول

انحدرتْ في جرف الجبل. الغزلانُ المختبئة منذ الشتاء. رفعنا رؤوسنا. لنعرفَ مصدرَ ما ينجرد. فإذا بقطيع الغزلان ينجرد نحو السفح. جارفاً معه خليطاً طائشاً من الأغصان ومنسيات الوقت والماء اليابس وشظايا الحجر المنحوت في أكتاف الجبل. والغبار المتكاسل الكثيف. وذكريات غابة الجبل. وبريد الجرود المتأخر. وفيما كنا نحاول تفادي الانهمار. كانت قرونُ الغزلان قد نالت قمصاننا. وخبطتْ أظلافُها أجسادَنا المذعورة. فوجدنا أنفسنا ننجرفُ في قطيع الغزلان لنستقر في الوادي العميق أسفل السفح. كان ذلك الانحدار الأخير لغزلان ادخَرَتْها الغابةُ ورعاها الجبل. من أجل أن يبدو ربيعنا زاخراً بالمكتشفات.

التجربة

منذ أن صارَ الريفُ زراعاتٍ وأودية. أصبحَ الصبرُ قفطان الوقت. منذ أنْ ذَهَبَ الغريبُ إلى المنفى. صارَ النهارُ قميصَ العمل. تشرَّدَ حاسراً في الكون. فأرختِ الشمسُ سلالمها لتنقذَ الغريبَ في المنفى. كأنَّ الغربة أكثرَ حناناً وأقلَّ وطأة على الوحيد. بعيداً عن أحفاده. وصار للشمس صوتٌ بارد يسمعه الغريبُ. وتصغي إليه المخلوقات في الريف والقرى.
لمستُ كتفه أسأله عن الوقت. بلا قفطان ولا قميص. فالتفتَ يحدثني عن شمس ترخي سلالمها عبر الغيوم والمطر. في العري ذاته. في الليل ذاته. أمسك الغريبُ بيدي فيما يكاد أن يذهب.
قال لي: تعال. لن ينتبه لوحشتك أحد هنا.
وفاتني أخبره أنني لم أعد في مكان.

درس الطبيعة

كلما توغلوا في القتال رأيتُ الطبيعة أكثرَ وضوحاً ورحمة. وتفاديتُ ما يجرح الروح. ليس لديَّ غير الكلمات. وليس لقلبي سوى الحب. وليذهبِ الجحيمُ إلى مستقره. في هذيان القتلى. ليس للقتلة مكانٌ في النص. تلك هي مسافة المحو. يمعنون بالنصال. فينهض الرمادُ وينهرني. أن لا أكترث بالموت. وأن أكتبَ الكلمات في رخام الذاكرة. ليطلع الزهرُ في نيلوفر البحيرة.
هكذا تمنحني الطبيعةُ درسَها.
هكذا يقصر القتل عني.

القرويات

القروياتُ تراكضنَ هروباً من خيول الليل
كانَ الغيمُ يهبطُ عند تاج الزَرع
جيشٌ أبيضُ الرايات
في هيئةِ عطرٍ رائقٍ يخترقُ الأكباد
فزَّت نسوةُ الريف من النوم
كأنَّ الموتَ يسري في الهواء
كيف،
من أينَ أتى هذا الرثاء
قروياتٌ بكتْ أحلامُهَنَّ
الدربَ نحو الحقل
هذا الليلُ أقسى من جيوش الثلج
هذي الريحُ تسري في جرادٍ
نحو حقل القمح
مَنْ يحمي فرارَ القروياتِ مِنَ الغيم
ويستدرك أطفالاً من التَرك
نساءٌ مستحماتٍ بماء الفقد
أخطأنَ الطريق
نحو بيتِ العُرس
زهراتٍ وحيداتٍ
يطاردهنَّ غيمٌ أبيضٌ
يتفارَرْنَ جنوناً في ظلام الغاب
من أينَ أتى هذا الضباب
قروياتٍ تسرولنَ بخيطِ الزعفران
وعَقَدْنَ النَذرَ
يَقْصدنَ مكاناً آمناً للحب
يَخلقنَ الطريق
ويوآخينَ الطريق
ويغيّرنَ الطريق
ويقاومنَ الطريق
قلنَ .. من يحمي نساءً
سوف يثكلن من الأطفال ما يكفي لجيش الشمس
ويفقدن الطريق
قروياتٌ
تَوارَينَ وراء الموت كي تأتي
نهاياتُ الطريق.

صناعة

بأيديهم الخشنة وقلوبهم الناعمة يحتضنُ الفلاحونَ أطفالَهم بعد الدرس. وينتظرونَ أشجارَهم في الحرس. حتى يزهر الغصنُ وتينعُ الفاكهة. فيكون الدرسُ قد أعطى. والثمرُ نَضِجَ وحانَ القطافُ. بيدٍ خشنةٍ وقلبٍ حانٍ يطعمون أطفالَهم. ويمررونَ ريشَ أياديهم. لكي ينام الأطفالُ. وتتقاطرُ أحلامهم.

الرؤيا

يرى الأعمى بأحلامِه
التفتح في وردةٍ
في غيومٍ وفي دفاترَ
لأقدامه شرايينُ تُبصِرُ
وعيناهُ غصونٌ
وله كتابةُ الحُلُمِ وهو ينمو
بلا عَصاة ٍ ولا قيادٍ
يتقرّى بأصابع الروحِ مواقعَ أيامِه
يجذبُه خيطٌ من العذاب
يَعرفُ الأطفالَ في النحيب
والجموعُ تَجوعُ لكسرةِ الشمس
يَلمسُ في الأرض وجعاً
يرى إلى التاريخ يعَبَثُ
ويهوي في مأتمٍ
في جنائز
يرى كأنه ينظرُ
يرى وفي يديه القيودُ والسلاسلُ
لكنه يرى
لديه من الضوءِ شَعاعٌ
يُحمْلقُ في ساعةِ العمر
فتندلقُ الأحداقُ في خديه
لفرط الرغبة.
أعمى
أحلامِه في تشنُّجِ الليل
في الباقي من الشمس في مقلتيه
يرى مثلما يرى الله شعباً يتيه
فيهديه
يرى الناسَ في الموت
مثل الحياة
شعبٌ في شباكٍ من الشكِّ،
في طبيعة العِلْمِ
شعبٌ في غيمٍ وفي مرايا،
مثلما شهوةُ العَمَل.

النرد

دارَ نَرْدُ الحياةِ بنا
في صفحةٍ في كتابٍ
واستعارَ النُحاةُ أخبارَهم
في شروحٍ من الزَهر
في طينةِ حقلٍ حرثتُه النِصالُ
مسنونةً بغيمةِ المعدنِ
زَهَرُ النَردِ شمسٌ
مرسومةٌ بالمرايا
تدورُ في صفحةٍ
في هامشٍ من كتابٍ
فتستعادُ الهدايا
طَفقَ اللهُ يحنو ويعبثُ
مهندساً للمصائر
لِجَنةٍ مشتهاةٍ
والكون في هيئةِ طفلٍ
مضرَّجٍ بالشظايا
فدارَ وانثالَ نردٌ
يُؤرِّخُ الموتَ
يمضي،
وينتهي،
يتلاشى
كأنما في طريقٍ مبَقَّعٍ بالزوايا
يا نَردَنا في رمادٍ
وفي رُقومٍ
مُؤوِلاتٍ
وتهذي.
يا نردنا
ما زلتَ تعبثُ فينا
أنتَ ضَلالٌ وتَهدي.

الطرقات

خطواتنا شِراكٌ. الطرقُ مصائدُ والأفقُ سرابٌ. في أحداقنا كِناسة الجَمر. في كل نأمةٍ جنازٌ. تعالوا. من أين كنا سنمضي. وبيننا هاوياتٍ تهيأتْ بالنوايا. هل في الكتاب إلهٌ مزخرفٌ بالخطايا. تعالوا. نتأنى ونصغي. نسأل. أينا الشمسُ أينا الطريقُ. وأي جرحٍ طويلٍ ينتابُ أرواحنا. جسدٌ مائلٌ بأحلامه الثقيلة. كلما طرق باباً صادفته الضحايا. يشبق بما يجعل الغابة بيتاً والنارَ بريدَ الحريق. حشدٌ يصرخ. تعالوا. ليس للدمِّ طريقٌ. وليس في البحرِ ماءٌ يسافر. أشعلنا في السفائن. في كوكب الحلم. في عدوٍ صديقٍ. تعالوا. كل خطوةٍ خديعة. وفي المخارج جبٌ. تعالوا.

الغَبِيطُ

متنا قليلاً
عندما مالَ الغبيطُ بنا
تناوبنا على شدِّ اللجام
وأوشكتْ يدُنا تعانقُ أختَها
طالَ الندى جُرحاً مكانَ السيفِ
وانْهرْنا ثلاثتُنا
جرحٌ وجارحة وأطلالُ الجريح
بقيةُ الباقي من العشاق
لو طاحَ الغبيطُ بنا قليلاً
لم نَمُتْ
كنا تداركنا الوسيطَ من المَلام
لكي ننام
ومِلْئنا شَوقٌ إلى جُرحٍ جديدْ
حتى إذا مِتنا قليلاً
سوف ترثينا طيورٌ غيرُ مكترثات
بالشكوى
وما ينتابنا ندماً
طيورٌ راحلاتٌ
غيرُ عابئةٍ
كما الشكُّ الطفيفُ.

لنا الجراحُ قرينةٌ
إنْ تعجزَ الرؤيا
عن الركبِ المتوجِ بالنساء
وهنَّ زينتُنا
إذا مالَ الغبيطُ بنا.

لحظة الغيتار
موسيقاكَ تَصْخَبُ
هل بكتْ أغنيةٌ في كاحليكَ
ولحظةُ الغيتارِ فوقَ الساقِ
سحليةٌ تَمُرُّ وتشحذُ الإيقاعَ
فِضَّتُكَ التي في الكأسِ طائشةٌ
ومن النعاس إلى النحاس
صَبيَّة في الورد
تاهتْ بالفتى الريفيّ
فاندفعا إلى الرقص الشهيِّ
وموجةُ الإيقاعِ ترفعُ ذيلَ فستانِ الفتاةِ
فلا نجاةَ في خِضَمِ الموجِ
هذي رقصةُ النيران في بردِ الخريف
وهذه أخدوعةُ الغيتار
لحظةَ يختفي في الساق
فلاحونَ محترفونَ
مالَ النهرُ في بيت الحريق
ليغرق الفتيان في رقصٍ جنونيٍّ
لئلا يسقطَ الإيقاع.

كاتدرائية "كولن"

جلستُ في أيقونةِ الكنيسة. أتضرَّعُ لزرقتها.القانية. يسيل من خشبها المشجوج بالنشيد. أيقونة تهيم في الجدران والنوافذ. زجاجٌ يجلوه شغفٌ يشهق في مهابط الناس. وأحلامه في شرفة الله تصقل أجنحة الملائكة ساعةَ الصلب. جلستُ أمسح أصابعها بالمناديل. وأغسل كعبها بالصهد المتفصّد في دمعٍ وفي دمٍ قدسيٍّ. في تجاعيد الرسغِ ويأس العينين. هدأتُ في ذبيحة النجاة. وكانت في الوقفة. نزلتُ وهي طالعة. ركعتُ وهي تكنسُ غيمة الله.
أردتُ أن أصغي وكدتُ.
أردتُ أن أبكي وكدتُ
أردتُ أن أموتَ فكدتُ
فإذا بأنامل الملاك تحتَ إبطي
أنْ إنهضْ فنهضتُ
لم يكن في بهو الكنيسة أحدٌ
زرقةُ الأيقوناتِ معي
وهسيسُ الصلوات معي
وعسل الشمع معي
وكانَ الله معي.
****

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى