مجنون ليلى

( بالاشتراك مع الفنان العراقي ضياء العزاوي)
طبعة لندن
مجموعة أرابسك - لندن 1996

 

الضحك

روي عن شيخٍ يدعى عبدالقدير بن صالح بن عقيل وهو مولع باستنشاء أخبار من جنوا عشقاً أنه قال أخبرني عبدالحميد قائد التراجم وهو غير ذي ثقةٍ عن شيخنا أبي صلاحٍ خلف الغساني أنه قال عن أبي أنمار إبراهيم بن عبدالله نزيل البيمارستان، حدث قال عن شخصٍ لم يفصح لنا عن اسمه فلم نهتم، قال (صـدف أن مررت على موقعٍ بين خيام قيس ونخلٍ لأهل ليلى، وكنت في ليلٍ من الصيف، فإذا بي أسمع ضحكاً على مبعدةٍ، وكنت كلما حثثت سيري اتضح الضحك وخالطه نشيج يستوقف السامع وحين قاربت المورد شف في الضحك مجون فما أدركت المكان حتى رأيت أن الضاحك هو قيس بن الملوح من بني عامر، وكان وحده جالساً على الأرض وهو يغرق في قهقهاتٍ متواصلةٍ ما إن تنتهي دفقة ويسترد أنفاسه ناشجاً شاهقاً لابطاً بذراعيه وساقيه في الرمل حتى تتخطفه اندفاقة أخرى فلم أصدق النظر لوهلةٍ ، فليس قيس الذي يفعل ذلك، وهو الذي لم نره مبتسماً قط فدنوت منه أحدق فيه وهو عني مشغول، وكلما هدأ لحظةً بدا كمن يتأمل شيئاً في ذهنه سرعان ما تجتاحه نوبة جديدة من الضحك الماجن المجلجل الذي جعله لا يعبأ بما حوله فشككت أن مجنون بني عامرٍ قد جن، ثم استدركت (لكن كيف ذلك، فهو مجنون في الأًصل؟) ومكثت برهةً أتثبت من أمري لئلا أكون في ضغث الأحلام أو خيالات الدروب الموحشة، إلا أن قيساً لم يملك ما أطلب (أجبني يا رجل، هل أنت قيس بن الملوح صاحب ليلى العامرية؟) فشرق بنوبة ضحكٍ تغرغر بها وهو يتأرجح ويتطوح على الرمل محاولاً إدراك نفسه ملتفتاً إلي بغير همةٍ (عسى أن أكون كذلك والله أعلم) ولم يكمل لأن نوبةً جديدةً قد خطفته من نفسه فهب على قدميه مبتعداً وضحكاته نواقيس تصدع الليل ولم يكترث بسؤالى له عما يدفعه لكل هذا الضحك فتركني في ذهول من لا يصدق ما يراه رأي العين، فأمسكت بأطرافي وركضت داعياً الخيام (قوموا انظروا ما حل بقيس من العجب، فقد ضحك)

قال فلم يصدقني أحد وتجمعوا حولي يهرجون، وفيما كنت أقسم لهم بالغليظ على مارأيته، إذا بأصداء الضحكات ذاتها تتناهى إلى الجمع، واقترب الشخص فإذا هو قيس بن الملوح ما غيره فأحاطوا به يستفصحون حاله وهو في الشطح (والله لا أعرف كيف أنني لم أفعل هذا على هذا من قبل وما يحدث يحدث منذ أن تولعت بها وتدلهت، ياألله ياألله أدم هذا على هذا إلى يوم الدين)

ثم ابتعد دون أن ينجلي أمره واختلف الرواة في تفسير ذلك روى أحدهم أنه جلس إلى المجنون في غفلةٍ من غفلاته وعرف منه سبب الواقعة، وهو أن قيساً كان يسهر مع ليلى في خبائها، وبعد أن فرغا خرج متوجهاً إلى قومه في الجهة الأخرى من الوادي، وما أن دخل خيمته حتى رأى ما أذهله، فقد كانت ليلى جالسةً على بساطه قال (فخرجت عائداً مثل المجنون إلى خباء ليلى واقتحمته مثل الإعصار لكي أتيقن مما رأيت هناك ويا أعجب ما رأيت فقد كانت ليلى هنا في خبائها لم تزل تصلح من شأنها بعد خلوتنا وقفلت بلا إبطاءٍ عائداً إلى خيمتي وإذا ليلى هناك أيضاً وعدت راجعاً إلى خباء ليلى فإذا هي هنا وعدت إلى خيمتي فإذا ليلى هناك ولم أزل على هذا الحال من هنا إلى هناك أكثر من تسع مراتٍ وليلى في المكانين حتى أوشكت أن أختبل بين مصدقٍ مارأيت وبين مكذبٍ ما تمنيت واحترت ما أحسب هذا الذي أراه فما وجدت نفسي إلا وأنا أستغرق في حالٍ لم أصادفه من قبل فقد تفجرت الأجراس من أشداقي كعين ماءٍ مكسورة الختم تواً ووعيت بعد حينٍ على صوتٍ آدمي يسأل : (لماذا تضحك؟) وعرفت ساعتها أنها الحال التي انتابتني ولم ينقلها الرواة عني في مجمل أخبارهم ولا أخفيك فقد كان وقوعي في الضحك أجمل شيئٍ أحببته بعد عشقي لليلى قيل، فلما سمع رواة أخبار المجنون خبر الضحك أنكروه، وحجتهم في ذلك أن صورة قيسٍ في الأخبار جميعها واحدة لا تتغير وليس لها أن تتغير، فالعشق الذي أصاب قيساً لا يتيح لمثله أن يعرف الإبتسام، فكيف له أن يضحك ويقهقه ويمجن هكذا وأوشك هؤلاء أن يعتبروا تلك الحادثة دساً في سيرة المجنون وخدشاً لصورته الرزينة الكئيبة التي عرفه بها الناس وأجمع الرواة المقلدون ومعهم المقلدون على أن القول بوقوع قيسٍ في الضحك ضرب من الخفة والتخليط، وإذا كان أبوأنمارٍ هذا قد زعم الواقعة، فإن نزوله البيمارستان يفسر لنا ما يهرف به أما نحن فقد وجدنا في روايات هذه الكوكبة شيئاً نثق فيه دون تلبثٍ، برغم غلبة الشك فيه حد الكذب، تيمنًا بما قال قيس ذات شعرٍ (إذ بعض المحبين يكذب) ففي هذه الكوكبة من النص أكثر مما فيها من الخبر

 

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى