1
من فوهة الكهف يخرج الرماد مخفوراً بالدخان محفوفاً بعصف الأحجار.
عصف مزلزل لكن مهيب تخشع له معادن الأرض ومنابر الآبار، تخضع له كائنات
استوحشت، وكل منحوتات الريح في هذا الموقع الأجرد تصيخ برهبة لهدير
في طور التكون ينشد الانعتاق.
هناك، في الداخل، في قعر الكهف تتشكّل عناصر الخرافة الآسرة. أروقة
مبلّلة بذهب لم يمسّه مغامر أو قرصان، أروقة تقوّست من فرط الوحشة
والانتظار، هاهي تفتّت شذرات من هيكلها العاجيّ إنتشاءً بهذه اللحظة
البهيجة : فبعد قليل ستشهد البعث الجليل، بعث الكائن الجميل الذي ظل
زمناً بين أغشية النسيان.
(مهلاً، مهلاً، لا تسرعي يا ذرّات لئلا يفقد الرماد بعضاً من زغبه،
أحيطي به مثلما تفعل الأمهات البشريات ووفّري له الحماية. وأنت يا
فلزات، احذري من الهواء المتهور لئلا يخطف شيئاً من بهائه).
هناك، في الداخل، متخمة الأطراف بنداءات الخلق :
صيحات بدائية لا توصف، هتافات جهورية لا تحصى، عواء وعويل، فرح صاخب،
حجرٌ يهدل، حديدٌ يصهل. وما من مخلوق بقادر على تمييز هذا التداخل
غير الذي تآلفت روحه مع روح الأحجار وامتزجت أنفاسه بأنفاس الأسطورة.
يفتح الكهف كفه ليمشي بين ممراته الرماد المزهو بولادته وعرسه في
آن، يصاحبه الدخان الفارد أبواقه ويجاوره العصف الذي يعلن جهاراً فرادة
الحدث.
مأخوذةً، أرسلت السماء رسُلها : لبوءات مجنّحة تحمل الهدايا، نساء
سماويات داخل مركبات من صنع الكواكب ينثرن قرنفلات الشمس، أقمار بشوشة
تحملها غيوم حبلى بنبيذ الفردوس، وفي محفات أبنوسية مزدانة بالعقيق
يمكن مشاهدة البروج التوائم وهي تطلسم طوالع المنجمين كي لا يعرف الإنس
مجاهل الرحلة.
التربة أيضاً أوفدت سفراءها أسراباً أسراباً : زواحف تحمل سبائك الفُطر،
جداول مرشوشة بالنعناع والزيزفون تقودها حيوانات مضيئة من مختلف الفصائل،
أشجار متبرّجة فوق أفنانها تشرئب الطيور البرمائية، وفي مؤخرة الموكب
تعود بنات عِرْس رافعة فراء السمامير كالبيارق.
حتى البحر المكابر بعث بوصيفاته، المتوّجات بعاج من اللازورد والمضمخات
بعبير الموج، ليمجّدن الكائن الجميل وليهزجن بأناشيد سيدا البحر الذي
بدأ - في تلك اللحظة - يأوي إلى برجه المنمنم بالأسماك الصغيرة متطلعاً
بانبهار ناحية الصخور المرجانية المترامية عند شواطئه حيث سيبدأ الخلق.
الجميع جاء يحتفي
والجميع يهفو إلى المصاهرة.
انتصبت الأعمدة البرونزية حول الموقع الذي لم يطأه مغامر أو قرصان،
وفي الأرجاء احتشدت الكائنات تنظر وتنتظر مخبئ قشعريرتها بين المقل.
إنها تمد أبصارها في لهفة وفضول نحو الكهف والذي ينبعث منه الرماد
الوابل متكوماً على الصخرة الهائلة. يتكاثر الرماد، يعلو حتى يكاد
يخترق حجاب الفضاء، والأبصار ترتفع مع هذا النمو والتضخم الخارقين.
فجأة، ينطلق نفير صاخب، فتبدأ الهضاب المجاورة بقرع أجراسها الجامحة،
ويهتز الموقع. عندئذ يجفل الحشد المتحلّق ويرتد قليلاً إلى الوراء،
غير أنه لا يغادر المكان. فما حدث أمامهم قد خلب اللبّ وشلّ الأطراف،
ولم يأبهوا للزلزلة والعصف.. إنهم الآن يشهدون النهوض العظيم، التحوّل
الساحر.
من الرماد يتطاير شرر يرصّع الموقع بضوء مشعّ، ضوء حريري ينسج هيكلاً
جباراً لكائن جميل يتشكل شيئاً فشيئاً، يتسربل بريش غزير لاهب مبقّع
بشعل الشمس، وينقش في مقدمة رأسه الكبير منقاراً مقوّساً حاداً كسيف
البرق، وعينين مستديرتين تخترقان المدى فتغور في البؤبؤ كل الشواطئ
والحقول والمدن.
أخيراً، أخيراً ينبجس من جنبيه الجناحان : سرّ قوته، سرّ عظمته، جناحان
مغسولان بالجرأة والهتك، يفردهما في شموخ وهو يدير بصره الثاقب هنا
وهناك، متطلعاً في أنفة وكبرياء إلى الحشد الذي يهتف مبهوراً :
(ما أبهاه، ما أجمله..)
أنفاسه رياح فسفورية تلهب البقاع. خفقات جناحيه حكايات خرافية تتناسل
في دهاليز القرون دون أن يكتشفها أحد.
يطلق الدويّ الفريد الذي به تكتمل الولادة، وفيه تدّخر الطبيعة خصوبة
العناصر.
ويحلّق طاوياً تحت الريش سنوات حافلة بالتناسخات، مثقلة بالهجرة، وفي
الرئة غبار المطاردة وطعنات الآلهة. يعبر المدائن والأنقاض والسهول
والجسور والأبراج والمنارات. يعلو ويهبط، ملك عرشه الفضاء، صولجانه
ذاكرة تحوم.. تسترجع جذور الأمس، تستقبل أبناء الريح الثرثارة.
يمد بسعة الأفق جناحيه، يتلفت حواليه، يحزم المرئيات جهةً جهةً ويكسوها
بالومض الساطع.
لا يفشي سره لأحد
لا يفصح عن مساره لأحد
يهيم
مائدته المحيط
سريره أشكال الحجارة.
|