الجواشن

الطبعة الأولى - 1989
دار توبقال للنشر - المغرب
الغلاف رشيد القريشي
عدد الصفحات 177

 

العاصمة الرابعة

1

هكذا تجرجر، هكذا يا شعب الجهات تجرجر دمك المشعّ، الأنقى من ماء الورد، وترجّ في مسيرتك العظيمة طمأنينة جيوش أيقنت منذ زمن أنك اندحرت وانك اندثرت وصرت صنو الغبار، لكن هاهي تستنفر آلية العنف في معسكراتها وتنتظر مرورك بشبق لا يوصف.


إيه يا الدم العادل،
توزّع رائحتك بالتساوي - قطرةً قطرةً - عند مشارف عواصم شرهة تزخرف قبابها بأردية الاغتيال. ولك الحظوة دائماً، من وكر إلى وكر تمشي وحولك تطفو براقع الغدر مخبئة أجناسها السفّاحة تحت الجلد. ما من متراس إلاّ وصان بعضاً منك وهَدَرَ بعضَك الآخر. وفي الهشيم كنت، نذكر ذلك جيداً، تكبح الدمعة لئلا يسمع رنينها ذلك الطفل الجالس على مصطبة، ملتفعاً بخرقة بالية، يرنو إلى تشنجات الحربة المنغرزة فيك، ويرقب - باسماً - موتك أو بعثك. لكن، من معصمك، كان النشيج يطفر خلسة وينتحر من فرط الخجل.

إيه يا الدم العاهل،
ما كان ينبغي أن تتواضع إلى هذا الحد، وتساوم الممالك الهشة من أجل زقاق تجري فيه بلا رادع ولا أمل، كان الأجدر بك أن تنتزع أحشاء المدن، بما اشتهرت به من بأس وأنفة، وترميها بإهمال في صحن بلاطك قرب فهودك الحمراء ذات الأعين البرونزية. آنذاك ستأتيك تباعاً وفود الممالك مادةً أعناقها، صاغرة، ممتثلة لأوامرك. لكنك آثرت التظاهر بالوداعة، وحسبت أن الأغماد - التي لا ترتوي إلاّ بك - سوف تتنحى جانباً وتلتمس المغفرة، ما احترست، أيها العاهل الحليم، بل صالحت وصافحت ذاك الذي لا يرتوي إلا بك، ماذا ستقول للمرأة الجالسة على مصطبة، مغطية وجهها بوشاح الذهول، وهي تصيخ بقلب راجف إلى هجرتك الضوئية من كثيب إلى كثيب ؟ أية ذرائع ستتلو هذه المرة ؟

في صخب الجثة كنت تركع خاشعاً وتصلي،
بدأ يُصفّر. الشاب (الذي سوف يُقتل بعد قليل) بدأ يصفّر. لم يكن يعزف لحناً، إنما هي إشارات خاصة لا يفهمها أحد سوى حبيبته (التي سوف تُقتل بعد قليل) والتي تقذف بالكتاب جانباً وتهرع نحو الشرفة لتطل منها بلهفة ووله. إنهما الآن يتناجيان بلغة خرساء لكنها مترعة بهديل الغزل، مرهونة إلى الحب وحده.

نظرات ثملة، بالغة الشرود، تتوجس تارةً، وتهيم تارةً في فضاء المتعة المحرّمة، يبلّلها عسل الحلم وحده. تطل الحبيبة فيتضوع المكان كله بأريج لا مثيل له. ليس أزكى من رائحة العاشقة "يقول الشاب الواقف تحت شجرة شربين (سوف تُقتل بعد قليل) فيما يتأمل جمال الكون المنطبع على وجه حبيبته.
من يجرؤ على تدنيس هذه اللحظة الحميمة غير الجارة النمّامة (التي سوف تُقتل بعد قليل) والتي تتباطأ - أثناء مرورها - مختلسة النظر إليها ثم تسرع لنشر النبأ في الأرجاء، وحتماً سوف تصل الأقاويل - مع إضافات لا بد منها تبتكرها المخيّلة الخصبة - إلى أسماع أبيها (الذي سوف يُقتل بعد قليل) والذي يندفع بقوة منقضاً عليها ويكيل لها الضربات وهو يهدر ويتوعد، بينما الأم (التي سوف تُقتل بعد قليل) تحاول أن تتدخل لحماية ابنتها لكن دون جدوى. أما الجيران (الذين سوف يُقتلون بعد قليل) فيضربون كفاً بكف ويهزّون رؤوسهم أسفاً على السلوك المشين.
قتلى هنا وهناك، يهندسون مشيئة الموت. ما أجملهم !
للجرح الفاغر رائحة النعناع،
للجرح الزاحف في احتضار الأسلحة باب الجنة.
ماذا كان يفعل الرجل العنيف، الموغل في بدائيته، لو لم تكن هناك ضحية تلهم القسوة وتفتتح المطاردة.. أو ربما المجزرة ؟
لو لم يكن هناك طاغية يتوسّد مصالحه ويخطط للمحنة.. أو ربما يرتجل الفتنة ؟

العقبان، التي دارت دورتين، غضّت ثم نأت، فقد كان الله - وقتذاك - يحتضن دموع القتلى. كان يحرس المعاصم التي يتناثر منها هتاف غامض. كما لو أن الضحية ترفض أن تغادر هذا العالم دون كلمة، دون أن تعلن للملأ أنها -منذ البدء- النموذج الذي يُحتذى والذي يتكرر كلما أسفر القتل عن وجهه.
كان الحجر - وقتذاك - يضحك. للبيوت محاجر وأفواه. في أجوافها تحتشد الأشلاء. لم تعد المساكن آهلة بالأحاديث الودية والوشوشات الحميمة والصياح الأليف. صارت الأجساد تتلاطم عند مداخل الملاجئ راغبة في الاحتماء من قبضة الحديد. أما الطيور المحظوظة فقد حطّت على التلال المجاورة مشرئبة إلى خشونة المشهد اليومي : معدن يحاصر الحجر.

حصار كالوأد.

ثمة ظلال تخرج من المرآة. عجائز حاسرات إلا من نمش الفجيعة، يحملن دلاء فارغة، ويرتقين السلالم الليفية المؤدية إلى أرياف سماوية. هناك كانت الينابيع المرحة، المحفوفة بأعشاب تشعّ كالذهب. ترش الساحرات الجميلات، الأكثر طراوة من بشرة الفجر، بمياه متلألئة بالغة العذوبة.

ماء لأولادنا !

آه لو نظرتم إلى تشققات الشفاه. كنا ننحني على أحداقهم الشاحبة فنلمح عنادل يابسة تتساقط وتنكسر. نلمح أجسامنا الهشة تعدو صارخة وفي أطراف ثيابنا يشبّ الظمأ.
بالله عليكم انحنوا لتروا ما نرى !
في أنحاء أزقة غير حصينة، مكسوة بالعويل، يتمدد أولادنا كالخرق بأعضاء مضمومة كأنها تصلي، أو كأنها تعود أجنّة بريئة لم يسكرها الضوء بعد. لا الحلم تآلف مع روحهم ولا النعيم. فقد تبرأت منهم الحياة وعصفت بهم المناجل.
ونحن، اللائي فقدن مصابيحهن في جمجمة مساء غارب، نتعلق بأذيال المأساة ومن آباطنا يتدحرج الالتماس، وحيناً نجسّ التربة بعكاكيزنا بحثاً عن ماء.

ماء لأولادنا الذين يموتون قبل أن يعيشوا !
العجائز المتوسلات، في مثولهن الخاشع أمام ينابيع منصتة بلا اكتراث، لم ينتبهن إلى صخب أطفال مجنحين كانوا ينطلقون في حبور خلف كرات مضيئة. صار الفضاء ملعباً، والغيوم حدائق. هنا، لا جوع ولا ظمأ. الملائكة أخذت تصغي باهتمام إلى فضاء يحتدم بالجلبة.
كان حصاراً كالوأد.
إيه يا الدم الفاخر،
كيف نكتبك - نحن المختارون للكتابة - وأنت تموّه مجراك ولا تترك لنا علامة أو أمارة ترشدنا إليك. تقوّض رصانة العالم وبجرأة تقتحم محفّة الطمأنينة. بك تتعرى الأرض وتكشف عن آثامها، بك يتجرد الوجه من قناعه ويسفر عن همجيته.
قل لنا، أيها الفاضح، أين ستكون في المرة المقبلة ؟
نعرف أنك صاهرت شعب الجهات، تقتفي آثارهم تارة وتسبقهم إلى المهالك تارة.. لكننا أيضاً نراك في ألف شكل، وفي كل مكان،
فمن أنت ؟

2

تجلسين في هدوء، مثل إعصار يعبث برعاياه،
بين يديك تتدرب الريح وتفقد الغيوم تيجانها.
مَنّ أنتِ حتى تكابري بكل هذه السكينة الفاتكة، تتخفين في صوتك، ترقبين المشهد، وتنتخبين الكارثة.

رعاياك في سلطة الزوبعة. تبذلين الدروب كلها لهاوية واحدة. ولما يسألك الضالون، تومئين بشالك الملطخ بضريبة التيه ناحية أرض تتناوشها عربات الرماة وتقرضها سناجب السوق.
لم يبق إلاّ أن تسمعي نحيب ليل يشغف بكائناته.
نساء ينتحبن بجلال
نساء رعاياك المغرمات بسراويل المطر وغبطة السلال
كأن عبثك الوحشي يدفعهن إلى هاوية الطرقات كلها.
استمعي
لعلك، آن يجتاحك النحيب ترأفين
وتكترثين
وتدورين بهيكلك المتخلّع نحو أقرب نهر للاغتسال
باحثة عن طهارتك المهدورة.

يأتيك قنصل الخراب كأنه
النواقيس، الخرافة، سلالة القصف، كلام الجنازة، جواز النهب، وهدة الشواهق، هزّة الشبق، مكتوم الوجع، هجوم الباشق، عندلة الأكباد، جنة الجرح، جبّانة العرس، تهويدة الوأد، فضيحة الكحول، سديم الضوء، خطيئة اللغة، اندحار الحواس، جلجلة الجرس.

يأتيك
يأتيك
يضع الصوت عليك


ها نحن النائحات نرجمك باللعنة
ترين إلينا من الأعالي
أعناقنا تحت مقصلة الوقت. وأنتِ صعيدٌ له رائحة الطلع. قيل لنا إنه لنا، يصل بنا الشك أننا لك. إذ لا أحد لنا سواك.
هل نحن أقل كفاءة من الريح وتيجان الغيم ؟
ها نحن الآن في حلٍّ من الانتظار
نحنو على جراح رجالنا ونغويهم لخطيئة ليست للمغفرة. نريهم مكامن اللذّة في أجسادنا. تلك الذخائر التي تحصنت بعفاف مكبوت. حتى أوشك التبتّل أن يفتك ببقايا تاريخ الأجساد.
لقد سئمنا موازاة الجنة بالجنازة
الجنة بالجحيم
الجنة بك
سندفع رجالنا المخذولين إلى هزيمة الأمل
سنجرعهم اليأس قدحاً قدحاً
ونذهب في خلاعة الماء
لنكون الفضيحة الباسلة

3

تقدمي
أيتها الفرس المصابة في كعبيها النحيلتين. تعالي نعجن أحقادنا بآلات حرب متروكة على حواف الشطآن. أحقادنا التي ورثناها من أسلافٍ كانوا يصنعون التوابيت من جلود القنافذ.
تجهشين منذ هواء الكهف. أيتها الكائنة المنسولة من تعب البروق وتهتّك المذنّبات. حبسوك في انتظار الخرافة. وأعطوا كاهلي طرقات محفوفة بآلات حرب تتفاقم كي تؤجل الهزيمة والنصر.
لأحقادنا نكهة احتقان الثمرة بعسلها. ما أن نزدردها حتى تصرخ جدران الحنجرة كمن يفرك الغرانيت بعظمة القلب.
سينال منا ذلك الماموث الهجين، الذي ظل يتولانا بعاجه الباطش فيما كنا نتدثر بذعر الرحيل الأول في ذلك الليل الذي لم تجد البراثن غرفاً غير أطرافنا المسحوبة مثل خرقة.
ليس للنسيان ذلك الرحيل.
جندٌ مهجنون يطاردون فتية خروا تواً من النص. سهام تعبث بنوارس تبغت المشهد بشغب يائس وتذهب إلى الجهات.

تقدمي
لترقبي مآل هؤلاء الفتية وهم يترنحون نشوة بنبيذ التجربة. يلقنون الذاكرة شهوة المخيلة حيث اللهب والشظايا ومعادن الفيزياء تقود حيوانات القرى لتفسد وليمة الليل.
معك
أيتها الفرس القرمزية الكاحلين، من فرط العراك، تقدر هذه الأحقاد على الذهاب عميقاً في ماء المعنى.
وإلاِ فكيف لهذا الجرح الفاغر
أن يسهو عن الدم الذي يشخب
ويمنح المشهد لونه وطبيعته
تحت أجراس خطواتك يوقظ الطين المذعور مخلوقاته. ويبدأ سدنة الخراج في مراجعة خرائطهم المرصودة لضريبة الكرّ والفرّ.

تقدمي
بفرس مثلك - مجبولة من نار الجهات - يمكن أن تنطلق الكمائن لتروي أساطيرها لجيلٍ أوشك على تبادل أنخابه مع الرماد والريح. جيل يترنح ويحلو له أن يهذي.
ليس أمامنا إلاّ أن نصدق خوفنا ونتماسك مثل الحلزونات الماكرة لنخدع أكثر الأسماك خبثاً وخبرة.
نتماسك مأخوذين :
أنت بوهم القدح
وأنا بحقيقة الخمر

ليست حروباً تلك التي تدافعنا في شباكها، مرة بالمناكب المطعونة ومرات كثيرة بحشيشة الوهم.
ليست إلاّ حيلة الحنين.
لم تكن إلاّ عفناً يتصاعد من فعل الحكّ المتحكم في أشلائنا المعطوبة بحوافر النحيب

تقدمي، تقدمي
لتري بنفسك كيف تقود البغال كوكبة المقاتلين في غيبة الفرس الشقراء ذات العرف الملكي. لتري الأتان وهي تسلك، مع أكثر الكائنات جمالاً، منعطفات الشراك نحو سكينة الحظائر، مسرعة لساعة الذبح، حيث
المجزرة
لستُ واهباً المباغتة لك .سوف أمسك بعرفك الطائش، سليل البروق والذهب، وأقودك إلى مكان فيه يفترّ ثغرك عن نشيد في مديح الفارس قبل أن ينسى عادة المجابهات :
جنون الهجم.

تقدمي هكذا،
منتورةٌ على كعبيك الرشيقتين
تلوّحين برقبتك الملكية
وتدفعين حليبة الدم في نسغ شعبٍ
آن له أن يخرج على حكمة
النص.

4

... وأيلول
كان له ثلج ينال زرقته من بهجة الجرح
نقف في منعطفات الأمم
لم نكن لنحصي سعة الهواء
عندنا رئات وأكباد وأفئدة
وعلينا حرس.


كان لأيلول
فتنة الأفعوان. يلهب الأحصنة مثل سائس نفد صبره في وادٍ لا يكفّ عن التماهي مع مرايا السراب
قيل لنا،
أيتها الضائعات في غيمة المسالك
قراصنة تكمن لكنَّ في همس المغازل
قيل لنا،

في كل قرميدة محطة تشفّ عن أدلاّء ومسافرين، والعربات تتدافع كما في وداع الموتى وهم يؤدون طقس الاستهانة بآخر الأسرّة ونهايات الطين.
كان لأيلول
موهبة الانتقال من زرقة الربيع إلى صفرة الشتاء، حتى الدرك الأخير من رماد الصيف.
ما إن يندفق رذاذ الأكباد على زجاج النوافذ
حتى تمطر الأشجار ثماراً في شكل قناديل سوداء.

قيل لنا،
أيتها البادئات في ليل الشهوة
أشفقن على بصيرة الفأل.
فها رجال في غيبوبة العطش ويستنشقون
بخور أجسادكن،
إسفحن الشعر الطويل،
الشعر الأسود الطويل كالعشاء
ليعبر الرجال فوقه إلى النهر.
قيل لنا،

يهتاج أيلول
له يد تحسن قرع الجرس في عرين الصمت
وعندما يفيض السبي
تركض النساء عاريات في أروقة الأمم
نهتف من بعيد :


تعالي أيتها الشاردات من الأسر
ادخلن إلى النص الذي سوف
يرأف بعزلة أحلامكن مثل حصن.
إدخلن
لأنين النهدين الشرفة والحديقة وبياض الشهيق
هناك حرية الزورق ونعمة النزهة
هناك مطر ينتظر ليضوّع أذرعكن بالزعفران


أيتها الخائفات من الهتك
الخارجات من غمد اللعنة
لسرير النهدين حرية تتمرّغن
في وحلها
تتوحّلن وتتحوّلن

مثل أيلول .. مثل أيلول .

5

صار لجسدي تاريخ يحرس الذاكرة .
تلك الإرهابية الفاتنة. أجمل الإرهابيات اللواتي صادفتهن في ثلج الظهيرة. لويت ذراعها الزبرجدية، ورحت أفكّ أزرار ثوبها التي هي مثل نجوم منسية على سديم الأفق. من الرقبة حتى القدمين. أكثر استحكامات شاهدتها على جسد امرأة.

تهتز بعنف تحت أنفاسي وأنا أفكّ زراً وأقطع آخر. نتوءات الجسد تطفر مثل أرانب مهتاجة، حتى أن الحلمة كادت أن تخترق صدغي وأنا أحاول السيطرة على اندفاع الشهيق المنبعث من بئر الروح مقتحماً هيكل الاشتباك. وعندما وضعت نصلي على بشرة الثمرة المرتعشة صاحت بي مثل نمرة ملتاعة أن لا أتوقف عن إرسال الحديد إلى حيث يندّ فم الوردة.

أية إرهابية فاتنة تلك التي :
مثل فضاءٍ وتحتدم في أفق الجسد

ولم يكن جسدي لينسى تاريخه الجميل.

6

لعلك أشبه بالهودج : حين يهتز، ينثر رسائل تعلن أن معسكراً في مكانٍ ما يفسد هيبة المنطق ويكسر القاعدة.
لعلك المنذور لرائحة فروٍ محروق، كانت التيوس تهبه لعريكة الجبال.

من أين لك هدأة الذاكرة،
وكل هذه الفوانيس التي تغرّر بالنهار وتدفع الليل نحو حدود الهلوسة ؟
هذه الوحشة التي تؤنس الغريب ؟
هذا الجرح المغرور الذي يمنح تاجه لصرخة الانتشاء ومجد اللعنة ؟
قلت لك : لنمح غفلة المشهد ونفتح البحيرة أمام أطفال محبوسين بين موتين.
قلت لك : والقتلى يذرعون البهو، وأنت في شرفة المشهد تهفو لعنقك النصال وتتبادل صورك المشانق :
توغلت، توغلت كثيراً في مجرى المؤامرة.

إلى أين أنت ذاهب ؟
الأشجار مرصودة لك، الأبواب تتلاطم أمام عينيك.
لا.. لم يكن ذلك هتافاً.
جريمةٌ أكثر، أملٌ أقل.

جرحك، قلت مرة، إنه واهب الحرائق لغزاة الجسد.
الآن، لم يعد الكلام كافياً ولا الليل.
ففي كل منعطف أسمع لجرحك صريخاً مثل شبق العناصر وشغف الراهب لئلا يموت قبل الحب.

يا لك
كلما وضعت يدي عليك غاصت كأنها في زئبق السديم.
تجهل الأفلاك جهاتك ولا تطالك جاذبية الماء.


آه ياللجرح :
مفتوح مثل أشداق المغفرة
مثل باب الجحيم الحميم
مفتوح على آخره.
وها أنا في برزخ الظن والاحتمال،
اكتب جرحك العاهل.

7

قيل له :
ابتعد عن هذا البراق
شكيمته الضارية ستفتك بك
ستصير أضلاعك مداساً لحوافره
اذهب إلى المكان الآمن
هذا البراق ليس لك

قيل له :
تميّز بحكمة الجبان
لست للقتال. سايسْ أمرك
قيل له : وفتحوا أمام مواطئه مسارب إلى التهلكة.
أنت المليك وهي الملكة

هامَ على هاوية
مترعاً بحداد الأقاصي. مثل صخور كثيرة تتساقط على مرآة الطريق، لتطير الشظايا مذعورة وتنغرس في أنحاء الجسد الماثل كقنفذ الشمس. مترعاً يترنّح. عبّ شراب قلبه


جسدٌ التقت عليه جيوش كساحة حرب مباحة.


قيل له : إنها حربك
عليك أن تحتمل.
لكن البراق.. لا،

من أين لهم كل هذه السطوة لنهبه،
من أين لهم كل هذا الجبروت لدفعه إلى الأقاصي.

8

اليد الحانية تقتل أحياناً
وأحياناً يفتحون لك الجغرافيا لتضيع
وأحياناً تبرد أطرافك بفعل الوحشة
وأحياناً يختلج قنديل المعنى، والمعنى يهيم في السديم.

وأنت .. وحدك في كهف،
تقرأ لئلا يستفرد بك كابوس الشرائع.

وأنت .. تتشبّح في المنعطفات
تتدافع في زفير رمل ينثال عن جدث
تنظر إلي جثتك في كيمياء المجزرة.

وأنت .. توأم الجرح
غريزة الفقد
نسل الطرائد
تنسى أحياناً
تنسى عدسة المعنى
وأحياناً تتبادلك مباحثات الوسطاء
وشورى القواميس. والرحيل اللانهائي.

.. وكلما فتحت شرفة على آنية المخيم تكاسرت حيوانات اللغة وتصاعدت في بكاء الكبد المهتوك.

هذا أنت،
ترى في كل نأمةٍ أملاً.
نرميك بالكارثة،
فتقاوم الأبجدية كاملة وتمعن في غواية حيوانات اللغة.
ذاكرة أم زجاجة دمع ؟
تحصّن تاريخك بنسيان الكتب.
هذا أنت،
تخرج على كل خروج
تضع جسدك في مواقع العجلات
وكل عربة تسميها صديقة التجربة.

يرمّمون آلة القصل بشحمك الجائع. تتقمص العاصفة البطيئة لتصدّ عطش الملجأ ربيع كل موسم، كأنك في الحقل الأخير. وكلما ترنّحت الهياكل الدامية سميتها السنابل وهي تشاغب الريح.
مكتشفون يكمنون لك في منعطف الظهيرة.

من رآك تيقّن أنك مصاب بالرحيل أيضاً وأيضاً.

9

هاكم آلهات تعطّر الوسطاء بالحكمة، والرائين بالأجنحة، لكنها تواري أقنعتها كي لا يلمح أحد جنوح النزوة بين خصلاتها. في ومضة تطلق مدائح نفيسة لرعايا مدججين بفطنة الوهم. في ومضة أيضاً، تسيّج المسالك بتقنية العنكبوت. تداري كتائبها لئلا تفقد تاج الحياد وهيبة القناع.
مبلّلات بالكآبة آلهات المحنة. يزخرفن الأهداب بوجع الخليقة. لا عجب أن سمعنا يوماً آهةً تصدر عن عين مفقوءة.

ياللرعب !
ألم يفوّض البحر جلاده ليجزّ بالسنان المائي أرواحاً تلهو في راحات آلهاتنا الزائلات ؟

عند سلالم البحيرة تجلس الشامخات وتمشط رؤاها غير مبالية بنشيد شعبٍ يتنزّه في حمم الوقيعة، ونشيج أرامل ينثرن الأرز ليلاً ليستدرجن المواطئ الميتة نحو مخابئ الحليب.

هاكم عبيداً يبالغون في الانحناء، وينكحون الأغلال في شبق لا يوصف.
سلالة الوثن /
مشورة السوط /
شهوانية الغياب /
أكثر الطغاة خنوعاً وفكاهة
من أين لهم كل هذا المرح الباطش ؟
هاكم تراثاً أوشك على نسيان عادة اللهو. يسلبنا المهد ويرضعنا اللحد. يؤرّخ لتعاقبات المعادن المطفأة. كلما اهترأ جلد سيدٍ ارتجل له جلداً سيداً وأسرف في شريعة القرابين.
هاكم الأرض الهابطة في هاوية السماء
خذوا التركة ذاتها
الميراث ذاته
هاكم طبيعة الأفعوان
قلنسوة المهرج
ضلالة النداء
أسمال العري.
هاكم حشيشة التمني
هاكم طينة مصابة بالسفر.
هاكم جنس الذبيحة الضارع، وما تشتهون من سلاسل.

وأعطوني أن أنقذ الإلهات من بلهنية العبيد.
أعطوني أن أكنس قبو الكنيسة من تفجع القهرمانات اللائي فقدن خطاياهن السريّة.
أعطوني هذيان العناصر، ذخيرة المخيّلة.
أعطوني بيتاً أبنيه، وأغادره عنوةً
لكني وحدي أذهب إلى الهدم
الهدم الهدم الهدم الهدم
ضد كل شيء، لست البريء. زعفران العافية لمسائي الأخير.
وكنت أهذي بزفير الكرسي
الكرسي : ليس خشباً. هلام يتماهى في حالة قفص، وحيناً يأخذ شكل سرطان برؤوس ليس لها عد. يبدو ظلاً لمقصلة أو شرفة لسقوط الحكمة. وكثيراً ما خلعت عليه السماء كسوتها. لكنه لم يكن يوماً مكانا للراحة. وله آية في الكتاب.

10

نحكي الحكاية التي بلا معنى :

رجل وامرأة يكتنفهما الدوار والشحوب والنسيان والحب المستحيل. يضيئهما مذنّب طائش يخترق سماء الكوخ بين لحظة وأخرى. ثمة حلم يندلق من المصباح الوحيد الذي يحصي شرائح الضوء ثم ينخرط في بكاء غامض. على الطاولة الصغيرة مقص وعنقود عنب وأزهار كاميليا ذابلة. ظلال تعبر. خطوات غير مرئية تكسر إيقاع الصيف الوابل. همسات تحتدم في الجدار. والليل النمّام يفشي للزواحف سرّ الكائن الأعزل.
هكذا.. هكذا يتجزأ الطريق، في الخارج ، كل حمحمةٍ .

هو : كان قد عاد لتوه من البحر بلا غيمة ولا خرافة. يرمي شبكته الخاوية جانبا، يخطو - عابساً، متعباً، خائباً - نحو السرير الذي يستقبل هيكله بأنين خافت.
هي : لم تُعدّ الحساء بعد، لم ترتّق السروال بعد. جالسة على الكرسي الهزّاز في سكون مرعب، كأنها لا ترى ولا تحس. مع حركة جسمها، الذي يميل إلى الأمام وإلى الوراء في إيقاع منتظم ورتيب، تتأرجح
الأشياء والأفكار والتداعيات.

من بعيد يصل ضجيج الخبز، ثغاء الماء، تثاؤب الحارس، صدى الليل، قهقهة الأعنّة، نشيج العجلات، دبيب المضاجعة، حفيف الدسائس، شخير الرواة، هبوب المراوح.. ثم فجأة، تخبو الأصوات ويجثم صمت مخيف، يأخذ شكل جرح أو شكل موت. صمت لا أحد يقدر على احتماله.

بعد قليل، تقول :
(تُرى ماذا يفعل الآن هناك ؟ أما يزال يطارد فراشات عمياء تنبجس من جبينه كلما شهق لمرآى أميرة تستحم في البحيرة ؟ أما يزال يغرّر بصبايا سمراوات يخضّبن نهودهن بالريحان ويدخلن مملكته الحريرية بلا خجل ؟ أما يزال يتأبط كتباً تبلبل وهو الذي لا ينبس إلا لماماً ؟ أما يزال يدشّن بمخيلته الجامحة مجتمعات في صفاء البلور ؟
أذكر كبرياءه واعتداده بنفسه. وكان يحب الأناقة. كان يغفو تحت الصفصاف ويشبك أحلامه على هيئة إكليل يضعه برفق على حلمة النهر ويتأمله بينما يطفو متجهاً صوب نوتيين كانوا حينذاك يحتسون الشاي.
آه، يالوسامة روحه آن يجسّ بأنامله أهداب حلمي وتغرورق عيناه بالضحك. وإذ ينحني ليشمّ رفقاء الطفولة، أراه الأجمل والأنقى)

بعد قليل، يقول :
(كلما رميت شباكي في أعماق أرخبيل، باغتني الأخطبوط الساخر وأطبق على جذعي بأذرعه الطويلة، أذرعه المائة الملساء والقوية، وفحّ في أذني هامساً : أينما رميت شباكك يدركك الموت.
حتى القواقع لا تسعفني في العثور على ملاّح مقدام يخلصني من هذه البليّة.
لكنني أحبه ذلك البحر، الواسع كشهقة امرأة تلمح لوهلةٍ عري رجل، الشفاف كعين طفل، الأزرق الأزرق، الساكن مثل سجادة. رغم كل هذا، يطعنني اليأس.
أيها المرشد، أيها الفنار المرشد، أينبغي أن أتوسل عالياً كي ترأف بي. دروب الأرض شائكة وليس من يألف خطاب غير البحر، فدلّني إلى رحم الخليج أو دعني أمرّ).

- ماذا يفعل هناك، لماذا لا يأتي ؟ عندما انتزعوه من أحضاني قالوا ساعةً ونعيده إلـيك. لكن مضت شهور ولم أره.
- أنا أيضاً لا أحتمل غيابه. أشعر بالخواء.
- إذن لماذا تركتهم يأخذونه ؟
- وماذا كان بوسعي أن أفعل ؟
- أن ترفض. أن تصرخ. لكنك آثرت السكوت، انتحيت جانباً وتركت الأمور تسير كما يشتهون.
- أنت جاهلة، لا تفهمين..
- نعم أنا لا أفهم، لا أفهم ما تفهمه. لكنني على الأقل فعلت شيئاً. بصقت في وجه أحدهم.
- وماذا كانت النتيجة، لطمك على صدغك وطرحك أرضاً.
- ليكن.. غير أنني عندما حدّقت في عينيه رأيت خوفاً. كان خائفاً مني. لم يلحظ أحد ذلك، حتى هو نفسه أعتقد بأنه غير خائف. أنا الوحيدة التي أدركت ذلك يكفي كي أشعر بشيء من الزهو.
- هكذا أنت دائماً، تنظرين إلى نفسك كمثال للشجاعة والبطولة، أما الآخرين فهم أقل شجاعة ونبالة. أحياناً أشعر أنك تكرهينني..
- لا، لا أستطيع أن أكرهك، لكنني أيضاً لا أستطيع أن أغفر لك.
- هل جننت ؟! كيف تعتبرينني مذنباً أو متواطئاً. هو ابني أيضاً، أم أنك نسيت ذلك ؟
- صحيح، لا يجب أن أفعل ذلك. لا يحق لي أن أوبّخك. فقد كنت تحبه مثلي. كنت تعرف مدى رهافة قلبه مثلي. عندما كان صغيراً، كنا نخرج معاً. تذكر ؟
- نعم، نعم.. كنت أحمله على كتفي، وكنت تحملين سلة التفاح والمشمش..
- نعم. كنا نلهو ونتسلى، نمشط المنتزه بضحكاتنا، كنت تحمله عالياً، فخوراً به. وكنت أنظر إليكما وأقول لنفسي : ها هما أحبّ الناس إلى قلبي..
- في أخر الليل التصق بالجدار وأناديه. تعال يا ولدنا. لا أحد غيرك يضيء روحينا. وعندما يثقل الحزن كاهلي، أميل صوبك وألثم جبينك.
- كنت تظن أني نائمة، لكني لكنت أستنشق أنفاسك وأنت تنحني فوقي، فترتعش أعصابي وأهمس في داخلي : أحبك.
- فأعرف أننا جسد واحد. لا أحد منا يقدر أن ينسلخ عن الآخر.
- وعندما تلتصق بي أنزلق في خدر لذيذ، وأشعر بالعرق المشعشع يصهر أعضاءنا الطريّة، آنذاك أهمس : خذني..
- فأغطيك بصاريتي وأشرعتي وآخذك إلى التيه، إلى جُزر دائخة من فرط اكتنازها بالرخويات، وهناك أدهن فخذيك بزبد الصيف ونرقب في جذل ولادة الأعياد فينا.
- غير أنه لم يأت بعد ؟
- من ؟
- ذلك الغريب الذي مرّ من هنا، والذي من أجله لطمني ذلك الوغد. مرّ كالخدْش، بذر في أحشائي لوعة العشق ثم مضى في لمحةٍ.. بلا علامة ولا ميعاد.
- أنسيه يا ابنتي. أحزن عندما أرى روحك مريضة.
- وقف أمامي شامخاً، بهياً، تطفر الإشراقة من أجفانه كلما شهقت عيناه. أومأ إليّ كي أقترب، فاقتربت. وضع راحتيه على صدغيّ وقبّل شفتيّ ثم تمتم : لن أكون لأحد سواك
- لا تذهبي بعيداً في الهذيان، إنه يحرق. عودي كما كنتِ كما كنتِ يا طفلتي المدلّلة، يا صديقة النسمة. أشفقي على شيخوختي أيتها المحمومة.
- عندما فتحت النافذة، أبصرت الثعالب الخضراء محتشدة، ممدودة الأعناق، وتعوي. أخبرني يا أبي، هل قتلته ؟
- لكي أحميك، كان ينبغي أن أقتله، لكنني لم أفعل، طلبت منه أن يرحل فحسب.
- آه، وتركني وحيدة مع أشباحي، أنبش الذاكرة بأحداقي، فلا أجد غير الهباء.
- كفى أيتها العجوز المسكينة، صراخك أيقظ البلابل المريضة.
- قريباً سوف تستيقظ كل البراكين الخاملة، وعندئذ لن يبق للبشر مجد.
- دعيني أقودك أيتها الضريرة عبر هذه الأدغال. رغم أنني لا أعرف من أنت ؟
- أنا العرّافة أيها الغرّ، يا دليلاً بلا وجه. خذني إلى مسقط المصابيح. ها شلالات تعدو لاهية. كهف يومض في أعين فهود تتعارك. نساء حبلى بحيوانات صغيرة. عساكر مريّشون يتدافعون في فم الموت. الغبار الحارس يخطّ على الصخرة وصاياه الكاذبة. هذا يكفي، هذا يكفي، لم أعد أر شيئاً!
(رجل وامرأة يجلسان هكذا كل ليلة، صامتين، لا يتبادلان أية إشارة.. مثل كائنين غريبين لا يجمع بينهم غير الحوار الأخرس ويبدآن في تقمّص الأدوار)

11

نحكي الحكاية الحافلة بالمعنى :

جند كانوا يحتلون المشهد. الآن تدخل غزالة لها نكهة الغيم. تحك قرنيها الصغيرتين بحدبة نيزك مجذوم اجترحته الليالي القديمة. يفرغ الجند تواً من غسل أسلحتهم العتيقة بعد حفلة قتل الصبايا ذوات التنانير الخضراء. إنهم عرضة للغفلة. يتجرعون الجعة المخلوطة بنخالة الخبز. على ستراتهم رذاذ نافر من أرجوان الأجساد الفتية.

هكذا كل مساء
تصير الغزالة، الطريدة الخالدة، المرشوشة بعنبر الغابات الفانية، جزءاً من الطقس. وحيدة إلا من رفقة نيزك شاحب يسلّم أطرافه الخجولة لنشوة الاحتكاك العذب، للرعشة المحمومة، للفيض المنوي.

وعندما يصاب صاحب الجند بفجيعة الرؤية، ينهر الحرس : ما هذا ؟ والجند لا يخرجون من بغتة المشهد، كمن يتخبط في غفلة القرون الساحقة. والنيزك ينمو كشجرة هائمة ويحكم سطوته على المداخل كأن المدينة له، له وحده. والغزالة ترى إليه يزدهر ويتألق. والجند لا يعثرون على جواب لسؤال قائدهم الذاهل.
لا أحد يعرف من أين جاءت الغزالة، من أين جاء النيزك. للمرة الأولى، ربما يرون إلى حجر يترعرع مثل الأطفال. ما كان ينبغي أن يخلدوا إلى الاستهانة :
غزالة هشة، وحجر متروك.

وسوف ينتاب الكائنات الحبيسة انتعاشة غامضة. الوجوه والأعين تسد المنافذ وفتحات القضبان مثل سلالة عباد الشمس. تلك الكائنات وجدت في الغزالة والنيزك حدثها الأثير. الحدث المبجّل.

يختلط المشهد.
للمدينة طبيعة الحبس الشاسع، ولها عادة الهذيان. مدينة تهذي بمخلوقاتها. الغزالة والنيزك يحتلان المشهد. ويصير للسجن بوابات لا تحصى، محاصرة بالمباغتات.
تأتي الصبايا القتيلات ويمرّغن أجسادهن الدامية في وحل البوابات، بين أنظار ساكني الزنازن، المصلوبين على النوافذ والأسوار، وبين الغزالة وهي ترمق السائل الأرجواني يرنّق الأجساد النحيلة التي في القتل، فيما هي تحك قرنيها بحنان في شفرة النيزك فيصدر رنين من شجن حنون ينتقل مثل الحب إلى شغاف المخلوقات المكبوتة، فتتصاعد التأوهات مثل أجراس مهملة.

الصبايا القتيلات يعفّرن أشلاءهن المدهونة بعسل البقاء فيصطخب المشهد. فيما يقف الجند نافري العضلات موتوري الأسلحة، يتفرّسون في تغضنات أشلاء في القتل ولا تموت، غير مصدقين أنها ذات الأجساد التي تعرضت لضراوة حرابهم في الليلة الأخيرة.

هكذا كل مساء
تتحول الساحة إلى عرس دموي تتبادل فيه كائنات الألم والقتل والغزالة والنيزك أنخاب الحوار الأخرس، الأكثر فصاحة، والذي لا يقدر الجند، بكافّة نبال الشراسة والحقد، أن يكتشفوا كنهه، ولا سبل التفاهم معه. حوار يعصف بأبجديات الكلام.

إنها الحكاية الحافلة بالمعنى

هكذا.. يتصاعد المشهد لينال أطراف الأفق.
وتتقاطر حيوانات الغابات المجاورة، وذوات الريش الداجنة التي طابت لها أسقف الأكواخ، وتتقافز أسماك الموانئ القريبة، وتطل الأمهات الثواكل اللواتي وزّعن أبناءهن بين الذبح والقيد والنأي، وعندما طال انتظارهن جئن يضمّدن صبرهن بعرس يُدشّن بحزن أليف.
وفي بعض الأحيان يُقبل المروّض العجوز وهو يقود عربة مكتظة بشظايا الأطفال الذين لم يذعنوا لتعنّت المربيات العوانس أو جلافة المدرسين الجهلة. يجيء بهم ليكلّل الحضور بأكثر المخلوقات جرأة. وما أن يشرف على الساحة حتى يطلق حصانه الصهيل المميز ليفسح الجمع الطريق كي يستدير بعربته دورة كاملة بحيث يتيح للأطفال رؤية الغزالة وهي تداعب النيزك، وملامسة الضوء الباهر الذي يرسله هذا الحجر الغريب الذي أصبح يحكم المدينة.

آنذاك،
صار لدى سكان الساحة والزنازين والقرى والغابات وعمال الموانئ ومشردي الآفاق وجوّابي الأبعاد، ما يشغلهم عن النوم. ففي كل مساء يتوجه الجميع، في جسارة، ناحية المداخل التي تتسع للجميع وتضيق على الجند.

هكذا،

تحك الغزالة قرنيها الذهبيتين بالنيزك الجهنمي.
ساكنو الزنازن يتبادلون الأنخاب كأنهم في الحانة العظيمة
المخلوقات تتألق في قفطاناتها الليلكية
الصبايا يغزلن بدمهن الصقيل طائرات ورقية

تلك حكاية ترفل بالمعنى
حكاية صادفتها الخريطة فيما كان المشهد يذهب إلى النسيان
غزالة رسولية وحجر يقدح الذهب.

12

آويت ساحرات الحقول، لأخدع بهنَّ النمر وذات الجرس وبنات آوى الجميلات.
آويتهن : مشرقات المحيّا، مضيئات الخُصل، حسيرات الصدور، شغوفات، شاخصات في التيه.
وعندما تبطش بهن الغفوة، تدخل الطيور الطنّانة مهبل أحلامهن، آويتهن، بعد أن ضاقت بهن الأقاصي.

يطارد الرعاة، بمزاميرهم المخيفة، أصداء عويلهن الليلي،
تحرق عواقر القرية الأغصان اليابسة وتحل وثاق الآبار كي يفتك بهن العطش،
يرشق الصبية المشاكسون شقرة أطيافهن بالضفادع كلما اقتربن من حدود الخمائل باحثات عن دفء أو أريج،
توصد في وجوههن الكوى وتُقطع عليهن السبل،
كل هذا يحدث
يقبلن به بلا تذمر ولا دفاع
ولا تخطر ببالهن المغادرة.

تُروى عنهن الحكايات : قيل من سلالة الوطاويط التي لعقت دم المسيح المسفوك على الصليب بعد إنزاله، ومع مرور الزمن تحوّلن إلى كائنات أكثر ألفة لمن يجهل الحكاية.
ساحرات صغيرات يخلبن أفئدة الأغرار وهواة المغامرة لسن من الجنّ ولا يرحّب بهن البشر مخافة عبوس الكاهن الكامن في دورق الخطايا، ومجون الراهب الراقص في لهب الممسوسين.
لكنني، ذات مرة، صادفت الساحرات في الغابة، صادقتهن وآويتهن مأخوذاً كالصباح الغريب.
في كوخي الموغل بين أشجار الجوْز، ذلك الذي ألجأ إليه أوان السيول واشتداد القصف، وهرباً من فروض الآحاد والجامع، هيأت الطقس الرائب والخلوة الفاخرة، ومعاً أسّسنا الراحة والطمأنينة، كنا نتبادل - أحياناً - الصمت الطاعن ونتمرن على ضروب العبث الماجن.. لكننا غنمنا الألفة.

وعندما أغيب في فرو الأودية، أسمع نحيب شقيقات العزلة ينبعث متشققاً من سبّابة الغابة، يناديني مثل وحش مثخن بالوجع يستغيث بمن سوف لن يسعفه. وما أن أعود حتى تترامى أنفاسهن على أنحائي، يلثمن ويلعقن جلدي المغبرّ.
في المرة الأخيرة، أخفقت في تفادي القصف، فاخترقت كتفي شظية راكضة في العويل، وفيما كنت أترنح دائخاً صوب الكوخ، مستدركاً نزيفي، امتلكني الوهن وخارت قواي، وإذا بالساحرات يهبطن من أعالي الأشجار، ويبسطن أجنحة الفراشات فراشاً لي ودفئاً.
داخل الكوخ ضمدن الجرح الغائر برضاب القُبل، ومن أرديتهن السوداء قصصن شرائح غطين بها الجرح، ثم شرعن في ترديد الأغاني الغريبة فيما كنت أخوض متثاقلاً بساط الوسن.
لما صحوت كنت وحيداً، وأنداء ضوضائهن كانت ما تزال عالقة في ثنايا الفضاء الصغير، رأيت بقربي دورق نبيذ وقطعة من خبز الشعير المحروق وبقايا من مزق أردية ربطن بها كتفي. وحين لمست موضع الجرح وجدته بارئاً كأنه لم يكن، وليس هناك غير بقع الدم المتخثرة على القميص، فأصابتني رجفة الذهول.
أمضيت أياماً في الرهبة والوسوسة، متردداً في إخبار أحد بما جرى لي. وعندما حكيت لأمي اتهمتني بالخبل وقلة الإيمان، قائلة : ألم نقل لك أنهن ساحرات من نسل الوطاويط؟ لقد لعقن دمك مثلما فعلن بالمسيح. ينبغي أن تطلب المغفرة.
أدركت يومها أن أحداً لن يفهم، ولم أهتم.
صرن ساحراتي الأثيرات
آويتهن : أليفات، حنونات، صائمات عن الأذى والاثم، أكثر رأفة من البشر.

أترك المدينة في قتالها والقرية في وجلها، وأجوب ممرات الغابة حتى ينهمر التعب من مسامّي، ثم أجلس أمام كوخي.. أغفو وأستسلم لسلطان السبات.
حين أصحو أستنشق بهاء الرموش المُحبّة فيما يتحلّقن حولي هادئات، باسمات في خجل، يسوّرن وجهي بالتأمل. عندئذ تبدأ واحدة بالحديث عن شكل أنفاسي وهي تتصاعد أثناء نومي مثل بخار الزئبق وكيف أنها أحياناً تلبس هيئة هداهد زرقاء. وتصف الأخرى الكائنات العجيبة التي تتخلق بفعل أنفاسي في فضاء الغابة.
قلن :
كيف تحتفظ بكل هذه الأشباح المخيفة في داخلك. مخلوقات أصابها المسخ. أشكال بشرية ترتدي رؤوس السعالي، وبعضها مختومة الأطراف بالطحالب والفُطر، وبعضها مثقوبة الصدر من كل ثغرة يطلق جرو شرس وهندباء سامة، وبعضها مجزورة بنصال لا تزال ترتعش في اللحم الطري. وثمة طيور مكسوّة بجلود تماسيح تتواثب ومن مناقيرها الخشبية تتدلى أمعاء طفل تقطر دماً يشبه القطران. وفي خلفية المنظر تحبو ضفائر الدخان الكث المشوبة بصفرة الكركم. أما أنت فينتابك فزع خفيّ وتبدو كمن يتقيأ أحشاءه بلا توقف.
كيف تقدر أن تحتفظ بكل هذا في داخلك ؟
وفي كل مرة لا أعرف كيف أخبرهن بأن ما يحكين عن ضرب من الجنون أو الهلوسة، وإنني مسكون بالوهن. يتضاحكن، ويأخذن في مداعبتي بأجراس الأزهار الجافة ليحرّرن روحي من الذنب.
صارت ساحرات تنتظر الزوادة التي اعتدت حملها إليها. هناك أفتح الكيس المصنوع من فرو دبٍ أردته قذيفة باذخة طاردتني ذات نهار فغرّرت بها في عتمة الدغل لتصطدم بدم أبيض لا تخطئه العين، أخرج محتويات الكيس، وأصفّ المائدة.
مؤونة أسبوع النبيذ - أفخاذ أرانب مقدّدة - حشوات من عجين الخبز - حبات البصل الأبيض.

ومعاً نستغرق في مأدبة تبدأ هادئة مشوبة بالخجل والتمنّع، وسرعان ما تصطخب بالمرح والمداعبات، ويتفشى بيننا سكر عابث. للساحرات طرق جذابة للاستمتاع بسهرة القصْف، سهرة قيامة الأشياء وتحوّلاتها. لذا أترك لهن قيادي يأخذنني إلى حيث يشأن.
ذات ليلة نفد النبيذ، وكنا في منتصف السهرة. بقيت رشفة واحدة في القصعة الخزفية. اقترحت إحداهن : يتعين على كل منا أن يروي أصل ومصدر النبيذ. والحكاية الأكثر سبكاً وإقناعاً وجمالاً ستؤهل صاحبها للفوز بتلك الرشفة المجيدة.

قالت الأولى :
إنه الكرز الذي نسيه نوح في أدراج سفينته طوال رحلته القديمة
قالت الثانية :
الثمرة التي أغوت بها حواء آدم لم تكن تفاحة، إنما هي نوع نادر من الرمان استطاعت حواء أن تخمّر منه قدحاً تجرّعه آدم ولم يفق منه أبداً.
قالت الثالثة :
إنه المطر الأول والمطر الآخر. فإن الله عندما غضب على آدم وأخرجه من الجنة، أسقطه إلى الأرض وصب عليه سائلاً أحمر اللون صارخاً به : اذهب أيها المنبوذ.
وكتب عليه أن تكون ساعة قيامته يوم تفيض الأرض بالدم الذي يهدره البشر من أجسادهم في اقتتال هائل. ومن يومها لم تتوقف الحروب. ولم يكفّ الإنسان عن النبيذ لئلا تغيب عنهم لعنة الله.
وأشارت الرابعة إلى أن أصل كلمة نبيذ عربية منذ البدء، مستشهدة بسورة مريم عندما انتبذت لها مكاناً قصيّاً، زاعمة أن لاستخدام كلمة النبذ بالذات دلالات رمزية تكاد تصبح ضرباً من خداع الرؤيا اللغوية. فمريم أخذت الرطب وذهبت به إلى مكان منعزل غير مكشوف، حيث بمقدورها أن تخرج من ذلك الرطب الناضج سائلاً جديداً هو أول ما جرى في فم عيسى قبل أن يجري الحليب في صدر مريم.

وتتالت الساحرات يتسابقن في ابتكار الحكايات، فيما كنت أصغي وأنا في دهشة لقدرتهن على محاصرتي. وربما تعمّدن منحي الامتياز بسرد الحكاية الأخيرة، الأمر الذي يشفّ عن رغبة حميمة في أن تكون الرشفة الأخيرة من نصيبي.
عندما فرغن من رواياتهن، تحلّقن حولي وهن في ذروة تألق النشوة، يمطرنني بالقبلات ويتناهبن القميص المبلل برحيق الحكايات، ويلثمن كتفي وشعري مردّدات في غنج :
- وأنت، ما هي حكايتك ؟
كان يجب أن أقول الحكاية التي أعرفها. اتخذت وضع من ينوي أن يبوح بالسر الأعظم، متيقناً أنها الحقيقة. تلك الحكاية التي سمعتها مئات المرات، والتي يتمثلها الجميع في آحاد عمرهم القديم، حيث أضحت نوعاً من الشعائر مثل حقيقة ينسخها الأحفاد عن الأسلاف.
رشفة النبيذ الأخيرة من نصيبي لا محالة.
هدأت الساحرات، ولبثن شاخصات الأبصار إلى الشفتين اللتين احمرتا بفعل النبيذ والقُبل.
قلت بصوت الحكمة :
هذا النبيذ الذي نتكاسر عليه الآن ليس سوى دم المسيح،

بغتةً انتفضت أجساد المتحلقات حولي كمن فُصل رأسه بضربة خاطفة. انتفاضة وحشية كأنها الموت. انتصبن منتورات على أطراف أصابعهن في حركة واحدة. شعرت أنني أهوي في قاع القبر لوطأة الصمت الذي أمسك كل الفضاء من حولنا. الغابة برمتها أجفلت مكتومة الأنفاس مخنوقة بجميع مخلوقاتها الراجفة، ولم يعد لأوراق الشجر حفيف يُسمع. اكتست الوجوه الفاتنة المرحة سحنة الجثث. وراحت كل جثة تتقهقر إلى الوراء ببطء شديد كأنها تمتثل لهيبة صمت لا ينبغي خدشه بأية إيماءة أو نأمة.
وعندما ابتعدن قليلاً، استدارت كل واحدة على عقبيها وبسطت ذراعيها بالرداء الأسود المرخي ثم طارت إلى أعالي الأشجار مختفية عن الأنظار، مخلّفة وراءها سياجاً من الغبار الرمادي أشبه بالنمش على صفحة الفضاء، وأنا في ذهولي عاجز عن الفهم.

ساحراتي الجميلات
أية خطيئة ارتكبت !

أنا الذي فديتهن بفتنة الحرب، بخشوع المحراب الذي يهدي القطيع إلى مثواه، بأشباحي المكبوتة حيث لا خلاص منها إلا بفتوى الكوخ وخلاعة الغابات.


أنا الذي لمست فيهن الحياة التي أفقدها..
أفقدهن أيضاً ؟!
ماذا أفعل إذن برشفة النبيذ الأخيرة
جميعنا قال حكايته
هنَّ صدرن عن المخيلة وأنا صدرت عن المعرفة
المعرفة !! آه، ماذا فعلت بهنَّ
ماذا فعلت بنفسي !
من جديد ستبدأ الانشقاقات في روحي.

13

وأخيراً، إلى مشارف البحر، تصل المسيرة العظيمة، المسيرة الدائمة المطعونة بوقع الغبار ونفحة اليأس.
وبطيئاً يرفع شعب الجهات بخار الحلبات لتشهد الجزُر الصفراء حركة الثواكل في اصطخاب الإثم الليلي.

يا بحر يا واهب الحضن الباطل، إيّاك نلوذ وإيّاك نبتهل !

حاذينا المساءات الألف وخواصرنا مزروعة بطحالب تنزلق كما الأفاعي لتسوّر جحيمنا.

جئنا إليك، ونحن نعرف أنك لست المطاف الأخير،
لترمينا بالإهانة الأخيرة.
جئنا لتشتت مسرحنا.
لنعلق مجازرنا كالأوبئة في نسغ العواصم.
لنقتل بعضنا ونعانق بعضنا،
جئنا ولا نملك غير الدم الدليل.

14

ها أنت تقف أمام الماء الهائل، تبصر دخاناً يتصاعد من مرآة الموج ويرتقي عتبات الريح الحجرية مثل كوكبة من الكهنة الذين يؤرجحون عباءاتهم فترتطم بذبال الشموع المصفوفة بإتقان على حواف المسالك التي تصل آخر دار مهدومة بأول شراع تزيّنه تخاريم الريح.

ها أنت ترى : لا ظل للبحر.

تذرع المشهد بمحاجر ملتهبة وتسأل :
هل هذا هو البهاء أم الهباء ؟

لكنك تسمع الحيتان تنتحب مثل الكراكي مستجيرة من وحشة اللّج، حيث الحبس العميق الذي منذ الأزل.
عندئذ يستبد بك رنين رتيب تحسبه أجراس النيلوفر، بينما هو أنين حشدٍ من الثواكل يرسلنه إلى مدرّجات الشفاعة لعل الذي في صحبة الصارية يسمع ويأتي به الحنين.

15

هذا هو البحر إذن :
فتى مراوغ، حقيبة ساحر، أقنعة صعلوك
ضمير أمّة تخون مراراً
نزهة في النوم
مَنْ يقدر أن يبصر مواقعه في زئبق النوم ؟
مَنْ يصدق حياد الماء ؟

نخرج من نار المدينة،
أصابعنا ملتهبة بليلة عرس أبدية،

كل هذا الماء الهائل لإطفاء جحيمنا ؟!

مرةً، كانت زجاجة الماء تتأرجح مثل ملاك مخذول، الملاك ارتعش حين أصاخ لبكاء الدلافين وأدرك أنه في مقبرة القواقع،
مرةً، أرخينا القياد لمزاج الموج فنالنا من السبي ما شئنا، وعرفنا أن الموجة تخطئ المرافئ كثيراً.
آه.
أعطيناهم كل يأسنا وزادنا ووحشة نسائنا وشهقة أعراسنا وساعات أدلائنا،
فماذا أعطونا ؟
حيل البحر وكابوس السواحل وأشباح المدى.
كنا عندما نضيء، بجسد واحدٍ منا، مشعل الفتنة،
تركض المدينة عاريةً نحو حتفها.

هذا هو البحر إذن،
ينتظر كالحاوي. الحاوي يقود السفينة من حيزومها ويدفعنا إلى متاهة الجهات.
ليس سفراً،
إنها ضحكة التيه تأسرنا،
تضلّل أحداقنا،
تموّه أحلام اليقظة.
حتى أننا لم نعد نسمع أنين تلك التي رفعت قميصها كغيمة ولوّحت لنا مستغيثة فيما كنا نحسب أنها تودّعنا مغتبطة، قيل لنا إن سفّاحاً باغتها في هدنة الهجم ومزّق وجهها الحلو.
هل تذكرونها تلك الفتاة العذبة التي كانت تمسح الكآبة عن جباهنا ثم تدخل أحلامنا بلا مشقة لطهّر الكراهية فينا ؟ تلك التي كانت تحتمي بنا كلما اعترض سبيلها وحش الخرافة ؟
عندما يرتفع الشراع تزدهر الوحشة،
الريح تحنو حيناً، تحقد حيناً
تكتب غزواً رغداً لفرسان العرس
واليأس يجهش في يأسه :
لا الصارية حدّ لا الشاطئ سدّ
لنا شفرة اللج
لنا مرارة الأضرحة
لنا مشيئة الهباء

"بذلنا لرؤوسكم المصابة أجمل أكتافنا "
قالت زوجاتنا الغريقات
"فرشنا صدورنا العامرة وسائد لزوبعة التعب فيكم "
قالت زوجاتنا الأسيرات
همسنا، قلن، وأنتم في قوس العطش
لا كل ماء يروي
ولا كل سفر يسعف
همسنا، قلن، وأنتم وتر الجوع
نطهو لكم نواة الورد
نسرج لكم لباس الضفّة
لكن بالله لا تتركونا وحيدات.
لم نصغ. عقدنا رباط الأحلاف حول أرساغنا وخضنا المراوغة. رفعنا الأعباء كالمظلات، وهدهدنا حدْس النسوة، دون أن ننتبه إلى انزلاق الجوقة المرتزقة نحو تلافيف الضاحية. ولكن النسوة أول ضحايا الحدس.

16

آنذاك خلعنا دروعنا
قلنا لابد أن نختم اللسان بوداعٍ لا تغسله مياه
وليس في البحر نجاة لنا.

سكبتُ لك الخمرة
انتخبت لي الضلالة
وتعاركنا بشفاه تترنح بفعلين :
الحرب والخمر
كنا كمن يرتاض بين الموت والأخر
تضمدين هزائمي وأرمّم لك العناصر المختلجة
جسدك كان متألقاً مثل بهجة الناسك
وهو يكتشف عذوبة الملامسة.


آنذاك،
والدروع تتحدّر من جسدينا
تتصاعد أنفاسك لتطلّي منها
على ما يشبه النوم وما يحاذي الحلم
وكنتُ هناك
في غابة الزغب الذهبية التي تكلّل جحيمك المكنون، حيث تضطرم الأفلاك وتحتدم مصبات القمر، والكواكب تلبس أشكالها مثلما تمنح المليكة ذهبها الأشهب للفرسان العائدين من المعارك مشوشي البال. لا هم في هزيمةٍ ولا هم في انتصار.

آنذاك،
لم نكن لنعرف من الفارس
من الفريسة
مَنْ الجرح ومَن الطعن
كلانا العراك
وكلانا يشحذ الصواري في الميناء
ليشحنوا بنا المراكب في صباح كئيب.

وكلما صهلت،
تسامقت رائحة فروك الأشقر مثل أحادي القرن
يصدّ نار الغابة عن أنثاه.
تتوغلين في جحيمك
تفركين ذخيرتك بزنادي
فأتفجر في براعم وفي رغوة فضيّة الريش والجناح.
تتفتحين مثل وردة الماء فأهوي أكثر وأكثر
صدرك في ريح الثلج
وفخذاك العظيمتان تدكان كسفّودين رماد الهيكل
مثل غجرية تضرب الرمل وهي في يقين الرؤيا
نبوءة الساحر
مغفرة الكاهن
وكلما غرزت مهاميزي في مكامن صهبائك، أنشبت براثنك في خاصرتي حتى يطفر الدم. وعندما تسمع كائنات الخندق رجع الصوت الذي من الشهق والهديل.
آنذاك،
يكون عراكنا قد بلغ شرفة المد
يكون علينا أن نتبادل الأسلحة :
تلملمين أقراطك
أجمع أوراق
أنت إلى البحر
وأنا إلى الصحراء
أراك تغادرين ملطخة بي
يدي في الحديد
تلوّحين بعرفك الأشقر الذي لي
قلتِ لي بأنه لن يكون لأحدٍ سواي.
ها أنت،
يذهبون بك
ويغيبك ماء لا نجاة منه.

17

لذّ لكَ الغياب
كأنك في جبّ الأساطير
نفيٌ أنت أم في المنفى ؟

سحر مبذول لديباجك المغادر. تتغضن أطرافك بفعل البرد والنوّ، تنبت الطحالب خلسة على عظامك الناشزة، تتماهى الحراشف في ثنايا الأصابع والآباط والأوداج وزغب المصادفات، تتناوش أسماك القرش جسمك الرهيف حتى تصير صديقة لك وتحميك من حيوانات الأعماق.
وكلما وضعت خاصرتك المنهوكة على شاطئ، باحثاً عن كوخ وشمس وكسرة خبز، لدغتك السواحل، ففي ليل النأي لا يعرفك المكان وليس لقدمك درب سالك، وعندما تتنكر في هيئة كروان وجلباب يحمور، وتسأل عن دفء مؤقت، يكتشفك الرماة ويتبارون لتتويج من يتقن الرمي.
ما من طينة للهجعة، لا وسادة للغريب.
يلذّ لك وأنت في فيزياء الجهات، في غيبوبة السفر.
يغيّبك الماء في الرمل، والرمل في شقوق مثل أشداق المساءلات :
من أين جئت إلى أين
حيث لا مكان لك سعة فيه
ولا يحتمل عبؤك حيزاً
في خرقة الجغرافيا
تضرب في نحاس الخرائط ذات الأجراس. قمصانك مختومة بثلج شرس. يدٌ على الجوع ويدٌ تسند رأساً مثقلة بإرثٍ رثٍ. تذكر. تتذكر. تطلق خيول المخيّلة تمتد مثل برزخ بين المكان والوقت.

قالت لي :
أيها الطفل الذي ولدته. كأن البيت الذي تخلّقت فيه وسكنته تسعةً هو المكان الأخير، ثم لا شيء. أيها الطفل. كأن الفجوة التي الآن أسمع أنين حجارتها، لن يطيب لك قرار فيها ولا سكن، ماذا أفعل لك. ها أنت غريب في مرابط الأغراب. وضعوا جباههم على جدار يذرف أكثر المياه خديعة وخبثاً. جدار تملّست صخوره لفرط ما تزاحموا على تصديق الوهم فيه. حتى إذا ما صحونا لكي نعلّق على تلك الصخور أسماءنا الأولى التي ندّخر ونباهي، انزلقت أعضاؤنا وصار للغة شكل السنانير. ماذا أفعل لك أيها الطفل الذي ولدته. ها أنت وحيد يتناوب عليك الأغراب ويتبادلون معك المكان والوقت. أرى إلى مهدك يصير مهوى الحافر والخفّ. وأطوي أيامك في حضانة دمي لعلك تتبرعم بلا شائبة.

قالوا لي :
كنا نراك. في قدميك الذعر وهما تقولان رعشتهما الأولى للزقاق. كان عليها أن تقفز إلى الركض مثل وحش الواحات. كنا نرقب لك الشكل ونستدرج المعنى. وما أن وضعت عناصرك خارج النص حتى أخذك الهباء بطقوسه وتضاريسه. بمغازلنا نسجنا لقدميك الوحيدتين أكياس الصوف لتصد عنك صلافة الثلج. نحن حائكي الحنطة، نحزم المدينة بالقرى الحنونة ونرأف بالمخلوقات الفارّة. لأصابعنا موهبة الكيمياء. نقيس حناجرنا بصوتك. وكنا نراك، كلما وضعت قدمك في حانة لكي تطلق لطفولتك حرية اللهو، نبتت تحتها عوسجة مسنونة. كلما تقمصت بهجة المناسبة. اجتاحك القنوط لهول حيطان تتناسل مثل السراطين. أظافرنا في النول ونراك، تهجهج في فضاء ضيق تهوي سماء الكلام على أرضٍ قيل إنها لك. وكنا نراك. نمنح جسدك الضئيل صوفة أيامنا، ونصبّرك بهدايا موهومة لئلا تيأس سريعاً، لئلا تأمن لخديعة تظنها الخلاص. وكنا نراك، تطوقك براثن الهجير كأنها الأذرع الرؤوم. تقول لك، بلثغتها الضحوك، ذخائر المستقبل فصلاً بعد فصل. تسمع إليها فينتابك ما يصيب الأطفال عندما تصعقهم رؤية الجثام في النوم. يوم جئتنا حاملاً عباءة أمك لنرفوها، بهرتنا الفتنة المنبعثة من أردان تلك العباءة. أجلسناك في أحضاننا نلاعبك بالخيط والمغزل. وعندما سألنا فهمنا أن من ولدتك قد أنهت حكاياتها في ألفٍ من الأيام والليالي، وراحت تجمع أشياءها الحميمة وتصلح الحاجيات لئلا تصاب بالبلى، وتتبادل مع ظلال الأشياء حديثاً مشحوناً بشجن خفي، وصارت تمضي معظم وقتها في ملامسة الجدران والأواني وتداعب تعرّجات الأثاث الذي ازدان به ألف من الأيام والليالي، تسهر طويلاً في بهو الحديقة المكشوفة الشجيرات، تنكش التربة تحت الشتائل، وتقوّم ما اعوجّ من سيقان النارنج، وتدفق ماءً رهيفاً تحت الخضرة الشاحبة، ترفع رأسها نحو البخار المتثاقل ربما لتسأله أن يغسل وحشة نباتاتها قبل موسم اللون. وعندما يأخذ منها التعب، تنظر اليك كأنها تبحث فيك عن شيء مفقود، وشيء عرضة للفقد. فتناديك فيما تتجه إلى المطبخ، تضع أكبر الأواني على الأرضية، وتسكب ماءً شفيقا يكفي لأن تشعر به مثل ريش يدغدغ حجابك الحاجز، وتبدأ في دعك جسدك الفتيّ مفتونة بلمعانه وبتوهجاته. كانت كمن يهيئ جسداً لعرسٍ. نصغي إليك، نفهم منك، فيما تختجل كلماتك في فمك المفترّ عن شقرةٍ في اللغة، فيما تتذكر الكلمات اللائقة، فيما تتخبط أصابعك في الشراك التي تبتكرها الخيوط الماجنة وهي تهتاج في مغازلنا. نراك ويأخذنا الذهول بينما تغادرنا متأبطاً العباءة ذات الأردان الموغلة في اللذّة. تبتعد عن مراصدنا لتحدق بك المحاجر وتتخطفك أقواس المنعطفات. وكلما ابتعدت صرت مزيجاً من الفراشات وغيمة الدقيق ورائحة الفراديس.

قالت لي :
أنت ذريعة الظلال التي تجهش محتضنة بكاءك كلما ركضت إليّ متفادياً الصخب الصادر عن سكنة الهيكل وهم يوبخونك حيناً ويعصفون بك حيناً لأنك وهبت قميصك الجديد لصديق وجدته أكثر عرياً منك. لا يفهمون، فترتاب في ملكيتك، تركض إليّ في احتقان الوجه ورعب الساقين. تسند ظلك المرتعش إلى صدري فألمس قلبك الواجف مثل قطرة طلّ، وعندما تهدأ تطلق تنهيدة عميقة تليق برجل لكي أعرف أنك تمالكت جأشك معلناً جرسك الخرافي كمن يقول تحية متأخرة، آه يا زيتونتي، لن يفهمني أحد. فأفهم أنك ستذهب إلى غيّك، تضيع عنهم وتضلّل كل من سيبحث عنك. وعندما تغادر ستفقد الظلال كل الذرائع لاحتضان جسد مثلك، وسيعبر تحت هذه الأغصان سرب من الكراكي المخبولة. وما أن يوشك مَنْ ينسى على النسيان، حتى تتصاعد من اسمك المحفور في الخشب القديم كوكبة من الملائكة الخائفة. وربما لن تعرف نوماً آمناً بعد ذلك، ففي مستقبل المكان والوقت تصاب بذاكرة الفريسة. وكلما صادفت زيتونة ستقع تحت وطأة هيمنة الخشب القديم والعري البدئي للروح.

قلن لي :

هتكتَ أسرارنا الحصينة، فقد كنت تعرف عشاقنا واحداً واحداً، وترش أهدابنا بالدمع كلما وضعت وردتك الذابلة على شفا أجسادنا. وما أن نشهق إليها لننعشها بشهوتنا المكبوتة، حتى تجلجل ضحكتك مثل جرس عابث وأنت تبتعد ناحية المنعطف المؤدي إلي الجنة الجانحة. لنعرف أنك تفضح رغباتنا في انتخاب هدية تليق بعشيق ماثل. نغتاظ لفتوتك المبكرة، فالأطفال لا يفعلون ذلك إذا كانوا من مبعوثي حوريات القطن، نغتاظ ونتوعّدك وسرعان ما نذعن لعبثك ونعتقد ببراءته. فأنت الوحيد المؤهل لأن تصير وسيطاً جميلاً نتبادل به كتابة العشق. عشاق تعرفهم واحداً واحداً، فنذهب لنخترع الأعذار أمام أمك من زجل السماح لك بالخروج معنا في نزهة اللبلاب مثل فارس يحمي كتيبة من الراهبات الشبقات. نلهو بفتوتك، نداعبك بكل هزّة عصب فينا، وكل منا ترى فيك صورة المعشوق النائي، كنت توأم العاشق، وكنا نتبادلك مثل سنجاب شقي. أما الآن فقد اختلج كيانك الباهر الذي تمرّغنا في رضابه. لقد غدرت بأجمل أوهامنا، في الرسائل الأخيرة التي حملتها إلينا، رأينا عشاقنا في أفق الهباء يلوّحون لنا مودّعين وعلى أطراف أصابعهم يتوهج عنف الغياب.


قال لي :
لعينيك بريق يخطف الروح. وجسدك الصغير تضيق به الأقاصي. كأنك كتاب مفتوح أمامي، أقلبك ورقة ورقة وأقرأ. فويلٌ لك إن صدقت وتهاونت وهادنت ومالأت وماريت وكاشفت وحاورت وأرخيت وسايست وساومت وسلّمت وغادرت ..
وويلٌ لك إن مُتّ.

18

ما الذي نصادفه في ليل الأغوار ؟
نحن الذين تركنا داراً لنا في ملتقى الأطياب
دافئة مثل إبط النسر
واستنشقنا في غوطة البيلسان رذاذ الشراك.. حموضة الاغتصاب
ونجونا من زهو المراصد المسلحة لتغيثنا نزوة العشيرة المجرمة
وكنا تميمة الفقراء، شغف الحواجز، غبطة الحرام
وكنا نخبة من أمراء النهار
لا. لا أحد يسهر في مصيرٍ شامخٍ مثلنا

لكن،
ما الذي يمكن أن نصادفه في شجرة الأغوار،
غير نشارة الثلج التي يرش بها الله كرته الثلجية، وذلك الكوخ الذاهل، المشجّر بزانيات طيّبات ومعمّرين لهم رائحة الضجر، الراكض في مهب الإعصار بحثاً عن تخومٍ صديقةٍ لا ترجم القابلات بالحقد والتشهير. وذلك القميص الراعش، المنسوج من ألياف بلدة رائبة يتقاذفها فرسان متجهمون لهم مذاق التوت، الهائم في حلم رجل عاصٍ إلتجأ إلى قلعة حلمه ولم يخرج بعد. وذلك المسافر السرمدي، المرقّش بالطلْع ولدغات الخفافيش، الحامل في جيبه حفنة من وطنٍ غامضٍ يمتدح مقابره ليلاً وينتحب - ليلاً أيضاً - في ظل الطاحونة المخبولة.

غير خنازير برية شبقة تتناسل من رمّانة مشدوخة يتناثر خيرها القرمزي فتزداد الفصيلة وتنمو. ينمو الناب المثلّم. ينمو الافتراس. وتحتشد مثل جيش من البرابرة عند ممرات المزرعة الوثنية التي تدحرج - آنذاك - أرتال البطيخ من فوق المنحدرات لتدهس القرى الزائغة، الطرية كوجه غيمة، وتهشّم جرار الشعائر. كل هذا التوحش، كل هذه الوشاية، من أجل فتى باسم يتدلى من فوق منكبيه نثار العُلّيق ورماد الحانات، ويمشي - في سهل غير مطروق - مع موته الفتيّ، متشابكي الأيدي، مثل توأمين لم يلتقيا منذ عهد بعيد، وها هما الآن يستحضران ذكريات مرنة ويتحدثان همساً.

غير كتائب الأسماك الانتحارية التي يقودها فرس البحر القانط، الخائن لميثاق الصحبة، الرافع شوائبه مثل صولجان، والذي يطمس بقوائمه آثار البشر المدهونة على سبائب الموج كي يبلبل الأهداف. وعندما لا تجد الأسماك، المأخوذة بالانتحار، موقعاً ثميناً تنسفه بحراشفها الملغومة، تتجه فوراً إلى الركائز الخشبية للمرفأ القريب، المهجور حتى من قبل مهرّبي الشاي، وتضرب برؤوسها المدبّبة المسامير الناتئة حتى تتفتت أدمغتها، حينئذٍ تسمع الشطآن الهتاف المخيف لكتيبة أخرى، مأخوذة بالانتحار، تطوّق العالم بحزام كبريتي وتبدأ العدّ التنازلي.

غير براميل القمامة الهائلة عامرة بنياشين جنرالات لم تزل متشبثة ببراثن الحكم وأردية الحكمة، متهيئة للوثب على صهوات المؤامرات الجديدة، فيما ينتفض الجسد الغضّ تحت وطأة الجماع الفاحش.


غير جنس الصيارفة وهم يرأفون بكسرة الخبز
لئلا تكسرها شفة يابسة

غير القتل الأقل رحمة من الموت

غير تشعبات الطرق اللانهائية دون أن يتاح للقدم
معرفة سر الحركة

غير الغيلان والسعالي وبنات البراكين

ما الذي يمكن أن نصادفه في جحيم الأغوار
غير كل هذا.. وأكثر.

19

لماذا دخلنا هذا النفق الجهنمي ؟.

ليس ثمة ضوء،
لا همس ولا محادثة
الأسطورة تنام هنا.


طوينا الأسلحة كالعباءات.
بعد مسافات من التمائم
خضنا أشداق الوهم
كمن أسكرتهم شهوة النهايات.

كان رحيلنا فاحشا

 

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى