الأرض
1
تلك الساهرة على عتبات آلهة سود يؤرجحون الاجرام كي نسوا عزلتهم الأرض
الملأى بالحليب والهتافات المجو فة لكائنات لم تتشكل بعد . ذات الاثداء
العذرية والأفواه التي لا تحصى . الخائفة من فناء عناصرها قبل أن تولد
مختومة بالوحشة الحاملة أسرار النبو ة والصلوات المنحوتة في معابد
لم يشيدها أحد الواهبة حلباتها للتناحرات الشهية الباكية في مهب النجوم
حين تتساقط أشجار البلوط قرب البحيرات الغريقة والشياطين, من شد ة
الكآبة والوحدة ينتحبون
ببراءة ترتجل الهدوء الأول وتزرع في مقلتيها الحلم الشاسع حلم أن تزدهر
يوما بالأساطير والحضارات أن تكون واحة البهاء والمسرح القزحي في كون
مزدحم بالكواكب المقفرة آنذاك لم يكن ثمة إغواء أو هداية لا معرفة
ولا خطيئة القوارض كانت تستحم بحرية في جسد الغابة الحي ة أمواج المحيط
كانت تبل ل رؤوس اللقالق وهي تحل ق في فضاء مزين بكوابيس لا ت رى والانسان
ذلك الكائن المغسول بالرعب من كهوفة الشاحبة يطل على هذيان الانشقاقات
القادمة ثم
يرفع رأسه ضارعا هاهي الأرض تسامر الشجر الكوني فيما يلهب الليل بلا
ملل
أجراس اللذ ة
غير أن لا أحد لا شيء وأنت
أنت أيها الليل الاباحي الكريم كالموت
الطاعن في العمى
الممعن في غزو الأماكن الخلية أما ساورك الشك بعد في العبث الكوني
وأنت في مجلسك تتخيل رفيقات سماويات يستحم من فيك فتمجد الانتشاء المحر
م بينما الرفيقات محض ظلال مجن حة لقمر يمو ج المحن ذاتها تمعن أيها
الصديق المجنون : هدأة الأمكنة
غياب الفرح البشري نداءات خفية لمخلوقات لم تتناسل بعد هاهي الأرض
في غيبوبة الصحو
تلامس بأطرافها مرح الأعشاب وإذ تسري الارتعاشة
الأكثر شبقا
في هضاب روحها
يدغدغها التهي ج وتجتاحها الحم ى
النهمة التي تقرض تخومها البيضاء باشتهاء يا أعشابا تتمرأى مأخوذة
في خصوبة الماء
يا عشيقة الماء المدل لة
أمن أجل المتعة وحدها تفعلين ذلك ? تذرفين الندى العذب حين يداعبك
النسيم الشهواني
وتدهنين السيقان بعطر الينابيع لحظة هبوب اللذ ة لا عر اف هنا يدث
ر طمأنينتك بالنبوءات المبهجة
تقرأك الحيوانات المنقرضة في أفول المواسم أي رثاء أدبج لشهوة الرياح
! أجل
فأنت قناع الفراغ وبك
تستطيع المجابهة أمنحكم
يا فرسان البداءة وساطة النار لتعبروا أفواجا تخومي المتداعية وتتدفقوا
في الأرجاء مثل جيش باسل موعود بالنعمة لكم الأسلحة والثيران المتوحشة
لكم الفتح والسفك لكم كنوز القارات وأخشابها الطري ة لكم كل ما
تشتهون لكن
أحضروا لي الذاكرة البكر
والارث المذهب هل تعلم الأرض
تلك التي كانت بلا ذاكرة فأضحت مكتنزة بالص ور والمشاهد أنها
حبلى بالضغائن والآثام جلبوا لها ما شاءت من أساطير واختراعات
جسور وأبراج
حيوانات مرو ضة
وأعياد
أسواق ومنتزهات
أزمنة وحضارات غير أن مخلوقات البداءة ما تزال تعيث في الأرجاء فائضة
بالحقد والتعصب
منذرة
بفتك أشد ضراوة
دم القاتل يمتزج بخمر القتيل
خرائب تتوز ع في قلب الغابة
حرائق تغتصب طفولة الأشياء
أيتها المسرفة في الرذيلة
أما آن لك أن تملي علينا وصيتك الكاذبة
فجرأ
يهيىء لك الاله نعشا وثيرا لا دعوها غارقة في الندم تتور م بحشود فاتنة
مطع مة بالنهب أين كنوزها الخرساء تاريخ مضل ل ذاكرة متقر حة ماذا
بقي لها تلك الساذجة
المشب عة بالذنونب جيوش تتقاسم الغنائم طفل ميت في قلب الرجل
المشطور نصفين نواة الشر حدث ذلك في الظهرية كانت القارة كتلة واحدة
مكتظة بالأنواع ما كان فتحا أو اكتشافا بل مذبحة النبات المتطاير كان
يشف عن طغاة بلاد عد
في راحاتهم تتساقط المدن كالقتلى حين جاءوا تناثرت أوصال القارة
لا دعوها تتوقع إندثارها الحلو كل ساعة
فيما بعد
فيما بعد
آه
يا للفعل الخارق ! يا للجرأة
كأن الأرض تكتشف عريها للمرة الأولى
كأنها تتغرغر بخلق يولد تجفل في بادىء الأمر ثم ترقب في دهشة ملكية
تلك المسيرة العظيمة لسلالة
هربت من أمامها المدن في لمحة شعب الجهات توأم الحجر من أين جاءوا
? أم ن الباطن
من المناخات السحيقة أم كانوا هنا وهناك منذ الأزل لكن يقينا
ما كان لهذا النص أن يوجد من غير سلالة تأتي هكذا كالفجاءة أو كالصدفة
لتمتحن شكيمة الخرائط وتستوجب الضمائ وإذ نتأمل المسيرة المهيبة
المفعمة بالوجع
الباطشة بالرمل
نشحذ مخيلتنا لنرقب عن كثب هبوب
المأساة ما كان ينبغي
بعد أن تبد دت دهشتك الملكية
أن تديري ظهرك هكذا بلا مبالاة فيأسك الدمث ليس عذرا الأحرى أن تفتحي
ذراعيك مرح بة أن تسفحي سهوبك مأوى لشعب عل مته الهجرة كيف يخاطيب
مكامن الفخاخ أنظري التعب الذي يلطخ أصداغهم والنبال المتاخمة يراوغون
الطرقات المتخمة بالدسائس في مهارة فائقة
ويبذرون قتيلا عند كل منحدر مثل قرابين مقد سة شعب يتفاوض مع الفضاء
بلغة دافئة كالخبز
ببكاء نبيل كالبحر
بحقد دفين لا حد له إذن
لم يبق إلا أن ندهن الزناد بالعنف ونطلق
برباطة جأش
سيلا من الرصاص على رأسك المشحون بالذئاب الثملة بعدئذ نلق ن ذئابك
التي لا تهجع غريزة الفريسة وفتو ة الذبح نغويها بالخطيئة تلو الخطيئة
حتى تنفجر من
الاثم ليس فينا نكهة المغفرة هاهم
في مدارات السم
على مرأى من المسوخ الأنيقة
يتقدمون خفافا كما
لو كانوا منذورين لحلم بهي
تضيئهم الاشارات الغامضة فوق الأغصان
أغصان الشجيرة المتعر جة
تتدلى حدقات معدنية لا تومض
إلا أنهم يمضون سائرين في إثر ألق المسافات : مزامير النهر إنبجاس
معجز ذلك الذي شهدته العقبان ذات المناقير الذهبية وإذ يرفعون رؤوسهم
المكسو ة بالغبار بحثا عن ملجأ
تجهر السهام بالهجوم هاهم
موشومين بذخيرة أر خت لها الكتب
يتأبطون بهجة الأنثى المرصودة لخميرة الوقت من جهة واحدة يأتون
مثل رعد الأعالي أو مثل بركان الأعماق
لكنهم سيذهبون إلى الجهات كلها كلما وضعوا الألم على حجر
شب وبالغ في مضاهاة الجسد المجنح
فلا تسعه التقاويم وتميل لوطأة معدنه الذاكرة سلالة لا منتاهية في
التنوع
طاغية الحضور
مضيئة بالزبد والصلصال أكثر هيبة من النار هاهم
لوقع أبصارهم رهبة الغابة وغرور الدخان ما من موجة إلا وهيأوا لراحتها
رمل الاقاصي وغرف الرحيل ما من سفر إلا وانتظر إيابهم الهادىء يهيمون
مثل ماء مأخوذ بالجنون كلما انتبذوا سهرة وانتخبوا الأقداح
فزعت الأقاليم تحت غفلة أنثاهم الفاتنة ينكسون أدواتهم المتعبة عند
سفح الغيم
يؤثثون الظل بأسمال ورثوها من سماء قديمة
وينشدون في رفقة مزاميرهم المائية
عندما يلتفتون إلى الجهة التي خلعتهم
يرفعون شظايا الأقفال عن مائدة الطريق ثمة حديد يحرس المداخل ثمة نسل
من قلامات البراكين
قيل أنه بوصلة
تضلل النساك وسدنة الهيكل
يتكلمون
فتنهض معهم اللغة
وتخجل الكلمات العذراء مرة قيل أنهم سعاة الرياح الزرقاء تلك الرياح
المقدسة وقيل أنهم أجمل من
تبادل الفقد مع الخريطة عندما يستريح حوذي النيازك
ويسند مهاميزه إلى حافة المشهد
تتعثر به سلالة المباغتة
فيما تنوش مجاهل المجر ة سائلة عن جهة ضائعة وعن خطيئة تنتظر المغفرة
منذ الآن لن يهدأ الحوذي المفرط في الزهد المفرط ف الجهل سوف يطلق
سراح الرعونة من غمد اليأس
سوف تئج مهاميزه مثل عجلة العاصفة سوف تغمس
نيازكه الشاحبة حوافرها في رغوة البداءة يقظة الجحيم منذ الآن لن ينسى
أحد رنين الأهداب الملحدة
صديقة الفتنة
وهي تسأل الأمكنة
عن المحنة المبجلة أنثاهم الفاتنة
التي شغفت بها شريعة الغزو
وشاغلتها الخطف أنثاهم الناطقة بالوعد
رفيقة الخطوة والجلجلة
تعر ي في مجون الكارثة نهديها العاجيتين وتطلق من مدخل المأساة عويل
الابتهالات من النهدين تنحدر غيبوبة المساء نشوة الضحايا
آلهات الحداد
بقايا الدسيسة
شعائر النهب رماد الحديد
سلال الأرامل وأفراس تحسن المكابرة وتعرف كيف تتملق الموت
من أنتم حتى تندفعوا بمثل هذه الضراوة في عين الأنثى بلا روية أعضاؤكم
مسنونة على شفق الحجر
تقايضون الضفاف البخيلة من أجل أن تدلكم إلى شفرة الرصاص
من أنتم
سوف يتاح لنا نخب وترنح ماجن في مأدبة الطبيعة سوف يسألنا معدن الناس
من أنتم
وسوف نسمع من يصقل النواقيس معلنا
هاهم نتفقد منظم تكويننا
نرى عناصرنا الأولى قبل الخلق نتقمص الولادات ونعد
السفينة بالريح
نقول
هنيئا لنا هذه الأقدام التي ترسم النبات على
الرخام
هنيئا لزوج من الجنادب يبدآن سهرتهما
الخرافية في ظلام الخميلة
هنيئا لخراب سيفتك بهيكل الكتابة فاتحا
الأفق على نص يتمر غ في حرياته
بكاء طفل : شكوى كونية هكذا هي البدايات تدخل الآن في المأساة أو ربما
في الملهاة م ن يجزم أننا نعرف ماسيكرن لسنا أكثر معرفة أو أ كثر حكمة
نجم ل الحكاية ونعلن موتها في آن نشك ل النص ونقو ضه في آن كل حدث
تختزنه ذاكرة مشوشة
مضل لة
مسرفة في التباهي كائنات شتى تنداح في الذاكرة إستيطان موجع لدينا
أسئلة تعشي البصر لدينا أنواع من الحيل : بناء مفكك
حبكة غير محكمة
مقاطع سردية غير نافعة
لغة مفتوحة
خيوط ملونة تغوي وتخذل نرمي الشعر كالقرص
وأحيانا
كالنر د
لتقتات به مسوخنا الجميلة وأشباحنا المرحة
يا للفرح صديقان حميمان يمزجان الضوء والعتمة
أرواح شفافة تهبط من الأعالي
فنلهو معها نضع مرآة كبيرة عند كل منعطف لنصطاد بها الدم العاهل من
يقدر أن يرو ض هذا الشيء الخرافي
هذه الأب هة الملكية خذنا
خذنا أيها الدم الفاخر
قبل أن تذوب فينا الدهشة وينحسر عنا الهذيان
كم من وقت نحتاج لنتكلم عنك أيها الباذخ تلك مخلوقاتنا تتكاسر مثل
كواكب في ضلالة الفضاء لسنا نملك قناديل للهداية لا نعظ ولا نهدي لا
نعد بشيء نغوي بتيه لا يضاهى يحدث أن نشهر الفضيحة كالمخللب ونبج-
ل الخراب رغبات تحتمل وطأة التآمر
والعشق فو هة الجد جو ال غامض هو البحر
مياه مذعورة هي الحرب نسمع سعال الجبل أو أن شجوب الغابة : تلك الطفلة
التي تلملم ألعابها لحظة نشوب
الحرائق فلتجنح مخلوقاتنا إلى العنف إن شاءت آنئذ يختلج المعنى إزاء
لغة تبطش بالتوقعات نعرف أن المساء سرادق الحب وشهوة الممسوسين بالحلم
نعرف ذلك ونعرف أيضا أن الكتابة إمتحان للبسالة ونرى التياتل شخاصة
تستنطق الحصون بقرونها الفضي ة هكذا
نفضح اليقين بالشك
ونرتاب في الشك ذاته عندما تخوض شراك هذا النص
لا تتوقف كثيرا عند المعاني التي قد نبعثرها هنا وهناك أو ربما تجدها
بالصدفة فليس لدينا المعنى المعنى فيك
في داخلك محض استدراج فليكن طموحا مشتركا نغر ر بك لتثق بأن ذخيرتك
الكامنة
المكبوتة أكثر غنى وجمالا إحذر التأويل الوثير وتعال إلينا لنقتحم
مخيلتك
ولتكتب معنا هذا النص
أي تيه فاتن سيقود خطانا
إلى لذة الغيبوبة
2
نزال يومي غير متكافئ، مرّ كالكذب، له رائحة صنوبر محروق، ذلك الذي
تشهده فصائل من البرمائيات الباكية، بين أرض ترفع ملوكها المرابين
- المملوءة أفواههم بالزبيب ولحم الموتى - فوق قمم خشبية محفوفة بالمشاعل،
يطلّون منها على جيش مأجور يخضّب الأصابع بصمغ الاغتيال وينصب المجانق
عند تخوم سامّة تتظاهر بالخصوبة وتكوّر أديمها كما الحبل الكاذب، وبين
مسيرة وديعة تخرج من غشاء النهار بلا عطر، بلا نجوم، تتحسس كالضرير
منابت الضغينة.
يحدث أن يخرّ القتلى في الميدان العام، على أرصفة مبلّطة بالرخام
والأعشاب الطرية، تحت شرفة مزدحمة بأمراء صغار يتنزهون في سهرة الطفولة
مطلقين الضحكات البريئة، وشرفة أخرى تتحرك فيها الخادمة بهمّة لتغيّر
ماء المزهرية أو تنادي البقّال، وشرفة ثالثة تصيخ لأنّات ذكر وأنثى
يغتسلان بالجنس، وشرفة رابعة تتصدع تحت وقع مخبرين يبثون الإشاعات
المزدوجة.
المرأة ذات النوْل، التي تغطي بالقطن جسمها المرضوض، تذرع الميدان
شاردةً، لا تعرف إلى أين تمضي، تتوقف برهة لتتأمل شيئاً ، تتجه إلى
ناحيةٍ، ترفع رأسها، تحدّق في السماء، ثم تخفض بصرها، تعضّ على شفتها
السفلى حتى تكاد تدميها، تهرول، تركض، تتوقف.. وفجأة - في منتصف الميدان
- ترفع رأسها ثانية وتطلق صرخة مدوية أشبه بالعواء.
شرطي يتوارى خلف عمود، يبرز رأسه بين الفينة والأخرى، إنه لا يرصد
أو يراقب أحداً، بل يتوقع حدوث شيء.. شيء يجهله. إن إنعدام الحدث،
إضافة إلى غياب المعرفة، أمر يقلقه كثيراً، وربما يعذبه. يشتهي أن
يبكي، يشتهي أن يعود إلى زوجته وابنائه، يشتهي أن يسدل الميدان أجفانه
ليشبّ الظلام. مع ذلك، فإنه لا يكف عن حركته الآلية تلك. كأنه يخشى
أن يضبط متلبساً بالإهمال وعدم تنفيذ الأوامر.
قطيع من الماعز يداهن الميدان من أجل أن يعبر، إذ يحك أظلافه الصقيلة
بأطراف التماثيل الطينية الممتقعة، ويسرد هذيانه البهيج : بالأخص عن
انطلاق الهداهد من مفارق الموج ورحيلها في أحضان عاشقة كانت تروّض
النوم بأمشاط الرغبة. أيضاً، يحكي عن الموشومات بملح الاغتياب. حارسات
القصب والفلفل، اللائي يمزجن الليل والنهار ويطلقن النباح المسعور
في أرياف القادة الفاتحين.
على مقربة تداهم الغفوة الرصاصية أصحاب الحوانيت المائلة وتأخذهم إلى
نافورات تخدّر الحواس بثمارها المتلألئة.
وقتذاك،
كان الحاكم المعطّر بالكراهية يطوي بلاطه الفاحش ويخرج لجمع محتشد
خارج السور المذهّب.
عندما يريد أن يفتن جمهوره المتثائب ويستحوذ على مشاعره، كان يرتدي
زي الحكمة وينتعل خفاً مطاطياً يتيح له حرية التواثب بين لحظة وأخرى.
ألقى الخطبة فأنصت الجمع بلا حماس. قال ما معناه أن المسيرة غير شرعية
وأن الشريعة، قال. والجمع المحتشم، الذي نسي عادة الاكتراث، يصغي،
قد جاء متوقعاً أن يسمع خبراً يبهج، لكن هاهو يبصر اللغة تستمني علانية،
والحاكم في ذروة هيجانه يقذف الكلمة الأخيرة.
بعد ذلك، يبسط بلاطه المنسوج من مواعظ المرائين وآيات الصيارفة..
بعد ذلك، يبسط الجمع نحاس الغياب، ينحني لجلالة الأفيون .. ثم
يمضغ الأيام الحامضة..
بعد ذلك، يرتقي الحاكم العتبة الإباحية، تؤججه وصيفة شبه عارية تفرد
ذراعيها، وآن تفغر شدقيها، يهتز الإيوان ..
بعد ذلك، يفتح القروي باحة النسيان ليخترقه الذنب ..
بعد ذلك، يمصّ الحاكم حلمة اللهب ويشق فم العشب بجذع الرذيلة،
فتئن الوصيفة لذةً
ويئن القروي وجعاً
ويئن الجمع إثماً
ويئن الاحتشام
وقتذاك.
تباطأ، وضع قدماً في شرك الطبيعة. كان شاعراً غريب الأطوار. أخذ يتنشق
نكهة الدم السائل على كاحله فيما كان يرنو إلى طيور التمّ ترقص عائمة
في مستوى منخفض وترتطم الواحدة بعد الأخرى بقمم الجبال الواطئة. ضحك
للمنظر ولم يعرف معنىً لضحكته، لكنه أيضاً لم يكتب القصيدة. سار وهو
يصفّر تاريخاً مبهماً، ناسياً قدمه على الرمل.
كان ذلك في آخر الصيف، عند تقاطعات القرى، حين كانت الأجراس الكبيرة
تطارد الصواعق الضالة :
الحدّادون في الإسطبل يطرقون حدوات أحصنة وهمية لن تحضر أبداً.. إنها
تترقرق في صدر غيمة غاربة.
القرويون يرقّعون الطريق العام بالأوجار لكبح إندفاعة شاحنات النفط.
النساء الملونّات يتمرّغن لاهيات في كثبان الذرة بينما الأرغفة الموشاة
بالسمسم تمتقع داخل الأفران الطينية.
الباعة العابسون يلملمون منسوجاتهم ومستحضراتهم التي لا يشتريها أحد
ليمضوا بعد ذلك صوب عشائر البدو الذين يقايضونه بجلود ماعز وقارئات
كفّ منبوذات.
علماء الآثار ينتشلون بالشباك المعدنية مدينة غائصة في الرمال المتحركة
مزدحمة بالقباب المسوّسة.
والشاعر يقف وحيداً وسط حقل
الشاعر المقمّط بالشرور، رافعاً
قصيدته كالحربة.. لكنه كان يبكي.
وقتذاك،
إتكأ المحارب على حلمه المحمحم، المضرج بالضباب، تاركاً سلاحه يغفو
على مقربة منه. كان مثقلاً بالسهرة وبأعياد مهجورة. أراد أن يخاطب
البطولة فيه، لكنه لم يشعر برغبة في الحديث. كان طعم الليمون المرّ
مايزال ملتصقاً بحلقه الجاف. أشفق على حلمه، الذي يرافقه أينما يمضي
كالسراب، فلملم صوره ووضعه برفق على الحشيش العابق بالأنداء، ثم دثره
بلهاث الأصيل.
في مهب الفراشات العمياء، بين كلاب تطارد شمساً غاربة، وأفق يطوّق
خاصرة المدى بزنار ذهبي، كان المحارب يصون حلمه براحةٍ فسيحة كالسُهْب،
وبعينيه اللتين يحتقن فيها فضول الهزيع كان يرنو باندهاش إلى أزهار
السحلب البازغة من هدب الطبيعة.
مع ذلك، كان يعلم، أثناء إستراحته القصيرة تلك، أن عليه أن يحترس
كثيراً، فالوهاد تتنكر أحياناً في صورة شلاّل يرشي حارس البحيرة بثلج
أصهب من أجل أن تدخل مهرجان القواقع. كذلك الغارة التي تموّه أشكالها
وتنطق بلسان الببغاوات. وما السراب إلا حيلة تبتدعها الطبيعة، بلا
ضجر، لكي تضحك على ورطة المخلوقات.
سهو كثير هنا، ينبغي أن.
" هل سيطول انتظارك أيها الشبح ؟" تسأل زهرة السحلب.
" أنا لا أنتظر أحداً." يجيب متململاً.
" لكنك تقف هنا منذ سنوات بلا حراك، ودون أن تمسح رماد الليل
عن وجهك، لا نسمع سوى أنفاسك الثقيلة، البطيئة، أشبه بحشرجة تنّين
".
" كان ذلك في حزيران، عند مساقط الخوذات قرب النهر الميت، أوان
نزول الفتيات المشوهات من المنحدرات الصخرية، حين التقيت به، كان ذلك
في حزيران. جثث تستحم في مياه ضحلة. نسور تطعم صغارها فضلات مدن آفلة.
الفتيات ينفضن العرق من أجسادهن المحروقة ثم يتمرغن في الطين الشفيع،
في حزيران. التقيت بحلمي الذي. قرب تشنجات برك مليئة بقادة عصابيين
ينهشون أفخاذهم بشراهة. عند مساقط الخوذات والرؤوس اليافعة التي تتطاير
وتتدحرج. كان ذلك في حزيران، حلمي الذي ما أن رآني حتى غرز مخالبه
النحاسية في صدري. قلت. في حزيران قلت. كاشفني. كشف عن وجهه فعرفته.
قال لا تذع السر. عند النهر الميت حيث يطفو الحديد. حدث ذلك. وقت كانت
الأذرع المتفحمة تهرب من جثام مسعور. فتيات عاريات ينز الدخان من الفتحات
الصغيرة في أجسادهن الليّنة. في حزيران التقيت به. ما كان عندي دثار.
فرحت الفتيات حين جاءت الشظية من بعيد. فرحت حين تكوّمت المدن الرخوة
في قبضة طفل. كان ذلك في حزيران."
3
ظلال الخطايا تتنزّه في البحيرة،
فوانيس هاذية تزحف نحو منجم مهجور لتموت هناك،
خشخاش طاعن في الوحشة ينحني ماداً أذرعه الشاحبة لتلامس ماءً مجنوناً
شديد الصخب هائج الحركة،
وفوق مرْج فيروزي مسوّر بأسماك تتواثب في هرج، تجتمع ذوات البشرة الداكنة
- النساء الداكنات - المبقعات بريش الغمام رافعات المناديل والخمائر
شاهرات جدائل الرهان :
إلى أي الجهات نرهن أرواحنا الشفيفة ؟
يقايضن الغبار بزعفران المدى، يحتكمن إلى التخوم البعيدة التي موّهت
حراسها، يبسطن النذور على مائدة العرّافين، لكن أحداً لم يصغ إلى الداكنات
اللائي سلب النسيان ألوان عيونهن واغتصب ما تبقى من بهاءٍ وعذوبة.
ما من صوت أو همس أو صدى في هذا القفص الرملي حيث القش الوابل يلاحق
يأسنا ويصادر كرز طفولتنا.. ذاك الذي قطفناه في عيد الأولياء يوم كنا
ناصعات مرصعات بالغبطة واللهو، نؤرجح تنانيرنا وندلّي خصلاتنا فيثب
الغناء من حرير أثدائنا وحافيةً تدخل الأحلام الحمراء مقصورات نومنا
كنا نشبك الشرفات مثل حبات الخرز ونعلقها قلادة على صدر البلدة في
ليل الأعراس كي تضيء مواكب الأعيان وهي تختال بين الطرقات الزاهية
مزهوة بالحسناوات اللائي يرشقن الفتيان بالزهر، وكنا نرش الأفاريز
برضاب أنوثتنا جاهرات بالفتنة وإننا الممالك التي ليست للنهب وإننا
عطر الحكمة المنذورة للقلب، وفي المدى الأبعد، بين هضاب تشهد دون اكتراث
زحف أجناس تبني على عجل دويلات تسنّن قرونها وتسمّم نبالها استعداداً
للعراك، كنا نرمي غلائل المكيدة ونصطاد طوائف غضّة نرطّب بها شبق الرغبة
والهيمنة.
لكن ها نحن الآن مستوحشات يشرنقنا الخراب حيث لا فيء بل سماء مثقوبة
تمطر زيزاناً تسلب ذاكرتنا إقليماً إقليماً، معصوبات بالرمل يستبيحنا
الخفاش وعلى راحاتنا الملساء يتمعدن السرّ. حتى الأمومة لم تعد تستطلع
الأرحام وتغسل مداخلها بأنفاس المها.
هكذا، كل ساعة، ينزعن الأنوثة مثلما ينزع الصباح قناعه، ويطلقن في
عراء الروح صيحات الفريسة آن يضرّجها الحنين.
نساء حجريات. مهملات في موقع مهمل.
ساعةً يضرمن الجدال والرهان،
ساعةً يجمّدن الوقت ويمسحن الكلام.
نساء حجريات. يجوس النمل الأحمر بين أسنانهن الحامضة حيث تتعارك الأرواح
المغلولة.
جئن من المساءات الألف المأهولة بالحكايات والسهر، المأخوذة بالسفر،
تلك الرافلة بالأهواء بين مأدبة أمير مولع بقنص الأميرات ومائدة مغامر
لا يملك ثمن الجعة لكن يلمح في ذؤابة الشمعة خارطة تخبئ كنوزها وتمحو
الإشارات بسحابة فيجهش، ويجهش الفقراء فيما يطوون مآسيهم لئلا تتشوه
الأسطورة.
مساءات بلون الخلوة، التي تستر عاشقين مسفوحين للكراهية، طافحةٌ بالغدر
والمكر والجنس والحيل. جاريات يهبطن من فم الحكاية مثل دمى في قارورة
جنّي. خليفة يتفقد الرعية مدججاً بالفخاخ. بلاط يتقوّس تحت انحناءات
قضاة يخرقون الشرائع بدبابيس زوجاتهم.
يالبذخ المساءات !
غامضة كابتسامة فتاة بزغت للتو من النهر.
تجمع في جرّة واحدة فخامة الطقوس ورعونة المهرجان.
وئيداً تشدّ المجرّات كالأحصنة إلى مرابطها، وتبذر الهدايا في عتبات
الأزمنة.
جئن. وحين أعلن المبشّر الأبكم أوان الولادات، غسلن أفخاذهن ببلّور
المخادع وأنجبن في غشية سلالةً متجهمةً ركضت كالجراد مقتفية خفاف أقطار
كانت تتساقط إعياءً في الأرجاء. ولم تعد السلالة من رحلة الصيد. كانت
الأمكنة، الأكثر اخضرارا وبراءةً، تشرّع ممراتها الليّنة مثل عذراء
ترجو صداقة الوحش. كانت تستدرج بسلالم طرية نصال الغزو لتستقر في الغمد،
حتى أنها وهبت ما شاء الجباة من سبايا وعطايا، ولم تعلم السلالة مدى
حنكة الأمكنة.
قيل أنها ضاعت في مهب المجون. قيل أنها صارت طريدة لأقطار تعلمت البطش
منها.
في ذلك الفجر، المثقل بحشرجات الوقيعة، إستنطق الحديدُ الجمرَ ومضغت
الحمُرُ الوحشية بقايا عرش جليل. كان تابوت بحجم إمارة محمولاً على
كتف فارس شاحب يجوب الحانات المقفرة وإلى جواره يسير جواده الشاحب
مطلقاً من منخريه نفحة الموت.
وحين رأى المبشّر الأبكم زوارق تهرول في الصحراء ساحبة خلفها أنهاراً
سوداء مكتظة بالغرقى الحالمين والدلافين المحمومة، أدرك أنها العلامة
فدفن نفسه حياً في صدفة توتياء..
ولم يبق للداكنات غير التيه والعويل.
أفقن. تلك جزيرة الأحفاد تدنو مسروجة بالمشاعل، تردم الماء بالانشقاقات.
من حول حيزومها الفصيح تكبر نوى الفتوحات، وكل نواة تجثو وتستعير ملوحة
المرجان قابضة دفّة الشكيمة لحشدٍ ينتعش في رئته العصيان. ثمة ليل
رؤوف يلتقط حيواناته الشاردة في ساحة الصدى، وآبار تنتحي مسدلة الضباب
على عزلتها.
إفتحن بهو النواقيس الخرساء لنهيئ استقبالا يليق بذريّتنا. إلينا
بالبشاشة، إلينا بالرموز والمزامير، بالأراجيح الفسفورية الحائمة تحت
عريشة العناكب. كم حلمنا بهذه اللحظة ! من منا لم تحلم بمملكة رخوة،
صغيرة بحجم الكف، تشرّع بواباتها النحاسية لكتائب الأحفاد يدخلونها
متعبين جائعين لكنهم أكثر مرحاً من الحشائش التي تغطي أكتافهم، فنمد
لهم راحاتنا الملآى بالقمح، ومليّاً نتأمل أحداقهم العميقة التي لا
تكف عن إغوائنا.
آنذاك نتجرّد من الحجارة ويأخذنا الماء المسرف في الوداعة إلى جذورنا
: ملتقى الأسلاف، الرعاة والراعيات، مضارب تسفح أرتال الظباء في هبوب
الحشائش والإبل تجتر سفر الأودية في ذاكرة خائنة تحرّف الصور. لكن
العشيرة رأت ما هو أبعد من مرمى البصر.
حسبنا هذا، حسبنا هذا المشهد !
نراهم يجيئون عراة وعرايا يضيئون بقاماتهم المديدة مخابئ الكواكب النائمة،
يمدّون جسراً إثر جسر، ويدحرجون القنافذ البيضاء مثل كرات ثلج تقتحم
أوكار الخلاء.
وئيداً تشق الجزيرة قلب الأرض
بطيئاً نهمس للحلم أن لا ينطفئ
ثمة نشيد. أشعلنا مصابيح الماضي كي نبصر جوقة باسلة ترمم الحضارات
بالمصاحف. ما رأينا غير الصراخ. نشيد أم نشيج ؟ إختلط علينا، نحن الأسيرات
المهجورات، المملوءة أعيننا بالرمل حتى أن النحيب صار يطفر من جباهنا.
وكنا ننتحب ليلاً لئلا تسمعنا الحدأة :
رسولة الجحيم.
كم إشتقنا لمجيء عابر يقدر أن يخاطب الحجر فينا لنسأله : أما رأيت
دويلات بلا قوائم يجرّها أحفادنا الطغاة مثلما جرّ أسلافهم القارات
من أذنابها ؟ أما رأيت خطواتهم تشطر وجه المحيط وتزرع في شقّه بأس
الغزوات ؟ يتدفقون من المغاور - كما تقول النبوءة - مجبولين بخمرة
المعارك شاهرين نداءً بعلوّ الولادات. أذرعهم الطويلة، البيضاء الطويلة
كبياض العنف، تجتاز الأبعاد فيما يقوّسون ظهورهم لاغتصاب الأرض الموطوءة
بالصراخ.
إن أردت وصفاً أبلغ أخذناك إلى سرادق النعناع. موطن أرواحنا، وهناك
نريك الأبراج المنجّمة تستجلي بويضات الغد. إنتظر يا رفيق الصمت..
إنتخبناك مرشداً أو رسولاً، قائداً أو رائياً. فقل لنا أي المسالك
أكثر أماناً وأي الخطى أكثر رصانة. ليس لنا ما نفعله غير الحدس. لكن
لماذا لا يسطع صدغك تحت ضوء أعيننا الميتة ؟ نتحدث بإسهاب فتسخر منا،
نعرّي أمامك حماسنا فتشيح مشمئزاً ! كأنك لا تشبه جنس الفرسان.
كذلك لست أنت ولست أحداً :
جثة هلال. ظل يبعثره الهواء.
واحسرتاه ..
نطرّز أثداءنا بآجر الفصول كي لا تعرفنا الدسيسة
ونبقى وحدنا مع بقايا السنين الشائخة
إذن إصرخن يا فزاعات
إهرمن يا أمهات الأمس
فما يدثّر نداءكن غير الصدى
والنشيد المحتل
هنا، ولآخر مرة، ينبت الصبّار من أفواهنا.
كن يتظاهرن بالنوم آناء مسيرة الطمي نحو الأمم الراكضة خلف تضاريس
لا وصاية لأحد عليها. وكن - حينذاك - يصنعن من طين العروش ممالك يفتحها
الأحفاد بضربة فأس السديم :
من هناك ؟
من ذا الذي يفضّ رئاتنا الحاسرة ويطعن حضورنا بلهاثه الصلب ؟
لا أحد ! لا شيء !
إذن كنا نحرّك أرواحنا الناعسة في المهد ولا ندري.
وإذ ينعسن صباحاً يوثقن فروة المملكة بخيط حول أناملهن. وكن - حينذاك
- يدهنّ وجه الشمس بالزيت ويطلقنه مثل بالونة في بهو النهار. في النعاس
تحلج النساء المرتجفات أحلاماً بلا صور تداهمها بين الفينة والفينة
مناقير اللقالق فما يبق منها غير نثار جثة تتوزّع بين ضفاف الفرات
وأطراف الأوراس. لكن لم يخطر ببال المرتجفات أن الخلوة تلد حلفاً متواطئاً
وأن فراديسها هالكة لا محالة وأن
الجثة
تسقط
وتنكسر هكذا المرة
تلو الأخرى
وأن الموت كاهن معتزل في معبده، يطل بوقارٍ من كوةٍ شابكاً قبضتيه
خلف ظهره، يوجّه نظرات ثاقبة نحو النساء المنبوذات فيما يهمس لغرابه
بكلمات مبهمة فيطلق الغراب قهقهة عالية ويمضي ليدشّن قبوراً فاخرةً
لشعوب فاخرةٍ بينما يظل الموت - قرناً بعد قرن - في موقعه لا يحرّك
هدباً كأنه الحارس المتجهم والشاهد الأعمى. وحده يفتح بعينيه الأهوار
ويملأ راحتيه سراطين نهمة تقرض الأعوام على مهلٍ، والأعوام تترك أطرافها
هناك، حيث المنبوذات يضحكن ويولولن في آن (وكن حينذاك ينشرن هذيان
الماضي الحيّ على أغصان شجرة كثيرة الحيل، فتارة تلولب جذعها وتنتحل
شكل ماموث وتارة تصبغ أوراقها بالفحم) ووحده يصطفي كرسياً وكتاباً
وشهقةً منبلجةٍ من إبط امرأة تشتهي أن تموت.
من رأى كائناً يتآمر ضد نفسه ؟ رأيناه يطل من كوّة رافعاً بيدين ثابتتين
مرثيته كالمعول مقصلة صدئة نسيت أن تشحذ نصلها.
صحنا بصوت واحد :
هيا أجهز علينا في لمحةٍ
نكن لك عاشقات وخادمات
إبتهلنا للطعنة أن تدوّي في نحورنا بلا تباطؤ كي نعبر المجرّة وتغسلنا
يد الله.
صحنا بالحجر تمزّقْ يا رداء
بكينا تكفينا المحن والخيبات
ما كان ينبغي أن يهملنا إلى هذا الحد.
قرأنا في الرؤيا أن أحفاداً بلون الأقحوان - فوق رؤوسهم تحوم الغنائم
ومواكب الأسلاب، يسوقون أشرعة المدن بهدير تجفل له الأرض - سوف يقبلون
نحونا فلولا أشد إحتداماً من وقع البروق. بلّلنا أجفاننا بعنب السهر
وإلى هنا جئنا. مكثنا صبورات نحرّك الرؤيا بطواحين صبورة تدور يوماً
بعد يوم وما اندلق الحلم بعد.
كفانا انتظاراً فقد اجتاح الحجر أجسامنا وطمر بصيرتنا. صرنا لا نشم
أعياد الأحقاب. طلبنا ملائكة فأتت الأشباح تضجّ من حولنا كل حقبة تدهننا
بالكافور وتلملم أطرافنا المثقلة بالرياح حزمةً حزمةً في سلال لا تُرى
لتطعم بقرات لا تُرى ثم لتعيدنا من جديد ذبائح يومٍ لامبال.
إلينا إذن بطعنةٍ لا تتقن الرأفة، تخترق السرّة وتسحل الأحشاء
إلينا بالضغينة والضراوة، بالعصف والقيامة
إلينا بذبح يحنو ويداوي
إلينا بكل شياطين الهتك
النقاء ! النقاء!
4
واحدة تنحدر من قميص البهلول
وتشمر سواعد الضباب. بيدين عاجيتين تحلب الخرافة.
أعيروني عيناً من فضّة. الطفلة خرجت ليلاً تبحث عن مدفأة. كان الثلج
يحترق في قمة المئذنة. من النافذة سمعنا كل شيء : كلام الثلج، إحتضار
الذئب، نشيج أصابع صغيرة تعدو في بهو الدم. وعندما أرخينا المقل أبصرنا
كل شيء : الطفلة تلبس جسد الذئب وتتسلل بين الأعمدة اللولبية لتغوي
أطفالاً يخرجون ليلاً ويدفنون أصابعهم في إقليم الرصاص.
لم تعد العائلة مزاراً مقدّساً. مات الأب، نام الابن والأم في سرير
العناق، تقوّض الكتاب والضريح. ما من أوسمة لكتيبة تحتضر في أدراج
قائد مخبول، أو لألوية تنتظر إشارة لتسقط في أجيج الجنازة، نعش للمدينة.
لدينا ما يكفي من الفضائح. وإذ نخترق العادة ونشق باطن الطبيعة السويّة،
نهيب بالمحارم أن تفيض وتنقضّ بالباطل على مناسك الحكماء. وللفقهاء
نبتكر أخلاق الضد. نجمّل قبح الأشياء، نقبّح جمال الأشياء. ونتمادى
في قلب نظام الطبقات.
ها نحن، الذئاب البشرية، نرمي مرساة البدْر عند اكتمال التناسخ ونرفع
أعناقنا الراشحة شبقاً صوب سهوب مدحورة نمضي إليها عدْواً حيث نتزاوج
ونملأ شراشف القرى ونسبّح للانقراض
كان الذي يسكن ركعة اليأس يذرف صلاة
محروثة بالرؤى المجهضة :
كفيفةٌ تمشي المدينة إلى الجريمة.
ونسعّر الانقراض
حتى لا تظل هاوية شاغرة والنجوم المشعّة تهوي كالمطر الأسود ليمتطيها
النسل الأنبل مضرِجاً خواصر المرافئ بالقتل.
أي حلم جميل هذا الذي رأيت فيه نفسي
طفلةً ذئبة تقود التخوم إلى منابع
النسيان،
وما غادرتْه قط !
5
واحدة تلوّن السماء بخضرة حدقتيها وترسم للأشياء حالاتها الغامضة.
تفتح البوابات وتسمح للأكواخ أن تدخل دهاليز المتاهة المحفوفة برؤوس
أباطرة طغاة ينهشون كواحل العابرين إلى الثمرة التي لا يصل إليها أحد،
وتقول :
ساحات تطير بلا أجنحة، أشجار تغيّر مواقعها كل دقيقة، قمر يسبح في
عين مراهقة وردية.. كل ذلك ليس سوى حضور مبتذل للمعجزة. إن كان ثمة
إعجاز في هذا الكون، فيمكن التحري عنه في العرق الأزرق الذي يطوي ملوحته
وينسل بين جسمين ملتحمين حتى اللهاث الأخير يهاجم كل منهما الآخر بجذر
الأنين الحلو ويرتجفان مع كل إهتزازة لعصب أو عضلة.
لذة لا توصف في تفجّر الندى من فم البرعم، في اندلاق العصارة داخل
نفق الغضارة.
أقدر - أنا اللاهجة في عسل الخَدر -
أن أحصي ارتعاشات أظافري وأجترح
المدهش
ينحني انحناءة المتعبّد يعبئ أهدابي بالوجد والعشق صلاة لمن لا قبّة
له لمن غسل الكراهية بفراشة الحب ينثني ليتحد بشهيق النهدين فأسافر
مع مدّ البهاء في نبعي والعنق جسر يأخذني إلى عش مشعشع يفرد سطوعه
فيغمرني وأغمره بالشقائق وبي وجع الغواية أغويه والإبط عريشة تأخذني
إلى مسرح الأنداء حيث الحركة المنفلتة من أسر التلقين تؤله الفوضى
الجميلة والعين قوس ومراكب تتهادى أرتقيه فيتهاوى نهوي في فيض كما
الحلم السخيّ يمنحنا سرباً من الموج لا غناء أعذب من غنائه لا نداء
أشهى من ندائه يرتقيني فأغيب ممسوسة بالشهادة تخومي لهاث الذكورة أحاصره
بالإباحة فيطعنني بالقبل وإذ نتسابق في مجرى العسل اللاهب مأخوذين
بإيقاعات التهيج بتجانس في فضاء الحلمة أتجانس في نفحة التأوه ومعاً
نتمازج ونعلن الإشراقة العظيمة بأجراس جسدينا كيف لهذا الجسد البدئي
أن يتجلى في حومة العري من غير منارة الجرأة والاحتفال يحتفي بي وأحتفي
به طقساً كونياً معاً نستحم في صيحة الكائن الواحد نتمرغ في قماش الماء
الواحد أتيمّن بالشفة اللاثمة مهبط العشب وأبتهل للغيبوبة الحلوة أن
تأسرني ليتقرى وحده نزيف مصبّاتي وأتهجّى وحدي رنين موجاته أنا العاشقة
أتناثر وجداً كلما استدرج العاشق أنّاتي وامتدح الرعشة الطالعة وردةً
وردةً من مجرى عناصري وعالياً نرفع حياء الفضاء ونغسله بفراء الشبق
الداجن فلا يغادر القمر الخجول سماء سريرنا إلا مهتاجاً وبلا سطوة
فلمّا لمحتُه يحشد هتاف الطفولة بين جوانحه إنهمرتُ في بنفسجة قلبه
لتمحوني البراءة والمدّ وكان الكون عندئذ مطلياً بالدهشة.
أي حلم جميل هذا الذي رأيت فيه نفسي
عاشقة تبكي غبطةً وتجرّ بحراً خاشعاً كالسرير إلى واحة الانتشاء.
وما غادرْته قط !
6
واحدة تخرج، نابضة الحب ساطعة العري، من حرير نهر مخمور
مرشوشةً بعصارات الزنبق. ما أزكى أنفاسها تلك الموهوبة براءة الذاكرة
ونقاء العشق، تلك الواهبة نبض الكائنات في جنة مداها، ما أحلاها !
وحدها الناجية من الدنس، البشرية الأكثر نعومة والأكثر حصانة. تحرّرت
من إثم النسيان وأعلنت أنها الشاهدة على فجور الضعف وإرهاب الصمت.
ما أن تطأ كثيباً حتى تلد شبلاً نهماً يرضع الوسامة والجرأة من نرجسة
الثدي. فيض من البركات تهمر من أطراف أصابعها. وإذ تميل ملصقة صدغها
على أجنحة العشب الشفافة، منصتة إلى حفيف شعوب ضاحكة تتنزه في ممرات
الحديقة وتتهامس فيما بينها، يخترقها - آنذاك - فجر عذب مليء بالوعود
والنعم.
هل نَـصِِِفُـها ؟
جمال المدفأة، قلب النورس، شفافية الظهيرة، هشاشة اللذة، بكاء الدهشة،
براءة النهد، بأس الأمومة، حنان الضحك همس الوله، طفولة الخجل، سخاء
العنب، حزن الحزن، حياء المصادفة، إسراف الوردة، قناعة الجذل، أمانة
المفاجأة، إشراقة الحب، حدقتان تشع فيهما غرف مأهولة بالضوضاء، وثمة
أطفال بحجم الدمعة ينثالون من النوافذ الكبيرة مع أسماكهم الملوّنة
وطيورهم ذات الأجنحة الزجاجية ليثيروا فزع مرايا الشارع. ذراعان مخمليتان
تطوّقان بوداعة تعب الصديق وخيانة الصديق. والفم. نحسدك أيها الفم
القادر على العفو، الفخور برضابه الحريري بلآلئه المرحة، فيك يسافر
الهيام غير آبه لنداءات الحشمة. من أين لك كل هذا الشهد، كل سبائك
الحكمة والمتعة ؟
هل نحكيها ؟
الهلال ..
زورق يرتعش في خلايا المدّ. يدغدغ ظلال رُسُل أرضيين يحومون في بهو
السماء بعد أن خانتهم الذاكرة. يشق بخفّة قلب الماء الرحيم، مجذافه
سحابة ليلة ومرساته حبل الخرافة. لا أحد يخمّن مقصده، لا أحد يعلم
أين سوف يرسو. كأنه جاء من زمن غابر محمّلاً برائحة لغات محظورة وإشارات
متناقضة.
الهلال ..
زورق أزلي وامرأة مضطجعة في هدوء وسكينة بعد أن أوصدت أجفانها القطنية
حابسة نجمة كانت تعدو في مجرى الدمع جامحةً. في منتجع الوريد يتشنّج
ربابنة النوم قبيل مجيء الحلم النادر، وعلى أطراف الشفّة تتغضن الغريزة
مغمورةً بزيت الانتظار. الليل المتشح بالوجْد يعرّي بشرته الفضّية
وينحني على البحر الطافح بالعاطفة، هذا هو الحب. هذا هو الحب، ولا
إسم آخر، ولا نعت آخر، لهذا العناق الكوني.
الهلال ..
زورق وامرأة دامعة ورجل يعلن عن حضوره بمداعبة الشعر الأنثوي الراشح
نفحات وعطايا. ياللطمأنينة ! يا للارتواء ! كم سيحتاج من تضحيات، ومن
جروح، ليستعيد - بعد زمن - اللحظة ذاتها، والرائحة ذاتها، ونداوة العالم
ذاتها ؟ لكنه الآن يتطلع إلى البعيد، يرنو إلى المنارات البعيدة، كأنه
يحنّ إلى الانتماء لشيء مجهول، لقارّة لم يمسّها بعد. كأن وجود المرأة
وحده لا يكفي لارضاء جنون الفرح وإطفاء شهوة السفر. ألهذا السبب كانت
تبكي تاركة شعرها المضيء يتلوى ألماً في أسر حضنه ؟ هات أحزانك الشوكية،
يا امرأة مراعينا، لنمشط بها ليلنا الطويل.
الهلال ..
حيوان خرافي ينتصب على جرف سماوي ويخلب لبّ الفلكيين بتحولاته وتقمصاته
المدهشة، يبتكر الحيل البصرية ويرمي في أركان الأرض رؤى آسرة.
هل نحكيها ؟
رأيناها - المرأة الوارفة، الرافلة بالعصيان - تلتقط الكوابيس الخصبة
من أذنابها وتمضي بها حثيثاً إلى كهوف بدائية لم تذق وحوشها طعم الخبز
من قبل. هناك تسعّر المجاعة وتضرّج بالقسوة براثن الوحوش المزعنفة
كي تغادر شرانقها وتنازع أشباهها الأليفة، القاطنة في المدن، لحم الكهنة
وخبز الخشوع.
أي حلم جميل هذا الذي رأيت فيه نفسي
موجة في عين شاعر محموم يسحل بي الباطل.
وما غادرْته قط !
7
نصْل الكتابة، النساء الحجريات، بهنّ نقتحم
بهو الفضة
قبّة الوقت
حاسرات الصدور، شاخصات الأنوثة نحو
زعفران
المدى
الغريب
تخشعن لجلالة البياض. تخرجن من ماء الخرافة ومن عجين الغياب. نخرج
- زهرتين - من مستنقع القتل. أضع يدي على حزنه المقوّس، ونبكي معاً.
ذلك أن طيور المخيّم كانت تهاجر فينا جزافاً. نرمي فتات الفضيلة كي
نستدرج فوانيس صلواتكنَّ المقنّعة. إلينا بحضوركن الشاسع، هاهي المائدة
فائضة بالمحابر. نرقب صليل الفاجعة آن تلامس أرواحكن شغاف المخيّلة.
لحزنه - صديقي الضال - رائحة الفحم : لن يفقد الفقر أثره.
يا للأحداق الشاهقات !
كمن ينوي خديعة الجريح بسنان أكثر جمالاً
ولا نكاد نميّز حدود النص عن أهدابكن البتولة،
ذلك أن
مقلته المجنونة تئج في سبرها الملعون،
وتفيض بالقرمز مثل دَنِّ النبيذ. يعرف -
فيما يرمق رعشة أصابعي في صلصال الحرف - أن يكتشف أسلاب المنجم، يجوهرها،
يصقلها، ويفتن بها الضالين.
آه، يا الحجريات، الماثلات في المجابهة.
ها يجترح بكنَّ المعجزات، فتجمحنَ به !
رأفة به، رأفة بالوديع الفاتك. إرخين له قليلاً، فإنه يدّخر لرذائلكن
الذخائر ولأعناقكن قلادات من خرز الحُمم. ما من جميلة أسلمت له جسدها
إلا وزيّنها بخلود الأسطورة
يتقن كتابة الناس
يتقن كتابة النساء
لا يتقن شيئاً غير الكتابة
إحذرن،
لا تجنحن لقصبة الجوقة
ستلتهب، بكنَّ، مواضع العزف
مكامن النزف.
8
مرّ شعب الجهات،
بمحاذاة النساء الحجريات، ذوات البشرة الداكنة، مرّوا دون إلتفاتة.
ربما لم يحسنوا الإصغاء، أو ربما لم تدلّهم الخرائط إلى المساءات الألف.
مضوا - رفقاء السفر - كالفجاءة من غير دروع ولا مركبات، مرفّلين عباءة
الجرح المستبد. لم يتركوا رائحة أو كلمة.
نسدل سيرة أنينك البحري يا من تموت مراراً وما يزال في فمك طعم الغابة،
أيها الغريب الذي يشتت أشلاءه الرنانة في مساقط الدم وانحسارات التضاريس،
لنسرد - نحن المرشحين لمواقد الفتنة - مشاهد لا تشفّ عن رمزٍ أو مغزى،
وأشكالاً ماكرة تنزلق بكثافة في
خميرة الكتابة
هندسة الحكمة
أزياء المعنى.
|