سعدية مفرح
لم يسعفني الحظ ولا الظرف المناسب في رؤية العمل المسرحي البحريني " وجوه " الذي عرض قبل أيام في إطار المهرجان المسرحي الخليجي.
ولكن الحظ عوضني عن متعة الرؤية المسرحية بسماع شريط العمل الموسيقى المرافق لمعرض الفنان التشكيلي إبراهيم بوس سعد " وجوه " الذي كان البذرة الحقيقية للمسرحية.
وكانت متعة التلقي والسماع مباشرة ، حيث النص الموسيقى يتوازى تماما مع الخط الشعري، حيث يأخذ بتلابيب النص منذ البدء عبر تداخل نمي نصي تحضيري يأخذك الى ملامح الوجوه المختلفة التي يجهد الشاعر والموسيقي في تلمسها عبر أكثر من مستوى.
يقول الشاعر صاحب الريادات الفنية والشعرية الجميلة قاسم حداد عندما سألته عن ظروف نشأة هذا العمل ، خاصة انه عمل تركيبي ، يتطلب حتما أكثر من بداية وعلى أكثر من صعيد وعبر أكثر من شخص واحد على الأقل يقول حداد ن البداية كانت أشبه ما تكون بالصدفة البحتة .. أو على الأقل لم تكن الملامح النهائية للوجوه مرسومة على هذا النحو في ذهن التشكيلي والشاعر والموسيقى كل على حدة ولكنها كانت مجرد فكرة ثابتة في وعي و إحساس الفنان التشكيلي إبراهيم بوسعد ، تفاعلت معها بسرعة واخترت لتنفيذها أكثر من نص سبق لي كتابة في أكثر من مجموعة مهيأة للنشر .. في الوقت الذي كان يعمل فيه بو سعد على تجربة " وجوه " الخاصة .. ثم اغتنت التجربة بذاتها وتحولت من مجرد كلما أو لوحة أو نغمة موسيقية الى هذا العمل الذي ترين.
والواقع أن التجربة كعمل موسيقى مرافق لمعرض الفنان التشكيلي إبراهيم بوسعد ، ذاتها تفاعلت مع نفسها بدورها لتصبر بعد ذلك تجربة مسرحية متميزة.
وهذا العرض بدوره كان عرضا رياديا بالنظر الى أسلوب نحوه من مجرد معرض تشكيلي متكون ومتكامل أصلا إلى جنس فني أخر رغم احتفاظه بكل العناصر الرئيسية المكونة منذ بداياته والواقع ان التجربة - على أهمية زيادتها. لا تكتفي بهذا المجد التاريخي ولكنها تتجاوز ذلك من خلال اختبار أدوات صوتية لها دلالاتها الخاصة.
هناك مثلا صوت الشاعر أدونيس الذي يقدم في هذا العمل على قراءة أشعار قاسم
حداد في مبادرة جميلة ومحسوبة له.
انه يقرأ النصوص الشعرية وكأنه - وهو الأقدر على التعامل مع النص الشعري الحداثي المفتوح قرائياً - يريد ان يدلل بصوته الملون والموحي على قدرة هذا الشعر على الغور عميقا في ذات المتلقي الشعري.
انه إذن لا يقرأ و حسب وانما يحاول عبر هذه القراءة تفكيك أوصال النص إعادة تركيبة بما بتواءم مع فهمه الخاص لكل مفردة ورغبته في إيصالها الى مستمعها بالكيفية التي يريدها ان تصل هبا ، حتى تحول صوته الى معادل موضوعي ومنطقي وفني ايضا للأداء الصوتي للجوقة التي تتناوب على غناء وأداء المقاطع الشعرية.
أن دور أدونيس كما قد لا يتضح بشكل مباشر ومبدعي لا يقل أبدا أهمية عن دور صانع الكلمات أو صانع الموسيقى أو صانع الغناء أو صانع الرسم.
أن أدونيس عبر صوته الذي يؤطر فيه هذا العمل فقط يقدم ملمحاً أخر ومهما لملامح الوجوه الكثيرة التي تزدحم بها هذه التجربة الجميلة.
ورغم المسيرة الهارمونية المتضافرة للتجربة الا ان نص قاسم حداد الشعري يكاد يصير في أكثر من موضوع هو المحور وهو البؤرة وهو الغاية وهو الوسيلة أيضا .. والنص الشعري غني - بدورة - بأكثر من إدارة شعرية يتعامل بها ومعها قاسم حداد بحرفية وبذكاء عاليين ولعل الموضوع الذي يطرق عليه الشاعر بهذه الأدوات من الاتساع والامتداد الرحب مما يجعلن مجالا خصبا لان تركض في برارية خيول الحوارات الذاتية الطويلة بلغة حرة ومشهدية صورية.
وتتحول هذه المشهدية الصورية أحيانا إلى مشهدية درامية تحاول ان نتعامل مع ملامحها المختلفة دون أن تفقد سيطرتها على " الوجوه " الرئيسي للنص أو موضوع النص ، حيث الحرية المشتهاة ، وحيث النضال المستمر في سبيل هذه الحرية ، وحيث الأسماء المختلفة للحرية الواحدة وحيث أبطال الحرية وضحايا الحرية ومنتظرو الحرية.
" لفرط الحبسة
ذهبنا الى الساحة بوهم الأعداء
لنجد الأشقاء في انتظارنا
النصال المسنونة
لنسقط معا في احتضار طويل
كنا ذريعتكم لارتداء أكثر القفطانات خجلا
نحن أحبابكم الخاطئون"
نسمع نشيجكم ينبعث في صخرة مشتعلة مثل حمم تصدون من الأقاصي وتقذفون بقناديلكم نيازك تبغت الغافل والنائم والمأخوذ، والشرير، والقاطن والمسافر، وهم يرفلون في حرياتهم المكبوتة.
صمت يخلع الأكباد من نواحيها ويفتن الأرض بأزهار القرمز الباهرة وصمت ينهر وهدة المهد"
.. هكذا يبدأ صوت الشاعر وهكذا ينتهي ايضا ليظل متساوقا مع الموسيقى التي وضعها خالد الشيخ والأداء الغنائي الذي اضطلع به خالد الشيخ وهدى عبد الله ومحمد عبد الرحيم وحسام أحمد ، وباسل أحمد وجاسم درويش.
وكان من حسنات هذا العمل هذا العمل الكثيرة قدرته على إثبات " صلاحية" النص الشعري الحداثي لان يتعامل مع الموسيقى ولان يعني رغم النظريات التي تقول باستحالة أو صعوبة ذلك.
صحيح ولكنة هنا يتوصل الى سر جميل يفضى بالموسيقى الحداثية الى الشعر الحداثي بسهولة وعذوبة أسرة.
هنا أتحدث عن العمل في جانبه الشعري الموسيقى مغيبة الجانب التشكيلي للأسف بحكم اعتمادي في تلغي التجربة على شريط الكاسيت المسجل للعمل فقط.
ولكن التجربة كلها تفشي ملامح الوجوه التشكيلية التي كانت أساس الفكرة وإطار التجربة.
تحية أذن لإبراهيم بو سعد وقاسم حداد وخالد الشيخ ولجوقة الغناء ولمخرج العمل في صورته المسرحية ..
تحية للفنان في أبهى تجلياته
القبس
14-4-97 |