منذ البدء كان الإنسان المخلوق يبحث عن الخلق، كان يفكر كيف يبتكر الأشياء الجديدة ليوزن حياته ويهندس العالم بما يجعله قابلا للتجدد والإمتاع، لذا فهذا المخلوق الخالق هو الذي خلط الأشياء ببعضها البعض ليعيدها إلى عناصرها الأولى، في نفس الوقت الذي يقدم فيه فتوحاتة المبتكرة للآخرين بما هم أيضا مفتونون بالخلق الجديد… لذا فالإبداع يبدو قدسياً من حيث انه من عجينه الغموض الذي يصاحب الخلق والابتكار، ذلك للذي يخرج بالكثير من التجسيم للحياة في أوج انفعالها وانخراط عناصرها بالفرح والكوارث والحب والحرب… الإنسان هو الذي ابتكر مزج اللحن بالشعر بالصوت… كان الشهر في البدء وحيداً، وكذلك كان الإنسان يعني دون آلات موسيقية، فيما بعد فكر الإنسان في مزج هذه الفنون الآن ما سيحدث بعد ذلك عظيم الأثر في الوجدان … لم يكن للشعر أن يبقي طويلا في عزلته ووحشته ولا أختار الناي للتفرد والدهشة، ولا فضل الإنسان صوته المعزول … في الغذاء أيضا مزج الإنسان صفوفاً مختلفة ليخترع اللذة التي تشبه الحب ..
لذة تصله بالإشباع، حد الإشباع الأخير هو مطية المبتكرين.. كانت ليلة ينزل فيها المطر الكاهن هادئا ، حين دخلت في كهف الوجوه التي كدت أنساها من فرط حبي لها .. وجوه حزينة ، حتى إنها مدمرة في الحزن ! ياوالة! لا أحد يقدر أن يتخيل فقط أن ثمة بشرا مجبولون بهذا القدر من الحزن .. حتى أن شخصا قال لي أنني لم أصمد أمام هذا الحزن إلا بالهرب.. لا مفر .. أن نحب الحزن الذي نكرهه .. أن نحبو جو هنا ونبغضها .. لكن كيف يتأتي لنا أن نوغل في التجربة التي ليس لها قاع أخير إلا إذا كنا نبتكر أدوات في التعبير بعيد بدون سقوف وقبعات وفضاءات ذاهلة؟ كيف خاض قاسم وإبراهيم وخالد هذه التجربة إذن ؟
كان هذا السديم الجمعي الغامض والواضح في نفس الوقت : كانت فداحة الوجوه وهي تكنس الوقت وتضعه في رف منسي وتأخذك إلى الأبدية… الأشياء التي لا تظهر دائماً، ولا تغيب دائماً من قال أن التاريخ لا يعيد نفسه ؟…. من قال أن التاريخ يتغير والأشياء تزهو؟ هذه الوجوه خرجت من وحشة الإنسان الأول وإلى عصر الإنسان الأخير.
أ- كيف إذن يتصل الوجه / الغابة ، بعد أن يتخلل الجسد كله ويصبح بلا حضور ؟ كان إبراهيم بو سعد قد عاني هذه الوحشة في الدخول إلى الظلام الذي هو النص والكتابة والحياة ، حيث يزيح قاسم بيدية النحليتين المتهدجتين هذا الظلام الثقيل - كمن يغني شعر فتاة صغيرة ، بحثا عن الطوايا والمرايا والنوايا كلها بصمت .. كالتواريخ المجنونة ، وكان علي إبراهيم بوسعد أن يتعامل مع هندسة الكلام إلى يتمرجح لكي يأخذ - ككرة الثلج كل ما في حوزة الأرض ، وكان عليه أن يتماهى، أن يأتي إلى معارج الأشياء الكثيفة القلقة حيث مداخل كثيرة ولا مداخل ، ومعان كثيرة ولا جدوى وان كان هناك مخرج فهو تهيؤه … كان عليه أن يتعامل بكل حواسه أطرافه وجسده وألوانه لكي يصل إلى هذا المحسوس الخفي، الصعب وغير المدرك في الوهلة الأولى ، والهجومي الكاسح في اللحظة الثانية ، فهل نجح إبراهيم في ذلك؟ سأقول نفس السؤال بالنسبة لخالد الشيخ الذي وجد بالحق نفسه أمام هذا التحدي … داخل هذه الغابة الغامضة ، حيث الإبداع يوازي الحياة وحيث تنقص الحياة ويعلو الإلهام البشري.
قبل الكلام عن الوصول والهطول .. اعني الدخول في ضراوة التجربة من قبل ابراهيم وخالد - باعتبار - أن قاسم قد دخلها أنهاها في الكتابة … و باعتبار النص هو المحرض الأول لهذه التجربة - سأقول أنني كنت أبحث - في تلك الليلة - عن هذا السؤال، رغم إن بحثي لم يطل طويلاً لأنني بعد لحظات قليلة من دخولي في الخلوة لم أكن ادري أي الحضور كان يسبق الأخر! الموسيقى أم التشكيل أم الشعر… هذا الشعور كنت لا أفكر فيه بل أحسه لأنني كنت ما خوذا مرة أخرى بوجوه " أبو سعد" في نفس المرات كنت أتأرجح ما بين هذه المراجيح التي كانت تذهب إلى أقاصي الفضاء - كنت طفلا حائراً وخائفاً فوق هذه المراجيح - كنت لا أعود في الحقيقة … كان اللحن والصوت جميلاً ومسترسلاً بالتجربة ككل وبما حوله بحيث نال تميزه ، وإن كنت سأرغم إن اللحن كان جميلاً بسبب طقس التشكيل والشعر فان هذا الزعم ادحضته خبرتي التالية حين كنت أدير شريط خالد في السيارة.
وقد تركت الشريط لا أديره لأنني كنت أمر بحالة من الحزن لا أقدر عليها وفي تصيبني من فترة الى أخرى، أذهب في هذه الحالة الى مكان قصى بعيداً عن الأشياء الحميمة حتى أهدأ و أتوازن وينزوي جسدي وأعود الى الطبيعة . كان خالد الشيخ يعيدني الى الشعر والى وجوه إبراهيم بو سعد لكن الدورة لا تنتهي لأنها دورة ذرفت مرارة عظيمة تختلف من بعدها ومن قبلها محن.
كنت قد رأيت هذه الوجوه في المرئي الكثير التي رأيناها عبر العمر… في الموانئ التي توقفنا عندها طويلاً أو كثيرا، وكانت - هذه الوجوه - من العمق والمرارة بحيث اختلجت في تلك وقعة واحدة وما لت على جسدي بأكفانها الواسعة.
ب- وجه مستطيل … شعرة غابة، رأسه غابة، وفي هذه الغابة يغيب الرأس والجسد والوجه … الرأس منفصل عن الوجه، داخل في الغابة، كأن الغابة يد كبيرة تجر الوجه والأس والجسد، تجر هذه الطريدة… الأنف طويل كالنهر، هابط بعد جربان صلب وحاد على فم صغير لا يخرج منه الحرف، العين خضراء وحمرة داكنة حادة في الخضرة ، هل الغابة داخل الرأس ؟ هل الوجه في الغابة؟ هل كلاهما يدخلان بعض ؟ العين مأخوذة بالغابة العالية في الأعلى، المستحوذة، العين مخلوعة في الغابة ، ذاهبة إليها… دون أن تفارق الجسد… هل كانت تفارقه بحسرة؟
ج- وجه يستدير … يلتفت … هارب من معركة، ترك هناك كل اشلائه وأهله حاضر في مكان غير مكانه لا يريده ، وجه طارئ في لحظة طارئة في مكان طارئ، يريد أن يعود الى حين يلتقي ، الى الوراء حيث اشلائه وتواريخه، لا يقدر أن يتقدم وينسى، لا يقدر أن يعود لأن لا دور له في المعركة ، وجه مبعد كأنه مقبر، عينه اليسرى صغيرة مغمضة على التعب والتهجد والحسرة والخوف، والهزيمة ، وعينة اليمنى كبيرة مفتوحة جليلة وقوية ، وشجاعة وأمنية ، لا تقبل إن تستسلم ، لها أمل أن تعود، وتحمل أشلائها في معركة لم تنته بعد، وترفع أنقاضها وتصنع تواريخها جديدة … الأفق كبيرة كأنه صخرة فيها بياض ينصح في الحد الأخير يظهر بقوة ، الشفة السفلى جافة وكبيرة، مثقلة بالكلام ولا تقول شيئاً … الرأس كبيرة ومسطحة مع ضخامة الوجه توحي الحضور والامتلاء والامتلاك.
الفن هو المستحيل … هو الدخول الى أكتاف النسيان …. أن تذهب الى حيث لا تقدر، وأن يجعلك هذا العجز قادرا على فعل الخوارق، الفن الذي يأتي من الوهلة الأولى يذهب مع الوهلة الأولى، بعد خبرة طويلة دخل الفنانون المبدعون الثلاثة أروقة هذا التحدي، ولأنهم أصحاب خبرة مفعمة بالكفاءة والصقل فأنهم كانوا في مبارزة حقيقية … مبارزة الأصدقاء الذين يريدون انتصارا وفوزا جماعيا لتجربة عامة.
اقدر أن اعتبر هذه التجربة فوز للخلق والإبداع في البحرين، لأنه وضع ثلاثة مبدعين مبرزين عندنا في محك جديد متنوع لخلق متقدم ويحاول الخروج عن النمط ويؤرجح خياله في البعيد، وهذه التجربة تنم عن نضج عام في الثقافة والفنون، تضع المبدعين جمعيا في أمام المكان ، في فضاء الخلق… التجربة أيضا تنم عن أشياء أخرى كثيرة ليس اقلها إنها تقدم الإبداع في متابة الرخام ورونقة … وتمتحن بنجاح الشعر الجدي على إغواء الأغنية واللحن للخروج من الفجاجة المرة… فالكلمة الكبيرة تزهر فنا كبيراً، والعكس صحيح، بعض ما يبقى أن نشكر إخواننا الأعزاء المبدعين الثلاثة على هذه التضحية حيث سخروا أصواتهم وأصابعهم وعمرهم لتقدموا بالثقافة خطوة مبرزة الى الأمام، وأقترح أن تعرض هذه التجربة في دول عربية أخرى فهي أحد أصدائنا العالية.@