وجــوه

في الجانب الموسيقى من " وجوه " قاسم حداد وخالد الشيخ
ميلودي لأيامنا الموحشات

في عملهما المشترك " الشريط الموسيقي - وجوه " الصادر في البحرين حديثا يضعنا الثنائي المكون من الشاعر قاسم حداد.. والمغني والموسيقي الفنان خالد الشيخ في جو المغامرة المثيرة ، وفي إيقاع من المفاجآت المتتالية أهمها إن الشاعر الكبير ادونيس شاركهما تلك المغامرة.

في الكتيب الذي يرافق الشريط الموسيقي تتضح جوانب ذلك العمل المغامر، فهو مقام اعتمادا على نصوص للشاعر قاسم حداد وموسيقى وغناء خالد الشيخ الى جانب مجموعة من الأصوات المنشدة ، وهو كعمل رافق معرض الفنان التشكيلي إبراهيم بو سعد، الذي أعار عنوانه " وجوه " الى الشريط الموسيقي.

ومن خلال هذه العلاقة المتشابكة بين ثلاثة أشكال للتعبير الفني تشكيل وشعر وموسيقى. يتوقع الملتقي إن ثمة مهمات الحاقية ، لكل واحد من هذه الاشكال ، ولا ندري من سيكون التابع ؟ اهي النصوص تحاول ان تقيم قراءة (لغوية ) للرسوم ؟

أم هي الرسوم حاولت تتبع الأثر الفني في نصوص الشعر والتي افتتنت بها الموسيقى من قبل أقامت معها اتصالا (إيقاعيا) من نوع خاص ؟

عير ان قراءة هادئة (استماع متمهل ) ستوصل الملتقي المستمع الى غير هذا الانطباع الأول .. فلا الرسوم انبثقت كسطوح بتأثير من النصوص. ولا هذه وضعت كي تغنى، ولا حتى الموسيقى كانت بقصد مرافقة لحنية تقليدية .. ومع هذا فالمشترك بين الاشكال الثلاثة كثير ومميز وغني.. فهي دخلت في تنافس إبداعي خلاق فى ما بينهما، هكذا راحت النصوص تقلن (شعريتها) فاختارت مجاورات محددة مع النصوص ولم تقم بمحاورة انعكاسية، تجعلها مجرد (حلقيات موسيقية ) لكلام ينغم عبر الإلقاء.

وحين نصف العمل بالمغامرة (نكبر هنا الجانب الموسيقى تحديدا) فهذا قائم بسبب تصدي الموسيقى لصعوبات عديدة أهمها:

¨ النصوص مكتوبة كنصوص مكتملة بذاتها.. وهي ليست مكتوبة كي تغني مثلا او تخضع لقراءة موسيقية من نوع ما.

¨ إضافة الى ذلك فهي أي النصوص ليست من (التفعيلة) بشيء وهذا ما يفقدها الإيقاع الموسيقي الخارجي الذي يسهل من مهمة الصياغة اللحنية لها. على الرغم من تمتع بعضها بهذه الصفة ..

¨ رغم ما تقدم من صعوبات غيران الموسيقى بدت موفقه في خلق ميلودي مجاور ولكنه غير الحاقي بمعنى أنها أظهرت أنغامها ليس بقصد أن تكون لحنا للكلام، بل أن تبني حضورها .. كموسيقى وان كانت غير مجردة وكانت أصوات خالد الشيخ ، هدى عبد الله حسام احمد وبقية الجوقة المنشدة تؤدي جوانب أخرى من مهمة الموسيقى هنا هي كانت تثري اللحن ، مرة بالتأوهات ومرة بالرخامة ومرات عديدة بطرواة الغناء العربي وعذوبته.

والعمل يبدأ بهمهما ودندنات ثم أهات وسطوع قوي في اللحن ليتصل بنشيد من الآهات، تبدعه الجوقة المنشدة لتدريبها الحسن، وفهمها لمهمة تعدد وثراء ذلك التعدد موسيقيا، لاصوتا غنائيا.. هذا مع المقطع الذي يحمل عنوان " زجاج الفضاء " و الذي توفر على تساؤل مفاده: " غابة أم بشر " ؟ وينتهي عند " بهجة أم كدر " ؟ والغناء عبر تعدده الصوتي هنا أمام بناء موازي في التأثير، لا الانعكاس والتطابق مع النص ذاته .. فجاءت الأصوات حرة في طلاقتها تصور وتنقل بنية السؤال من صورته الحروفية الى وقعه الجارح موسيقى..

ومع " الأعراس " تترد مغردة (تقدم ) أحالتها الأصوات الى موسيقاها المناسبة والدقيقة وجعلتها صارمة وآمره!!

وجاءت مع تلك الطريفة حشود من دلالات التجاوز التي توحي بها المفردة لغويا..
وفي المقطع الثالث من النص الموسيقى والذي حمل عنوان " النصال " يرافق لحن توقيعي صوت خالد الشيخ الذاهب في حوار مع صوت عبد الله الذي جاء دافعا رغم سعته التعبيرية ، وخالد الشيخ يغني هنا كما في مقطع آخر هو " زهرة الناس " بنبرة طليقة سليمة في نطق مخارج الحروف، والصوت بدأ مسترخيا في استرسلاته سيما أن خليفة لحنية تأتي كلمسة حانية وتمضي، ويؤدي " الفلوت " هنا دور الحنو والرفه، النص فيه غنى تعبيري لذا كان إجراء موفقا حين عمد الشيخ الى تعدد الأصوات ، والتي أظهرت بتعددها وتنوعها ( تختلف في طبقاتها ) الجوانب المتداخلة والتي خدمت تعبيرية النص ودائماً حسب قانونونها الموسيقي لا كرافقة للكلام…

وفي الخط المتنامي لموسيقى العمل، نتوقف عن " الحزن " فاللحن الذي جاء شجياً (ضربات رقيقة على البيانو) وخليفة من اهانات ، وفي هذا المقطع تحت (مسرحة ) الأغنية بحق ، فالأصوات بمديات تعبيرها المتعددة واختلاف توقيت دخولها على اللحن - يدخل هنا شئ من صوت ادونيس وهو يقرأ سطرا شعريا منحت اللحن (مشهدية) من نوع ما، احالت المتلقي الى امكانية تتبع التعبيرية الموسيقية في صور متأججة ومتداخلها دونما ضجيج.

الأصوات بخاصة صوت هدى عبد الله، استطاعت أن تمنح اللحن ميلودي افتقده في أكثر من مقطع في الشريط، وإذا كان هذا المعنى قائما في مستوى ما خلال الشريط ، فأنه يبرز بخاصة مع نص " صباح الليل للموتى… إذا ماتوا " فالصوت هنا لخالد الشيخ في نداء شجي يقيم بتلويحاته مستوى لحنيا خاصاً به..

وهذا الانفصال (الإيجابي) ما بين الصياغة الموسيقية ومستوى الأداء في الأصوات يتكرس مع مقطع " السؤال " فلولا طراوة الأصوات هنا لبدأ المقطع اثقل مم كان عليه … ويعود الشيخ بحلاوة نبرات صوته ليغني " الباب " ورافق الصوت لحن منتفض كوحشة وقوة ما يعنية (الباب) من (احتمال ) وطرق دائم على الدواخل.

وفي " الوجوه الصغيرة " لا يمكن للمتلقي الا أن يقول : الله .. وهو يستمع لصوت هدى عبد الله ومعها الكورال. ومع تهادي الصوت الانثوي وبفيض حنانه، يكتسب المقطع طراوة بالغة وبراءة رغم غلالة الحزن التي تلفهما.

و بعد رحلة مضنية كهذه. لابد من محطة الأخيرة، و التي حدد ملامحها المقطع الذي حمل عنوان.

" الهزيع الأخير " و فيه يبدو اللحن بطيئا، كأنه يرسم مشهدا ما تنمو في جوفه الوحشة و المخاوف وهنا تتجسد عن طريق الأصوات المنشدة، ثم آهات منفردة لصوت هدى و ليأتي سؤال الشيخ: " ماذا سيبقى " .. وبعد هذا السؤال تأتينا الأبواق لتعكس التساؤل كأنه النفير. وعنصر جودة أخرى حققها اللحن حين بدأ متدفقاً وكأنه يشير لتدفيق الحياة فيما الأصوات هي (نحن) وقد أحاطنا الذعر والخوف أحكمت الوحشة على أيامنا..

أدونيس ينشد الشعر إنشادا عذباً
لا يمكن لعارف مكانة الشاعر أدونيس في مشهد الشعر العربي المعاصر إلا أن يمنحه احتراماً مضاعفاً، فهو باشتراكه في قراءة العديد من المقاطع الشعرية، أضاف بل ودعم رصانة العمل شعرياً وموسيقياً وغناء. كما أنه أعطانا درساً بليغا في إظهار الشعر منغما وجارحاً، قوياً وعذباً ي آن من خلال تلويحاته الصوتية والتي لا يمكن ببعيدة عن روحية تتحسس الفضاء الشعري لغة وصورة ومعنى والذي أبدعه قاسم حداد.

من سيجرؤ على الخطوة التالية ؟
إن سمة العمل الثقافي المعاصر هو الترابط المفصلي ، وعمل " وجوه " يقوم في هذا الشأن لمسة بارزة، فثمة (التشكيلي) و (الشعري)و(الموسيقي)، وفي العمل فضيلة أخرى تحسب لخالد الشيخ، فهو وان كان مختلفا ضمن موجهة الغناء العربي المعاصر، قد دفع (باختلافه) خطوة كبيرة وجرئيه، فهو على يقين تام بأنه سيصدم المتلقي العادي الذي عرفه بأعمال من نوع: " يا عبيد " " مدير الراح " ، " كمنجة " ، " نعم نعم " وغيرها، وقد يخسر الفنان خالد الشيخ مجموعة كبيرة من متلقية العاديين، غير انه سجل لحقيقة الفنان لمسة مؤثرة ، من الصعب المهم: من سيجرؤ على الخطوة التالية : أي بمعنى المعاصر، تجربة فنية خلاقة كهذه ؟ ومعها يبعد عنه سمة قد تبدو حقيقة هذه الأيام تقول في تحول أهل الغناء العربي اليوم إلى مقدمة مشوهي الذائقة وعند أجيال عربية كثيرة ، خالد الشيخ عبر موسيقاه هنا خسر مالا عن يقين تام وربحه كان في إصراره على أن الغناء والموسيقى يمكن لهما أن يتحولا بقوة من تسلية لاهية وعابثة كما هو الحال الغناء العربي اليوم إلى عملية فنية تستحق أكثر من التنويه والتقدير اللفظي.

الأيام 8/5/97

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى