ظل لقائي الأول بإبراهيم بو سعد متوهجا في صحو الذاكرة .. اكتشفت يومها ان وقتا طويلا يوشك ان يمر قبل ان التقي حزينا خجولا مثله!
لم يكن ذاك الفنان الرهيف يرسم نزيفه. كان فقط يفرغ أيامه الملأى بالذبائح والغدر والمقصولين.
وكان علي ان انتبه إلى ان صراحته المفرطة الممزوجة بالدماثة - قياسا إلى عمر تعارفنا - مؤشر على ن ورح .. إنسان من طراز خاص .. إنسان يذهب إلى المكابرة كلما تداعت الطعنات .. ويبذل الصدق كأنما لم يخلق ألا لهذه المهمة !
ها هو ذا في أمسية شتائية قبل سنتين بمقر أسرة الأدباء والكتاب ينزوي ليحدثني بتلعثم واستحياء عن تجربة إبداعية جديدة، بدت كما لو إنها تجربة عمر" لفرط ما استحضر من حماسة ومخاوف .. كنت أدرك مسبقا ان بو سعد قد نأى عن جلبة المعارض لسنوات كاملة .. وان عودة أمثاله لتقديم ما عندهم من إبداع يعنى ان ثمة أفقا جديدا ينشق عن مخلوقاته. عرفت من إبراهيم بو سعد، وكانت يده فى صلصال التجربة يومها، ان قاسم حداد خدينه الذى استدرج خالد الشيخ خدينه الذى لم يستدرج بعد..
(من يملك ان يهدهد انتظاراته اذا ارتسمت وعود اجتماع الثلاثة معا كما في اللحظة الحاضرة ؟).
كان إبراهيم بو سعد يتفرس فيما حوله ومن حوله، يضيء بالتشكيل كل التفاصيل المنسية (تراها كانت منسية حقا؟!)، تتلاقى الوجوه تلو الوجود، حركة هبوط إلى جحيم الأعماق، وحركة صعود إلى أثير الأطياف .. العيون المصابة بالوحشة، العيون كأنها تريد ان تهذي ولا سبيل ..، العيون المتحدرة شهوة والعيون الفاغرة وجعا.. وجوه لا تعرفها ولا تعرفك لكنها الوجوه كلها.. تتحسسها عضلة عضلة .. تقرا فيها ملعب جراحك الماضية والآتية .. وتقول للضحكات الموءودة : يا للبرزخ الذى يجمع فيضا من الاخلاط في اديم واحد!
وقتها كان قاسم حداد في الكتابة، وكان يستدرج اشلاءه إلى، " قبر قاسم " شلوا شلوا.. لكأنمإ اطلع بو سعد على ما لا يعرفه أحد في الوقت المناسب، كأن ما باده حداد في غمرة انشداهه لهزائمه السرية ..
وكانت دلالة الحزن كلها فيما راح الاثنان يرقبان الاثنين بشاعة الوجوه..الوجوه .. الوجوه.. تلك التى تصد.. ~`وتقبل، تأفل لم وتبزغ .. تتشرب الفضاء ثم تذوب في فحيح الفوضى.. وكان خالد الشيخ راثيا ~ إضافيا بامتياز.. يدلف الى التجربة، مثل بو سعد تماما، بعد توقف لا يمكن ان يتم تجاوزه دون مغامرة تليق .. وهو ما يظهر ان خالد الشيخ قد تحراه تماما بانخراطه في هذا المشروع ..
انه مشروع ثلاثي إذن .. او فلنقل انه كذلك حتى إبراهيم بو سعد ألوانه وتكويناته وحروف العربية، ويدفع في خالد الشيخ في أرجائه موسيقاه ومؤثراته وأصواته ويجيء له قاسم بالكلام والظلال وإمكانات الإشارة، وبين الثلاثة اتفاق أولي على عنونة العمل بـ: "وجوه ".
وبين الثلاثة أيضا أسئلة ما تلبث تتسع حتى لقد دفعت قاسم الى التعليق ذات تحضير: اعتقد اننا على شفير هاوية!
طبعا لم يكن لدي من المبررات، وقد حضرت ذاك التحضير، ما يجعلني استلم تعليق قاسم على سبيل المبالغة، أنا الذي عرفت كم من الكوابيس طاردت إبراهيم بو سعد خلال عامين او يزيد قضاهما فى العزلة شبه التامة مع مخلوقاته .. من الوجوه والاكفان والخوازيق والنعوش ..
أتذكر، الوهلة، ملامح خالد الشيخ التى ألحت كي تحملني على التصديق : "لقد كان بو سعد ان يمرض فعلا جراء معايشة هذه الوجوه..". وأستعيد قسمات بو سعد في سهرة طويلة ائتلقت فيها روحه حين قال لي، في عفوية طفل وطمأنينة صوفي: "أسر لي قاسم حداد في موقف من المواقف : سنتان في صحبة هذي الوجوه :.ا! حمد لله أنك نجوت من العاقبة يا بو سعد!". لقد حاول إبراهيم بو سعد ان يستقطر خلاصة رؤية جديدة عبر ما يتراوح بين 20 إلى 80 عملا من الوجوه التى رسمها على قماش الأكفان وزين حوافها بالخط العربي (الثلث ) منتخبا كلمات وجملا، وربما مقاطع، من نص قاسم حداد وزعها هنا وهناك على جنبات الوجوه أحيانا وفوقها في أحيان أخرى.. علامة على الخاصية التداخلية للمكان، بين الأشياء والعناصر والمكونات .. وهي خاصية يذهب اليها بو سعد بوعي ويؤكد من خلالها على ديناميكية العلاقة بالفضاء داخل طقس المعروضات .. هكذا سنعاين مكان يتزين بالوجود والأسارير في كل أبعاده.. قسمات وحيوات تنبح من الأرض .. أخرى تسبح فى الفراغ .. وجوه تمتزج بالمقاعد.. وغيرها مرتخية ضمن نعوش .. والتقنية التى يلجا اليها ابراهيم في تنفيذ هذه الأعمال تقنيا تقنية تستعيض عن الفرشاة تماما.. تستعيض عنها بالملامسة ليس غير .. فإبراهيم بو سعد الذى جلب مواده من البيئة المحيطة : أقمشة وتراب وصمغ ومثبتات واشتغل عليها بمعالجات خاصة كان يصر على ان يرسم بأحشائة مباشرة حدثني حين زرت مرسمه انه قد أنجز هذه اللوحات بكل جزء فيه، رسم باليد وبالقدم وبالرأس والركبة. ولم يلجم شطحاته قط !
إما قاسم حداد فقد اسهم بنص مطول نسبيا، كتب بعض مقاطعه بعد اطلاعه على مخلوقات بو سعد فيما احتوت مقاطع أخري اختيارات من ديوان الشاعر القادم : "قبر قاسم ".. وكانت ثيمات : الفقد، الموت، الأعراس المرائي الأقنعة، الضراوة التأرجح بمثابة الخلفية التي يتحرك عليها العمل فيما جاء البناء الفني له متخللا بـ 12 مقطعا صغيرا يمثل كل مقطع منها صوت ذئب او قريبا من ذلك.
خالد الشيخ كتب موسيقى تتقاطع مع هذا كله .. جدة لتجربة - في وجه من وجوهها - هنا انه يتعامل مع قصيدة النثر وانه يتشابك مع التشكيل .. اذكر ان البواكير كانت تثير الكثير من الاحترازات لدى قاسم حداد حول إمكان نجاح التجارب الثلاث في تشكيل مساحة حيوية واحدة .. لكن قاسم الذى صادفني في كواليس أحد الأعمال المسرحية بعد فترة .. بادرني بهواجس غير الهواجس لما جاذبته الحديث .. حماسته وطموحاته حول لياقة العمل لم تكن من النوع الذي الرصد.. جاء هذا التحول في أعقاب استماع قاسم الى جزء مما أنجزه خالد الشيخ .. (يومها حسدت خالد الذى استطاع ان يبث كل هذا الانبهار في جوانح حداد كما لم أرد من قبل أبدا).. واتسعت دوائر السؤال مع الوقت (لم يضع حدا للسؤال إلا استماعي لفعلة في خالد الشيخ فيما بعد!) ترى ما الذى فعله ثالث المجانين هذا حتى انداحت حالة كتلك الحالة المتأججة فى برزخ التقاطعات بين شعر ورسم وموسيقى؟
ما الذى يعدونه لنا من تواطؤ إضافي وقد علمت ان يوسف القصير سيلحق بهم في مرحلة مقبلة وان عبد الله يوسف سينخرط في العمل كذلك؟! وان الأفكار والخيالات ما لبثت تزداد اتساعا! في جلسة تحضيرية ضمت الثلاثية حللت مع الأخ عبد الله الحال مصور الجريدة ضيفين على فريق العمل في بيت الفنان الشيخ . كانت الترتيبات مخصصة للنقاش حول بروفات من الألحان والموسيقى المصاحبة التى أنجزها خالد.. وكان علي ان ألتقط طرف الحديث أحيانا لأستفسر او أستوضح او أدلي بوجهة نظر… حول بدايات العمل حدثني حداد قائلا: منذ البداية لم ننطلق من هم تركيب التجارب وانما كنا ننشد تقاطع التجارب وما يتشكل عن هذا التقاطع. إبراهيم بو سعد طرح علي أفكار المشروع بينما كان قد شوطا فى الاشتغال ~ لوحاته، انا للحقيقة لم اكتب الكثير للعمل بعد ان رأيت اللوحات. كنت مسبقا في حالة تتقاطع مع الحالة التى كأن يمر بها بو سعد يوم ان فاتحني، وعبر حوارات مطولة ناقشنا. فيها طبيعة التجربة ورؤية بو سعد ورؤيتي، والارضية التى نفهم على أساسها السر تجارب إبداعية مختلفة في عمل واحد، اكشفنا اننا امام ! استدراج جميل وجدير. والذي حدث بعد ذلك هو أن هذا الحوار قد اتسع بعد عرض الفكرة على خالد الشيخ اللافت أنني وجدت نفس القلق الذي انتابني في البداية يسري إلى خالد الشيخ مضاعفا لأسباب كثيرة من بينها، على الأغلب، إنني و بوسعد كنا على وشك الانتهاء من بلورة ما سنسهم به، لقد وجدت في نصوص "قبر قاسم " صدورا عن ذات الحالة النفسية التي صدر عنها إبراهيم،
وتقبلت بفرح الانخراط في هذا المشروع ليس بسبب الجانب الجنوني الواضح فيه فقط ولكن لان مشروعا كهذا كان امتحانا لحريتي من حيت انه لم يكن يفرض على شيئا، ولعل هذه الحرية هي الروح الأساس التي تسري في خفايا هذا المشروع لأننا أكدنا في كل خطوة حرية التعامل واستبعاد أي شرط مسبق.
وتضيف قاسم حداد: أيضا هناك الدوافع الذاتية. و أظن اننا كنا متوفرين على جانب مشترك أصبحت أدركه الآن. كنا نحن الثلاثة نبحث، كل في تجربته المنفصلة عن الآخرين، عن شئ جديد يكون تعبيريا بالنسبة لنا. يكون تعبيرا بالنسبة لنا كان هذا هو هاجس إبراهيم فى التشكيل وهاجسي في الكتابة واعتقد اننا جئنا لخالد فى اللحظة الحاسمة، ولعل ذلك هو ما أغرى خالد اكثر فأكثر، خصوصا بعدما اندرج فى العمل. قبل ان يبدأ خالد كنت متخوفا ان يرفض، ولذلك فانني بادرته منذ المفاتحة الأولى أنني لن أقبل كلمة " لا " منه، لقد جاءت هذه الدعة في الوقت المناسب ولامست شيئا فى نفس خالد من منطلق انه كان يريد فعلا ان ينطلق إلى تجربة جديدة، وكان التحدى انه امام نص من نصوص الكتابة الجديدة. خالد لم يكن متوافرا على استعداد للاقتحام مع انه حاول انجاز تجارب عديدة على نصوص لي سابقا، لكن ربما زخم هذه التجربة واشتراك لوحات بو سعد معنا لامس شيئا فى داخله خصوصا اننا امام لوحات غير تقليدية لا تؤطرها البراويز.
ثم يعقب خالد الشيخ : "لا" التى ..كان يخافها قاسم، لم تكن ستصدر مني لو صدرت، لأنني لم اكن أريد أن انخرط في المشروع أو أنني لم اكن أعرف كيف اشتغل. لكنها لو صدرت فإنها ستكون من منطلق أنني لا اعرف كيفية الاشتغال بحرية. حقيقة أنا لم أتعود ذلك. كنت أتقن ممارسة مهامي من خلال نصوص مقيدة ومحددة أمامي.. يوضع أمامي نص موزون ومقفى في القادة. شغل بهذه المواصفات " أدوس فيه على طول وأطلع لك من مخبأي مليون لحن " لكن انك تعطيني نصا مثل نصوص قاسم وتطلب متى أن اجرب فهنا الخطورة، خطورة لأنني لا اعرف كيف أمارس حريتي ولذلك لاحظ الشباب أنني منذ البداية كنت محتاجا إلى " دقة وراء دقة "، وفي منتصف العكوف على العمل بدأت استمتع اكثر لأنني اكتشفت أن هذه الحرية تفسح أمامي في الإمكانيات على نحو يجعلني استعيد كلام النص بلحن جديد في كل مرة.
طبعا لم أشأ أن تتحول الجلسة الى طابع اللقاءات التقليدية حيث الجواب ينتظر السؤال،
فضلت الجواب ينتظر السؤال، فضلت عوضا عن ذلك أن اترك للعفوية لعبتها بد لي أن من الأفضل ترك النقاش منسابا وفى جريانه الطبيعي.. وهذا أسفر عن تمحور الجلسة حول سؤال أساسي، دارت من حوله كل التدخلات تقريبا: كيف تتقاطع هذه الفنون ؟ ما علاقة ذلك بتحقيق رؤية جديدة ؟ ما علاقة هذه التقاطعات بالمكان وحركة وتلقي الجمهور؟
أكد الثلاثة على أن المشروع يستهدف تقديم عرض ولا يستهدف تقديم معرض، من هنا فان كل عنصر سيدخل في العمل ينبغي أن يحسب حسابه في لعبة التقاطعات، وإذا كان الجمهور عنصرا من عناصر العرض فان وضع التصورات حول حركته وظروف تلقيه يغدو ضروريا إلى درجة تآمرية يتلبسها الثلاثة ويعبر عن هذه الرغبة خالد الشيخ متداخلا بالقول : نريد السيطرة على الناس (يقصد الجمهور)، لازم نسيطر من البداية، نحاصرهم ونبث (السم ) فيهم، سم الصورة، وسم الأذن، وسم الإحساس وسم الإضاءة، والدخان .. لازم نخليهم يواجهون حالة غريبة الشكل ..".
والواقع أن هذه المهمة لن يقوم خالد الشيخ وإبراهيم › بوسعد وقاسم حداد وحدهم فحسب بل سيشاركهم في ذك يوسف القصير الذي سيضطلع " بإعداد الأشرطة المرئية المدمجة في العرض والتي ستشتغل على علاقة الوجوه بالمكان فندسها
في الأزقة والحواري حيث وتمزجها بخوخات الأبواب القديمة حينا آخر. تجعلها موطنا لتلاقي المرئي واللامرئي طورا وتستفيد من حيل وتقنيات الكمبيوتر في معالجة
أبعاد الصورة في طور آخر وهكذا.. حتى إذا ما انتهي الجميع من أدوارهم جاء دور عبد الله يوسف ليشتغل على الإخراج النهائي للعمل بوصفة عرضا يجمع : الموسيقى الأعمال التشكيلية، صوت قاسم، غناء خالد، المؤثرات الصوتية والبصرية صور الملتيميديا، الخط العربي، السموكنغ مشين، لعبة التقطيع والمنتجة، حركة الجمهور… لا شك إنها تجربة جديدة مغرية وتستحق الانتظار، يأمل القائمون عليها تقديم خل الشهور الثلاثة القادمة/ ولكنها تجربة - مع حجم الجدية التي تطرحها - بحاجة ماسة إلى دعم يكتب لها النجاح، فتسجيل الموسيقى وتجهيز الأشرطة البصرية خصوصا يحتاج إلى إمكانات أهلية ورسمية لا يبدو أن المراهنات الفردية قادرة على النهوض بأعبائها ولا شك أن تجربة تجمع أسماء : قاسم وإبراهيم بوسعد وخالد الشيخ ويوسف القصير وعبد الله يوسف حركة بما هو أكثر من التحيات العابرة.@ |