هل هي صوفية جديدة حين يستبدل الشاعر "الله" بالقضية ؟. أم هي سريالية جديدة حين يستسلم الشاعر لتداعي اللاشعور - عن وعي - كي يغوص على الحقيقة في المتاهات الباطنية اللا متناهية للنفس ؟. هل هي محطة مراجعة تأملية حرّة لجميع تجارب المرارة والنضال والبحث الماضي في شكل تهويمات طليقة من جميع التقاليد ؟.
كل هذه الأسئلة لابد أن يطرحها القارئ المتأني على نفس
ه بعد أن يفرغ من قراءة المجموعة الأخيرة للشاعر التقدمي المناضل البحراني "قاسم حداد " وخاصة حين يكون القارئ مطلعاً على تاريخ هذا الشاعر السياسي والفني السابق. وحين يتذكر أن قاسم حداد لم يكن يكتب بمثل هذا الأسلوب الغامض الشبيه بأساليب الرمزيين والسرياليين والصوفيين والمختلف عنهم في آن واحد من حيث التوجه والشفافية. ولكنه يبقى مع ذلك أسلوباً جديداً على القارئ والشاعر لابد أن يذكرنا بجميع مغامرات الرمزيين والسرياليين والصوفيين في ميدان التعبير الفني باللغة.
وأول ما يلفت النظر في صحبة هذا الكتاب الصغير أن الغلاف لا يحمل سوى عنوان المجموعة "القيامة" واسم المؤلف دون الإشارة للجنس الأدبي أهو شعر أم قصة أم تأملات.. والإشارة الوحيدة _ من هذا النوع _ ترد فقط في ختام المقطوعة الأخيرة حين نقرأ هذه العبارة التي تشبه التوقيع في نهايات الرسائل الخاصة : "الشاعر قاسم حداد _ 11 ديسمبر 78).
إذن.. فقاسم حداد كشاعر.. وما قرأناه كان شعراً.. والمجموعة كلها مكتوبة على ما يبدو في عام واحد وكأنها قصيدة واحدة ذات مقاطع وفصول.. تلك هي النتائج الأولى التي سوف يستخلصها القارئ الذي لا يعرف "قاسم حداد" من قبل ولا يداوم على قراءة الشعر. فهل صنع "قاسم" هذا عمداً ولماذا اختبأ حتى النهاية أم أن كل ذلك كان نوعاً من السهو والأخطاء الإخراجية في الطباعة ؟.
قد لا يبدو هذا التساؤل ذا أهمية لأول وهلة. ولكن قراءة مستأنية للمجموعة مصحوبة بمعرفة سابقة للشاعر تدفع حقاً إلى الاعتقاد أن "قاسم حداد" قد تعمّد أن يترك الحرية كاملة للقارئ كي يطلق بنفسه نوع الجنس الأدبي على التجربة التي طالعها. إنها تجربة شاعر على كل حال !.
ليس هذا الكتاب إذن مجموعة شعرية من الطراز الشائع أي مجموعة من القصائد المتنوعة التي تجمع تحت عنوان ما اتفاقي. وإنما هي أشبه ما تكون بقصيدة طويلة واحدة مقسومة إلى أبواب وفصول يعبر فيها الشاعر عن تجربة روحية معينة تلخص كل تجاربه السياسية والاجتماعية والفكرية. ولا بأس أن نشبهها بقصة رحلة لها بدايتها. ومحطاتها، ودروبها، ومعالمها "السياحية الخاصة" ثم نهايتها في محطة أخيرة ولكنها مفتوحة على الأفق وكأن الرحلة التي انتهت في الكتاب مستمرة في أعماق الروح والحياة إلى ما لا نهاية.
ليس الأكثر أهمية في اعتقادنا هنا أن نجيب على هذا السؤال : ماذا أراد قاسم حداد أن يقول في مجموعته الأخيرة ؟. وإنما الأكثر أهمية هو أن نعرف أو نحاول أن نعرف : كيف عبر قاسم حداد عما أراد قوله !. وإذا كانت العلاقة جدلية دائماً بين المضمون والشكل فلا شك أن أي حديث عن أحد الطرفين لابد أن يقود للحديث عن الطرف الآخر لأن هذه المجموعة تمثل إلى حد بعيد. نموذجاً فريداً لهذا الالتحام التام بين المضمون والشكل، أو بتعبير آخر عن الجدلية العميقة التأثير والتي تجعل من الصعب التحديد أيهما كان البادئ في التأثير والتوجيه، هل هو المضمون الذي فرض هذا الشكل ؟. أم هو الشكل الذي فرض هذا المضمون ؟. من البادئ فعلاً ؟. أم أن العملية تمت من خلال مواجهات متبادلة باستمرار عند كل فكرة أو صورة أو عبارة أو رؤيا معينة ".
منذ البداية يبدو العنوان لافتاً للنظر، وتزداد أهميته كمرشد لفهم جوهر الموضوع بعد فراغنا من القراءة وحين نلاحظ أن كلمة "القيامة" _ التي هي العنوان _ لم ترد أبداً لا في سياق التعبير ولا في عناوين القصائد فلا بدّ أن تميل إلى الاعتقاد أن اختيار العنوان كان مقصوداً به إطلاق تسمية جامعة قدر الإمكان لمضمون المجموعة العام. المجموعة إذن تتحدث عن قيامة من نوع خاص توحي بها المجموعة ككل، يتصور فيها الشاعر موتاً وولادة جديدة يبدأ معها من نقطة التكوّن الجديد رحلة مثيرة مدهشة يدخل فيها عوالم ليست غريبة عليه بالتأكيد _ فلقد مر بها من قبل _ ولكنه يراها الآن بكل رحابتها، ومداها البعيد، وتفاصيلها الموحية، ومغزاها الكلي العميق، وكأنه الآن فقط _ وقد قامت القيامة _ يراها لأول مرة كما يجب أن تُرى، لا كما عرفها في حياته السابقة. إنها إذن نوع من الرؤيا الجديدة التي يراجع بها الإنسان في خلوة عميقة مع نفسه كل تجاربه القديمة كي يُسقط منها كل ما هو عارض ومؤقت وزائل، ويبقى كل ما هو جوهري أصيل كما يصنع المؤمن المتعبد المنقطع للعبادة حين يريد النفاذ عبر الظواهر الكثيرة المختلفة المحيرة إلى الجوهر الواحد الأصيل الذي يجمع فيه كل شيء. وكما يفتش هذا الراهب الناسك عن "الله" في أعماق نفسه وفي أعماق الأشياء المحيطة به يصنع الشاعر هنا وهو يبحث عن "الشيء الحلو" مدفوعاً بالفضّة البيضاء والريش الناعم الطائر.
ثمة إذن هنا رؤيا مكثفة للعالم كلّه يحاول الشاعر أن يدخل عبرها إلى هذا العالم ثلاث مرات : دخول أول يتحد فيه بالهواء ثم بالنار والتراب والماء كعناصر ضرورية لتكوين مخلوق مطهر، صلب، شجاع، نفّاذ البصيرة.
ثم يدخل دخولاً ثانياً في فصل جديد كي يمر أمام كل المرايا الممكنة التي سوف تعكس له صور الحقيقة الخالصة المفزعة حيناً، والمفرحة حيناً. الغامضة أحياناً، والواضحة أحيانا،ً أخرى بدءاً من "مرآة قهوة الدم" _ كما يسمّيها _ إلى "مرآة التأسيس" حيث نرى الشاعر ينمو ويتكامل ويتعرّض لمواجهات خطيرة ولكنها ضرورية بادئاً من مرحلة التناول حيث نراه يشرب الجرعات الأولى من ماء البشر إلى الرقص الجماعي إلى تحديد انتمائه الطبقي إلى الاندغام التام بثورة الشرفاء المضطهدين المحرومين.
هنا يبدو الشاعر وكأنما بلغ مرحلة الاكتمال والنضج وعندها يبدأ "دخوله الثالث" في الفصل الأخير من المجموعة كي يستعرض مشاهداته المثيرة _ التي تؤكد اكتمال نضجه _ منقاداً دائماً لهاجس "الفضة البيضاء" دليله الأساسي يوم القيامة هذا، ومحمولاً على الريش الناعم الطائر بدءاً من اقتحام مأدبة المتوحشين الذين يأكلون لحم الأطفال إلى مشاهد الطوفان الذي يقشط وجه الأرض لينظّفها إلى الالتحام الأخير بما يمكن تسميته "الحضرة" في لغة الصوفيين حين نرى ولادة الإله الحقيقي في مرآة البشر.
هذا الموضوع الفسيح الكبير إذن هو الذي دفع الشاعر في اعتقادنا إلى اختيار شكله الجديد المتميز _ كما قلنا _ بطابع أساليب الصوفية الرمزي والسريالي أحياناً =لك أن الإحاطة بمثل هذا المضمون الرحيب غير ممكنة إلا بهذا الشكل. فالمفردات مثلاً يجب أن تكون طلقة موزعة باضطراب مقصود وذات دلالات متعددة الإيحاء سواء من خلال استخدام الأفعال أو الأسماء أو الأدوات المساعدة الأخرى كقوله :
ولا أذكر أني كنتُ
ولا أذكر أني
لا أذكر
لا.. "
فالجملة الأولى نراها هنا وهي تتكرر تغيب وتتناقص انسجاماً مع الحالة النفسية التي تتلبس كل إنسان وهو يواجه رؤية غائمة من هذا النوع فيكاد يصاب بالدوار والضياع المصحوب بالنشوة اللا نهائية. أو حين يقول _ على سبيل المثال _ لا على سبيل الحصر _ في "مرآة ماء اللوتس " :
" فتحتُ القلبَ
فطارت أسراب اللوتس
تحمل حباً لرجال في الغيبِ
نهدتُ
أريدُ، وكدت، تذكرتُ.."
فصورة أسراب اللوتس المتطايرة توازي في دلالاتها المتعددة احتمالات الأفعال التي سوف تأتي بعد قليل من دون حروف عطف لتؤكد خاصة تتميز بنوع من الضبابية وإن كانت مصحوبة دائماً بلذة الكشف المتواصلة.. وهنا لا يهم كثيراً أن يحاول القارئ تحديد المعنى الذي ترمي إليه صورة "أسراب اللوتس" ولا الأفعال المتقطعة.. فقد تكون رمزاً بسيطاً لدور الماء كعنصر أساسي في تكوّن صاحب التجربة أو في التجربة نفسها على اعتبار أن "اللوتس" نبات ينمو في الماء فقط حيث يتحدّ ماء الرؤية "الأرض أو اللوتس" بالماء الثاني كما يأتي بعد قليل ""ألتف، وأفتح قلبي، فيمد الشيء الحلو يديه، ويقرؤني، ويعلمني، سأريك الماء الثاني في القلب، أريك الحب.. الخ"..
وبما أن المضمون تجربة تصوير مكثّفه إلى أبعد حدود الكثافة لتجربة روحية كثيرة الأبعاد كان لابد أن يكون التعبير مكثفاً ومرمزاً وليس له نهايات محددة مثل أي تعبير ينتهي بنقطة حين يعبر عن شيء مادي ملموس محدّد. ولعل هذا هو السبب في أن التراكيب اللغوية عامة كانت تتألف من جمل غير منتهية قصيرة ورموز متواصلة كثيرة متنوعة ولكن يترأسها باستمرار ثلاثة رموز أساسية هي : "الفضة" و"الريش" و"الشيء الحلو".. والسياق هو الذي سوف يقودنا إلى أن نفهم الدلالات المحتملة المنسجمة مع التوجه الفكري والنفسي العام حيث تبدو "الفضة" موجودة باستمرار لتؤكد جو النقاء والأصالة وحيث يبدو "الريش" حاضراً باستمرار ليخلق جو النعومة والخفة والليونة وحيث يبدو "الشيء الحلو" هو الهدف الأسمى الذي يقودنا باستمرار إليه.
ليست هذه دراسة معمقة لهذه المجموعة الشعرية _ إنها ليست أكثر مراجعة كما يقولون _ ولهذا السبب يبدو الحديث مهما طال غير كافٍ ذلك أن الكتاب يطرح أكثر من قضية سواء في الشكل أم في المضمون..
غير أنه لا يسعني في ختام الحديث سوى أن أطرح هذا التساؤل : ما هي الدوافع النفسية الدفينة _ ولا أقوال الفنية _ إذ لابد من وجود دوافع نفسيه، التي دفعت شاعراً تقدّمياً مناضلاً متواصلاً مع الجماهير باستمرار إلى اختيار تجربة من هذا النوع وأشكال تعبيرية لا يمكن القول أبداً أنها تحقق تواصلاً حياً مع جماهير القراء وخاصة الجماهير التي يهم،أمرها الشاعر.. هل حدث ذلك بسبب المدة الطويلة التي قضاها الشاعر في السجن وفرصة المعاناة الخاصة التي تتيحها العزلة والوحشة والانطواء على الذات..
إن الشاعر بالتأكيد لم يبتعد عن الجماهير ومن يقرؤه بأمان يفهمه ويلمس روحه وينفعل بموهبته وحرارته، ولكن السؤال يبقى دائماً.. كيف تطور شاعر القضية الاجتماعية العادلة الأولى والأنبل مثل هذا التطور _ والذي يبقى علامة من علامات النضج عل كل حال _ الذي تستهويه مهارة الصعوبة والغموض أكثر مما تستهويه مهارة البساطة على حد تعبير "محمود درويش" الذي قاله ذات يوم في "جريدة السفير ".
ترى.. هل السر هو القضية نفسها أم في حامل القضية.. أم في الاثنين معاً ؟ .. |