عن الشاعر وتجـربته

نص على نص / نص على عالم الأزمنة الأولى، الأزمنة الأخيرة

(1)

في أزمنة أولى، في مكان ما من التاريخ، كان ثمة حلم، كان ثمة عالم يملأه التناغم، وتتلاقى فيه الألوان في تشكيل سيمفوني آسر، وتنسرب إلى خلاياه الكلمات قناديل ربيعية لامعة تضيء مساحة الخطة الأولى وتكشف مدى الطريق لخطوات مقبلة. وكانت الخطوة واثقة، قوية، تبتكر الدرب، وترسم ملامح الآتي بيقين.

في أزمنة أولى، (في مكان ما من الذاكرة)، كان ثمة عالم يتجلى : ينبثق في رؤيا صافية لها نصاعة المرآة الصقيلة تمرئي قسمات الوجه النقي بتأمل، بغبطة البشارة الأكيدة، أيامه الجميلة الآتية.

في أزمنة أولى كانت ثمة شيء اسمه "الحلم العربي"، وكان لهذا الشيء _ الحلم لغته العذبة المليئة مثل ثمار ناضجة، وإيقاعه المتموج الرقراق، مثل جدول جبلي صاف ؛ كما كان له لغته الهادرة المتفجرة، وإيقاعه المخترق النافذ ؛ لكنها في كلا البعدين كانت له صوره المضيئة كألق بروق خفية تنشر لمعانها الموحد في رحابة الجسد النابض بالعافية _ جسد النص القصيدة، أو جسد العالم الذي تولد فيه القصيدة.

ثم انكسرت المرآة،
المرآة ؟؟؟
لا
بل لقد انكسر العالم

(2)

ولذلك تهشمت المرآة، فتناثرت شظايا رملية فوق مساحة واسعة كالفجيعة لا تطاق. وجاءت أزمنة أخيرة، مضرجة بأشلاء الحلم العربي، معفرة بفتات اللحم الذي جف وتيبس في العراء، فصار قطعاً كبعر آرام امرئ القيس تتناثر فوق الأطلال حب حنظل تلقفه اليد لأنها في جوعها وفجيعة خيبتها أصبحت ذاهلة لا تميز بين البعر والحنظل.

في أزمنة أولى (في مكان ما من الذاكرة) كان ثمة حلم. بل كانت ثمة رؤيا مستقبل مضيء، عناها شاعر وشاعر غناء اليقين الذي لا مراء فيه.
ها هو ذا أدونيس يغنيها بوثوقية لا يعلو عليها حتى إيمان المتصوف العارف بصفاء وجه ربه.
"فينيق، تلك لحظة انبعاثك الجديد، صار شبه الرماد صار شرراً أو لهباً كواكبياً.
والربيع دبّ في الجذور، في الثرى، أزاح رمل أمسنا _ العجوز والثلاثة، الركام والفراغ والدجى.

ولقد غناها أدونيس بيقين من يعاين الواقع ويرى فيه قوى الثورة والإخلاص والتضحية والبذل، القوى التي تفجر الأرض الموات وتبدع العالم الجديد : أرض الخصب والعطاء والبراعم والجمال، غناها بفرح العزيمة التي تعرف انها قادرة على الخلق، فياضة بطاقة الإبداع والإنجاز.

" بلى في بلادي أنا ثورة
تنور أزهارها
ويهدر إعصارها
وفيها دم ثائر
يعمّر دنيا ويهدم دنيا
على كبره تستفيق الحياة
وفي دفعة تتعالى وتحيا.
بلى في بلادي إنا خالقون.
وساع كآفاتها الواسعة
نقيّون كالشمس في عريها
فتيّون كالأنجم الطالعة
هنا دفقوا دمهم في الزمان
هنا اختصروا عمرهم في ثواني
هنا ملأوا كل شيء حنينا
هنا ملأوا كل شيء يقينا
ولم يبق في شعبنا فراغ
ولم يبق في أرضنا فراغ
وها في بلادي، بلاد الفراغ،
يموت الفراغ.
صغار بلادي
يقولون " في أرضنا ثورة
تبدع من أول
حياة الغد المقبل
وتفتح أجفاننا
على الزمن الأجمل.

وها هو ذا خليل حاوي أيضاً يغنيها كأدونيس، في قصيدة تعبق بإيقاع التناغم ولغة الاكتمال والأثمار، وصور الفيض الداخلي لروح مولهة ملء عروق لغة تعشقها وعالم تتعبده، في طقوس الغبطة الراقصة للولادة الجديدة. لقد رأى خليل حاوي وغنى :

"رؤيا يقين الحنين واللمس
وليس خبراً يحدو به الرواة "

ولقد كانت الرؤيا وليدة عذابات التاريخ، وليدة الاستنقاع والموت والانحلال والمعاناة واختمار الجراح والتوق الخلاق إلى الخصب الغامر المجدد. ولذلك كانت رؤيا صافية خالصة النقاء :

"في شاطئ من جزر الصقيع
كنت أرى فيما يرى المبنّج الصريع
صحراء كلس مالح، بوار
تموج بالثلج وبالزهر وبالثمار
داري التي تحطمت
تنهض من أنقاضها
تختلج الأخشاب
تلتم وتحيا قبة خضراء كالربيع ".

ولقد رأى خليل حاوي، عبر هذا العالم البوار، جلجلة الولادة النقية وبراعم الفجر الجديد :

"واليوم، والرؤيا تغني في دمي برعشة الرق وصحو الصباح
وفطرة الطير التي تشتم
ما في نية الغابات والرياح
تحس ما في رحم الفصل
تراه قبل أن يولد في الفصول
تفور الرؤيا، وماذا،
سوف تأتي ساعة،
أقول ما أقول :
"تحتل عيني مروج، مدخنات
إله بعضه بعل خصيب
بعضه جبار فحم ونار
مليون دار مثل داري ودار
تزهو بأطفال غصون الكرم
والزيتون، جمر الربيع
غب ليالي الصقيع
يحتل عيني رواق شمخت
أضلاعه وانعقدت عقد
زنود تبتنيه، تبتني الملحمة
ومن غنى تربتنا تستنبت
البلور والرخام
تكدس البلور من رؤيا عيون
ضوّات واحترقت في حلك الظلام
وفرخت أعمدة الرخام
من طينة الأقبية المعتمة
تلك التي مصت سيول الدمع
مصت ربوات
من طحين اللحم والعظام
واختمرت لألف عام أسود وعام
فكيف لا يفرح منها ناصع الرخام
أعمدة تنمو ويعلوها رواق أخضر
صلب بوجه الريح والثلوج
المحور الهادئ والبرج الذي
يصمد في دوامة تبتلع البروج.

* * *

رؤيا يقين العين واللمس
وليس خبراً يحدو به الرواة

* * *

ما كان لي أن أحتفي
بالشمس لو لم أركم تغتسلون
الصبح في النيل وفي الأردن والفرات
من دفعة الخطيئة
وكل جسم ربوة تجوهرت في الشمس
ظل طيب. بحيرة بريئة.
عدت إليكم شاعراً في فمه بشارة
يقول ما يقول
بفطرة تحس ما في رحم الفصل
تراه قبل أن يولد في الفصول ".

هكذا اكتملت الرؤيا : بريئة، خصبة، زاهية، وخلّفت وراءها كل عفن الأمس وجميع القوى التي ولدته، خلفتها عقيمة، غير قادرة على التكاثر، لا نسل لها في هذه الأرض الجميلة :

"أما التماسيح مضوا عن أرضنا
وفار فيهم بحرنا وغار
وخلّفوا بعض بقايا
سلخت جلودهم
ما نبتت مطرحها جلود
حاضر هم في عفن الأمس الذي
ولّى ولن يعود
أسماؤهم تحرقها الرؤيا بعين
دخاناً ما لها وجود ".

لكن : هل حقاً ولّت أسماؤهم التي أحرقتها الرؤيا ؟ هل سُلخت جلودهم فاندثرت ولم تنبت مطرحها جلود ؟ أوّاه، يا أنت، يا خليل : أيها الروح التي لوعتها المأساة وفجيعة إجهاض الرؤيا لقد رحت أنت، وظلت التماسيح. انحل جلدك الأسمر الداكن الذي لوحته بنقائها شمس الجبال، ويداك اللتان طالما حدثتني عن تشقيق شظف الحجارة الزرقاء لهما حين كنت تنحت الحجارة لتبني البيوت الصخرية في الجبال، ولتؤسس على الصخر ما كنت تظنه سيبقى. انحلّ جلدك الذي لوحته بنقائها الشمس، دون أن ينبت مكانه جلداً طرياً جميلاً نقياً. وجلودهم هم هي التي بقيت، جلودهم بقيت وأنبتت مطرحها ملايين الجلود التي تسعى في الأرض كالنمال من الماء إلى الماء، من الحافة إلى الحافة.

هكذا كان ما رأيت خديعة ووهماً يغشيهما التمني وحمّى صرعة التوق إلى الولادة، لكن لما تكن ولادة. وها هو ذا وريث لك، في سلالة الكلمة، لا يرى التماسيح وجلودهم فقط، بل يرى الجثث والبغال.

إن قاسم حداد ينوح لأن الأطفال الذين يراهم ليسوا الأطفال الذين رأيتهم أنت في أرض الرؤيا التي "تزهو بأطفال غصون الكرم والزيتون، جمر الربيع "، بل إنهم أطفال "يتذكرون المستقبل قبراً قبراً"، ذلك أن مستقبلهم، كماضيهم تماماً، زمن "جذوره في الكهوف "، يؤرخ لهزائم الحروب ".

(3)

في أزمنة أولى، في مكان ما من التاريخ، كان ثمة حلم، وكانت ثمة رؤيا. في أزمنة أخيرة، تقصف حلم العربي ضربته ريح صر صر عاتية، فغدا قرية خاوية مقوض كل شيء فيها ؟ سوى عروشها، ويباباً تتقاذفه الريح، وتخش فيه أصواتها كخشيش أقدام فئران يابسة تتراكض في هشيم جاف.

بين رؤيا خليل حاوي ويقين أدونيس، وبين اللحظة الحاضرة، ثمة ثلاثة عقود فقط، ما الذي ضرب العربي في ثلاثة عقود، فتقصفت في حياته الرؤى ؟.

بين رؤيا خليل حاوي، وإيقاعها الغني، وثراء إيقاع أدونيس الصارم وعظمة إيمانه بالغد الأجمل، وبين اللحظة الحاضرة، ثلاثة عقود فقط.

فما الذي كسر الإيقاع، وحطم التناغم، وأفسد بشارة المستقبل الذي كان "رؤيا يقين " تراها العين كما ترى نفسها، مطمئنة واثقة، في غدير ماء رائق، أو مرآة صقيلة نقية ؟
بين رؤيا خليل حاوي وعزيمة أدونيس، وبين الشعر الذي يكتبه الآن قاسم حداد وعشرون شاعراً كقاسم حداد، ما بين الأزمنة الأولى والأزمنة الأخيرة للعربي.

في شعر قاسم حداد، في آخر ما كتبه من فجائع، تنقلب البشارة إلى ما يلي :

" البغال تجر الجثث
على مهل
بينما يتهشم الموت في مرآة الفرسان.
ثمة أطفال يخشون القذائف
ويسألون القتلى عن الطريق
لكن البغال تحمحم، وتمضي مقتحمة الغبار
وأحياناً، حين تنهمر النيازك، تسدل أهدابها
وتهرول في نشيج النهر، وفي أنفاس الغابة،
على التلال الرصاصية تنثر
الجثث المضيئة
ثم تنحدر في هاوية دليلها هتاف شعب
مأخوذ باليأس
على مهل
ينحسر الفرسان وتنكسر المرآة ".
تنكسر المرآة ؟
بل كما قلت سابقاً،
يتكسر العالم.

ينكسر زمن العربي المحتشد بالوعد، باليقين، بالعزيمة، والحلم، والرؤيا المتحققة، ويتفتت كل شيء، يصبح قاموس الزمن العربي "التفتت". تنكسر "الرؤيا" "لتهجم الرؤية".

(4)

وإنها لرؤية مرعبة.
كان خليل حاوي وأدونيس يغنيان "رؤيا" رأياها يقيناً. كانا يغنيان طاقة إبداع، وعزيمة على الفعل، وصموداً في الصراع، وصلابة جيل، وتماسك زمن ؛ وكانا يغنيان إيماناً عميقاً بأن التاريخ الأسود انتهى وتفجرت من مراراته وموته قوى الحيوية والتجدد والوعد بالمستقبل. لكن "الرؤيا" بخرت وانكشفت عن "رؤية" فاجعة.

إن قاسم حداد "يرى"، الآن، لا كما رأى خليل حاوي "رؤيا" في حلم : بل انه ليرى رؤية العين، تماماً كما أرى أنا الآن، بيقين مطلق، ما يشبه الدم يكاد يقطر من هذا القلم الأسود على هذه الورقة التي عليها أكتب رؤيته ورؤيتي.

وها هو ذا ما يراه، بل ما نراه معاً في مكانين مختلفين من هذا العالم المتفتت بين الماء والماء، بين الحافة والحافة : "البغال تجر الجثث على مهل".

وأطفال يخشون القذائف ويسألون القتلى عن الطريق".
إنه لعالم مرعب ما يراه : الأطفال يخشون القذائف، ويجهلون الطريق فيسألون القتلى : والنيازك تنثر على التلال الرصاصية الجثث المضيئة.

وشعب مأخوذ باليأس.
والفرسان ينحسرون.. والمرآة تنكسر
وينكسر العالم

بل إن الفجيعة لأعظم : إذ ينكسر العالم والمرآة فينكسر الرائي. تنكسر عينا قاسم حداد، وعيناي، مصعوقة بالرؤية الفاجعة المدمرة، بالتفتت الآله.

(5)

هكذا لم يبق من العربي سوى الرعب : بعره الآن ليس بعر آرام امرئ القيس المتناثر في الأطلال، بل الجثث المتناثرة على التلال الرصاصية ؛ وعبوره ليس رحلة نحو الحياة، بل انحدار في هاوية دليلها هتاف شعب مأخوذ باليأس ؛ شعب كان له فرسانه، لكنهم أصبحوا جثثاً مضيئة.

وراحلته ليست ناقته الجميلة، بل البغال التي تجر الجثث.
وهو ليس صاحب أفراس تحمحم مقتحمة الوغى
بل صاحب أبغالٍ تمضي مقتحمة الغبار
ومرآة العربي
تنكسر
وفرسانه
ينحسرون

وهو يستسلم لجذوره الأولى. يلتفت على نفسه ويدخل هويته الحقيقية، الرعب :

عرب = رعب ؛ إن جذور "عرب" وجذر "رعب" لجذر واحد هنا يتأصلان معاً.

(6)

أي عالم مرعب يعيش فيه العربي ؟.
_ 7 _
إن قاسم حداد ليدرك بحدس بريء شرط وجود العربي، دون أن يلعب لعبة الاشتقاق التي لعبتها أنا الآن، لأن الرعب في مكنون لا وعي العربي ؛ لذلك يقول أيضاً :

"لم تزل لأشجارنا طبيعة الوحش
لم تزل شريعة الرعب فينا"
فالرعب ليس شعوراً فقط، بل إنه فينا لشريعة.
وإن قاسم حداد ليرى، رؤية العين، نقيض رؤيا حاوي. لقد غنى حاوي :
"أمماً تنفض عنها عفن التاريخ
واللعنة، والغيب الحزين"
"من ضفاف الكنج للأردن للنيل
تغني وتعيد
أنت يا تموز يا شمس الحصيد"
أما حداد فيعلن :
"عندما خرقة تستر الخريطة
لا يكاد العار يكفي
لكل هذه الدول العارية "
وإن قاسم حداد يرى رؤية العين، لا رؤيا الوهم المتواطئ المدلس :
"رأيته يلهج بالبيارق
جذوره في كهوف الكتب
يداه مكنونتان بغدر التوقع.
يؤرخ لهزائم الحروب ويتذكر المستقبل قبراً قبراً ".

المستقبل قبراً قبراً : هذا هو مستقبلنا. لكم كان سعيداً خليل حاوي، وجيل خليل حاوي، وهو يرى "رؤيا يقين "، يملأها مستقبل المصانع التي تبني والأجساد التي اغتسلت من الخطيئة وتجوهرت في الشمس.

أما نحن، هذا الجيل الملعون فإننا "نتذكر المستقبل قبراً قبراً" تماماً كان نحصي الماضي قبراً قبراً، وكهفاً كهفاً، ورأساً محتزاً رأساً محتزاً، وزنزانة سوداء زنزانة سوداء، وجولان جولان، وغزة غزة، وضفة ضفة، وقدساً قدساً، وقصراً ذهبياً قصراً ذهبياً، وهيمة سوداء خيمة سوداء.

وهذه البلاد التي رآها أدونيس، ها هو ذا حداد يراها :

"سألتك في حدود المنازعات
بين جيل يمحو الغيوم ورمال تحمي البحر من يقظته
سألتك
كل يوم في حرس وراية ونشيد
في دولٍ تشبه القرى المنسيّة
كأنها تكبت الكارثة وتقتسم الشوارع
تهابك الممالك وينشدك العبيد
سألتك في شعب من الحفاة يذرعون
الخرائط
يبحثون عنك مثلي
هل أنت موجودة في مكان ؟".

آه، يا أنت يا قاسم : ويل عينيك الغوريتين، أما زلت تسأل هل هي موجودة في مكان،وأنا وأنت نعرف معرفة الصوفي لصفاء وجه ربه أنها وهم توق ابتكرناه، ورقصنا حوله عراة تسيل دماؤنا، لنؤاخيه، في دمه، ثم اكتشفنا ألف مرة أنه - أنها قش خشخاش سقط من أوهامنا إلى الرمل ؟ آه، يا أنت يا قاسم. تسأل، والشظايا تتناثر مخترقة شغاف القلب، والتفتت إله الأرض الجديد ؟ لك المغفرة ! فلا يسأل هكذا سوى العاشق المولّه، وهو يندب جثة الحبيب مقطعة الأوصال. وإننا، أنت وأنا، لهكذا عاشقان.

لكن،
هل نبكي
هل
نندب "الرؤية" ؟ هل ننوح على بعر الأطلال ؟
لا.
بل،

ليكن الانهيار أكثر عمقاً، ولنحفر تحت الحجر الركن، فيتقوّض المنخور.
هكذا يلحُّ قاسم حداد :

"دعوة بلا رأفة
خلوة ينهار وحيداً هذا الهيكل المكابر ضحية التركات لتتهاوى أفاريزه العاجية تحت سنابك العاصفة وبهجة النار.
لنرى مكابدته الأخيرة وهو يهذي ولتكن تلك القبة التي تستل بريقها من ضراعة السماء

وتبجح الأعالي أقداماً لوحل الأزقة
وناقوساً في لهو القطيع
بلا رأفة هذا الهيكل
لانهياره لهداة السفوح
والمستنقعات
ليس لهيكل جديد
لكن لهندسة الطبيعة وهندسة الفضاء ".

ذلك أنه إذا لم يكتمل الانهيار، فتتفتت حتى حجارة الهيكل واحداً واحداً، بعد أن تتقوض حيطانه، وتسقط رؤوس سدنته، وتتهشم أوصالها وأصنامها العظيمة، وتعم غبطة النار وبهجتها الأرض، لن تكون ولادة نقية، تفيض من حرية الفضاء وحرية الحب وحرية البحث وحرية الركض وحرية فيض الطبيعة والروح، وتغمر الأرض عطاء وخصباً ويقيناً بقدسية الحياة وتفجرها البدائي الذي يرفض كل الهياكل.

خلوه، إذن، خلوه. ينهار هذا الهيكل النحاسي الفارغ الذي يجثم على القلب، ينشب مخالب كتبه وكهوفه وسطوره المذهبة في لحم العروق.

لكن، يا أنت، ما الذي تراه هناك، في البعيد، في الغور ؟
يسأل، هذا الذي رأى كل شيء
رأى العربي في أزمنته الأولى،
وفي أزمنته الأخيرة
بل رأى الزمن العربي
فلم يرَ شيئاً.
* "ترى بعر الارائم في عرصانها
وقيعانها كأنه حب فلفل
كأني غداة البين لما تحملوا
لدى سمرات الحي ناقف حنظل"

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى