كمال ابوديب
خرج قاسم حداد من أزقَّة (المحرَّق) التي يكوي ذبولُ منحنياتها حبةَ القلب، ويغمر الروحَ بنكهةِ مرارة الفقر والحرمان، مسلَّحاً بلهفة الكشف، ونشوة الريادة، وبوعدٍ مبهمٍ بالوصول، متلعثماً بالكلمات، مضطربَ الدم، مخلخَلاً بلواعج القلق، ثم بلغ بعد لأيِ السنين أن يعتليَ منابرَ الشعر في العالم : من (المنامة) إلى أقاصي القارات، ومن جمهرةِ صحبٍ يهجهجون بنشوة البدايات في ديمون بلكنة بحرينية دافئة، إلى متاهة الذين يرطنون بلغات بابل المبلبلة كلها، لكنهم يفقهون لغةَ القلب، ورقرقات شاعرٍ يفتتح دروباً لها لدونةُ البكارات، ولزوجةُ الدم القاني على شفاهٍ تتشقق لانسحاقات الإنسان وانكسار أحلامه. لم يزل أمامه طموحٌ واحد ممكنٌ : أن يبلغ هذا الشعرُ - على يديه وأيدي أقرانه وأترابه وخلفه - فضاءَ المجرَّات.
شاعرٌ يختصر زخمَ الحياة العربية - في زمن الخصب والفيض - وتألقَها ونزوعاتها إلى الإبداع والحرية والكرامة والتحرر والتحرير ثم إلى انهياراتها وتشظِّيها وبراحها وإحباطاتها على مدى نصف قرن هو الألمعيُّ في تاريخها الحديث (لئن كان لها تاريخٌ حديث) والأعمقُ مأساويةً وقهراً واضطهاداً وتواطؤاً مع الخارجيِّ والمستعمِر والمنشقِّ والدخيل. ويكتب تاريخاً بلغة الدم : من مغامرة التمرد والرفض والثورة، عبر السجن والصمت والكبت، إلى منكسرات الإشاحة عن الأسئلة الكبرى، والانكبابِ على هموم الذات الصريعة فردةً متوحشةً منطويةً على صراخها الزمهرير، ثم إلى التغني بما في منابع الوحدة والتوحش من ثراء وبهاء ورواء ومن براح وقهر ونزيف.
واحدٌ من كوكبةٍ صنعتْ للشعر العربي مجداً يضاهي مجدَ تاريخه العريق، بل إنه ليربو عليه من حيث أنه أدخل الشعرَ العربي في فضاء شعر العالم في لحظة إنتاجه ذاتها، لا بعد قرون من اللأي ومرارة الانتظار.
قاسم حداد واحدٌ من أعمقَ شعراء زمنه إنسانيةً، وأعنفَهم طفولةً، وأشدَّهم براءةً، وأحزنهم منادبَ، وأكثرَهم افتتاناً بأسرارية الوجود، وغياهب الروح. ومن بين شعراء جيله، إنه الأكثرُ تغلغلاً في شعر من يليه، والأقدرُ على الديمومة لينحلَّ في التيار الرئيسي المكوِّن لتاريخٍ مستقبليٍّ للشعر العربي تتألق فيه متاهاتُ حداثةٍ سُفِحَتْ على مذابحها القرابينُ، وينضوي إلى جانب الباقين من نجومه في نهر البقاء الذي يصنع عادةً ذاكرةَ الثقافة، ومكنوناتِ الأمَّة، ومكامنَ نزوعها التي تعصى على الفناء، ما لم تفنَ هي وتعصفْ بها ريحُ الذراذير. إنه لجميلٌ حتى الإيلام، هذه المحارةَ التي نضجتْ في قيعان بحر البحرين، والصاخبةَ بأكثر الدرر صفاءً ونقاء.
لشعره لظى سعيرٍ في صحارى بلا نسيمٍ حين يكتب عن الحرية، وعن صراع الإنسان من أجل نعمة الكرامة، ونبلِ المصير، وعزَّةِ الوطن، وكفاحِ المستعبَدين والمضطهَدين والمشرَّدين.
ولسبكه اللغويِّ نعومةُ أهدابٍ رخيَّةٍ طِوالٍ، فوق عينين سفّاكتين لبدويةٍ ترفلُ في مُقصَّبات اليمن وتتقلد لآلئَ البحرين، مسبكرَّةً على مشارف فضاءٍ رحبٍ عند أبواب خيمتها المشرعات.
له صلابةُ الحجر، ورهافةُ اللهفة في عينيّ صبيةٍ عاشقة ترنو إلى قامة حبيبٍ يرحل في غياهب المسافات. لعينيه حدَّةُ النسر في الأعالي، ورقةُ الكناريِّ يغني لبشائر ربيعٍ آتٍ. يَرى ما لا يُرى، ويقول ما لا يقال. وحين يصمت يكون لصمته رعشةُ الرعد المكفهرِّ في قممٍ شامخات.
لغته وهجُ شراسةٍ تطعن وترقى إلى مسافح الروح، وتعربدُ في منبجسات الدم من الشرايين الأخيرة في فضاء القلب. لا تهادنُ ولا تحاشي، لا تؤالِف ولا تدجّن، لا تعنو ولا ترائي.
إنه الشيءُ ونقيضُه: صانعٌ يذوب فطريَّةً، ونحّاتٌ لا يعرف الأزاميلَ، وناظمُ دررٍ لم تمسَّ أناملُه مرةً خيطاً. بلى، إنه الشاعرُ الذي بنى قبرَه وهو في نضارة العمر، لكنه لم يَلِجِ الأعماقَ، بل انتصب واقفاً شاهدةً على قبره، يملأ بصراخه العالَمَ، ويخمِّشُ سكونَ صمته.@
جاسم حداد
يستاهل جايزة العويس
الشاعر جاسم حداد
جاسم منجم من أخلاق
كاف عاف، عن كل ما يشين صاد
مبدع أمثاله اشويه
خارج أو داخل البلاد
إنسان الناس تقدره
وتحبه حب كله وداد
شاعر تفخر به البحرين
يوم أنجبته والله راد
اسمه باقي طول لسنين
خالد على طول الآماد
الله يحفظه وينجبه
من شر عيون الحساد
جريدة (الأيام) 4 ديسمبر 2001
مهرجان الأيام الثقافي، يصادف فوز الشاعر قاسم حداد بجائزة سلطان العويس وتختتم السنة لى ه ه 2 بحدثين ثقافيين إضافة الى أحداث السنة كاملة والتي رصدناها في حصاد سنوي اعتدنا ان نقدمه قي كتاب للقراء والمهتمين بالشأن الثقافي. وفي الطريق قبل نهاية العام أيضا أحداث ثقافية سوف تكون مضافة للحصاد منها معرض الفنون التشكيلية السنوي الذي يقام في ديسمبر وفعاليات أخرى نأمل ان تكون في مستوى الحصاد السنوي لعامنا الحالي. الحدث الثقافي الذي وقفنا عنده هو فوز الشاعر قاسم حداد بجائزة سلطان العويس وهو فوز وان تأخر بعض الشيء كون الشاعر قاسم واحدا من رموز الشعر العربي وكون تجربته غزيرة بالعطاء والتميز وكونه استحق هذه الجائزة منذ وقت طويل لكنها تأتي لتكرس رمزيته على الساحة المحلية وحضوره على الساحة العربية ولا نملك إلا أن نعتز بهذا الفوز الذي نعتبره حدث العام محليا. ما أتوقعه وأتمنى أن يترسخ في الساحة ان يكون هذا الحدث تحريضا على الخروج من حالة الركود والانفتاح على الإبداع وعلى تكريس فوز قاسم كمرحلة جديدة في التعاطي مع المناخات الثقافية والإبداعية. تهنئة لقاسم على هذا الفوز والحضور الإبداعي والذي أفرز هذا التتويج بجائزة سلطان العويس ونأمل ان تكون بقية مؤسساتنا الثقافية خاصة منها الخليجية كجائزة سعاد الصباح والبابطين لهما حضور خليجي بدلا من اهتماميهما بما يسمى المراكز الثقافية!
جردة (الايام) البحرين
قليلون هم المبدعون في أي وطن، والأقل هم المتميزون فيهم. وإذا كان مستوى الحضارة في أي بلد يتحدد من خلال ما تصل إليه المرأة من نيل حقوقها وكرامتها، ومستوى ما حققته من تطور، فان الصحيح ايضا أن الإبداع المتميز هو عنوان ووجه حضارة، وسمة تطورها الثقافي والفكري، وكينونتها الناصعة التي لا مراء فيها ولا نفاق. لذلك تجتهد الكثير من الدول المتقدمة والحضارية لإعطاء مبدعيها و مثقفيها ومفكريها، إدراكا منها أن الركيزة الاقوى لبناء حضارتها وتقدمها ووعيها وهويتها وبها تدفع جهود هؤلاء الإبداعية والفكرية، لتأخذ مجالاتها الاوسع فاتحة أمامهم الآفاق، ومزيلة اغلب العراقيل التي تعوق عملهم وجهودهم، مما يدفع تلك الدول الى العناية المعنوية والمادية بمبدعيها، لكي يتفرغ هؤلاء لرسم الصورة الثقافية والحضارية والإبداعية، التي تضع أي دولة في قلب كل الحضارة البشرية المتواصلة. تلك الدول ذات النظرة العميقة لمفهوم الثقافة والإبداع والفكر تدرك جيد أن مبدعيها ومثقفيها هم سفراؤها الحقيقيون للعالم كله. وسفراء الإبداع والثقافة يقومون بمهام أكبثر وأصعب بكثير عادة من سفراء الوظيفة رغم أهميتهم الدبلوماسية وتقديرنا لهم ولدورهم. ء؟
أقول ذلك وأنا استرجع لحظة السعادة بحصول شاعرنا البحريني "قاسم حداد" على جائزة العويس. وهي مشاعر أحسها مع حصول مواهبنا الإبداعية على التقدير. ولعل سر تلك السعادة هو تجسد إيماني العميق بدور الابداع الثقافي، وبتميز الابداع البحريني وحصوله على التقدير الذي يليق به من خلال تميز مبدعيه الحقيقيين رغم ما عانوه ويعانونه باستمرار في وتاريخهم الشخصي يشهد بذلك منذ عقود عديدة ولكنه يؤكد الانتصار للإبداع، رغم كل المعوقات والصعوبات التي يعيشها أغلب مبدعينا هؤلاء، والسعادة ايضا أن "قاسم حداد" هو وقلة من المبدعين يمثلون اليوم معا صوت حضارتنا، وهجس إنساننا، وعمق الوعي برسم المشهد الثقافي في بلدنا، مما يمثل حركتنا الأدبية والثقافية في أعمق صورها- ، ثم انه ايضا الشاعر الذي تجاسر منذ وقت طويل وألغى كل مواعيد قتله وأنا على يقين بأنه ينظر الى الجائزة باعتبارها جائزة للابداع البحريني المتجدد دوما، الذي تجاسر مثله وألغى كل مواعيد قتله، وتصالب سموقا كنخيل بلادنا. هذا الإبداع البحريني الذي تدرج بوعيه ونضجه عبر مراحل زمنية كانت حتى الخلافات الفكرية فيه وحوله، دليلا إضافيا لذلك النضج والعمق وليس العكس، في فترة عربية كانت تمور فيه الالتباسات والخلافات حول ماهية الإبداع ودوره في المجتمع. وهذا ما تم تجاوزه لاحقا حيث أصبحت السمة الرئيسة للإبداع البحريني المهم هو سمة التجديد المتواصل دون انقطاعه عن الهم الإنساني- الأعمق.،. وإبداعنا البحريني الذي فاز مع حداد بهذه الجائزة العربية المحايدة، ستوضح السنوات وجهه "الأصيل" أكثر فأكثر، سواء بمزيد من الجوائز له، أو لغيره من المبدعين البحرينيين وفي كل المجالات، ليؤكد الآن ولاحقا التقدير العربي لمبدعينا سواء في الشعر والادب والنقد، أم لفنانينا في المسرح والغناء والفن التشكيلي وغيرها من المجالات الإبداعية. وليتأكد ايضا أن هذا البلد الحضاري يكتسب قيمته الأكبر من خلال مثقفيه ومفكريه ومبدعيه وكل المتميزين بما هو عميق فيه. انه فوز لنا جميعا وانتصار لقيمة إبداعنا وثقافتنا وحركتنا الأدبية، رغم كل ما مرت به من صعاب، لم تفعل في ذهبها وماسها إلا ما فعلته النار فيهما، حيث تزيدهما قوة وإصرارا و بريقاً ولمعاناً. @
جريدة (الأيام) البحرين
قادماً من هناك، هناك الزمان، حيث تلتبس مع الحناجر التي تستعصي على الصدأ.وتحمل رنين أوتارها عبر مسافات تقفز فوق المسافات. تجمع خيوطها الغامضة، تمارس الظهور، تمارس الكمون، لكنها لا تمارس الموت. إنها الكلمات تتدحرج فتهتز على حناجر الوقت، وترتد، فتمنح الدقائق نكهة العصور، وتمنح العصور نكهة الأبدية، فتمنح الأبدي نكهة الإنسان.
قاسم قد صار الإبداع بك فعل كفاية، قمت به أنت، فكان لكل واحد من أبناء هذا الوطن نصيب من الاعتزاز.
قاسم : يحق لهذا الوطن أن يفتخر بك وقد فعل.
منذ عصف الستينات النهضوي، منذ بد تشكل الحركة الأدبية في البحرين، حين تضامنت مواهبها الإبداعية حول شعارها الريؤي الأصيل (الكلمة من أجل الإنسان) منذ ذلك الوقت القديم حتى الآن، وموهبة (قاسم حداد) الشعرية تتصاعد بمثابرة اجتهادية، لتحقيق منجز إبداعي يبحث عن المغاير و اليانع دوماً. لقد اندفع ( قاسم حداد) نحو الشعر وحده، دون أن يعبأ بهبوب رماح الأضداد وضيم العشيرة وظلم ذوي القربى. بل استمر في النهل من مقترحات موهبته كل كتاب شعري يتقدم نحوه، ليثق أكثر بكون الشعر وحده حضنه الرئيف به، بل حصنه الأخير.
هنيئاً للبحرين وللحركة الأدبية الإبداعية ولشاعر (البحرين قاسم حداد)، على كل هذا التقدير الأدبي الذي ناله باستحقاق إبداعي بالغ. ولنا أن نرسي له التهاني كلها، تلك التي لا تقل عن الورد.
أحسب أننا، قاسم و أنا، إلتقينا ذات نص هارب منه إليّ، أو مني إليه. أظنه قال لي: يا سعد، يا مفتداي .
منذ ذلك، أفتدي قاسما بجنون كل ما املكه من ظنون، و أواري حبري لديه.
***
فازت يوم أمس ، جائزة سلطان العويس بقاسم حداد شاعرا ، كما فزت أنا ، و من لا
أحصي ، و لا أريد أن أحصي عددهم ، به كفريسة للنص و كمفترس له .
***
هذا الذي تتطاير الجيوش من شموس مخبأة في سلال شهيقه،
هذا الذي يبللُ البحر بيديه المخضرتين،
هذا الغامق النهار، الفاتح الليل،
هذا الموبوء بالمسافات التي لا تنتهي بداياتها،
هذا الخيل الهيل السيل،
هذا الذي قَسَم بالنار حدّه الى سيف لا ثانٍ له،
سيف تعجز المعارك أن تصف نزاله.
أوقن معه، بما أيقنت به، حين تدلّت أغصانه على تربة أوراقي، أول مرة. شممت نَسغَهُ، فانطلقت من دمي عصافير فضية، وقمحٌ، وطرقٌ تقود الى نفسها، وكهوف مشرعةٌ للغناء.
أغني معه، ما غنّيتَهُ، لما تقاطرت مني رجفةُ هلاله، وسطوة غيّه.
لا يملك هذا الغني سوى ماءٍ في كفه، أمطرتْهُ إياه امرأةٌ في ظهيرة رملية، وقالت:
- إعتقني.
فأهداها الماء وكفّهُ وغِناه.
له، أترك كل ليلة قرية من الأنواء الخائفة.
صباحاً، أجده قد زخرف النهار بمدنٍ لا تكتم نخيلها.
سبتمبر 2000
الى قاسم حداد الحرف الذي وقف في الحلم حتى اهتدى في نهار الألف مشرعا بوابة الشعر نحو فضاء العصافير.. إليه بعد فوزه بجائزة سلطان العويس الأدبية في مجال الشعر:
هو النهار..
بوابة الحلم والضوء
تركنا له حرية البوح..
ثوبا من النخل والذكريات
ازرق يا قاسم في العمق
اخضر في صفحة القلب
يغازلك الشعر لحظة الغفو
ويرسمك الليل بهجة المدن
واندياح الورد في المسافات
لذاكرة من عبير الوطن
وكلما كبربنا الم!فر
احترقثا بجذوة الإلف
وبصرير الباب في الخلوات
وعمق المسافات في المدى
حينما تشظيت
أوغلت في الحلم
وطن آخر
يسافر بين قلبك..
وصحوة زمنك
ويغفو بين جفنيك
قاسم بالغة البوح
ويا بيت الفراش
عندما يستعجلك الحب
تكون أنت..
لغة الشهقة المسافرة
بيت الجدود..
وانتصارات الحرف
"حصيرة" كلما قصفها البعد
انطوت بحلم يقرأنا في الخارطة
ويبوح لنا بسر النشوة والكتابة
انه الوطن..
سيد أوقفنا في العشق..
فأرعدت السماء
وابرق النهار بالضوء..
لحظة تشظينا بقصيد "طرفة)،
و"خولة،) حينما احتساها..
ازرق الموج في النشوة والصحو
كنا هنا على بوابة العشق ننتظر.@
جريدة الأيام - (البحرين)
لا تزال البحرين تشهد الفرح بعد الفرح، والبهجة تلو البهجة، فإذا الطموحات والآمال قد تحقق بعضها من خلال تلك التغييرات والتطورات من جمعيات مهنية الى جمعيات سياسية، فإن المثقفين يتوجون هذه المنجزات الخيرة بالعطاء الإبداعي، لذلك كان لزاما على كل مفكر ومبدع وكاتب في البحرين أن يواصل جهده وعطاءه الإبداعي والكتابي لكي يكون الفرح متوازيا. فما قد أتى وما سوف يأتي فحتما سيكون جملا. فنحن كنا ولا نزال نفتخر بمبدعينا ومفكرينا وكتابنا وأكاديميينا منذ طرفة بن العبد وافتتاحية معلقته، لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في معصم اليد، حتى اليوم الذي يقول فيه الشاعر: الشعر إغراء يقيدني، يا من يحب قيوده، فالشعر يعتقل. بهذا سيكون هذا الافتخار الذي هو عنوان مسطر على جبين كل مثقف بحريني. وكلما توسدنا وسادتنا جال بنا بحر الفكر والتخيل نحو النتاج المحلي ومكانته الأفقية والعمودية على مستوى الوطن العربي. إننا دائما نسعى لتبرير قيمة نتاجاتنا الأدبية والإنتاجية، بل نحاول آن نخرج الى المتلقي العربي لنقول له إننا هنا، لنا مكانتنا وطاقاتنا التي توازي المبدعين الآخرين، نقول أن الفكر والإبداع لم يكن حكرا على أحد أو محصورا في مكان معين.
وإذا كنا قد فرحنا في العام 999 لى، حين فاز شاعرنا العظيم قاسم حداد بجائزة شومان، فإننا اليوم نعتز ونتباهى بفوزه بجائزة سلطان العويس العربية. هذا الفوز تغلغل في نفوسنا جمعيا الصغير قبل الكبير، فما أجمل الفرح حين ارتسم على شفاه الأطفال.. ما أسعد أمه!تنا حين يحتضن الخبر. والأكثر جمالا وفرحا وسعادة حين تصافحت الأيدي مهنئة بعضها ببعض، وحين احتضنت الأجساد معانقة غبطتها بفوز شاعرها في جائزة الإبداع الشعري على أ مستوى الوطن العربي. هذا الشاعر الذي ما تراجع يوما عن طريق الإبداع، وما وقف حائرا فيما يكتب ويدون في مسيرته الشعرية والكتابية، بل راح يكتب النص تلو الآخر وهو يرتشف من ينبوع مخزونه المعرفي، ذلك المخزون الذي بناه طيلة ما يقارب الأربعين عاما من مصادر عربية وأجنبية. جاء فوز قاسم حداد بالجائزة ليؤكد ان الشاعر كان غارقا في تحويل ما هو غير ممكن في
الواقع البشري الى ممكن في المتخيل الذهني، كان الفوز علامة بارزة في علاقة الشاعر بما يظهره من صلة بين الأشياء التي يحولها من هامشيتها الى مركزيتها فقد قال في كتابه ليس بهذا الشكل ولا بالشكل الآخر "الذي يتذوق الكتابة لن يستطيع أن ينجو منها- ص 5ة،).. يحول العلاقة الذاتية الى علاقة إنسانية.. يحول الأشياء الخاصة الى أشياء عامة. !- لم يعد نتاجه غارقا في محليته ه- بل راح يرفرف بجناحيه في العالم أجمع، ينقل الأثر إيحاء وإشارة من أجل إثارة استجابة المتلقي الفنية والجمالية، بل ويرفع ذوقه وأحاسيسه، ألم يقل "يظل النص الأدبي باهر الحضور، كما برع الواقع في قراءته- ص 109".
بالفعل نقول لم نصادف متعة كمتعتنا بالنص، فأنت أيها الشاعر نص كلما حاول الناقد فتح بابك يتكشف ألف باب.. كلما حول القارئ فتح نافذة من نوافذ داووينك برزت نوافذ كثيرة وراءها.. أنت أيها السلطان في الشعر الذي أعطيتنا معاني كثيرة.. أخرجتنا من دلالاتنا المسطحة الى معان أخرى تستفزنا من خلالها.. أثرت فينا السقيفة والذئب والأمل.. غيرت فينا الموت والقبر والرؤية.. أنت أيها الشاعر الذي قلت لنا ان الكتابة ضرب من الدفاع عن النفس.. أنت أيها الخارج من غيمة القبر وسحر المكابدات أبقيت ثلة! وراءك تلهث في نار الأخطاء، ففي الوقت الذي نفتخر نحن بك ا وكأنك تاج معلق في سمائنا نرى في الفضاء المظلم طيورا ضعيفة مسكينة لا تقوى على الطيران فهلا لك أن تأخذ ليدها؟!) أتدري ما الذي ييقى لنا؟ أنت/ والشعر وأشياؤك التي خرجت من الأحلام. أتدري من يقرأ شعرا؟ أنت والشعر وأشياقك التي ستقرؤون علينا الشعر التخلق الأمل.. لتقوم بسد ثقوب أ المدينة بالحروف.. لم نحفر خندقا للعتمة وبرزخا للتفاهات. أتدري متى دخلنا عالم الحب نج حين علمتنا حروف الكتابة قالت لنا أحبوا النص مفتوحا.. أقيموا علاقة شبقية مع الحرف.. لازموا النقطة وهي تبحث عن مكانها في اللغة. أيها الشاعر لا تقل ان الفوز خاص بك وحدك.. الفوز لنا كلنا من قمة الهرم حتى قاعدته.. فوزك شهيتنا لأنك كنت دائما تجدد وسادتك أو أريكتك ونبيذك.. فوزك تجديد ا التحام الحرف بالكلمة.. باللغة بأشيائنا المتناثرة.. هناك فوارق بدأت تسير رافعة الجباه لتكون- جداول متدفقة على تربة. عطشى.. تتراقص حبات الرمل لتغنب الضوء الباهت في جب الصواعق وعلى طرقات الغياب. هذا هو الشعر الذي يخرج من ظلام الأولين وردة تحمل رداء النجوم.. تحمل عقم المكابدة وزخارف الجدار. هذا الشعر وردة.. يرسم رداؤها شرفته اليسرى لييقى فيها الضوء الجديد.. يوصل هذا الرداء خيط النجوم الناعسة بالساحل التلاطم الذي ظمأ رؤية.. ينغمس الرداء في المسك الناصع ليروي الطين ويبعد الزبد الفارض عنكبوته. جميلة أنت أيتها النجوم.. تقبلين الآتي في الصدر المحموم.. المكور.. المكابد.. المتصلب.. المتصل بصوت الحرف. أيتها النجوم النازلة حين تجمعين الأوتار على نغم واحد ولحن يصدح في الصباح كأنه أغنية فيروزية تذاع. وإذا كنا نقدم التحية الى الشاعر قاسم حداد ونبارك له بهذا الفوز فإننا نعاتب أنفسنا، بل ونخجل من ذواتنا، فالشاعر كرم خارج مكانه مرتين، واستدعي لمشاركات كثيرة خارج الوطن العربي، ونحن نتفرج ونبارك فقط. فلماذا لا تفكر المؤسسات الثقافية مدعومة من بعض التجار الذين يرون دورا للثقافة والإبداع، لماذا لا تفكر في تكريم المبدع البحريني؟ أليس من واجب أسرة الأدباء والكتاب في البحرين أن تسعى حثيثا في تكريم هذا الشاعر أو غيره من المبدعين الذين قدموا الكثير من إبداعاتهم؟@
جريدة (الأيام) - البحرين
تحية
شرف جائزة سلطان العويس الثقافية أنها اختارت الشاعر قاسم حداد لنيل جائزتها في مجال الشعر، وشرف للبحرين أن تلد شاعرا مثل قاسم. درس الشاعر يمتزج شعر قاسم حداد في نفسي منذ أول أمسية بكيت فيها لتهدج صوته وهو يهتف في قصيدة له ربما كان عنوانها (خديجة.. لمنديلها)، منذ تلك الأمسية وأنا أرى شاعرا شاهق الحزن يهجس بشعره نحو التحرر الإنساني المقرون بهاجس التجديد، بل هو ذهاب نحو أقصى ما تبذله المخيلة واللغة الابداعية مستمرة ومتوالدة عبر كل تجربة، وكل نص، وكل حوار. لم تنفصل عن ذاكرتي تلك القراءات المتكررة لديوان (انتماءات) بشكل جنوني محاولا أن أممسك الضوء الخارق الذي يتوالد مع نصوصه الشعرية، ربما لم أكن أدرك وقتها أن هذا الضوء الخارق كان يؤسس مشروعا إبداعيا (نضاليا! نحو نصوص وعوالم كتابية تستجيب للمنجز الشعري العربي وتتجاوزه ضمن خاصية الفردية الشعرية مثلما هي عند أسماء مثل السياب وأدونيس ومحمود درويش. (ونضالي) هي استمرارية لديمومة الشاعر قاسم حداد في انشغال أكثر جدوى من السياسة- !+ ربما بعد الكثير من الخيبات. لذا فنضاله على نصه ! الشعري وهو ذاهب آخر نحو التحرر من الواقع وحركية المجتمع إلى تحرير المكونات الشعرية واللغوية التي كافح من أجلها الشاعر. ! بل إنني لم أجد أو أقترب من شاعر أو كاتب مخلص لمشروعه الإبداعي مثل قاسم، وهذا بحد ذاته درس علينا أن نتعلمه. اللغة الأخرى. أسس قاسم حداد لانحياز شخصي باتجاه اللغة، حتى أضحت كتاباته بتنوعها ضربة من الشعر لعمق اللغة وذهابها نحو فضاءات لا تكتفي بوصف الواقع أو الموضوع بل تعمد على الاستبصار فيه، حتى أضحت نصوصه استبصاراً ذا خاصية لا يمكن لها أن تتكرر، نصوص تخلخل القيم والثوابت نحو رؤية جديدة في طريق الكتابة، ء دون مساومة ودون تراجع. لغة تحتفي بصاحبها مثلما !يحتفي بها.@
هنا البحرين - 12 نوفمبر 2001
هل كان من الضروري ان يفوز قاسم حداد بجائزة العويس حتى نكتب عنه، ونناقش ما تعنيه تجربته بيننا؟ طوال الوقت كنا محتاجين الى نتر الأعناق جهة ما يقترحه علينا قاسم. لكننا لم نكن نفعل! سهوا
أو بطرا. لا مرو. وهكذا كان قاسم حداد يمعن- على طريقته- في التنكيل برد فعلنا البارد.. البارد حد الصقيع قياسا لقصيدته الساخنة التي تؤسس نديتها إزاء انجرافنا وهمهماتنا وخياناتنا الاستسلامية الصغيرة.. التي نرتكبها حضور هذه السيرة الفريدة، بشكل غير بخفية وخفر. مألوف، في عالمنا السخي بالأقنعة إنني أتحدث هنا عن الأمثولة التي وحظوظ النفس. تمنحنا إياها شعرية السيرة الحياتية ذاك قاسم بحصته من الولع المستحق: قبل شعرية المسار الشعري. وأولاء نحن، باستدارتنا الفجائية صوب وأتوخى تصويب الإشارة لا إلى الشاعر، ما كان علينا ان نحدسه باكرا. أو الناقد، أو العراب، أو الصديق في قاسم حداد، بل الى اختلاط هذه قبل الجائزة المستويات كلها في قلب رجل واحد، وبعد الجائزة وفى طشة آدمية متفردة، استطاعت، وبلا الجائزة، ان تؤسس لمثال له في أوراقنا محبة شفيفة الى الدرجة ريخ الفردي والجماعي، الأقصى. حل! سواء. ولنا فيه ما تمنحه السنبلة التي تنحني سم حداد مقرونا بمعنى لتحنو. في حياتنا بهذا الشكل له ما تبقى من الأجمل في أبناء هذا كنا محتاجين الى بوصلة الوطن: ، وذكاء سريرته، كي رهان لا يمكن تفاديه في موسيقى خالد لحسن التشبث بفضيلة الشيخ. كلما كبونا أو اختفت وحدقة فاحصة متناقلة خلسة بين لدروب بين خط!واتنا الجاحظ وابن حيان وصالح العزاز.. المتدافعة في المفترقات. وعناصر في غابة الرؤيا تكسر صوت بأكثر من معنى كان الجوقة مع أمين صالح. قاسم حداد جنتنا وقول عن ليلى في جماعة من الناس الأخيرة.. الأثيرة/ بينهم ضياء العزاوي. الوثيرة التي نأوي و.. و.. جراءة من الذهب.. و.. و.. ثوب إليها. والتي لا يكون يرفرف بالبشارة. بوسعها، لفرط المحبة، أيضا وأيضا: مكتبة المحرق الشمالية، إلا أن تسهو عن طرق على الحديد الساخن، حول تنك أخطائنا وترأف بالخاص بين الأزقة، ماء البحر والصمم، كتابة مانحة له الصقل وإعادة على كارتون الصابون، مرقد العباس، للاج كلما اقتضى الأمر، حرس التل، سوق الخارو، زعفران كلما يقتضي الأمر. المنديل، زهرة الناس، خارج التقويم، لقد كان قاسم هو الأجمل الأخضر بن ديمه، الذين ينشرون، سننا بلا استثناء، نعم.. والذين لا ينشرون، حقوق طبع . استثناء حين لم يرتبط مهدورة، صلعة مضيئة، سهرة أدونيس يبعده عن عمله على ذات أمسية رمضانية، تسعة أصدقاء لغة شعرية ممعنة في وحبيبة واحدة، النص الأخير، لذاتها المتجردة. القرط الطويل، الرأس والذئب والهودج، أكثر من أي وقت مضى، جهة تفتح الجهات كلها، وبحرا بحلم بنيل الشاعر لجائزة يسعف السفن. فإن أكثر ما يخشاه المرء تلك هي الهمسات، والجحيم، تزدهر المزايدة بنيا فيء/- والوشايات تكسو وجه الأرض.
وذاك هو
وحده
في عريشته التي لا تغفل ولا تنام
لنا سقام الحروف
له يقظة الألف
الذهاب الى ما يقتضيه المقام من كيل له يقظة الألف. المديح والثناء والتقريظ . قاسم حداد، الذي يليق به كل هذا البليغ الجميل دون ان يسفر هذا البهاء. ما الذي رأيتهم في صمتهم عنك، وكل الجوائز ثمار تسقط بعد أوانها أو توشك.
جريدة (الأيام) البحرين |