قاسم حداد:
تكريم الشكل بوسيلة التحرّر
من عقدة الشكل الواحد!
I
لعلّ معظم الرأي العامّ الثقافي العربي يجمع علي أنّ جوائز الشاعر ورجل الأعمال الإماراتي الراحل سلطان بن علي العويس (التي تمنح خمس جوائز في حقول الشعر والرواية والنقد والعلوم الإنسانية والإنجاز الثقافي والعلمي، مرّة كلّ سنتين، وبقيمة 100 ألف دولار أمريكي لكلّ حقل) هي الجوائز الأرفع والأهمّ والأكثر نزاهة.
ما قد يجهله الكثيرون، في المقابل، هو أنّ النظام الداخلي للجوائز، ومنهجية تشكيل لجان التحكيم، وطرائق وتقاليد عمل هذه اللجان، والاحتراف العالي الذي يطبع عمل الأمانة العامة وحياديتها التامّة في المناقشات، كلّ هذه عوامل صانعة لتلك السمعة الطيبة التي تجعل جوائز العويس أكثر إثارة لاهتمام الجمهور الثقافي العربي، بالمقارنة مع جوائز أخري (الملك فيصل، اليماني، سعاد الصباح، البابطين ... الخ).
ولقد سبق لي أن شاركت في تحكيم جوائز العويس، وأسمح لنفسي تالياً بإيضاح بعض عناصر الصورة في ما يخصّ منهجية وطرائق وتقاليد عمل لجان التحكيم، دون المضيّ أكثر ممّا ينبغي في كشف أسرار عمل هذا المطبخ المعقّد الذي يتخذ القرارات بطريقة تشاورية سجالية وديمقراطية في آن. وما الغرض من إيضاح بعض هذه العناصر سوي ملاقاة الثقة التي يمنحها الرأي العامّ الثقافي العربي لجوائز العويس من جهة، والتشديد من جهة ثانية علي حقيقة أنّ مناخات الحياة الداخلية للجان التحكيم هي التي لعبت وتلعب الدور الحاسم في ما تتمتّع به هذه الجوائز من سمعة طيبة، ومسار متصاعد، ومجاراة مدهشة لقوانين التطوّر التي تشهدها الحياة الأدبية والثقافية العربية ذاتها.
الخطوة الأولي في تشكيل لجان التحكيم تبدأ من اختيار الأعضاء (بناء علي ترشيحات ليست قليلة التعقيد)، حيث يُراعي مبدأ التنوّع في السنّ والتجربة النقدية والحساسيات الفكرية والمنهجية وحسّ الموضوعية في دراسة وتقييم العمل الأدبي والفكري. الخطوة الثانية، بعد الحصول علي موافقة المرشحين لعضوية لجان التحكيم، هي تقسيمهم إلي أربع لجان فرعية (بالنظر إلي أنّ جائزة الإنجاز الثقافي والعلمي يمنحها مجلس أمناء مؤسسة العويس)، ثمّ موافاة كلّ عضو بنسخة كاملة من أعمال المرشحين للجائزة في حقل اختصاص اللجنة الفرعية (بعد أن تكون لجان خاصة في الأمانة العامة قد استبعدت ما ينبغي استبعاده من المرشحين الذين لا ترقي أعمالهم إلي مستوي المنافسة علي الجوائز)، وذلك قبل فترة زمنية كافية تتيح لعضو لجنة التحكيم أن يستدرك ما قد يكون فاته الإطلاع عليه من أعمال المرشّح (وعلي سبيل المثال، إذا كان العضو يعمل في لجنة تحكيم الشعر مثلاً، فإنه سوف بتلقي صناديق كُتب تحتوي مئات المجموعات الشعرية، وليس العشرات منها فقط!). الجانب المهمّ في هذه المرحلة من العمل هو أن أيّاً من أعضاء لجان التحكيم لا يعرف هوية الأعضاء المشاركين الآخرين، سواء أكانوا معه في اللجنة الفرعية أم كانوا في لجان أخري.
الخطوة الثالثة هي قيام كلّ عضو بكتابة تقارير نقدية عن كلّ المرشحين دون استثناء، ثم اختيار مرشحه المناسب للجائزة وتعليل الاختيار، وإرسال التقارير إلي الأمانة العامة، التي تقوم بجمعها وطباعتها بحيث يُتاح لكلّ عضو في لجنة التحكيم (في كلّ الفروع) الإطلاع علي نسخة كاملة من جميع التقارير في الجوائز الأربع. الخطوة الرابعة هي اجتماع لجنة التحكيم للتداول واتخاذ القرارات، حيث (في هذه المرحلة فقط، وفي الاجتماع الافتتاحي الأوّل) يعرف عضو لجنة التحكيم هوية زملائه في اللجنة الفرعية وفي لجنة التحكيم كاملة بالتالي.
ويحدث أن يعقد أعضاء اللجان الفرعية اجتماعات تمهيدية خاصة للتداول حول أسماء المرشحين في حقل اختصاصهم، وقد يتوصّلون إلي مرشح إجماع واحد يعرضونه علي اللجنة، وقد يفشلون في ذلك فيتمسّك كلّ عضو لجنة فرعية بمرشّحه. وأمّا القرار النهائي فهو من حقّ لجنة التحكيم الكاملة، حيث تذوب اللجان الفرعية تلقائياً عند مناقشة جائزة الاختصاص، ويصبح التصويت (بعد مناقشات مستفيضة ومعمّقة وساخنة والحقّ يُقال!) هو سيّد اللعبة. والباب الثامن من اللائحة الداخلية لجائزة العويس ينصّ علي أنّ الأمين العام هو الذي يرأس لجنة التحكيم بحكم منصبه، ويحقّ لأعضاء الأمانة العامة حضور جلسات التحكيم كمراقبين فقط، كما ينصّ علي أن قرارات لجنة التحكيم تتمّ بالأغلبية، وإذا تساوت الأصوات يرجح الجانب الذي فيه الأمين العام أو من ينوب عنه.
ولا ريب في أنّ طرائق العمل هذه هي السبب في أنّ أبرز الأدباء العرب حصلوا علي جوائز العويس تباعاً، دون أن يؤثّر في قرارات لجان التحكيم أنّ انتماءات بعضهم الإيديولوجية أو السياسية أو حتى الجمالية (وأخصّ بالذكر أمثلة محمد مهدي الجواهري، سعدي يوسف، عبد الرحمن منيف، يمني العيد، سعد الله ونوس) كانت تشكّل نقطة الحرج هذه أو تلك بالنسبة إلي جائزة خليجية في نهاية المطاف. الجانب الثاني، والأهمّ ربما، هو أنّ طرائق العمل ذاتها كفلت للجائزة مواكبة الحياة وسنّة التطوّر، وجنّبتها التقوقع والانعزالية والانحياز لأشكال أدبية بعينها، أو تفضيل تيّارات ومدارس فكرية وجمالية علي سواها لأسباب لا علاقة لها بالأدب دائماً.
وفي حيثيات منح جائزة الشعر، الدورة السابعة 2001 ـ 2002، إلي الشاعر البحريني قاسم حداد قالت لجنة التحكيم إنّ شعره يتميّز بالاهتمام بقضايا الإنسان في مواجهة الواقع، وقضايا الإبداع في مواجهة المكرّس والثابت . وأضافت أنّ لغته تميّزت بالجدة والحيوية والقدرة علي استغلال إيحاءات الألفاظ والعبارات بما يخدم غرضه الشعري، وإنْ كانت لغته لم تسلم من الغموض وذلك يعود إلي اتكائه بصورة خاصة علي معطيات الحدس والحلم وعوالم الباطن في تشكيل التجربة الشعرية .
والأرجح أنّ الفقرة الأخيرة (التي تثير بعض التحفّظ علي غموض لغة حداد الشعرية) هي الإيحاء الأوضح حول الصراع الذي دار داخل لجنة التحكيم، بين أنصار القديم وأنصار الحديث، الأمر الذي يحدث دائماً في مداولات لجان التحكيم، وهو أمر طبيعي وحيوي ومطلوب في الواقع. ذلك لأنّ جائزة الشعر العويسية حقّقت هذا العام نقلة نوعية في موقفها من أشكال الشعر العربي السائدة اليوم، واختارت الفائز من صفوف شعراء قصيدة النثر، وهذا يحدث للمرّة الأولي. صحيح أنّ حداد يكتب التفعيلة أيضاً، ولكن من الصحيح أيضاً أنه شاعر قصيدة نثر، وتأثيره في المشهد الشعري الخليجي نهض وما يزال علي خياراته الطليعية في المحتوي والشكل معاً، وقد لا نبالغ إذا قلنا أنّ الشكل كان دينامية التأثير الأكثر أهمية في السنوات الأخيرة من تجربة حداد.
هذا، في عبارة أخري، اعتراف بشعرية قصيدة النثر من جهة، وإقرار بـشرعية وجودها علي الساحة الأدبية العربية من جهة ثانية. وتاريخ جائزة العويس، الذي بدأ في العام 1988، يشير إلي منح جائزة الشعر إلي فدوي طوقان، وسعدي يوسف، وعبد الله البردوني، وعبد الوهاب البياتي، وأحمد عبد المعطي حجازي مناصفة مع إبراهيم نصر الله، ومحمد عفيفي مطر، وقاسم حداد، فضلاً عن منح جائزة الإنجاز الثقافي والعلمي إلي محمد مهدي الجواهري ونزار قباني. ثمة شكل العمود (الجواهري والبردوني)، وثمة التفعيلة في مختلف أطوارها الأجيالية والأسلوبية، ولكننا قبل قاسم حداد لا نعثر علي شاعر واحد يكتب قصيدة النثر، أو يكتبها دون التخلّي عن التفعيلة.
وقد يقول قائل إنّ الاعتراف التامّ بشعرية و شرعية قصيدة النثر سوف لن يتحقّق إلا حين تُمنح الجائزة إلي شاعر لا يكتب التفعيلة، ولا يكتب سوي قصيدة النثر وحدها. وقد يكون في هذا القول بعض المنطق، ولكنه من جانب آخر منطق مفرط في الغلواء والانحياز لشكل محدّد واحد وحيد، وكأنّ الشاعر ينبغي أن يحمل شكل قصيدته هوية دالّة عليه، وأن يُقرأ بدءاً من الشكل وحده، ويتمّ تذوّقه وتثمينه من هاهنا فحسب. من جانبي أميل، دون أوهام كثيرة، إلي اعتبار قرار منح قاسم حداد جائزة الشعر إقراراً بأنّ شكل قصيدة النثر لم يعد مشروعاً وحاضراً وداخلاً في نسيج الشعرية العربية المعاصرة فحسب، بل هو أيضاً شكل جدير بالتكريم وحيازة الجائزة الأدبية العربية الأرفع والأهمّ والأكثر نزاهة وموضوعية.
II
في دراسة سابقة (1) أشرت إلي أنّ تفاعل التجارب الشعرية الخليجية الشابّة مع شعر قاسم حدّاد اتخذ علي الفور ــ وفي نسبة عالية ــ شكل التأثّر بقصيدة النثر التي أخذ حداد يكتبها، أكثر من قصيدة التفعيلة التي بدأ بها ولم ينفكّ عنها. كأنّ الأصوات الشابة المتميّزة التي قرأنا تجاربها ببهجة وإعجاب منذ أواسط الثمانينيات ومطلع التسعينيات (قادمة من السعودية وعُمان والإمارات وقطر والبحرين) كانت قد أزمعت الانشقاق مبكّراً عن نماذج التجديد تلك، لا لشيء إلا لأنّ نزوع الانشقاق كان بين أبرز الدروس الجمالية التي بشّر بها الرائد نفسه.
وبذلك فإنّ من الإنصاف الحديث هنا عن دور ريادي مزدوج لعبه قاسم حداد: الأوّل جمالي ـ إبداعي يتّصل بضرب المثال الشعري كتابةً وخيارات، والثاني ثقافي ـ سوسيولوجي يتّصل بضرب المثال الانشقاقي سلوكاً وإيديولوجية. ولعلّ النبرة الكفاحية العالية في قصائد قاسم حدّاد الأولي (مجموعاته: البشارة (1970)، خروج رأس الحسين من المدن الخائنة
(1972)، والدم الثاني (1975) بصفة خاصة)؛ وحقيقة كتابته لعدد كبير من القصائد وهو في المعتقل؛ وتنقّله المَرِن بين شكل التفعيلة وشكل قصيدة النثر؛ كانت جميعها بمثابة أمثولات بادية للعيان تماماً، حاضرة في مشروعات التحديث المحليّة الشابّة (الخليجية) ومتواصلة مع مشروعات التحديث العربية (الناجزة بهذا القدر أو ذاك في المراكز الشعرية)، وقادرة أبداً علي المساهمة والإغناء والاغتناء، محليّاً وعربياً في آن معاً.
هذه، في عبارة أخري، هي سياسة التجديد التي تتجاوز مهامّ تكريس التيّار الأدبي، وتكتسب وظيفة ثقافية ـ سوسيولوجية عميقة الأثر حين تعبر حدود تطوير الأساليب والأشكال والأغراض، وحين تحضّ علي المقاومة في النصّ الأدبي مثل المقاومة في السلوك الإنساني، وتدافع عن مقترحات جمالية وأخري فكرية، وترسل جوهرياً رسالة الانشقاق البنّاء: عن السائد في الكتابة (مبني ومعني، شكلاً ولغة وموضوعات)، وعن السائد خارج الكتابة (النظام والمؤسسة، السياسة والأخلاق).
ومنذ مجموعة (الدم الثاني) ، 1975، أخذنا نهتدي إلي شخصيّة الشاعر التي بدأت تستقلّ تدريجياً عن جملة التأثيرات، وإلي أولي السمات الأسلوبية التي سترافقه زمناً طويلاً، وستغتني من مجموعة شعرية إلي أخري. لقد أخذ يدير شبكات سردية تمنح القصيدة حركة دوّامية ونموّاً عضوياً هادئاً؛ ويقيم حوارات بين ضمائر المتكلّم والغائب والمخاطَب، بالمفرد وبالجمع؛ ويبدّل التفاعيل داخل القصيدة الواحدة علي نحو سلس متّسق أحياناً، ومتقطّع خشن الوقع أحياناً أخري؛ ويضمّن الكتلة التفعيلية مقاطع نثرية مفاجئة؛ ويترك للغة أن تسترسل في ما يشبه الطواف اللفظي الحرّ؛ ويمزج في القصيدة الواحدة بين التركيب الدرامي ـ الحواري والتركيب الغنائي ذي الضمير المنفرد. أمّا موضوعات قصائده فقد خرجت، مرّة وإلي الأبد في الواقع، عن تلك النبرة الخطابية الحارّة التي طبعت مجموعته الأولي، ومالت أكثر فأكثر إلي التمحور حول الرؤى الحلمية والصوفية التي تتشكّل استناداً إليها عوالم طرفة بن الوردة، ومنظورات رثائه لعصره، وتحوّلاته الميتافيزيقية في الزمان والمكان:
(في طرف القبر حلمٌ: أنا الطرف الثالث للحلم
ماءٌ يسير ويختصر الموتَ والمهرجانْ
سأفصل ما بين عصر الوقوف وبيني
ليَ الآن حرّية في الرحيلْ
لغاتي ذائبة وحدها في الهواءْ
إذا شئتُ أدخلُ من فجوة الليل أو أستقيلْ
حوانيتٌ توزّع مرض الحزن والنومْ. ومصحّاتٌ
بحجم السأم المرابط تنشر سلالة الشرطيّ
والصلاة والشفق واحتقان الأمل في الوريد.
وتحتلّ الغفلة جيلاً بلا أسئلة.
أنا خندقٌ عمّقته السؤالات والشكّ أن الطفولة ماءٌ
وأنّ النخيل طريقٌ إلي الماءْ.)
ومن الواضح أنّ السطور 1 ـ 7 تخرج عن الكتلة التفعيلية إلي النثر دون سابق إنذار، كما أنّ مخطط التواتر المخفّف للقافية لا يشبه في شيء تلك المخططات السابقة حين كان قاسم حدّاد يلجأ إلي التسكين أو التضحية بالتشكيل الصحيح لأواخر الكلمات في سبيل تحقيق القافية.
قبل هذه المجموعة وبعدها شهدت تجربة الشاعر منعطفها الحاسم التالي، حين استقرّ علي تكريس مجموعتَين كاملتَين لشكل قصيدة النثر: قلب الحبّ (1980)، و شظايا (1983). ويمكن الركون، دون أدني مساءلة، إلي ما يقوله حدّاد عن هذا الطور، الذي يدشّن مراحل تململه الفنّي في المجموعات الأولي، ويتبلور في خروج مباشر وشامل عن التفعيلة . غير أنّ الاعتراف الأكثر أهميّة، حول هذه المرحلة، هو ذاك الذي يتعلّق بإدراك الشاعر للمسؤوليات المترتبة علي حيازة الحريّة التعبيرية هذه، وخطورة أداتها الكبرى: اللغة. وفي سيرة النصّ يقول: (الاحتفاء باللغة، إذن، هو الشرط الأوّل لتخلّق الحالة الشعرية، حيث الصورة الفنّية لا تتحقق بغير طاقة الجمال الكامنة في اللغة (...) تبلور ذلك في تعاظم الحساسية تجاه الإيقاع اللامتناهي في اللغة العربية: الكلمات، الجمل، المفردات، الحروف، الصور، الاستعارات، الدلالات، العلاقات. كنت أجد في اللغة طاقة هائلة من الإيقاع، الذي كانت الأوزان والتفاعيل تسحقه أو تَعبر عليه بضجيجها الخارجي والعام، ورأيت في ذلك كبتاً لحرّية الحرف، كوحدة وذات، في مواجهة القانون الموضوعي العام، الذي لا يري في الحرف سوي جرس يمكن أن يصخب مثل طبل في نهاية كلّ كلمة وعند خاتمة كلّ قافية.. في ذيل الشطر أو التفعيلة ).
لماذا ــ بين مجموعة قصائد نثر وأخري، وبعدهما أيضاً، وبعد هذا الكلام المتشدّد ضد ضجيج التفاعيل وجرس الحروف التي تصخب مثل طبل ــ عاد قاسم حدّاد إلي كتابة قصيدة التفعيلة في القيامة ، بل واستخدم القافية في انتماءات ؟ ألا تبدو مقاطع قصيدته الفاتنة أوراق الجاحظ الصغيرة وكأنها تذكرة بليغة بأفضل ما في تقاليد قصيدة التفعيلة من صياغات موسيقية باهرة؟ هنا، علي سبيل المثال، مقطع من مجموعة انتماءات ، 1982، يصعب أن تكون حروف قوافيه صاخبة مثل طبل:
(أرّختُ للدماء في سرادق العروسْ
وقلت للطاووسْ:
تصير غرباناً علي الذبيحهْ
أرّختُ. كنت الكتب الجريحهْ
مصابة بالكتب الفؤوسْ
بعثتُ أوراقي إلي رفاقي
أرّختُ. صارت جنّتي بغداد
آهٍ علي بغدادْ
محزومةٌ بالماء والزنازن الفسيحهْ
أرّختُ للعروسِ
لو أرّخت غير الكتب الكسيحهْ)
وفي يقيني أنّ الإجابة علي التساؤلات السابقة تكمن في حقيقة أنّ الإنعطافة الأسلوبية الفاصلة التي شهدتها تجربة قاسم حدّاد منذ مطلع الثمانينيات وحتى أواسطها لم تكن تدور حول قلق الشكل (التفعيلة، أو قصيدة النثر)، بل حول قلق اللغة الشعرية أوّلاً، وقلق الموضوعات ثانياً. وليس بغير مغزى تعبيري عميق أنّ مجموعتَي قلب الحبّ و شظايا تشتركان في سمات محدّدة طارئة علي أسلوبية حدّاد: القصيدة القصيرة، أو تلك التي لا تتجاوز السطرين؛ قصيدة الحب؛ وموضوعة محاورات العاشق؛ المسحة الغنائية الممتزجة برومانسية شفيفة؛ والاشتغال التشكيلي علي علاقات التجاور الدلالي بين الألفاظ.
هذا القلق الأسلوبي (الذي يدور جوهرياً حول الأدوات التعبيرية، وليس حول الخيار بين شكل التفعيلة وقصيدة النثر) هو الذي سوف يعطينا دفعة من أصفي مجموعات قاسم حدّاد الشعرية، بدءاً من انتماءات ، وصولاً إلي عزلة الملكات (1992)، ومروراً بالمجموعة المتميّزة يمشي مخفوراً بالوعول (1990). وفي هذه المجموعة الأخيرة تحديداً ندرك مقدار الاضطرام التعبيري الذي قاد الشاعر إلي هذا المستوي المستقرّ من القدرة علي المصالحة بين الشكلَين، والمستوي القَلِق (المتحرّك أبداً) من أنساق تجريب الأدوات، واللغة الشعرية بخاصة.
وإذا كانت هذه المجموعة قد صدرت في مطلع التسعينيات، فإننا من جانب آخر نعرف أنها كُتبت في العام 1982: عام انخراط قاسم حدّاد في دورة معقدة من البحث الجمالي والاستكشاف التعبيري. ومّما يرتدي أهميّة خاصة في هذا السياق أنّ الشاعر هنا كان قد استقرّ كثيراً في علاقته النقدية مع خياراته الشعرية السابقة، ولكنه استقرّ أكثر في استقلاله عن تأثيرات شعراء المدرسة الحديثة ، كما كان يحلو له تسمية شعراء التحديث العرب في المراكز .
ومجموعة (قبر قاسم) (1997) هي ذروة اكتمال دورة البحث والاستكشاف تلك، والأرجح أن قاسم حدّاد قرّر ــ بعد هذه المجموعة بالذات ــ أنّ تاريخه الأسلوبي قد شهد الكثير من التصارع والتطاحن والقلق والاستقرار، وأنّ الأوان قد آن لإصدار الأعمال الشعرية الكاملة. وليس من المدهش، والحال هذه، أن يكون هاجس تطوير اللغة الشعرية هو القاسم المشترك الأعظم في المعادلات الجمالية والتعبيرية التي نهضت عليها هذه المجموعة، الأضخم حجماً والأكثر أهمية في تراث الشاعر.
وشخصياً يحلو لي أن أري في قرار منح قاسم حداد جائزة العويس للشعر تكريماً لدورة البحث والاستكشاف تلك، وهي الدورة القلقة الغنية المفتوحة التي تجاوزت عقدة الشكل حين تطهّرت من عقدة الانحياز إلي شكل واحد وحيد.
* ناقد من سورية يقيم في باريس
(1) أنظر لمزيد من التوسّع: صبحي حديدي: قاسم حداد: نهر جنح ضدّ عادة الماء ، مقدّمة أعمال الشاعر الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت وعمّان، 2000.
فخري صالح
(الأردن)
غداة صدور أعماله الشعرية الكاملة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في جزءين فاز الشاعر البحريني قاسم حداد بجائزة سلطان العويس للشعر. وكان علي تنافس مع عدد غير قليل من الشعراء العرب المرشحين لها. وغدا فوزه بالجائزة هذه تتويجاً لتجربة شعرية تحتل مرتبة بارزة في حركة الشعر العربي الحديث. هنا قراءة في عالم قاسم حداد.
نعثر في عمل قاسم حداد الشعري علي جملة من التحولات التي تمس لا شكل القصيدة فحسب وإنما الرسالة الشعرية والعلاقة بالقارئ وسياق الكتابة. وما بين مجموعته الشعرية البشارة (0791) وعمله الشعري المركب قبر قاسم (7991) ثمة مسافة حقيقية تفصل الشاعر البحريني، الذي بدأ متأثراً كغيره من الشعراء الطالعين في الستينات ببدر شاكر السياب، عن منجزه الشعري الذي حققه في مجموعاته الأخيرة. وقد طالت التحولات الشكل والأسلوب واللغة والنظرة والعالم الشعري فانتقل شعر قاسم من وضوح القول والمباشرة وتلازم التعبير الشعري والغايات الإيديولوجية الى غموض اللغة والتعبير الأسطوري وتوليد عوالم يختلط فيها الفردوسي بالجحيمي والشخصي بالجماعي.
في مجموعاته الأولي، البشارة و خروج رأس الحسين من المدن الخائنة (2791) و الدم الثاني (5791) يغلب علي شعر قاسم التعبير المحمل بالإيقاع السياسي والاجتماعي لتلك المرحلة المتفجرة بالأحداث والمثقلة بالتطلعات. وقد كان قاسم حداد واحداً من الشعراء الطليعيين، لا في الخليج العربي فقط بل في الوطن العربي كذلك؛ وهو منذ بداياته في مطلع الستينات قام بتمثل التطويرات الشكلية في القصيدة العربية الجديدة وراح يصب في الشكل الجديد رغبته في التغيير وطاقاته التعبيرية التي تفيض عن إيقاعات الشكل الجديد. وبغض النظر عن غلبة أصوات الرواد في بدايات قاسم حداد فإن هم الشاعر يتلخص في التلويح بالبشارة والغد الآتي؛ أي أن الشكل الشعري يتحول الى قالب تعبيري، الى مجرد أداة تنقل الى المتلقي أشواق الشاعر وتطلعه االى مستقبل تتحقق فيه الأحلام السياسية التي ينهض عليها شعره. ونحن نعثر في قصيدته خروج رأس الحسين من المدن الخائنة علي تناص واضح مع قصيدة السياب أنشودة المطر حيث يعيد حداد ترتيب سياق بيت السياب الشهير (ما مر عام والعراق ليس فيه جوع) ليصبح: ما مر عام والخليج ليس فيه جوع في نوع من تعميم الحالة العراقية علي الخليج كله.
ما قصدته من إيراد المثال السابق من شعر قاسم حداد، في تلك المرحلة المبكرة من تجربته الشعرية، هو أن أنبه الى طبيعة اختياراته الشعرية والسياسية والاجتماعية، وهي ذات طبيعة متداخلة ان علي صعيد الشكل الشعري أو علي صعيد الالتزام بالثورتين السياسية والاجتماعية. لكن ذلك دفع حداد الى تقليص بحثه الشعري وحفره في اللغة وفتح الأفق أمام خياله ليتآلف التعبير مع الأسطورة. وهو ما سنجده في مجموعاته الشعرية اللاحقة التي استطاع ان يجد فيها صوته الخاص.
إذا انتقلنا الى المرحلة التالية من تطور تجربة قاسم حداد، في مجموعتيه قلب الحب (0891) و شظايا (1891)، فسنجد تحولاً واضحاً بل انعطافة مركزية في رؤية الشاعر. ثمة في هاتين المجموعتين اعتماد كامل لشكل قصيدة النثر. وإذا كان الشاعر قد استخدم النثر ليطعم به شكل التفعيلة في بعض قصائد مجموعاته السابقة فإنه هنا يختار النثر متحرراً من اكراهات الإيقاع والقافية، ويطلق طاقاته التعبيرية في أناشيد حب أو قصائد توقيعات تقترب في عوالمها من قصيدة الهايكو. ويمكن عد قصيدة تحولات طرفة بن الوردة (من مجموعة الدم الثاني ) انطلاقة واثقة لحداد في اتجاه مزاوجة الشكلين الإيقاعي والنثري في تجربته التي ستعتمد في صورة متواترة هذا الصنيع الشعري الذي يسعى الى الاستفادة من الأشكال الشعرية المتعددة لخدمة غاياته التعبيرية ضمن العمل الشعري الواحد.
أما قلب الحب فهي أغنية حب طويلة مقسمة الى مقاطع، أو قصائد قصيرة تستثمر طاقات النثر وامكاناته التعبيرية واشتماله علي لغة المجاز والتعبير المباشر واسترسال السرد، وهو ما سيشكل انفتاح العمل الشعري لدي قاسم حداد علي آفاق لم يعرفها شعره سابقاً. لكن التطور الحقيقي في شعر حداد يحصل في مجموعته شظايا التي نعثر فيها علي عوالم واهتمامات أدونيسية، سواء في حقل اللغة الشعرية أو طبيعة بناء الجملة الشعرية أو تصعيد الخيال الشعري وصوغ وصف ميتافيزيقي أو حسي للأشياء والعالم. والأهم من هذا التجاذب الذي يحصل مع تجربة أدونيس (يهدي حداد هذه المجموعة الشعرية الى مهيار ) هو استخدام حداد لقصيدة التوقيعات، أو اعتصاره لشكل الهايكو أو القصيدة شديدة القصر التي تصوغ صورة شعرية محكمة أو تعبر عن موضوع واحد وتستخدم أسلوب الضربة النهائية كما في العمل الموسيقي. وهاكم بعض الأمثلة:
? أن اختلف مع الجرح/ علي أن أأتلف مع السكين
? هذا الرعب المهيمن علي روحي/ ورثته من طرقة الباب في الليل/ الطرقة التي لا موعد لها/ ولها كل المواعيد
? بدأت/ وحيداً/ ولم أزل
? محاصر بالرمح.../ والرمية
? رجراجة هذه الأرض/ أين أضع قدمي؟
لكن قاسم حداد لا يغادر شكل التفعيلة الى شكل قصيدة النثر إذ يكرس مجموعتين شعريتين لقصيدة النثر، بل هو يعود بين المجموعتين لاستثمار شكل التفعيلة (في القيامة ، 0891)، ثم انتماءات (2891)، وهما تعتمدان في صورة أساسية شكل التفعيلة وتستثمران الطاقات التي يتيحها، وتغوصان علي ذاكرة هذا الشكل وما راكمه الشعراء الرواد، ومن بعدهم، في ميراث قصيدة التفعيلة. وقد تجلي ذلك كله في قصيدة أوراق الجاحظ الصغيرة التي تعد واحدة من أفضل القصائد التي أنجزها حداد في مسيرته الشعرية فهي تفتح تجربته علي أبرز ما فيها: الطاقة الإيقاعية الخلاقة، المرونة في الشكل، الانتقال بين الكتل الإيقاعية ببراعة فائقة، الانتقال بين الأزمنة؛ وأخيراً: الاستفادة بصورة خلاقة من شكل قصيدة التوقيعات والهايكو في نص يزاوج بين الطول والقصر، والسرد والتعبير الكثيف. ولعل هذا النص يمثل ذروة إنجاز قاسم حداد في مزجه الموفق بين خصائص القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وما يتحدر من امكانات تعبيرية تتيحها قصيدة النثر العربية وغير العربية.
في مرحلة تالية من مسيرته الشعرية يراوح قاسم حداد بين شكلي التفعيلة وقصيدة النثر، فهو يزاوج في مجموعته يمشي مخفوراً بالوعول (كتبت عام 2891 ونشرت عام 0991) بين التفعيلة والنثر آخذاً الشكل الى نهاياته التعبيرية حيث تطول السطور وتقصر، ويتكثف التعبير، أو تستدير السطور الشعرية لاهثة في إيقاع محموم، أو يغزو النثر الشكل الإيقاعي للقصيدة. ويمكن أن نطلق علي هذه المرحلة من تجربة قاسم الشعرية حيرة الشكل لكنها حيرة تجعل الشاعر يستفز كل ذخيرته الشعرية ليكتب نصوصاً منداحة لا شكل لها أحياناً وان كانت تستثمر أشكالاً كثيرة.
لها كل ما تشتهي/ والفارس يتشبث بلجام الحرب والحسرة، لا يصل/ يمسح أحجار الطريق
خائفاً هارباً يتذكر أحلامه
لها كل ما تشتهي فأعدوا لهم ما استطعتم/ أعدوا، ولكنهم
لم يزل فارس الليل في وحشة يجتاز جيش الكلام.
احتفي بالنهايات (الأعمال الشعرية، المجلد الثاني، ص: 17).
لكن إذا كان حداد يراوح في يمشي مخفوراً بالوعول بين التفعيلة والنثر، أو يمزج بينهما، أو يعجنهما معاً فإنه يعود في معظم قصائد عزلة الملكات (2991) الى شكل قصيدة النثر الذي يتيح له قدراً من الصفاء الأسلوبي الذي لا يحققه الشاعر في قصائده الموقعة. ومع أن قاسم يجرب أدواته التعبيرية باضطرام أكبر، ولغة أكثر ثراء وغوصاً علي غموض الوجود والإنسان، في قصائده التي تلجأ الى الإيقاع الدافق، إلا انه في شكل النثر يبدو أكثر وضوحاً ووقوعاً علي موضوعاته الشعرية، وألصق بالتيار الراهن في القصيدة العربية حيث قصيدة النثر، بتجلياتها وطاقاتها التعبيرية الفسيحة وميلها الى القصر والكثافة والسرد، هي السائدة بين جيلي السبعينات والتسعينات. إن قاسم حداد، المنتمي الى جيل الستينات عمراً وتجربة شعرية، يظل الأقرب من بين مجايليه الى هذين الجيلين، ولا تمنعه عن هذا القرب حيرته بين الأشكال ونوسان تجربته بين طاقة الشعر الإيقاعية الدافقة وغني شكل قصيدة النثر التي تستفيد من الترجمات ونثر المتصوفة والكتابة الحوشية (كما في عمل الماغوط).
ينتقل الشاعر في قبر قاسم يسبقه فهرس المكابدات تليه جنة الأخطاء (7991) الى صيغة كتابة يتجاور فيها النثر والشعر، والسرد والتعبير الخاطف، والإيقاع الصاخب والتعبير النثري الخافت، واللغة الشذرية والتعبير الشعري المنداح المتدفق الذي ينطلق بلا هدف أو غاية في كتابة بلا مركز. وهذه بعض الأمثلة: ? ذاهب لترجمة الليل.
? المخفي... يخيف.
? ناس الغابات/ يعيثون فساداً في البيت.
? سيكون عليهم تنظيف التاريخ من الدم/ سيكون عليهم غسل كلامهم من الكذب
سيكون عليهم تأنيب القتلى في كفن مستعمل/ سيكون عليهم تحرير الصمت من الأحجار.
وسوف نصادف في هذا الكتاب الشعري المركب نصوصاً تأخذ شكل الكتابة النثرية التي تتتابع فيها السطور، ويتوالى فيها السرد، لكنها لا تمتلك وضوح النثر وغاياته الافهامية فهي بذلك ألصق بالشعر وعوالمه التخييلية وطبيعته الاستعارية. وبذلك تصل تجربة قاسم حداد الشعرية الى مفصل أساسي من عملية التجريب النصي حيث يرتاد شعره أصقاعاً من التعبير تثري مسيرته الشعرية وتجعله يغوص عميقاً علي عوالم المعني واللامعنى التي تنوس بينهما رؤيا الشاعر البحريني البارز.
جريدة (الحياة)
(ت.م: 18-01-2002 )
صبحي حديدي
(سوريا/باريس)
I
لعلّ معظم الرأي العامّ الثقافي العربي يجمع علي أنّ جوائر الشاعر ورجل الأعمال الإماراتي الراحل سلطان بن علي العويس (التي تمنح خمس جوائز في حقول الشعر والرواية والنقد والعلوم الإنسانية والإنجاز الثقافي والعلمي، مرّة كلّ سنتين، وبقيمة 001 الف دولار أمريكي لكلّ حقل) هي الجوائز الأرفع والأهمّ والأكثر نزاهة. ما قد يجهله الكثيرون، في المقابل، هو أنّ النظام الداخلي للجوائز، ومنهجية تشكيل لجان التحكيم، وطرائق وتقاليد عمل هذه اللجان، والإحتراف العالي الذي يطبع عمل الأمانة العامة وحياديتها التامّة في المناقشات، كلّ هذه عوامل صانعة لتلك السمعة الطيبة التي تجعل جوائز العويس أكثر إثارة لاهتمام الجمهور الثقافي العربي، بالمقارنة مع جوائز أخري (الملك فيصل، اليماني، سعاد الصباح، البابطين، الخ...).
ولقد سبق لي أن شاركت في تحكيم جوائز العويس، وأسمح لنفسي تالياً بإيضاح بعض عناصر الصورة في ما يخصّ منهجية وطرائق وتقاليد عمل لجان التحكيم، دون المضيّ أكثر ممّا ينبغي في كشف أسرار عمل هذا المطبخ المعقّد الذي يتخذ القرارات بطريقة تشاورية سجالية وديمقراطية في آن. وما الغرض من إيضاح بعض هذه العناصر سوي ملاقاة الثقة التي يمنحها الرأي العامّ الثقافي العربي لجوائز العويس من جهة، والتشديد من جهة ثانية علي حقيقة أنّ مناخات الحياة الداخلية للجان التحكيم هي التي لعبت وتلعب الدور الحاسم في ما تتمتّع به هذه الجوائز من سمعة طيبة، ومسار متصاعد، ومجاراة مدهشة لقوانين التطوّر التي تشهدها الحياة الأدبية والثقافية العربية ذاتها.
الخطوة الأولي في تشكيل لجان التحكيم تبدأ من اختيار الأعضاء (بناء علي ترشيحات ليست قليلة التعقيد)، حيث يُراعي مبدأ التنوّع في السنّ والتجربة النقدية والحساسيات الفكرية والمنهجية وحسّ الموضوعية في دراسة وتقييم العمل الأدبي والفكري. الخطوة الثانية، بعد الحصول علي موافقة المرشحين لعضوية لجان التحكيم، هي تقسيمهم إلي أربع لجان فرعية (بالنظر إلي أنّ جائزة الإنجاز الثقافي والعلمي يمنحها مجلس أمناء مؤسسة العويس)، ثمّ موافاة كلّ عضو بنسخة كاملة من أعمال المرشحين للجائزة في حقل اختصاص اللجنة الفرعية (بعد أن تكون لجان خاصة في الأمانة العامة قد استبعدت ما ينبغي استبعاده من المرشحين الذين لا ترقي أعمالهم إلي مستوي المنافسة علي الجوائز)، وذلك قبل فترة زمنية كافية تتيح لعضو لجنة التحكيم أن يستدرك ما قد يكون فاته الإطلاع عليه من أعمال المرشّح (وعلي سبيل المثال، إذا كان العضو يعمل في لجنة تحكيم الشعر مثلاً، فإنه سوف يتلقي صناديق كُتب تحتوي مئات المجموعات الشعرية، وليس العشرات منها فقط!). الجانب المهمّ في هذه المرحلة من العمل هو أن أيّاً من أعضاء لجان التحكيم لا يعرف هوية الأعضاء المشاركين الآخرين، سواء أكانوا معه في اللجنة الفرعية أم كانوا في لجان أخري.
الخطوة الثالثة هي قيام كلّ عضو بكتابة تقارير نقدية عن كلّ المرشحين دون استثناء، ثم اختيار مرشحه المناسب للجائزة وتعليل الإختيار، وإرسال التقارير إلي الأمانة العامة، التي تقوم بجمعها وطباعتها بحيث يُتاح لكلّ عضو في لجنة التحكيم (في كلّ الفروع) الإطلاع علي نسخة كاملة من جميع التقارير في الجوائز الأربع. الخطوة الرابعة هي اجتماع لجنة التحكيم للتداول واتخاذ القرارات، حيث (في هذه المرحلة فقط، وفي الإجتماع الإفتتاحي الأوّل) يعرف عضو لجنة التحكيم هوية زملائه في اللجنة الفرعية وفي لجنة التحكيم كاملة بالتالي.
ويحدث أن يعقد أعضاء اللجان الفرعية اجتماعات تمهيدية خاصة للتداول حول أسماء المرشحين في حقل اختصاصهم، وقد يتوصّلون إلي مرشح إجماع واحد يعرضونه علي اللجنة، وقد يفشلون في ذلك فيتمسّك كلّ عضو لجنة فرعية بمرشّحه. وأمّا القرار النهائي فهو من حقّ لجنة التحكيم الكاملة، حيث تذوب اللجان الفرعية تلقائياً عند مناقشة جائزة الإختصاص، ويصبح التصويت (بعد مناقشات مستفيضة ومعمّقة وساخنة والحقّ يُقال!) هو سيّد اللعبة. والباب الثامن من اللائحة الداخلية لجائزة العويس ينصّ علي أنّ الأمين العام هو الذي يرأس لجنة التحكيم بحكم منصبه، ويحقّ لأعضاء الأمانة العامة حضور جلسات التحكيم كمراقبين فقط، كما ينصّ علي أن قرارات لجنة التتحكيم تتمّ بالأغلبية، وإذا تساوت الأصوات يرجح الجانب الذي فيه الأمين العام أو من ينوب عنه.
ولا ريب في أنّ طرائق العمل هذه هي السبب في أنّ أبرز الأدباء العرب حصلوا علي جوائز العويس تباعاً، دون أن يؤثّر في قرارات لجان التحكيم أنّ انتماءات بعضهم الإيديولوجية أو السياسية أو حتي الجمالية (وأخصّ بالذكر أمثلة محمد مهدي الجواهري، سعدي يوسف، عبد الرحمن منيف، يمني العيد، سعد الله ونوس) كانت تشكّل نقطة الحرج هذه أو تلك بالنسبة إلي جائزة خليجية في نهاية المطاف. الجانب الثاني، والأهمّ ربما، هو أنّ طرائق العمل ذاتها كفلت للجائزة مواكبة الحياة وسنّة التطوّر، وجنّبتها التقوقع والإنعزالية والإنحياز لأشكال أدبية بعينها، أو تفضيل تيّارات ومدارس فكرية وجمالية علي سواها لأسباب لا علاقة لها بالأدب دائماً.
وفي حيثيات منح جائزة الشعر، الدورة السابعة 1002 ـ 2002، إلي الشاعر البحريني قاسم حداد قالت لجنة التحكيم إنّ شعره يتميّز بالاهتمام بقضايا الإنسان في مواجهة الواقع، وقضايا الإبداع في مواجهة المكرّس والثابت . وأضافت أنّ لغته تميّزت بالجدة والحيوية والقدرة علي استغلال إيحاءات الألفاظ والعبارات بما يخدم غرضه الشعري، وإنْ كانت لغته لم تسلم من الغموض وذلك يعود إلي اتكائه بصورة خاصة علي معطيات الحدس والحلم وعوالم الباطن في تشكيل التجربة الشعرية .
والأرجح أنّ الفقرة الأخيرة (التي تثير بعض التحفّظ علي غموض لغة حداد الشعرية) هي الإيحاء الأوضح حول الصراع الذي دار داخل لجنة التحكيم، بين أنصار القديم وأنصار الحديث، الأمر الذي يحدث دائماً في مداولات لجان التحكيم، وهو أمر طبيعي وحيوي ومطلوب في الواقع. ذلك لأنّ جائزة الشعر العويسية حقّقت هذا العام نقلة نوعية في موقفها من أشكال الشعر العربي السائدة اليوم، واختارت الفائز من صفوف شعراء قصيدة النثر، وهذا يحدث للمرّة الأولي. صحيح أنّ حداد يكتب التفعيلة أيضاً، ولكن من الصحيح أيضاً أنه شاعر قصيدة نثر، وتأثيره في المشهد الشعري الخليجي نهض وما يزال علي خياراته الطليعية في المحتوي والشكل معاً، وقد لا نبالغ إذا قلنا أنّ الشكل كان دينامية التأثير الأكثر أهمية في السنوات الأخيرة من تجربة حداد.
هذا، في عبارة أخري، اعتراف بشعرية قصيدة النثر من جهة، وإقرار بـ شرعية وجودها علي الساحة الأدبية العربية من جهة ثانية. وتاريخ جائزة العويس، الذي بدأ في العام 8891، يشير إلي منح جائزة الشعر إلي فدوي طوقان، وسعدي يوسف، وعبد الله البردوني، وعبد الوهاب البياتي، وأحمد عبد المعطي حجازي مناصفة مع إبراهيم نصر الله، ومحمد عفيفي مطر، وقاسم حداد، فضلاً عن منح جائزة الإنجاز الثقافي والعلمي إلي محمد مهدي الجواهري ونزار قباني. ثمة شكل العمود (الجواهري والبردوني)، وثمة التفعيلة في مختلف أطوارها الأجيالية والأسلوبية، ولكننا قبل قاسم حداد لا نعثر علي شاعر واحد يكتب قصيدة النثر، أو يكتبها دون التخلّي عن التفعيلة.
وقد يقول قائل إنّ الإعتراف التامّ بشعرية و شرعية قصيدة النثر سوف لن يتحقّق إلا حين تُمنح الجائزة إلي شاعر لا يكتب التفعيلة، ولا يكتب سوي قصيدة النثر وحدها. وقد يكون في هذا القول بعض المنطق، ولكنه من جانب آخر منطق مفرط في الغلواء والإنحياز لشكل محدّد واحد وحيد، وكأنّ الشاعر ينبغي أن يحمل شكل قصيدته هوية دالّة عليه، وأن يُقرأ بدءاً من الشكل وحده، ويتمّ تذوّقه وتثمينه من هاهنا فحسب. من جانبي أميل، دون أوهام كثيرة، إلي اعتبار قرار منح قاسم حداد جائزة الشعر إقراراً بأنّ شكل قصيدة النثر لم يعد مشروعاً وحاضراً وداخلاً في نسيج الشعرية العربية المعاصرة فحسب، بل هو أيضاً شكل جدير بالتكريم وحيازة الجائزة الأدبية العربية الأرفع والأهمّ والأكثر نزاهة وموضوعية.
II
في دراسة سابقة (1) أشرت إلي أنّ تفاعل التجارب الشعرية الخليجية الشابّة مع شعر قاسم حدّاد اتخذ علي الفور ــ وفي نسبة عالية ــ شكل التأثّر بقصيدة النثر التي أخذ حداد يكتبها، أكثر من قصيدة التفعيلة التي بدأ بها ولم ينفكّ عنها. كأنّ الأصوات الشابة المتميّزة التي قرأنا تجاربها ببهجة وإعجاب منذ أواسط الثمانينيات ومطلع التسعينيات (قادمة من السعودية وعُمان والإمارات وقطر والبحرين) كانت قد أزمعت الإنشقاق مبكّراً عن نماذج التجديد تلك، لا لشيء إلا لأنّ نزوع الإنشقاق كان بين أبرز الدروس الجمالية التي بشّر بها الرائد نفسه.
وبذلك فإنّ من الإنصاف الحديث هنا عن دور ريادي مزدوج لعبه قاسم حداد: الأوّل جمالي ـ إبداعي يتّصل بضرب المثال الشعري كتابةً وخيارات، والثاني ثقافي ـ سوسيولوجي يتّصل بضرب المثال الإنشقاقي سلوكاً وإيديولوجية. ولعلّ النبرة الكفاحية العالية في قصائد قاسم حدّاد الأولي (مجموعاته: البشارة (0791)، خروج رأس الحسين من المدن الخائنة (2791)، و الدم الثاني (5791) بصفة خاصة)؛ وحقيقة كتابته لعدد كبير من القصائد وهو في المعتقل؛ وتنقّله المَرِن بين شكل التفعيلة وشكل قصيدة النثر؛ كانت جميعها بمثابة أمثولات بادية للعيان تماماً، حاضرة في مشروعات التحديث المحليّة الشابّة (الخليجية) ومتواصلة مع مشروعات التحديث العربية (الناجزة بهذا القدر أو ذاك في المراكز الشعرية)، وقادرة أبداً علي المساهمة والإغناء والإغتناء، محليّاً وعربياً في آن معاً.
هذه، في عبارة أخري، هي سياسة التجديد التي تتجاوز مهامّ تكريس التيّار الأدبي، وتكتسب وظيفة ثقافية ـ سوسيولوجية عميقة الأثر حين تعبر حدود تطوير الأساليب والأشكال والأغراض، وحين تحضّ علي المقاومة في النصّ الأدبي مثل المقاومة في السلوك الإنساني، وتدافع عن مقترحات جمالية وأخري فكرية، وترسل جوهرياً رسالة الإنشقاق البنّاء: عن السائد في الكتابة (مبني ومعني، شكلاً ولغة وموضوعات)، وعن السائد خارج الكتابة (النظام والمؤسسة، السياسة والأخلاق).
ومنذ مجموعة مجموعة الدم الثاني ، 5791، أخذنا نهتدي إلي شخصيّة الشاعر التي بدأت تستقلّ تدريجياً عن جملة التأثيرات، وإلي أولي السمات الأسلوبية التي سترافقه زمناً طويلاً، وستغتني من مجموعة شعرية إلي أخري. لقد أخذ يدير شبكات سردية تمنح القصيدة حركة دوّامية ونموّاً عضوياً هادئاً؛ ويقيم حوارات بين ضمائر المتكلّم والغائب والمخاطَب، بالمفرد وبالجمع؛ ويبدّل التفاعيل داخل القصيدة الواحدة علي نحو سلس متّسق أحياناً، ومتقطّع خشن الوقع أحياناً أخري؛ ويضمّن الكتلة التفعيلية مقاطع نثرية مفاجئة؛ ويترك للغة أن تسترسل في ما يشبه الطواف اللفظي الحرّ؛ ويمزج في القصيدة الواحدة بين التركيب الدرامي ـ الحواري والتركيب الغنائي ذي الضمير المنفرد. أمّا موضوعات قصائده فقد خرجت، مرّة وإلي الأبد في الواقع، عن تلك النبرة الخطابية الحارّة التي طبعت مجموعته الأولي، ومالت أكثر فأكثر إلي التمحور حول الرؤي الحلمية والصوفية التي تتشكّل استناداً إليها عوالم طرفة بن الوردة، ومنظورات رثائه لعصره، وتحوّلاته الميتافيزيقية في الزمان والمكان:
في طرف القبر حلمٌ: أنا الطرف الثالث للحلم
ماءٌ يسير ويختصر الموتَ والمهرجانْ
سأفصل ما بين عصر الوقوف وبيني
ليَ الآن حرّية في الرحيلْ
لغاتي ذائبة وحدها في الهواءْ
إذا شئتُ أدخلُ من فجوة الليل أو أستقيلْ
حوانيتٌ توزّع مرض الحزن والنومْ. ومصحّاتٌ
بحجم السأم المرابط تنشر سلالة الشرطيّ
والصلاة والشفق واحتقان الأمل في الوريد.
وتحتلّ الغفلة جيلاً بلا أسئلة.
أنا خندقٌ عمّقته السؤالات والشكّ أن الطفولة ماءٌ
وأنّ النخيل طريقٌ إلي الماءْ.
ومن الواضح أنّ السطور 7 ـ 01 تخرج عن الكتلة التفعيلية إلي النثر دون سابق إنذار، كما أنّ مخطط التواتر المخفّف للقافية لا يشبه في شيء تلك المخططات السابقة حين كان قاسم حدّاد يلجأ إلي التسكين أو التضحية بالتشكيل الصحيح لأواخر الكلمات في سبيل تحقيق القافية.
قبل هذه المجموعة وبعدها شهدت تجربة الشاعر منعطفها الحاسم التالي، حين استقرّ علي تكريس مجموعتَين كاملتَين لشكل قصيدة النثر: قلب الحبّ (0891)، و شظايا (3891). ويمكن الركون، دون أدني مساءلة، إلي ما يقوله حدّاد عن هذا الطور، الذي يدشّن مراحل تململه الفنّي في المجموعات الأولي، ويتبلور في خروج مباشر وشامل عن التفعيلة . غير أنّ الإعتراف الأكثر أهميّة، حول هذه المرحلة، هو ذاك الذي يتعلّق بإدراك الشاعر للمسؤوليات المترتبة علي حيازة الحريّة التعبيرية هذه، وخطورة أداتها الكبري: اللغة. وفي سيرة النصّ يقول: الإحتفاء باللغة، إذن، هو الشرط الأوّل لتخلّق الحالة الشعرية، حيث الصورة الفنّية لا تتحقق بغير طاقة الجمال الكامنة في اللغة (...) تبلور ذلك في تعاظم الحساسية تجاه الإيقاع اللامتناهي في اللغة العربية: الكلمات، الجمل، المفردات، الحروف، الصور، الإستعارات، الدلالات، العلاقات. كنت أجد في اللغة طاقة هائلة من الإيقاع، الذي كانت الأوزان والتفاعيل تسحقه أو تَعبر عليه بضجيجها الخارجي والعام، ورأيت في ذلك كبتاً لحرّية الحرف، كوحدة وذات، في مواجهة القانون الموضوعي العام، الذي لا يري في الحرف سوي جرس يمكن أن يصخب مثل طبل في نهاية كلّ كلمة وعند خاتمة كلّ قافية.. في ذيل الشطر أو التفعيلة .
لماذا ــ بين مجموعة قصائد نثر وأخري، وبعدهما أيضاً، وبعد هذا الكلام المتشدّد ضد ضجيج التفاعيل وجرس الحروف التي تصخب مثل طبل ــ عاد قاسم حدّاد إلي كتابة قصيدة التفعيلة في القيامة ، بل واستخدم القافية في انتماءات ؟ ألا تبدو مقاطع قصيدته الفاتنة أوراق الجاحظ الصغيرة وكأنها تذكرة بليغة بأفضل ما في تقاليد قصيدة التفعيلة من صياغات موسيقية باهرة؟ هنا، علي سبيل المثال، مقطع من مجموعة انتماءات ، 2891، يصعب أن تكون حروف قوافيه صاخبة مثل طبل:
أرّختُ للدماء في سرادق العروسْ
وقلت للطاووسْ:
تصير غرباناً علي الذبيحهْ
أرّختُ. كنت الكتب الجريحهْ
مصابة بالكتب الفؤوسْ
بعثتُ أوراقي إلي رفاقي
أرّختُ. صرت جنّتي بغداد
آهٍ علي بغدادْ
محزومةٌ بالماء والزنازن الفسيحهْ
أرّختُ للعروسِ
لو أرّخت غير الكتب الكسيحهْ
وفي يقيني أنّ الإجابة علي التساؤلات السابقة تكمن في حقيقة أنّ الإنعطافة الأسلوبية الفاصلة التي شهدتها تجربة قاسم حدّاد منذ مطلع الثمانينيات وحتي أواسطها لم تكن تدور حول قلق الشكل (التفعيلة، أو قصيدة النثر)، بل حول قلق اللغة الشعرية أوّلاً، وقلق الموضوعات ثانياً. وليس بغير مغزي تعبيري عميق أنّ مجموعتَي قلب الحبّ و شظايا تشتركان في سمات محدّدة طارئة علي أسلوبية حدّاد: القصيدة القصيرة، أو تلك التي لا تتجاوز السطرين؛ قصيدة الحب؛ وموضوعة محاورات العاشق؛ المسحة الغنائية الممتزجة برومانسة شفيفة؛ والإشتغال التشكيلي علي علاقات التجاور الدلالي بين الألفاظ.
هذا القلق الأسلوبي (الذي يدور جوهرياً حول الأدوات التعبيرية، وليس حول الخيار بين شكل التفعيلة وقصيدة النثر) هو الذي سوف يعطينا دفعة من أصفي مجموعات قاسم حدّاد الشعرية، بدءاً من انتماءات ، وصولاً إلي عزلة الملكات (2991)، ومروراً بالمجموعة المنتميّزة يمشي مخفوراً بالوعول (0991). وفي هذه المجموعة الأخيرة تحديداً ندرك مقدار الإضطرام التعبيري الذي قاد الشاعر إلي هذا المستوي المستقرّ من القدرة علي المصالحة بين الشكلَين، والمستوي القَلِق (المتحرّك أبداً) من أنساق تجريب الأدوات، واللغة الشعرية بخاصة.
وإذا كانت هذه المجموعة قد صدرت في مطلع التسعينيات، فإننا من جانب آخر نعرف أنها كُتبت في العام 2891: عام انخراط قاسم حدّاد في دورة معقدة من البحث الجمالي والاستكشاف التعبيري. ومّما يرتدي أهميّة خاصة في هذا السياق أنّ الشاعر هنا كان قد استقرّ كثيراً في علاقته النقدية مع خياراته الشعرية السابقة، ولكنه استقرّ أكثر في استقلاله عن تأثيرات شعراء المدرسة الحديثة ، كما كان يحلو له تسمية شعراء التحديث العرب في المراكز .
ومجموعة قبر قاسم (7991) هي ذروة اكتمال دورة البحث والاستكشاف تلك، والأرجح أن قاسم حدّاد قرّر ــ بعد هذه المجموعة بالذات ــ أنّ تاريخه الأسلوبي قد شهد الكثير من التصارع والتطاحن والقلق والاستقرار، وأنّ الأوان قد آن لإصدار الأعمال الشعرية الكاملة. وليس من المدهش، والحال هذه، أن يكون هاجس تطوير اللغة الشعرية هو القاسم المشترك الأعظم في المعادلات الجمالية والتعبيرية التي نهضت عليها هذه المجموعة، الأضخم حجماً والأكثر أهمية في تراث الشاعر.
وشخصياً يحلو لي أن أري في قرار منح قاسم حداد جائزة العويس للشعر تكريماً لدورة البحث والإستكشاف تلك، وهي الدورة القلقة الغنية المفتوحة التي تجاوزت عقدة الشكل حين تطهّرت من عقدة الإنحياز إلي شكل واحد وحيد.
ہ ناقد من سورية يقيم في باريس
(1) أنظر لمزيد من التوسّع: صبحي حديدي: قاسم حداد: نهر جنح ضدّ عادة الماء ، مقدّمة أعمال الشاعر الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت وعمّان، 0002.
علي الديري
(البحرين)
1
ما السؤال الذي تطرحه علينا جائزة قاسم؟ " يطرح قاسم بتجربته أسئلة مرعبة في سياقنا الأدبي والشعري والثقافي، 4بتقا! ولكن حائزته تطرح- ف! ما أرى- سؤالا واحدا ملحا على سياق ذاكرتنا الوطنية الثقافية آلتي ينتجها وسطنا التربوي بخططه وسياساته ومناهجه وثقافته التي يصدر عنها في برمجته للذاكرة الثقافية التي أن تتجسد فيما بعد في شكل عقل جماعي. الآن ما هو السؤال؟ السؤال في صيغه المتعددة هو: لماذا لم يصبح قاسم جزءا من هذه الذاكرة؟ لماذا لم يستطع مبرمجو هذه الذاكرة استيعاب تجربة قاسم ضمن ثقافتهم وخططهم التي يبرمجون عبرها ذاكرتنا؟ لماذا لم يستطع الوسط التربوي المسئول بصورة مباشرة عن صياغة ذاكرتنا وطريقة تفكيرنا، استيعاب قاسم ضمن مرحعيته الثقافية التي يستند إليها في أحكامه و! ويستدعي من معطياتها معايير تقييماته؟ إن جائزة قاسم تستدعي في اللحظة الراهنة مساءلة الأجهزة المسئولة بصورة مباشرة عن برمجة تفكيرنا. فالفوز والتقدير الخارجي يمثلان الشرط الذي عبره تتحقق لذات المبدع مكانتها في أوساط ثقافته التي لا ا تعرفه. والوسط التربوي هو واحد من هذه الأوساط التي لم تمكنها طبيعتها الثقافية الساكنة من معرفته أو لنقل إنها عرفته ولكنها أساءت فهمه، لذا فهي مدعوة اليوم بعد هذا الإنجاز الذي لا يمكنها إزاءه المماراة أو التشكيك، الى مراجعة ذاتها عبر تجربة ذات هذا المبدع. إننا لا لمكن أن نكتشف أخطاءنا أو أن نعرف قصور ذاتنا إلا عب!ر الذوات الأخرى، فالإنسان كائن حواري لا يكف عن البحث عن ذات أخرى تغايره من الجلي أن يعمق فهمه لذاته، وهذا ما دعا الاتتروبولوجى الفرنسي (ك! لود ليفي شتراوس) الى أن يعرف الاتتروبولوجيا تجأنها "رحلة سفر الى ثقافاتك عبر ثقافة أخرى، إن الثقافة الواحدة تضم في داخلها ثقافات متعددة، فالثقافة ليست كلا متجانسا بقدر ما هي كل مختلف ومتضاد ومتنوع. ومن هنا فإن الوسط التربوي ممثلا في إدارة المناهج- على الأقل- مدعو الى مراجعة ثقافته اليوم عبر الثقافة الأخرى التي يجسد قاسم بتجرشه نموذجا من نماذجها المتعددة. ولكن، ما الذي نعنيه بثقافة الوسط التربوي؟ وما الذي نعنيه بتجربة قاسم؟ !ح " -3- الوسط التربوي ومؤسسته الرمزية: إن السؤال الذي نطرحه على الوسط التربوي يتجاوز الحديث ص-- عن هذا الوسط بما هو إدارة مناهج وخطط وأهداف وانشطة ونصوص، تديرها مجموعة من الموظفين والعاملين (الذين ربما لا حول لهم ولا قوة) تحت مسميات وظيفية مختلفة، إنني أتجاوز ذلك، الى الحديث عن الوسط التربوي بما هو برنامج تعمل من خلاله جملة المكونات الإدارية والبشرية، إي الحديث عن الثقافة التي تصوغهم برمجتها، إي الحديث يتجاوز ما يتوهمون أنهم يصوغونه من خطط وأهداف، الى ما يصوغهم ويصنعهم من مفاهيم وأفكار. -
يمكننا أن نستعين بمفهوم ا، الحساسية الثقافية" لنوضح ما نحنيه بآليات البرمجة. لقد شهد مفهوم الحساسية، انتعاشا كبيرا في ا أوساط النقد الأدبي المعني بدراسة العلاقة بين التغيرات الثقافية والتغيرات الجمالية التي يتحدد من خلالها مفهوم الأدب أو أدبية الأدب حسب اصطلاح جاكبسون. يعني مفهوم الحساسية المعاني التالية: - الوعي والإدراك عن طريق العقل أو الحس أو عن طريقهما معا. - امتلاك المقدرة الثقافية على الحكم والتمييز والتمتع بذوق أدبي.
ترتبط الحساسية برؤية ما وبموضوع الذوق بكل دلالاته الاجتماعية و الحضارية، وبكل ارتباطاته بالثقافة و القدرة على الحكم و التمييز.
- طريقة كاملة للتصور ة التلقي.
إطار معرفي وجمالي عام يشمل الإبداع وطرائق تلقيه. أراجع دراسة صبري حافظ "جماليات الحساسية والتغير الثقافي "في مجلة فصول العدد ط/ 4986 م) إن معايير حكمنا على القصائد " ا والشعراء واللوحات الفنية والمقطوعات الموسيقية آ والأحداث الاجتماع! ة والسياسية والكتابات "، الصحفية والمقالات الفكرية+ " والأزياء والموديلات وا لموضات، إن ! معايير حكمنا على كل ذلك
وطريقة استقبالنا له وتفاعلنا معه وتذوقنا له، تتم وفق ع حساسيتنا الثقافية، وإذا ما طرأ تغيير على هذه الحساسية فإن طريقة تلقينا وحكمنا على هذه الأشياء تتغير حتى لو لم تتغير هذه الأشياء نفسها. ا نا لا نولد بحساسية معينة، ولكن الثقافة التي تربينا هي التي تبرمجنا وفق حساسيتها، فنتذوق الأشياء وفقها، لذا فالثقافة حسب ما يعرفها (كيلفرد غيرتز) من خلال دراساته !أ الاتتروبولوجية للشعوب المختلفة هي (، هي آليات الهيمنة من خطط وقوانين وتعليمات كالطبخة الجاهزة التي تشبه ما يسمى بالبرامج في علم الحاسوب ومهمتها هي التحكم بالسلوك" (أنظر عبد الله الغذامي- النقد الثقافي"، وعبدالله يتيم "دفاتر أنتربولوجية)
2
وفق هذين المفهومين للثقافة والحساسية الثقافية، يمكننا أن نسائل مؤسسة وسطنا التربوي، والمؤسسة هنا، حسب تعريف ويليامز، مجموعة من الأعراف والقوانين، من هنا فالثقافة مؤسسة رمزية، والوسط التربوي هو ايضا مؤسسة رمزية، لها قوانينها الثقافية التي تصيغ من خلالها حساسية عقولنا. لكننا نسائل مؤسسة وسطنا التربوي عبر الأسئلة التالية: لماذا لا تستطيع هذه الحساسية أن تستوعب ما جرى في الثقافة العربية خلال الخمسين سنة الماضية؟ هل يمكن لهذه المؤسسة أن تراجع ذاتها (1 و تقيم حسب التعبير التربوي) لذاتها؟ أي هل بمكنها أن تكشف ذاتها من غير الرجوع الى ذات أخرى مختلفة عنها؟ هل يمكن أن تكون هناك تغيرات أو تطويرات نوعية في هذه المؤسسة.، غمر إحداث تغيير في حساسيتها الثقافية؟ هل من المجدي أن تكتفي هذه المؤسسة بتعديل أهدافها أو تغيير موضوعاتها من غير أن
تراجع سياستها المعرفية التي تقول عبرها؟ لماذا تبقى حساسية هذه المؤسسة تعاني من حساسية مفرطة من أي نقد يوجه لها؟ اذا كانت هذه الحساسية قد درجت على إقصاء واحتقار وتغييب كل ما لا يتماثل معها من تجارب شعرية وروائية ونقدية وفكرية وثقافية، فهل يمكنها أن تخلق حساسية حوارية تؤمن بالتعدد في عقول الأجيال التي تبرمجها؟ هل يمكن أن تكون هناك حساسية جديدة من غير اخذ هذه التجارب في الاعتبار؟ لماذا تختزل هذه الحساسية هذه التجارب التي لا تستطيع فهمها الى مجموعة من الأحكام السلبية؟ كيف صاغت هذه المؤسسة ذاكرتنا الثقافية؟ هل بمكن أن نتحدث عن التطوير والتغيير من دون أن نسائل حساسية برامجنا التي تصوغ مؤسساتنا؟ خارج دائرة الحساسية الأدبية هل تستوعب هذه المؤسسة التغييرات والحساسيات الثقافية الجديدة التي تجري داخل دائرة العلوم الإنسانية؟ هل تستوعب العلاقات الجديدة بين الانسان ونصوصه وخطاباته وإبداعاته والعالم؟ ما الذي تعنيه تجربة قاسم بالنسبة للنقد الحديث؟ وما الذي تعنيه لهذه المؤسسة؟
لتجربة قاسم وعالمها الموازي: لتتزل تجربة قاسم في أفق فهم المؤسسة التربوية في شعر غامض يستعصي عن الفهم، ولكنه إي فهم؟ انه فهم هذه المؤسسة النابع من حساسيتها الثقافية وطريقة تمثلها التقليدية للغة والعالم والشعر لإنسان. يمكن أن نختزل تجربة قاسم في الشعر فقط ونضحي بالسياق الثقافي الذي أنتج عبره قاسم هذا الشعر، ولا يمكن أن نختزل شعره في محل!ادبيته فقط، فتجربته أوسع من ذلك وشعريته اكتر من جمال خالص. ! تجربة قاسم تمثل ذاته، أليست الذات جهدا وعملا وتجربة ونشاطا؟! د.-8-. *!ع تجربة قاسم ليست صورا جميلة وأخيلة شعرية وإيقاعات بلاغية مجردة نم من أي قيمة ثقافية أو روية كونية، بل هي عالم موار لهذا العالم الذي نعيشه. إن العالم ليس شيئا معطى، إي ليس قطعة من أثاث أو كتلة من حديد أو اسمنت مشكلة بصورة نهائية. بل العالم صورة وتمتلا ومعنى تبنيه الذات وفق تجربتها فتصوغه في شكل إبداعي يأخذ تسمية شعرية أو فلسفية أو فنية أو روائية. تأخذ التجربة قيمتها بقدر ما تقترحه علينا من مغايرة، تدفع بحساسيتنا الثقافية، لتعيد النظرة في ذاتها من جديد، كي نرى الأشياء برؤية مغايرة، ونقيم العلاقات بين الكائنات على أسس مختلفة ونبدع صورة للإنسان غير مألوفة، وبذلك نجدد مفاهيمنا للغة والعالم والحلم والسلطة والكشف والإنسان والصورة والإيقاع. وتنجح التجربة في تحقيق فرادتها بقدر ما تميت كورسها، ذلك الصوت الجماعي المهيمن الذي يمارس سلطته الرمزية على الذات الإبداعية تحت مسميات وهمية تجرم كل خروج وتشوه كل حادث طارئ، فتغرب التجربة في سياقها الذي نعيش فيه. يمثل "موت الكورس " في تجربة قاسم إعلانا عن موت صوت المؤسسة الجماعية المتحكمة في ذائقة الناس وأشكال تلقيهم وطريقة رويتهم. وفي هذا الإعلان اقتراح لحساسية جديدة ترى الأشياء عبر تمثيل جديد للحياة، وعبر هذا التمثيل يمكننا أن نعيد خلق العالم وأشيائه من جديد. إن تجربة قاسم تقدم نفسها بوصفها تمثيلا جديدا لحياة يمكننا عبرها أن نراجع ذواتنا، ونعيد التفكير في الأنساق التي تتحكم في طريقة رقيتنا. يخطئ من يظن أن تجربة قاسم تقدم نفسها بوصفها ذائقة شعرية أو أدبية مقطوعة الصلة بأوجه الانسان الثقافية الأخرى. إن كل استعارة في هذه التجربة تكشف عن علاقة ثقافية وإنسانية مغايرة، وكل مجاز يقدم ! امكانا جديدا لفهم العالم والإنسان. إن تجربة قاسم لا تغير العالم بالمعنى الثوري النضالي المباشر، لكنها تقترح مجالا ثقافيا يفتح العلاقة بين أطراف الاستعارة والمجاز على مساحات جديدة فتغدو الكائنات غير الكائنات.
3
عبر هذا الاقتراح يمكن للمؤسسة التربوية أن تعمد صياغة حساسيتها الثقافية، لتمكن مريديها من رؤية عوالم مشيدة برؤى مختلفة.@
سعد الدوسري
(السعودية)
فاز الشاعر البحريني قاسم حداد بجائزة سلطان العويس الثقافية، في دورتها هذا العام، مما يشكل إعترافاً من مؤسسة ثقافية إمارتية، غير رسمية، بمنجزات شاعر كبير، لم يحظَ من قبل بتكريم يليق به، لا في بلده البحرين، و لا في أي بلد عربي آخر. لن أتحدث هنا عن الخزائن الإبداعية والثقافية لهذا الفنان الإنسان، و التي ابتدأت فعلياً، بعد اعتزاله العمل السياسي، وما رافقه من إختفاءات وراء الشمس. ابتدأت حين أدرك أن رهانه الوحيد، هو الشعر. لن أتحدث عن دواوينه التي بدأ في إصدارها أوائل الستينيات، و لا يزال يصدرها حتى اليوم : منذ "قلب الحب"، و حتى "قبر قاسم"، أسس أبو طفول، نمطا جديدا للشعر في البحرين، وأنماط جديدة للتفكير الثقافي. لن أتحدث عن التفات الأصوات الجديدة في الخليج حول رؤية قاسم حداد، كمشاغب حقيقي في اجتراح نص أدبي مغاير للنصوص السائدة. لن أتحدث عن جهوده في إعادة كتابة الموروث الأدبي: تجربته الشعرية "مجنون ليلى" مع الفنان التشكيلي العراقي ضياء عزاوي، و تجربته الشعرية عن حياة الفنان التشكيلي فان جوخ. وتجربته في تفعيل الموسيقى باتجاه النص الشعري مع الملحن خالد الشيخ والمخرج عبدالله يوسف وبإلقاء أدونيس، وعن بيانه الشهير "موت الكورس" مع امين صالح، وعن تطويع الصورة الفوتغرافية للنص الشعري في "الأزرق المستحيل" مع المبدع صالح العزاز، أعاده الله لنا، من غربة مرضه. سأتحدث عن مرونة هذا الشاعر في قبول كل ما هو جديد، ليس في مجال الشعر، بل في الدخول الى عالم تقنية المعلومات: يجب أن نعرف أولا، أن قاسماً لم يحظ بتعليم عال، لكنه حينما تبنى التطوير في النص الأدبي، لم يرفض (مثل كثيرين) أن يطور أدواته في وسائل الكتابة. لقد عشت مع قاسم انتقاله من الكتابة بالقلم، الى الكتابة على الكيبورد. عشت معه دخوله المبكر للإنترنت، وأنا قد دخلت لهذا العالم مبكرا مثله. بعد رسائلنا البريدية والفاكسية، صار لكل منا بريده الإلكتروني. دشن قاسم موقعه الشخصي مبكرا، وساعدني كثيرا في التدشين المبكر لموقعي الشخصي، و كان معييننا في هذا المجال، عبيدلي العبيدلى، صديق قديم لقاسم، ومؤسس شركة النديم لتقنية المعلومات، وهو من أوائل الرجال الذين انتبهوا لمستقبل هذه التقنية في البحرين. بعد موقعه الشخصي، تفرغ قاسم لتأسيس موقع "جهة الشعر"، وهو من أهم المواقع الثقافية العربية على الإنترنت. إنه مكتبة غنية بالتراث الأدبي، وبالنتاجات المعاصرة لكل الشعراء والقصاصين والروائيين والفنانين التشكيليين، باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، وبجهود تحديثية يومية، ينشغل فيها قاسم يوميا. لقد قلت في رسالتي له، بعد قراءتي خبر فوزه: لقد تشرفت الجائزة بك يا قاسم الحب.
Monday 10 December 2001
الرياض الالكترونية
سعد الدوسري
(السعودية)
فاز الشاعر البحريني قاسم حداد بجائزة سلطان العويس الثقافية ، في دورتها هذا العام ، مما يشكل إعترافاً من مؤسسة ثقافية إمارتية ، غير رسمية ، بمنجزات شاعر كبير ، لم يحظَ من قبل بتكريم يليق به ، لا في بلده البحرين ، و لا في أي بلد عربي آخر . لن أتحدث هنا عن الخزائن الأبداعية و الثقافية لهذا الفنان الإنسان ، و التي إبتدأت فعلياً ، بعد إعتزاله العمل السياسي ، و ما رافقه من إختفاءات وراء الشمس . إبتدأت حين أدرك أن رهانه الوحيد ، هو الشعر . لن أتحدث عن دواوينه التي بدأ في إصدارها اوائل الستينيات ، و لا يزال يصدرها حتى اليوم : منذ " قلب الحب " ، و حتى " قبر قاسم " ، أسس أبو طفول ، نمطا جديدا للشعر في البحرين ، و أنماط جديدة للتفكير الثقافي . لن أتحدث عن إلتفات الأصوات الجديدة فى الخليج حول رؤية قاسم حداد ، كمشاغب حقيقي في إجتراح نص أدبي مغاير للنصوص السائدة . لن أتحدث عن جهوده في إعادة كتابة الموروث الأدبي : تجربته الشعرية " مجنون ليلى " مع الفنان التشكيلي العراقي ضياء عزاوي ، و تجربته الشعرية عن حياة الفنان التشكيلي فان جوخ . و تجربته في تفعيل الموسيقى باتجاه النص الشعري مع الملحن خالد الشيخ و المخرج عبدالله يوسف و بإلقاء أدونيس ، و عن بيانه الشهير " موت الكورس " مع امين صالح ، و عن تطويع الصورة الفوتغرافية للنص الشعري في " الأزرق المستحيل " مع المبدع صالح العزاز ، أعاده الله لنا ، من غربة مرضه .
سأتحدث عن مرونة هذا الشاعر في قبول كل ما هو جديد ، ليس في مجال الشعر ، بل في الدخول الى عالم تقنية المعلومات : يجب أن نعرف اولا ، أن قاسماً لم يحظ بتعليم عال ، لكنه حينما تبنى التطوير في النص الأدبي ، لم يرفض ( مثل كثيرين ) أن يطور أدواته في وسائل الكتابة . لقد عشت مع قاسم إنتقاله من الكتابة بالقلم ، الى الكتابة على الكيبورد . عشت معه دخوله المبكر للإنترنت ، و أنا قد دخلت لهذا العالم مبكرا مثله . بعد رسائلنا البريدية و الفاكسية ، صار لكل منا بريده الإلكتروني . دشن قاسم موقعه الشخصي مبكرا ، و ساعدني كثيرا في التدشين المبكر لموقعي الشخصي ، و كان معييننا في هذا المجال ، عبيدلي العبيدلى ، صديق قديم لقاسم، ومؤسس شركة النديم لتقنية المعلومات ، و هو من اوائل الرجال الذين إنتبهوا لمستقبل هذه التقنية في البحرين .
بعد موقعه الشخصي ، تفرغ قاسم لتأسيس موقع " جهة الشعر " ، و هو من أهم المواقع الثقافية العربية على الإنترنت . إنه مكتبة غنية بالتراث الأدبي ، و بالنتاجات المعاصرة لكل الشعراء و القصاصين و الروائيين و الفنانيين التشكيليين ، باللغات العربية و الإنجليزية و الفرنسية ، و بجهود تحديثية يومية ، ينشغل فيها قاسم يوميا .
لقد قلت في رسالتي له ، بعد قراءتي خبر فوزه : لقد تشرفت الجائزة بك يا قاسم الحب.
سعيد الحمد
مدعاة للفخر أن يفوز شاعر بحريني بجائزة سلطان (العويس للشعر)، ويتضاعف الفخر في مدلولاته وأبعاده حين يكون الشاعر (الفائز) هو الصديق قاسم حداد، ليس لأنه صوت شعري بحريني تفرد عربياً وليس لأن قاسم نسيج وحده في الإبداع، ولكن بالإضافة الى كل هذه (الشهادات) فان قاسم (شهادة وشاهد) على جيل يستحق فعلاً (الجائزة). ؟؟
لذا فمن حقنا نحن أبناء جيله أن نتقاسم مع قاسم الفرحة و البهجة و الفخر أيضاً. ربما لأنها ساعة (فخر بحرينية) لها خصوصيتها هذه الأيام لها أهميتها ولنا في دور ولنا في تاريخ وحكايات، ودفع جيل قاسم أكلافها وتحمّل أعباءها الجيل الأول و الجيل الثاني حتى لاحت لنا (البشارة) الأولى ذات ربيع.
والبشارة (أول ديوان لقاسم) لم يأت من فراغ بقدر ما كان صوتاً وتعبيراً عن أحلام وتشوفات ومغامرات جيل كان يعانق السماء في طموحاته، فيما الأرض البكر ما زالت حصاناً حروناً أرهقنا و أرهقناه جرحنا وجرحناه عذبنا وعذبناه حتى روضنا وروضناه.
و الجائزة اختارت فارسها في وقت جميل وتوقيت مناسب. ففيما السياسيون في بلادنا من جيل قاسم ورفاقه يقطفون جائزة السياسة، يقطف المبدعون في قاسم ومعه جائزة الشعر، ليكتمل المدار الجميل لجيل الفصل و الوصل، كما أحب أن اسمي جيلنا الذي ظل قابضاً على الجمر في كل شيء. ربما لأنه جيل جاء في (سنوات الجمر) عالميا وعربياً، إقليميا ومحلياً، فكان قدره أن يكون هكذا جيل فصل بين حقبة بما لها وبما عليها سياسياً واجتماعياً و ثقافياً وفكرياً و اقتصادياً، باذلاً عمره لأن يصل وينتقل بها الى حقبة هي الأمل. لم يفقد فيها القدرة على الحلم برغم كل الألم حتى أنجز وحقق جائزته.
ولعل جائزة (العويس) تكتسب أهميتها اليوم في أنها استطاعت فعلاً أن تكون _جائزة) لكل العرب، لها مكانتها المتميزة بين كل الجوائز العربية المماثلة وربما فاقتها من حيث الأهمية.
وهذا في حد ذاته مكسب خليجي آخر. فالراحل سلطان العويس تجاوز حدود المكان (الإمارات) وتجاوز حدود الزمان. فبرغم رحيله إلا أنه ظل اسما منقوشاً في وجدان العرب.
فالرجل أدرك مبكرا أن (الثروة) ليست رصيدا في مصرف، ولكنه (رصيد) في ذاكرة العمل وذاكرة الوطن.
وفي زمن يندر فيه الوفاء للإبداع ثقافة وشعراُ وفكراً، في زمن التراجع وانحسار الثقافة الحقيقية فاجأ سلطان العويس العرب، كل العرب بجائزة بدت وقتها (مغامرة) وهي تهتم بالمبدعين الحقيقيين وتخصص لإبداعاتهم.. (جائزة) تعيد لهم شيئاً من الوفاء.
وبالفعل فاقت الجائزة _جائزة سلطان العويس) كل الصخب وكل الضجيج لثقافة التخلف و الاستهلاك لتظل وحدها (الجائزة) الحقيقية التي يتنافس المبدعون ليعلقوها وسام شرف على صدر الوطن.
وحين هدأ ضجيج الجوائز المزيفة وصخب الإعلان الاستهلاكي لثقافة الاستهلاك، بقيت جائزة العويس علامة.
فاسمح لنا يا (قاسم) أن نهنئ أنفسنا بك، وبالجائزة وبمبدعين في بلادنا هم إضاءة لذاكرة الثقافة الأصيلة.
حسين السّماهيجي
(البحرين)
مع ذهابات قاسم حداد، ضمن مغامرةٍ امتدّت إلى حوالي الخمسة والثلاثين عامًا، صار بإمكاننا أن نقع على نموذجٍ استطاعَ تخليقَ ذاته المنطوية على شعريةٍ متجاوزةٍ للواقع بأعيانه المادية والنظرية، وتقع على رحابتها الذاتية من خلال هجسها بالمغايرة للذات وللآخر على حدٍّ سواء. لعل في ذلك، وفي أمور أخرى غير ذلك، ما يسوِّغ لنا المعاينةَ الخاصةَ لـ"حدّاد" بعد كل هذا الجهد والعطاء الضخم الذي قدّمه للشعرية العربية المعاصرة في الأفق العربي عامة. وهو على أية حال، مندغم في سياقٍ اشتغل على تنضيد شعريته بصبر ودأب عجيبين، وخاض في سبيل ذلك، معاركَ شرسةً خرج منها أنضرَ شعرًا، وأعمق جذرًا في تربته التي كثيرًا ما ساخت فيها أقدام مُدَّعي الكتابة.
نعم.. إنّ ذلك كلَّه يتيحُ لنا، الآن، أن نقترب بحميمية وشغف من هذه التجربة المتفرِّدَة. لا لأنها قد نالَت جائزةً هنا، أو حظيت بتكريمٍ هناك.. فما تلك الجوائز والتكريمات إلا تحصيل حاصلٍ بالنسبة لشاعر بقامة "حدّاد". بل يغدو وجود أسماء من أمثاله، علامةً على وعي واستجابة لجان تلك الجوائز لما تطرحه الشعرية العربية المعاصرة، من نتاجاتٍ أضافت الكثير للمادة الشعرية العربية الممتدة إلى حوالي السبعة عشر قرنًا.
يقع قاسم حداد على شعريته الخاصة به، من خلال ما استطاع تكريسَه في شعره، بحيث غدا أرفع الأشجار قامةً في وطنه. وصار حضورُهُ ملابسًا و/أو ملتبسًا بحضور البحرين والخليج في مختلف المحافل.
وهنا، أؤكد على نقطةٍ هامةٍ للغاية. فقاسم حداد كان مخلصًا بشكلٍ تامٍّ لتجربته الشعرية. هذا الإخلاص كان على مستويين. الأول، يتمثل في انشغاله التام بالعمل على تطوير تجربته دون أن تقوده الظروف إلى العمل على أشياء أخرى غير الشعر، أو ما يضيف إلى التجربة الشعرية؛ فاكتسب- بذلك- عمقًا وخبرةً قادت إلى المستوى الثاني، والمتمثل في أنّ قاسم حداد لم يكن ليركن إلى سلطة الأيديولوجيا، التي تبدّت بشكلٍ ساطعٍ في البدايات. ولكنه سرعان ما تخلّص منها، وانطلق إلى الشعر بما هو شعر. كل ذلك ليبرهن، ثانيةً، على أنّ المبدع يمكن أن يشكِّل سلطةً خاصةً بما هو مبدع محض، وليس بما هو مضافًا إلى سلطة حزبية ترتهن عقلَه وفؤاده ودمَه. إن قدرة قاسم حداد على تجاوز سلطة الأيديولوجيا هي التي مكَّنَت له، في واقع الأمر، من تحقيق ما عجز عنه الآخرون. فحريته الإبداعية التي نالَها مع لحظة سجنه في النصف الثاني من السبعينيات كانت بدايةَ رحلةٍ ومغامرةٍ من أمتع ما عرفه تاريخ الشعر لا في البحرين وحسب، بل في منطقة الجزيرة العربية. إنها سيرةُ الإبداع لإنسان هذه الأرض. وأظنّ أن سيرة قاسم حداد الشعرية بحاجةٍ شديدةٍ إلى إعادة النظر والتأمل والرصد؛ لما تنطوي عليه من قيمٍ شعرية وخبرات إبداعية متراكمة.
وإذا ما نظرنا إلى إنجاز قاسم على الصعيد اللغوي، فسنرى أنه يمتلك لغةً تتسم بالثراء والقدرة على التشكل المتجدد والمتجاوز منذ "البشارة" وحتى آخر إصداراته. هي لغة تشرّبت هواجس الرفض، وتشبّثت بأناها وذاتها حدّ التشظي. ولقد اكتنفت لغته رؤيا الشاعر الحالم بالحرية، والمنتمي إلى المهمشين والمعذبين والمقصيين من التواريخ الرسمية،، وما أكثرها؟!.. ولعله، وهو المغرم حدَّ الوله باستحضار صورة الذئب وثيمة الطرائد، كان مندفعًا بشراسة إلى التأكيد على حريته وأناه باعتبارها معادِلاً للوجود الشعري الفعّال، وليس الوجود التزييني والإضافي، كما هي حال الكثيرين.
أمّا عن علاقته بشكلانية النص والقصيدة، فإنّ لحظة "موت الكورس" كانت علامةً على وعيٍ متجاوز، وسلوكيةٍ شعرية لا ترتهن إلا للذات المبدعة. ولم تكن علاقة قاسم حداد بالنص لتتقيّد إلا بما تمليه لحظته الخاصة به.
النَّصُّ، عند قاسم حداد، يستحضر بصورته الكلية وجودًا يستبطن في أحشائه كلَّ صور العالَم، وآناءَ تشكُّله. إنه النص الذي يهجسُ بالمتعدد المتكثِّر، ويقترح أزمانَه الخاصةَ به، وكائناته التي تغادر وجودَها الماديَّ إلى وجوداتٍ شعريةٍ هو من عكف على خَلْقها؛ فلا يمكنك- من ثَمَّ- أن تشيح بوجهك عنها إلا وصيغة قاسم حداد المقترحة تنتصب أمامَك بما يتوالد منها من عوالم شعرية بهيجة، تعمل على تنضيد النص..
إّن قاسم حداد كان نبيًّا مصلوبًا؛ ولكونه نبيًّا مصلوبًا فقد بعث- بكلمته- الكائنات من رقدتها.
إنّ الدرس الذي تتيحه هذه التجربة الشعرية الجميلة لمتلقِّيها يمكن أن يطلق بعبارةٍ شديدة الكثافة والإيجاز "الإخلاص للشعر بما هو شعر".
محمد فاضل
(البحرين)
لم يفاجئني كثيرا فوز شاعرنا قاسم حداد بجائزة سلطان العويس لهذا العام، فبمؤشرات عدة مختلفة يمكن التنبؤ أحيانا بإنجازات من هذا النوع. فحداد أحد شعراء عرب قلائل مازالوا ممسكين بجذوة الشعر وجمرته. وهو مايزال قابضا على ناصية الدهشة كلما أطل علينا في إصدار جديد له.
أكتب عن حداد لا بصفتي ناقدا أدبيا بل أحد متذوقي شعره وكتاباته. فمنذ ان قرأت له في العام 1975، ظل حداد يدهشني دوما وبات واحدا من قلائل يملكون هذا القدر من التأثير والقدرة على الإدهاش بلغة شعرية متقنة الصنع دون تكلف وصور شعرية متفردة ورؤى بالغة الصفاء والتجرد للإنسان والمخلوقات والحياة هي ثمرات عقل جدلي متفكر لا يكف عن البحث ومخيلة لا يحدها شيء.
لكن عليّ أن اقر بأن فوزه أسعدني بشكل كبير، فهو إحدى تلك الفرص التي يجد المرء فيها نفسه وقد داخلته مشاعر زهو بأن يكون هو والمحتفى به أبناء بلد واحد بل أصدقاء، أي قليل من مشاعر التعصب الوطني. عدا ان هذا لربما سيدفعنا للحديث عن مسائل أخرى تثيرها مثل هذه المناسبات. وهي في الواقع كفيلة بتبديد جرعة الفرح والاستبشار لأنها ستحيلنا بالنهاية إلى ذلك السؤال الذي بات ملازما لحدث مثل هذا: لماذا لا نعترف بمبدعينا إلا عندما يعترف الخارج بهم؟.
إنني استخدم مفردة الاعتراف بمعناها الأشمل، ومن بين صور عديدة للاعتراف- ليس التكريم بالمفهوم السياحي والإعلامي من بينها قطعا- تعني بالدرجة الأولى التعامل مع المبدعين البحرينيين في مجالات الثقافة والفكر والفن باعتبارهم حقيقة قائمة يتوجب أخذها على محمل الجد وباعتبار ما ينتجونه إبداعا حقيقيا خاصة لأولئك الذين اجتازوا المقاييس الصارمة للحكم على جودة إبداعهم. والتساؤلات التي يمكن ان يثيرها هذا الجدل، لن تقودنا إلى إجابات شافية بل إلى إحدى الحقائق التي لازمتنا لوقت طويل في هذا البلد حيال الثقافة والفكر والفن والمبدعين. حقيقة ملتبسة دوما في نظرتنا وسلوكنا وسياساتنا في هذا المجال، سلوك يحركه شك مستوطن في النفس: هل يمكن أن يكون لدينا إبداع مثلما لدى الآخرين؟.
ربما كان هذا سؤالا يلازم المجتمعات الصغيرة، لكن الشك علامة على فقدان الثقة، ونحن هنا بصدد مجتمع وأجهزة رسمية استوطنها الشك في قدرة مواطنيها على الإبداع وعلى أن يكون لمجتمع البحرين ما لدى الآخرين من مقومات صنع هوية متكاملة السمات لشعب وبلد يملك إبداعه الخاص وسمات التفرد، أي قدرته على الابتكار والخلق والتجديد. وهي سمات لا تعطيه الحق في التفاخر، بل تعطيه الامتياز في الشعور بأن وجوده ليس طارئا وليس مفتعلا، الشعور بالقدرة والثقة في صنع حياته ومستقبله وجعلهما اكثر جمالا وأقل وطأة.
لست هنا لكي اصدر الأحكام من نقاش مجرد كهذا، وليس علينا سوى أن ننشط ذاكرتنا قليلا، فالذاكرة القصيرة هي إحدى آفات تلك الذهنية التي يستوطنها الشك حيال نفسها.
في العام 1978، أثمرت مشاركة البحرين في مهرجان اليونسكو للفنون الشعبية في باريس عن حصول فرقة البحرين المشاركة بفنون البحر على اكبر جوائز المهرجان، جائزة الاسطوانة البلاتينية. لكن المدهش كان الاحتفاء الكبير الذي قوبل به هذا الفن العظيم الذي نملكه في البحرين، فن "الفجري". فعلى مدى ثلاثة أيام تقريبا، كانت صور المرحوم سالم العلان والمرحوم احمد بوطبنيه آخر "النهامين" العظام في البحرين والخليج تتصدر الصفحات الأولى للصحف الفرنسية الرئيسية مثل "اللوموند" و"الفيغارو" تحت عناوين مثل: "باريس تسهر على أنغام صيادي اللؤلؤ". ولم تتوقف المفاجآت عند هذا الحد. فوسط الدهشة التي أثارها هذا الفن العظيم في باريس، بادرت الحكومة الألمانية إلى ترتيب رحلة للفرقة إلى ألمانيا وجال فنانو البحرين على اكثر من 10 مدن في ألمانيا الغربية آنذاك وكانت جولة اكثر من ناجحة يحق لنا أن نصفها بأنها رحلة مظفرة.
هل تكفي هذه الاستعادة لكي تحيلكم إلى المقارنة بين مثل هذا الاحتفاء الذي بلغ حد الجنون والوله بالفن البحريني وبين واقع فن الفجري وفنون البحر عموما الآن في البحرين مثلا ومعاناة القلة من محترفي هذا الفن العظيم والساحر أو الاندثار كمصير وحيد لهذا الفن الأصيل؟.
ان القائمة تطول، ففي العام 1985، منح المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت جائزته لذلك العام للدكتور محمد جابر الأنصاري. وكانت تلك مناسبة أخرى لا لكي يتذكر الكثيرون الأنصاري بل مناسبة أخرى لمواجهة ذلك السؤال: هل يمكن أن يكون لدينا إبداع مثلما لدى الآخرين؟. كانت الجائزة جواباً من نوع ما، لكن الأجوبة ما انفكت تتلاحق منذ ذلك الوقت وحتى اليوم.
هل اعرض المزيد من الأمثلة؟ جائزة مسرح أوال في العام 1973 في مهرجان المسرح العربي في دمشق، جائزة الإخراج لعبدالله السعداوي في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في العام 1974..؟. جائزة سعاد الصباح للقاص عبدالقادر عقيل قبل سنوات قليلة. هل أنسى قامة شامخة أخرى..؟ إبراهيم العريض الشاعر والفلكي الذي يكتب الشعر بأربع لغات؟ صاحب افضل ترجمة بعد ترجمة الصافي النجفي لرباعيات الخيام؟.هل ثمة علاقة بين الشعر والفلك هنا تذكرنا بالخيام؟.
وإذ استخدم مفردة الاعتراف بمعناها الأشمل، فإنني أشير بداية إلى معضلة يتوجب حلها لدى الأجهزة المعنية بشئون الثقافة والفكر والفن في بلادنا. فعلى هذه الأجهزة ان تحل مشكلة نظرتها وسلوكها حيال المبدعين البحرينيين في هذه المجالات وان تتعامل مع الإبداع باعتباره حقيقة قائمة ونشاطا ضروريا للمجتمع مثله مثل النشاط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وان تؤمن بالإبداع وبالمبدعين في هذه المجالات. إن استعراض الأمثلة بكل تفاصيلها لن يقودنا سوى إلى نتيجة واحدة هي ان المعضلة تكمن في ان التعامل مع الإبداع والمبدعين ظل على مدى عقود طويلة يتم باعتباره نشاطا عرضيا أو طارئا، ان وجد كان بها وان لم يوجد لا مشكلة.
ربما تبدو عبارة "تهيئة المناخ المناسب للإبداع" انسب العبارات التي يمكن ان نشير إليها كمهمة أساسية تقع على عاتق الأجهزة، لكن ذلك سيكون قاصرا اذا ما تداعت إلى أذهاننا صور التبجيل المجاني الرائجة في غير بلد عربي وصنع ماكينات دعاية لترويج الإبداع والمبدعين البحرينيين. ان هذا آخر ما أتصوره بل انه ليس في ذهني إطلاقا.
لنتذكر الاعتراف مرة أخرى. ليست لدينا أي نوع من آليات الاعتراف، لا مسابقات، لا جوائز في الثقافة والفكر والأدب والفن وأشكال الدعم الموجودة مهما خلصت نياتها تبقى قاصرة باعتراف القائمين عليها أنفسهم وبدليل استمرار الأزمات والعلاقة المأزومة دوما بين المبدعين والأجهزة. ان المبدعين البحرينيين يعترف بهم في الخارج ونتلقى نحن أخبار تكريمهم بردة فعل واحدة متكررة: أوه صحيح...؟. إن هذا لا يتعلق بقصور الإمكانيات المادية بل بانتفاء الرغبة أساسا. انه يحيلنا مرة أخرى للشك المستوطن في النفس: هل نحملهم على محمل الجد؟.
ان مجتمعا يفتقد الايمان بقدرته على الابداع ليس أمرا قابلا للنقاش، بل هو علامة خلل مؤكد. ولست هنا لادعو إلى تعميم مهرجانات التكريم والتبجيل المجاني بما فيها من مشاعر تعصب وضيق أفق، بل الكيفية التي تجعلنا نستعيد ثقتنا في مبدعينا لكي نستعيد ثقتنا في أنفسنا وفي مجتمعنا. أين هم المستثمرون الذين يملكون الإيمان بقدرات شعبهم في الإبداع لكي يحولوا الثقافة والفكر والفن إلى ضرورة وفعل مستمر ومتجدد و"مربح" وليس نشاطا عرضيا أو طارئا؟.
بإمكان هؤلاء ان يمضوا الساعات الطوال وهم يتحدثون عن موسيقى بيتهوفن وشعر المتنبي ومطربي الفيديو كليب العرب، لكنهم مازالوا عاجزين عن إدراك أسرار الجمال والإبداع في فن شعبي مثل فن "الفجري" مثلما أدركها البحاثة الأجانب، أو عن تذوق ثلاث مقطوعات موسيقية صغيرة لموسيقي يدعى مجيد مرهون (من يعرفه على أية حال)، أو جمال صوت مثل صوت هدى عبدالله او عن تذوق شعر مثل أشعار قاسم حداد أو نص من نصوص أمين صالح.
هل اكتب عن معضلة بحرينية؟ ربما، لكنها معضلة معممة إلى ابعد الحدود، معضلة عربية ممتدة وقائمة منذ "اكثر المخلوقات جمالا وجهامة ومهاجمة..منذ الكرسي والمائدة..منذ الماء في مكانه.."
مقاطع من ديوان قاسم حداد "قبر قاسم".
جريدة (الشرق) القطرية
الأحد 25 نوفمبر
فوزية رشيد
(البحرين)
ان فوز قاسم حداد بجائزة العويس الأدبية في محال الشعر هو فوز كان يستحقه منذ زمن طويل في وطنه، قبل أن يأتيه من الخارج فحداد الذي لو لم يشحذه الإبداع، متجاهلا منذ البداية صدأ اللامبالاة لإبداعنا البحريني، لما استطاع ان يحقق طموحه الإبداعي شعرا ونصوصا، رغم أنه حطي بشيء من الاهتمام أكثر من غيره نسبيا، ولكنه كان دائما اقل بكثير من فعل ريادته الإبداعية والوطنية ونقشه على الحجر، في زمن لم يكن يعبأ بالمبدعين والمثقفين بل كان يتقصد تهميشهم وإذلالهم وإهانتهم المعنوية.
إن قاسم حداد اختصر منذ زمن مسافات الكلام عنه، بتكثيف في لك الزمن في إبداعه الشعري، الذي جمع بين الريادة والتجديد، وأسس لقامة المبدع البحريني مكانا بارزا، يليق به وبحركتنا الأدبية خليجيا وعربيا وعالميا، رغم كل أشكال المعاناة التي عاناها مع مجايليه من المبدعين في بلدنا، وهو بالضرورة قد نال تكريمه منذ زمن طويل ايضا من شعبه الطيب والوفي، وحفر في ذاكرة الوطن اسما غير قابل للانمحاء. وهو بفوزه ليس بجائزة العويس فقط، إنما هذه المرة بعد الإصلاحات السياسية ؟ الشاملة يفوز بفتح ملف الثقافة والمبدعين والحركة الأدبية في البحرين، ويلقي على عاتق المعنيين بالثقافة. عبء البحث والسؤال لماذا يتم تكريم أدبائنا وكتابنا ومبدعينا وتقديرهم من الخارج اكثر مما يأتي من الداخل؟! مع أن كل الأوطان المتحضرة تتفاخر بمبدعيها ومثقفيها ومفكريها، لماذا يطغى الاهتمام بالثقافة الاستهلاكية أكثر من الإبداع الأبرز قيمة، وتأسيساً لخلايا العقل والروح والأكثر تجذيراً لثقافة العمق؟ متى يدرك المسؤولون أن المبدعين الذين يجمعون بين الريادة والتجديد ليسوا عملة مكررة في أي بلد كما يعتقد البعض لمجرد احتشاد الهواء بكثرة الأسماء حتى تكاد القلة المتميزة، من الرواد والأجيال اللاحقة، تضيع في المناخ الفاسد الذي ينبذ المسافات بين ما هو متميز وغير متميز، وكأن ليس لديه مثل المجتمعات الأصيلة مقياساً نزيهاً لقياس القامات الأدبية والابداعية، فيصعب التمييز، رغم أن الفرز الدقيق يتيح للأجيال الابداعية الراهنة. والقادمة، أن تتمايز بدورها حسب عمق وجدارة ما تعطيه للثقافة وللإبداع وللحركة الأدبية في البحرين من عمق وجدة وتعامل مسؤول مع الذات الابداعية و الذات الوطنية؟
هل تطغى الى هذا الحد حسابات العلاقات الشخصية وحشر أسماء ضمن الأحوال الشللية، على، دقة الموازين والمعايير، حتى كدنا أن نصاب- إن لم نصب- بتسمم ثقافي أو فساد إبداعي تغلب فيه الشطارة الدعائية والترويجية على قيمة وتميز ما يتم الترويج له في الغالب؟ فإذا ما تم الفرز لماذا يتم تهميش ما هو إبداعي ورائد الى حد القتل المعنوي لأسمائنا الإبداعية الرائدة والمهمة في مجالات الشعر والرواية والقصة والمسرح، والى حد الإهانة بعدم تخصيص منتديات نقدية قط حول إبداعهم، مضافاً إليه التجاهل العام والقتل المادي حين تتبعثر الطاقات الابداعية المتميزة في التحصيل على العيش، فيما مرتزقوا الثقافة والإبداع يتم تكريسهم وشحذهم بالعناية القصوى، ونفخ جيوبهم وإتاحة كل شيء لهم دون عوائق أو حواجز. أين العناية بالكتاب الأدبي والإبداعي المتميز والرائد، وأين مطابع دوائرنا الثقافية مما هو غير متواجد من الكتب الابداعية الرائدة والهامة والتي لا يتمكن كتابها من إعادة طبعها على حسابهم الخاص. فإذا كان لاشيء يعوضنا عن حداد، لوحدثت صدفة- وما اكثر- ولم يحز على التكريم والجوائز العربية في حياته، رغم الحيازة على تقدير شعبه، فان حداد هنا يطلق المبادرة بفوزه هذا، لتأمل أوضاع مثقفينا ومبدعينا من الرواد الذين يستحقون كل عناية وتكريم وتشجيع وإزالة العوائق أمامهم بعد بلوغهم المراحل الصعبة من العمر، وذلك بتفريغ من يستحق منهم ذلك تفريغاً (إبداعيا) وليس (نقاعديا وضيفياً) يتمكنوا قبل فوات الأوان من تقديم خلاصة! تجاربهم الابداعية بما فيه خدمة للوطن وإعلاء شأنه الابداعي والثقافي.
ولنبدأ، من يعوضنا عن محمد عبدالملك الذي لا يزال بعد كل هذا العمر والريادة والعطاء في القصة القصيرة والرواية والكتابة يبحث عن مخرج يوفق فيه بين الإبداع ولقمة العيش؟!
من يعوضنا عن أمين صالح الذي له نكهة العشب الطري فيما يكتب ولغة المروج حين تهجس، حتى كاد أن يذهب من بين أيدينا بأزمة قلبية مباغتة دون أن تتم العناية به بعد إبداعياً وتكريماً كما يستحق وكما يليق به؟
من يعوضنا عن عبدالله خليفة وهو يحفر في ذاكرة الوطن والتاريخ والنضال قصصه ورواياته وابحاثه وكتاباته الصحفية، صابرا ومتجلداً كالجبال رغم دوار رأسه (مثل الرواد الآخرين) بين الكتابة والإبداع وبين لقمة العيش الصعبة في العمل الصحفي، الى جانب التهميش الأزلي لقيمته كمبدع وكباحث؟!
من يعوضنا عن أحمد الشملان الذي دفع من صحته وحياته وطاقته الابداعية ثمنا باهظاً لمواقفه الوطنية في عهد ما قبل الميثاق.. ولولا ما تعرض له من نكسة صحية لكانت طاقته أسعفتة لولادات ابدأعية تعطي ثمارها الناضجة في سن النضج، ورغم ذلك ورغم تبعات مرضه فإنه لا يزال دائخاً في تحصيل لقمة العيش، ناهيك عن عدم تكريمه وتقديره رسمياً.
من يعوضنا عن حمدة خميس التي تحتاج الوطن لتعيش فيه لا حين تموت، وهي إحدى القامات الشعرية النسائية على مستوى الخارطة العربية وليس الخليجية وحدها، إنها لا تزال تتحايل على لقمة العيش بالكتابة الصحفية، فيما تجاهد بشكل دائم للعمل على مشروعاتها الابداعية العديدة.
من يعوضنا عن يوسف الحمدان الذي يحمل فوق ظهره هموم التجديد في المسرح كتابة وفاعلية مسرحية ونقداً متميزا، وهو يرى التقدير في الوطن العربي ولا يتم الالتفات الى طموحاته ومطالبه المسرحية في وطنه وبشكل فعلي وليس كمجرد وعود؟!
من يعوضنا عن عبدالله السعداوي الذي يتعامل معه الرسميون بخفة لا تليق بتفاصيل وعيه وعطائه المتميز في المسرح كتابة واخراجاً، وهو حتى لا يجد عملا مناسبا يقتات منه رغم ما قدمه للوطن من جوائز!
من يعوضنا أيضا عن رواد آخرين فرضوا وجودهم واماكنهم بحكم الابداع والاجتهاد وطبيعة الوظيفة التي اسعفتهم في تكريس اسمائهم مثل د. ابراهيم غلوم، ود. علوي الهاشمي، وعلي عبدالله خليفة، ود. محمد جابر الأنصاري، وعلي الشرقاوي. مذكرين أن هؤلاء يستحقون التكريم الذي يليق بحجم عطائهم الابداعي أو النقدي أو الفكري. والى جانب هؤلاء يأتي الجيل الذي أتى بعد جيل الرواد مثل فريد، رمضان (الذي يعاني من مداهمة المرض له) وفوزية السندي ومنيرة الفاضل وعبد القادر عقيل وإيمان أسيري. ولا ننسى خلف أحمد خلف وابراهيم بوهندي وعبد الحميد القائد وسلمان الحايكي وغيرهم الذين اسهموا منذ البدايات الأولى محركتنا الأدبية بعطاءاتهم المتميزة كل في مجاله. إن المبدعين يقدمون وحدهم عصارة الروح والعقل لأوطانهم، وهم ضمائر وسفراء أي وطن أكثر من غيرهم، إذا اقترن عطاؤهم الابداعي بالتواصل وبالمواقف الوطنية المشرفة، وهم من يرفعون على مستوى العالم ( إذا تميزوا) اسم الوطن، وهم يقدمون كل ذلك بالطبع دون مقابل مادي، حيث الابداع وحده رغم الجهد فيه والكلفة للتثقيف الذاتي من اجله والمدفوع الثمن من أرزاقهم خاصة ان جهدهم الابداعي لا يدخل حتما في اطار احتسابه كوظيفة مدفوعة بالطبع، وهنا نود أن نقول ان هؤلاء وفي مراحل نضجهم وعدم إكمال مشاريعهم بسبب القوت والرزق والوظيفة، هم أحق من غيرهم بالتقدير المعنوي والمادي، وتفريغ الرواد منهم والمتميزين في كتاباتهم، وأصحاب المشاريعع المعطلة، أن يتم تفريغهم تفريغا (إبداعيا) بعد تكريمهم بكل الوسائل وبما يستحقون ومن قطاعات مختلفة رسمية أو ثقافية أهلية. وهنا اعتقد أني اقترب من الهم الابداعي والثقافي على مستوى الوطن لدى قاسم حداد، الذي قال الكثير حول العلاقة بين المثقف أو المبدع والسلطة، لنؤكد على كل ما قاله في ذلك، ونعتبر أن تكريمنا له كشاعر رائد ومجدد، يلتحم بلفت النظر الرسمي والشعبي الى حركتنا الأدبية، والى الأسماء الهامة في هذه الحركة، دون الانسياق وراء تأكيد أمثلة مريرة مثل (كرامة لنبي في وطنه) أو (زمار الحي لا يطرب) أو... وحداد أحد الذين يستحقون اكثر من تكريم واكثر من جائزة،
نتمنى له المزيد من النجاح والتوفيق والتقدم، لأن نجاح وتقدم أي مبدع بحريني هو نجاج وتقدم لوطننا، الذي نتقاسم كلنا الانتماء إليه، والحب الصادق له الذي لا يغني حتى لو فارقته أجسادنا، فالروح باقية لتدل على القيمة الابداعية والثقافية لهذا الوطن، وهي أرقى قيمة لو أدرك المتجاهلون، مضافاً إليها كل التحققات الأخرى.@
أخبار الخليج - البحرين - الأربعاء 28 نوفمبر 2001 |