تكريم الشاعر قاسم حداد
في
( أثنينة خوجة )
جدة
الممكلة العربية السعودية
http://www.alithnainya.com/books.asp
حفل تكريم سعادة الأستاذ قاسم
حداد
في 25/1/1423هـ
الموافق 8/4/2002م
المشاركون في التكريم مع قاسم حداد |
افتتح الأستاذ حسان كتوعة عريف الحفل الأمسية
قائلاً:
عريف الحفل: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء
والمرسلين سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أصحاب الفضيلة والمعالي والسعادة محبي الاثنينية... الأخوة الحضور، السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
ها نحن نلتقي مجدداً في هذه الدار العامرة، لكي تحتضننا أثنينية الحب والوفاء
مرة أخرى في هذه الليلة المباركة ونجتمع سوياً لكي نكرِّم في هذه الليلة
فارساً من فرسان الشعر في الوطن العربي، وهو غني عن التعريف، سعادة الأستاذ
قاسم حداد. فباسمكم جميعاً نرحب بسعادته وصحبه الكرام، وعلى بركة الله؛
وكما تعودنا دائماً نبدأ أثنينيتنا بتلاوة آيٍ
من الذكر الحكيم للقارئ الشيخ مصطفى الرهوان.
"تلاوة مباركة"
عريف الحفل: أيها السادة، بين يدي السيرة الذاتية لسعادة شاعر هذه الليلة
وفارس الاثنينية، ونحن نريد أن نعيش أكثر مع الشعر، فيسمح لي ضيف هذه الاثنينية
أن أختصر، ورغم أن هذه المعلومات تسجل في كتب الاثنينية كما هو معروف.
سعادة الشاعر قاسم حداد، ولد في البحرين
عام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف للميلاد.
تلقى تعليمه بمدارس البحرين حتى السنة الثانية ثانوي.
التحق بالعمل في المكتبة العامّة منذ عام ثمانية وستين وتسعمائة وألف،
حتى عام خمسة وسبعين وتسعمائة وألف للميلاد.
ثم عمل في إدارة الثقافة والفنون بوزارة الإعلام من عام ألف وتسعمائة وثمانين
للميلاد.
شارك بتأسيس أسرة الأدباء والكتّاب في البحرين، عام تسعة وستين وتسعمائة
وألف، شغل عدداً من المراكز القيادية في إدارتها.
تولى رئاسة تحرير مجلة (كلمات) التي صدرت عام سبعة وثمانين وتسعمائة وألف
للميلاد.
سعادته عضو مؤسس في فرقة مسرح (أوال) عام سبعين وتسعمائة وألف للميلاد.
يكتب مقالاً أسبوعياً منذ بداية الثمانينات عنوانه "وقت للكتابة"
ينشر في عدد من الصحف العربية.
كُتب عن تجربته الشعرية عددٌ من الأطروحات في الجامعات العربية والأجنبية،
والدراسات النقدية بالصحف والدوريات العربية والأجنبية.
تُرجمت أشعاره إلى عددٍ من اللغات الأجنبية.
متزوج ولديه ولدان وبنت، طفول.. محمد.. مهيار، وحفيدة واحدة الله يحفظها
اسمها أمينة.
حصل على إجارة التفرغ للعمل الأدبي من طرف وزارة الإعلام نهاية سبعة وتسعين
وتسعمائة وألف للميلاد.
شارك في عددٍ من المؤتمرات والندوات الشعرية والثقافية عربية وعالمية،
نذكر منها:
(ملتقى الشعر العربي الأول) عام سبعين وتسعمائة وألف للميلاد.
مهرجان (المربد) بغداد أربعة وسبعين وتسعمائة وألف للميلاد.
مهرجان (أصيلة) العاشر سبعة وثمانين وتسعمائة وألف، المغرب ألف وتسعمائة
وستة وثمانين للميلاد.
مهرجان (جرش) الأردن عام سبعة وتسعين وتسعمائة وألف للميلاد. طبعاً أكثر
من حوالي عشرين مهرجاناً ومعرضاً.
من مؤلفات سعادته:
(البشارة) البحرين إبريل عام ألف وتسعمائة وسبعين للميلاد.
(خروج رأس الحسين من المدن الخائنة) بيروت، إبريل عام ألف وتسعمائة واثنين
وسبعين للميلاد.
(الدم الثاني) البحرين، سبتمبر عام ألف وتسعمائة وخمس وسبعين للميلاد.
(قلب الحب) بيروت، فبراير ألف وتسعمائة وثمانين للميلاد.
(القيامة) بيروت، ألف وتسعمائة وثمانين للميلاد.
(شظايا) بيروت، ألف وتسعمائة وواحد وثمانين للميلاد.
(انتماءات) بيروت، ألف وتسعمائة واثنين وثمانين للميلاد.
(النهروان) البحرين، ألف وتسعمائة وثمانية وثمانين للميلاد.
(الجواشن) نص مشترك مع أمين صالح، المغرب عام ألف وتسعمائة وتسعة وثمانين
للميلاد.
(يمشي مخفوراً بالوعول) لندن، عام ألف وتسعمائة وتسعين للميلاد.
(عزلة الملكات) البحرين، ألف وتسعمائة واثنين وتسعين للميلاد.
(نقد الأمل) بيروت، ألف وتسعمائة وخمس وتسعين للميلاد.
(أخبار مجنون ليلى) بالاشتراك مع الفنان ضياء العزاوي، لندن - البحرين
ألف وتسعمائة وستة وتسعين للميلاد.
(ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر) دار قرطاس، الكويت ألف وتسعمائة وسبع وتسعين
للميلاد.
الأعمال الشعرية - المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت عام ألفين للميلاد.
(علاج المسافة) دار تبر الزمان، تونس عام ألفين للميلاد.
(له حصة في الولع) - دار الانتشار، بيروت عام ألفين للميلاد.
(المستحيل الأزرق) كتاب مشترك مع المصور الفوتوغرافي صالح العزاز، ترجم
النصوص إلى الفرنسية، عبد اللطيف اللعبي، والإنجليزية نعيم عاشور، طبع
في روما عام ألفين وواحد للميلاد.
كما أسلفت فلقد اختصرنا كثيراً في هذه السيرة العامرة في الحقيقة.
مرة أخرى اسمحوا لي وباسمكم جميعاً أن أرحب بشاعرنا الكبير وصحبه الكرام،
ويسرني أن أترك الميكرفون الآن لصاحب الاثنينية سعادة الشيخ عبد المقصود
محمد سعيد خوجه.
الشيخ عبد المقصود خوجه يقدم لوحة الاثنينية تكريماً للأستاذ قاسم حداد |
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأساتذة الأكارم.. الأخوة الأفاضل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أحييكم أطيب تحية، وباسمكم جميعاً أحيي ضيف أمسيتنا، الشاعر الكبير قاسم
حداد، الذي أبت أريحيته إلا أن يزيد شواغله بتكريمنا بهذا اللقاء الذي
أعتبره امتداداً لموجات تتدافع من سواحل البحرين، ذات اللؤلؤ والقلوب المفعمة
بحب الحياة، نحو شواطئ الخبر، والدمام، والقطيف، ودارين، وتاروت. إنها
علاقة أزلية متأصلة الجذور، عميقة الأغوار، يتعانق نخيلها عبر المدى، وتشق
أغاني الغوص والبحر أرجاء السماء، لتنسج لنا لغة مميزة تشف عنها كل تفاصيل
الحياة الصغيرة، فتنصهر الحدود في بوتقة الحب والود والإخاء، فأهلاً وسهلاً
ومرحباً به وبالأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الله غلوم، عميد كلية الآداب
بجامعة البحرين، والناقد الأدبي المعروف، بعد أن احتجبت الاثنينية الأسبوع
الماضي احتفاءً بعودة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز إلى
أرض الوطن بعد رحلة علاجية طويلة، فأحمده سبحانه وتعالى أن أعاده إلينا
مكللاً بالصحة، مجللاً بالعافية، وأسأله عزّ وجلّ، أن يمنّ على الجميع
بنعمه وكريم آلائه.
وقبل أن أتوغل مع ضيفنا الكبير، أترحّم على فقيد العلم والفضل، فضيلة معالي
الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير، رئيس مجلس الشورى، الذي رحل إلى رحاب الله
تاركاً لنا غصة وفراغاً، كما نترحم على الأخ الدكتور زاهد زهدي، الذي كان
من أعمدة اثنينيتكم، فرحل مأسوفاً عليه، سائلاً الله سبحانه وتعالى أن
يتغمدهما بواسع رحمته، ويجعلهما مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك
رفيقاً.
الأحبة الأفاضل.. عرفت ضيفنا الكبير من خلال قصاصة صغيرة في صحفنا المحلية
قبل عدة سنوات، عندما أعلنت وزارة الإعلام بدولة البحرين -آنذاك- والتي
أصبحت الآن مملكة البحرين، تفريغ بعض الأساتذة الشعراء والأدباء للعمل
الإبداعي، عندها وقفت تقديراً وإعزازاً لهذا القرار الحضاري الذي يعكس
اهتمام المجتمع برموزه الثقافية والأدبية والفكرية، ومنذ ذلك الحين بدأت
أتتبع بعض أعمال شاعرنا الكبير، وشدّتني تحركاته ونشاطاته الثقافية ولقاءاته
الشعرية التي شملت هولندا وبلجيكا، وأخيراً تواصل وشائج المحبة في دولة
قطر ثم تعطيره أجواء اثنينيتكم، في رحلات شبه متصلة، لا شك أنها أخذت من
وقته وجهده الشيء الكثير، ولكن ذلك ليس بغريب عن شخصية ضيفنا الكبير إذا
نظرنا إليه بشيء من الواقعية.
ضيفنا الكريم يتعانق في طواياه الإنسان بالفنان، إذا حاولت أن تتعرف عليه
من خلال أعماله الشعرية، فأنت قد اخترت المركب الصعب، لأنه يعيش حالة متصلة
من القلق، وسمِّها إن شئت (اللا أمن) وأحسب أنه يعتقد قادراً على كتابة
الشعر لكمون هذه الصفة في شخصيته، وصدى كلماته يردد: (المطمئن لا يكتب
شعراً، إنه لا يخاف من شيء، ولا تصيبه الرجفة الداخلية العصية على التفسير،
إنني أكتب الشعر لأنني خائف وفي خطر دائم، الشعر فقط يحميني من العالم)،
فإذا رأيت هذا الفنان الخائف من العالم يجوب آفاق الأرض للتواصل مع محبيه،
فلا تظنن أن ذلك ديدنه، إنه في ذلك مثل أديبنا وشاعرنا الكبير الراحل حمزة
شحاته -رحمه الله- وكما علق أديبنا العملاق وشيخ النقاد، أستاذنا الكبير
عبد الله عبد الجبار على حمزة شحاته بأنه يمثل الطبع العاطفي، الذي يتأرجح
بفطرته بين الانطوائية والانبساطية، وتبدو هذه السمة واضحة في إنجاز المبدع
أو في حياته العامة، فقد يهرب من المجتمع ويتقوقع داخل داره أو غرفته متأملاً
أو منغمساً في قراءات طويلة عميقة، ومتنوعة يقرأ كل شيء، ولا يكاد يظهر
للناس، حتى إذا ظننا أنه آثر الوحدة والانعزال، ألفيناه فجأة يغشى المجالس
والمجتمعات، ويلقى أصدقاءه ومعارفه، وينغمس في دنيا الحياة والأحياء، والبيع
والشراء، ويمثل الروح الانبساطية بأجلى معانيها، ولكنه لا يلبث أن ينصرف
تدريجياً إلى حياة الانطواء والانفراد، وأحسب أن ضيفنا الكريم يحمل الكثير
من هذه السمات، خاصة في علاقته بفنه ومجتمعه.
وفي هذا الإطار، آثر ضيفنا الكبير التواصل مع المتلقي في كل الأحوال، من
خلال نافذته التي يطل منها على العالم، وأعني موقعه الأنيق على شبكة الإنترنت،
فهو فضاء أثيري يجمعنا به في كل الأوقات والظروف، نبحر من خلال ذلك الموقع
في تجربته الشعرية، وتماهى إبداعه مع الفن التشكيلي، والنص النثري، وأفكار
الآخرين حول ما يكتب، وقد أحسن عملاً حين قفز على سلطة الرقيب، واختصر
الورق والمسافات، ليمتعنا بإبداعه المميز في عالم الشعر والنثر.
إن الشعر عند ضيفنا الكبير، نوع من البوح الداخلي، يهمه كثيراً أن يختلف
في الشكل لا المضمون، فهو يتعذب مرتين: عذاب المضمون في الحياة، وعذاب
الشكل في النص، وأحسب أن تجربته دائماً ثرية لهذه الثنائية في العذاب،
والأكثر من ذلك تعمقه الفلسفي في وجوب وضوح الرؤيا شأن النص الذي يكتبه
قبل أن يفاجئ به القارئ، فهو لا ينام ملء جفونه عن شواردها كما اعتز المتنبي
بذلك قديماً، بل قد يسهر ليلاً كاملاً متلمساً ملامح شكل ما، لنصٍ ما،
ثم يكتشف في الصباح أن ما توخاه لم يكن إلا وهماً، فتنهال عليه مطارق الأسئلة
لتطارده في صحوه ومنامه، غير أنه يرتاح إلى فكرة أن يكتب دائماً بشكل مختلف،
بغض النظر عن المضمون، مؤكداً أن القناعة كنز لا ينفع في الفن، وعليه اكتشاف
مزيد من الرؤى التي تمكنه من ارتياد النص مرات متعددة، لعلَّه يكتشف في
كل مرة طريقة جديدة في الكتابة.
إن قراءة شاعرنا الكبير منذ ديوانه الأول "البشارة" الذي صدر
عام 1970م وحتى ديوانه الأخير "علاج المسافة" عام 2000م، يجد
أنه ظل مخلصاً لنهجه في الإبداع الشعري على مدى ثلاثين عاماً.. بمعنى أنه
اتخذ قصيدة التفعيلة متكأ يبذر من خلاله أفكاره ورؤاه للعالم من حوله،
ثم يفكر بصوت مجلجل ليبحث مع المتلقي عن أجوبة تشفي الغليل حول سر الكلمة
والإبداع، فهو يؤمن دائماً "أن الذهاب نحو تجربة النص لا يشكل نفياً
لأي نوع أدبي آخر، على العكس، ففي حضور كافة أشكال التعبير، قديمها وجديدها،
حوار إنساني يمنح المشهد الفني تنوعاً وثراءً".
ولعلّ ضيفنا الكبير يحدثنا أيضاً عن تجربته الرائدة في مزج النص الشعري
مع غيره من وسائل الإبداع التشكيلي والموسيقي، فقد علمت عن مشروعه الجريء
في تقاطع النص مع آفاق التعبير الفني الأخرى، مثل الرسم والموسيقى والمسرح
والأداء الكورالي، ومدى تقييمه لما تم حتى الآن في هذا المشروع الرائد،
وهل ينوي استمراره على ضوء النجاحات أو الإخفاقات التي صاحبت التجربة؟
وهل ينوي تكوين فريق عمل يستطيع من خلاله فرد قاموسه الشعري الرائع لتأسيس
أنموذج يمكن أن يعيش بيننا عبر وسائط الإعلام المختلفة؟ فيقفز فوق الورق
إلى شاشات العرض التلفازي مثلاً، وينبض بالحياة على خشبات المسرح، ويمد
يديه ليعانق المتلقي عبر كل فضاءات المعرفة المتاحة.
أتمنى لكم ساعات ممتعة مع ضيفنا الكبير، وللأسف فإن أخي الأستاذ الدكتور
عبد الله الغذامي لم يتمكن من حضور هذه الأمسية لارتباطه المعروف بطلابه،
بالإضافة إلى مشاركته قبل فترة وجيزة في فعاليات قراءة النص التي قدمها
النادي الأدبي الثقافي بجدة.. آملاً أن نلتقي الأسبوع القادم بمشيئة الله
لتكريم معالي الأستاذ الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلي، مدير عام مركز الأبحاث
للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باستنبول، ومعاليه جدير بكل تكريم
واحتفاء، فهو من القلائل الذين نذروا أنفسهم لخدمة التراث الإسلامي من
خلال دراسة المخطوطات، وله إصدارات قيمة وثمينة حققها من خلال المركز الذي
يديره بكفاءة عالية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: "روائع الخط
العربي" "مفاتيح الكعبة المشرفة" "سيوف رسول الله
صلَّى الله عليه وسلم" "الدولة العثمانية: تاريخ وحضارة"
وغيرها من الروائع التي أثرت المكتبة العربية.. ولمعاليه نشاطات تُذكر
فتُشكر وتُقدر في ساحات العمل الإسلامي.. فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم لتكريمه،
والتعرف على تجربته الفريدة في استلهام التراث في مجال التوثيق والمخطوطات،
والفنون، والتاريخ الإسلامي، والاستزادة من فضله وعلمه.
اعتذر معالي الأخ الكريم الدكتور محمد عبده يماني وزير الإعلام الأسبق
والمفكر الإسلامي، عن الحضور في آخر لحظة لارتباطه بندوة مسبقة، قال لي
الكلمة أقولها على استحياء أنها لن تتكرر بتزامن الاثنينية مع أي كلمة
يلقيها بعد الآن لأنه يسعده دائماً أن يلتقيكم كما عودكم كل أثنينية، فإن
شاء الله نلتقي به في الاثنينية القادمة وأنتم ومعاليه بخير وأرحب مرة
أخرى بضيفينا الكريمين وبكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عريف الحفل: أيها السادة، كما تعلمون فنحن سنفتح باب الحوار مع فارس أثنينية
هذا الأسبوع عقب الانتهاء من كلمات المتحدثين وكلمة سعادته، فنرجو ممّن
له أسئلة أو استفسارات أن يبعث بها إلينا، وليكن سؤالاً واحداً حتى نتيح
الفرصة لأكبر عدد من حضراتكم، بين يدي بيان يوضح بأنه لدينا في هذه الليلة
خمسة متحدثين الحقيقة والسادس طبعاً ستكون قصيدة شعرية، فنرجو ونتكرم كما
دائماً يناشد الشيخ عبد المقصود بالاختصار في الكلمات وخاصة هذه الليلة،
ليلة البوح كما قال الشيخ عبد المقصود في كلمته، نأمل الاختصار حتى نترك
الفرصة لنستمع إلى ضيفنا الكريم.
الدكتور عبد الله مناع والأستاذ علي أبو العلا يستمعان إلى حديث ودي من سماحة الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجه |
أسعد الله مسائكم جميعاً بكل خير، بعد كلمة
الشيخ عبد المقصود خوجه، الضافية هذه أتقدم وجلاً بأن أقول كلماتي، لأن
الشيخ قدم قراءة مفصلة لشاعرنا وأديبنا الأستاذ قاسم حداد، والقراءة شملت
جوانب مختلفة من حياة شاعرنا الإبداعية وحياته أيضاً السياسية، لكن وقد
التزمت بهذه الكلمة، فلا بأس من أن أقولها، أما لو تركت نفسي لأن أسألها
هل أواصل أم أتراجع؟ فقد كنت أفضل أن أتراجع وأكتفي بما سمعت وتكتفون أنتم
بما سمعتم.
الحقيقة فاجأني "كتاب في جريدة" الذي رأيته أول مرة في معية
صحيفة الأهرام القاهرية.. ثم أخذت أتابعه في معية صحيفة الرياض.. شهراً
بعد شهر، إلى أن قدم في شهر مارس الماضي.. ملخصاً جميلاً وافياً عن شاعر
من الخليج الذي عرفه العالم مخزناً لـ "النفط" لا مخزناً للإبداع..
هو الشاعر البحريني الفذ: قاسم حداد.. فسعدت أيما سعادة وانتابني شيء كأنه
فرح الطفولة، إذ أن هذه أول مرة فيما أعلم، يتم الحديث فيها عن الخليج..
من خلال الحديث عن محارات الفكر والإبداع فيه لا عن براميل النفط وأسطوانات
الغاز فيه.
قاسم حداد.. هو شاعر الوجد والوجدان والمعاناة. فقد عانى شاعراً.. وعانى
إنساناً، فكان شعره وحياته.. سطوراً وفصولاً في إلياذة البحث عن الحرية.
في شاعرنا شيء.. من "البردوني" وفيه شيء من الفيتوري.. وفيه
شيء من صلاح عبد الصبور.. وفيه كل شيء من قاسم حداد: ناره وخوفه.. جُرأته
وعطشه.. إنه صوت غير عادي في زمن صعب. يقول شاعرنا.. في ديوانه "القيامة":
سترى الأشياء المألوفة في غير أوانيها.
وترى الماء يُصلى
وسوف ترى المحموم إذا طاب
وتلمس قلب الأمل الواقف في الجمر إذا خاب
رأيته في المنامة.. وتتبعت غربته في داخلها.. وها أنا أسعد برؤيته معكم
في جدة.
لقد خطا البحرين خطوة كبرى على طريق مستقبله السياسي.. وخطا شاعرنا قاسم
حداد خطوة أكبر نحو تحديد وتحقيق مكانته شاعراً بين شعراء القمة المجددين..
عندما استقبلته اليونسكو بـ "كتاب في جريدة" كأول الفراشات التي
تم إيقاظها هناك.
وإذا كنا نشكر اليونسكو ومؤسسة العويس الثقافية ومؤسسة الحريري.. الذين
يتولون هذا الإصدار الثقافي المتميز، فإنني أتطلع إلى الصحف التي تقوم
بنشره.. في أن تعطيه شيئاً من العناية به والدعاية له، فليس كثيراً عليه
أي قدر من الإشارة البارزة قبل وبعد صدوره لتتسع قاعدة قرائه فلا تقف عند
الثلاثة ملايين التي أشار إليها مدير عام منظمة اليونسكو السيد كوتشيرو
ماتسورا.. بل تمتد إلى الخمسة والعشرة ملايين من القراء.
وبعد.. مرحباً بـ "قاسم حداد" وبشاعريته.. وإنسانيته.. وعروبته.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عبد المقصود خوجه: الدكتور مناع كالعادة تواضع الكبار.. كلماته دائماً
كلمات إضاءات، كل كلمة إضاءة، كما قال كتعداد كلمات قليلة ولكن كل جملة
تشكل إضاءة ذات مغزى، وأنا أعتبر الدكتور مناع ليس كاتباً وليس مبدعاً
وليس صحفياً فقط وإنما هو مفكر.. فأهلاً وسهلاً ومرحباً به.
عريف الحفل: الكلمة التالية لسعادة الدكتور إبراهيم عبد الله غلوم، عميد
كلية اللغة العربية بجامعة البحرين فليتفضل.
الدكتور إبراهيم غلوم فالدكتور عبد الله مناع
فالدكتور بهاء عزّي ففضيلة الشيخ محمد ضياء الدين الصابوني فالأستاذ
أحمد عايل فقيهي |
بسم الله الرحمن الرحيم
في البدء أحب أن أوجه الشكر العميق لصاحب هذه الاثنينية الطيبة، ومنظم
هذا اللقاء الثقافي الذي أعجبت كثيراً بأنه قد استمر حتى الآن في حدود
عشرين عاماً تقريباً، أحب أن أوجه الشكر العميق للشيخ عبد المقصود ولاحتفائه
بالشاعر الكبير قاسم حداد، هذه الالتفاتة في حد ذاتها تدل بشكل واضح على
أن هذا الرجل يدرك منارات الثقافة والإبداع في البلاد العربية ويعرف جيداً
لمن يلتفت، وأين يضع أو يدقق النظر في مساحة أو في وطن الإبداع العربي،
ومن هنا فإني في الحقيقة أرى أن الشكر لا يكفي لهذا الرجل، وقد جئت مع
قاسم صديقاً ورفيقاً، ولكن لم أتوقع أنه سيورطني في حديث عن هذا الشاعر
الذي كلما حاولت أن أتحدث عنه وجدت نفسي صغيراً وغير قادر على أن ألج هذا
العالم المعقد الذي يستعصي على أن يضمه ناقد بأي تصنيف أو بأي رؤية أو
بأية نظرية أو بأي مدخل من المداخل، ومن هنا في الحقيقة لن تجدي النظرة
الطائرة، ولا محاولة أن أصف علاقتي بشعر قاسم أو به إنساناً مبدعاً.
المعرفة ليست لها حدود، والمعرفة تنتج معرفة، وقد تراكم من علاقتي بهذا
الشاعر وبشعره ما قد يصعب علي في هذه اللحظة أن أصف سواء ما رأيت.. ما
شعرت.. ما أحسست.. وما أيضاً عاينت معاينة القريب إلى القريب. ولكن رغم
ذلك فإن هذا المشهد الاحتفالي بهذا الشاعر المبدع لا بد من أن يطرح أسئلته
وهذا هو في الحقيقة أبسط ما يمكن أن يقال في مثل هذا المشهد، هذه التجربة
العريضة الطويلة التي لم تكن كمًا فقط وإنما كانت حفراً.. حفراً مباشراً
في علاقته هو أو في موقعه هو كإنسان وسط سياقات متقاطعة ومعقدة شديدة التعقيد،
ومن أجل ذلك أرى أن أهم أو جوهر الأسئلة الذي يمكن أن يطل بإشعاعه في وقفة
سريعة من مثل هذه الوقفة يتصل بهذا الفضاء الشعري المترامي في تجربة عمرها
حسب ما أعرف إن كنت دقيقاً يكاد يصل خمسة أو يعني أربعة عقود ونصف، هذا
إذا احتسبنا البدايات الأولى، تجربة في الحقيقة لا تقاس بزمن ولا تقاس
بكم الدواوين، ولا بكم المغامرات والتجارب، ولكن حقيقة تقاس بهذا الفضاء
الشعري الذي يستطيع القارئ والمتتبع لهذه التجربة أن يكتشفها، ليس من خلال
قصيدة أو سطر شعري أو ديوان أو حتى مجمل التجربة الشعرية نفسها، الغريب
والمدهش أن هذه التجربة ترسم فضاءً شعرياُ يتطاول حجمها وعمرها أي قياس
يتصل بها، وهذا في الحقيقة ما يمكن أن نتحدث فيه بالتفصيل ولكن يمكن أن
أصف شيئاً بسيطاً في هذه المسألة.
كانت بدايات قاسم في الحقيقة منذ "البشارة" ولو أننا تمعنا فقط
في هذه المفردة الشعرية وحدها "البشارة" لأوحت بفضاء لا حدود
له، وقد كانت كذلك في عمر التجربة الشعرية في البحرين وفي منطقة الخليج،
لم يكن هذا الديوان عادياً ولم يكن مجرد ديوان يصدر عن شاعر مغامر ويكتب
قصيدة جديدة ومغايرة، وإنما كان ينبئ بفضاء غير محدود. و "البشارة"
تعني ذلك بالفعل، وإذا كنتم لا تدركون معنى "البشارة" حتى في
مصطلحاتنا نحن في البحرين وفي منطقة الخليج فالبشارة هي العَلَم، العَلَم
الذي يوضع على أسطح المنازل عندما تكون هناك فرحة ما، فرحة عودة مريض مثلاً،
أو عودة حاج من الحج بعد رحلة طويلة، أو ما إلى ذلك توضع البشارة، والبشارة
هنا قد تكون وغالباً ما تكون هي ثوب المرأة في البيت، الثوب النشل إذا
كنتم تذكرون الثوب النشل فيوضع هذا العَلَم على البيت، ويعرف الجميع أن
هناك فرحاً غامراً في هذا البيت.
هذا إذا تخيلنا نحن فضاء هذه المفردة، فعلينا أن نتخيل ماذا كانت إلى أي
مدى كانت تستقصي الأفق كلمة "البشارة" هذه، ونقرأ في الديوان
فنكتشف بالفعل روح شاعر مغاير.. شاعر وُصف حينها عند النقاد الذين كتبوا
عن هذا الديوان بأنه شاعر ثوري، وأنه مغاير، وأنه صاحب لغة مغايرة، إلى
آخر هذه الصفات. ولكن حقيقة الأمر بالفعل أن هذه التجربة منذ هذه البِكارة
الأولى.. منذ هذه التجربة الأولى كان بالفعل يفسح الطريق لفضاء شعري لا
حدود له، وتمضي هذه التجربة بعد ذلك في دواوين لا حصر لها، وتبدأ سلسلة
طويلة من التحول لا أعتقد أن شاعراً من شعراء الجزيرة العربية قد مر بمثل
وربما وحتى في البلاد العربية بمثل التحولات الشعرية التي مر بها هذا الشاعر،
ظلت القصيدة تسكن في المستقبل عنده في ذات القصيدة التي يكتبها الآن وفي
هذه اللحظة، هناك قصيدة جديدة موجودة في القصيدة التي نقرأها الآن، وهذا
هو الشيء الغريب والمدهش.
ومن هنا انطلقت القصيدة الجديدة في تجربة قاسم حداد، وفي هذا السياق أو
السمت غير المحدود.. غير المقنن.. غير المحدد حتى بأفق، وجاء ديوان "الخروج
من المدن الخائنة" وجاءت "الدم الثاني" وجاء في الحقيقة
"القيامة" و "انتماءات" وغيرها، وكان قاسم خلال هذه
الفترة يتحول مرة إلى هذه الأقنعة التي يجعل منها سياق فضاءات محددة في
شخصيات ورموز من التراث العربي والإسلامي والمحلي أيضاً، هي قد تكون من
الناحية المادية والعيانية معروفة لنا في تاريخنا وفي ثقافتنا، ولكنه يطلق
من خلالها فضاءات لا حدود لها، وقد كان ذلك ربما.. ربما حقيقة كان ذلك
يقيه، هو يقي ذاته من التمزق والعذاب، ولكنه يتحول كما قلت، فتبدأ سلسلة
هذه التحولات حتى تصل في العقود الأخيرة أو في السنوات الأخيرة من تجربته
إلى المرحلة التي أشار إليها الشيخ عبد المقصود منذ قليل عن مسألة هواجسه
بالعلاقة بالفنون.. بالتقاطع الحادث مع الفنون، هذا في الحقيقة لا يمكن
أن أرده من وجهة النظر التي أصفها الآن، لا يمكن أن أرده إلا إلى هذا الهاجس
بالفضاء الشعري الذي تثير تجربة قاسم حداد أسئلة دقيقة ومدهشة فيها.
التقاطع مع الفنون.. الضمائر غير المعهودة في القصيدة العربية، والتي تفتح
فضاءات مدهشة حقيقة، دخلت، يدخل، هو، هذا، هذه، يعني في الحقيقة أنا لا
أذكر يستخدم أحياناً ضميره هو.. يستخدم ضمير الآخرين، وأحياناً يقيم نوعاً
من التداخل في هذه الضمائر بحيث تصبح.. تصبح القصيدة عبارة عن فضاءات متقاطعة
في آن واحد وهو التقاطع نفسه الذي يهجس به الآن من خلال التجارب التي أقامها
مع فنانين تشكيليين ومع مسرحيين ومع أيضاً كُتَّاب قصة، ويعني كتاب أو
تجربة "الجواشن" التي كتبها مع صديقه أمين صالح هي واحدة من
سلسلة المحاولات الجريئة والعميقة جداً في توسعة فضاء القصيدة وإطلاقها
بشكل لا حدود له، هذا أمر في الحقيقة أو هذه قضية أعتقد.. أعتقد إحساساً
ومعرفةً وتذوقاً في تجربة هذا الشاعر واحدة أو لعلَّها هي واحدة من أخطر
وأهم وأكثر منجزات القصيدة عند قاسم حداد. وأتصور أن ذلك يثير مسائل كثيرة
وجدلية حول الشعرية العربية أو حول القضايا الشعرية نفسها، وقد أكون مثقلاً
إن أطلت في هذا الموضوع ولكن أحببت في هذه اللحظة أن أسوق هذه المسألة
واعذروني إن أطلت وشكراً جزيلاً.
عريف الحفل: أيضاً أيها السادة نكرر رجاءنا بعدم الإطالة حيث إن الوقت
محدود كما تعلمون، وكثيرون منا يقطن في مكة المكرمة أو بعضنا، حتى نتيح
له الفرصة للعودة إلى مكة سالماً غانماً إن شاء الله.
عريف الحفل: والآن الكلمة لسعادة الدكتور سعيد السريحي.
أسعد الله مسائكم، حين يوصف الحديث بالثقل
يوصف بأنه ككلام المغنين، ذلك أن الناس حين تسعى إلى المغنّي تسعى إليه
كي تسمعه يغني، وأشد ما أخشاه أن يكون حديثنا أشدّ ثقلاً من كلام المغنين
ما دام يحول بيننا وبين الإصغاء لقاسم شاعراً، لذلك سوف أسعى إلى الأخذ
بأخف الضررين فأوجز.
قاسم الحاضر دائماً في مشهد الثقافة قفز إلى المشهد العام يوم أن فاز بالجائزة
التي فاز بها مؤخراً، وأريد أن أقول إن كثيراً من الرجال تكون الجوائز
التي يظفرون بها شهادة لهم، وقليل من الرجال يكونون شهادة على ما ينالونه
من جوائز وتكريم، وأحسب أن صاحبنا هذا المساء من أولئك القليل.
يوم أن علمت بفوزه بما فاز به، أدركت أن أهل الجائزة يريدون أن يهبوا لها
نسباً عريقاً من نسبه، قلت لصاحبي يومها: هاهو الكورس يحتفي بمن أعلن موته.
نحتفي بقاسم بنخلة من البحرين تمد عروقها في نسبه وسيف البحر في شرايينه،
نحتفي به بعينيه المنامة، ووجهه المحرق.
قاسم والبحرين.. كأنما شاءتها له الظروف لتكون معزلاً فشاءها أن تكون معتزلاً
لم يكن فيها قط معزولاً.. كان معتزلاً بها حين يشاء وحين يشاء يتقلب بين
عواصم العربية حتى تغدو جزيرته نرده يقلبه على وجهه كيف يشاء.
كانت عزلته فيها عزلة الذهب.. أو عزلة الملكات.. قاسم شهادة الخليج.. حين
يمد أشواقه خارج إطاره. قاسم.. خروج الخليج من عزلة التأريخ إلى أفق التاريخ.
آمن قاسم بالدم الثاني.. بالدم البديل آمن به لغة خاصة، آمن باللغة حين
تخرج كرأس الحسين غريبة من مدن الآخرين وعن المدن الخائنة، آمن باللغة
حين تسعى إلى تغيير العالم.. أدرك أن اللغة هي التاريخ وهي الإنسان.. أدركها
حواراً بين التاريخ والإنسان وأراد لها أن تبدأ تاريخها من جديد، فكانت
لغته منعطفاً في تاريخ اللغة نفسها.
قاسم، إعلان لحضور الإنسان في زمن يتوارى فيه الإنسان خلف سجف التاريخ
المسدلة وغياب صوته في جلبة الكورس وإيقاع طبوله ولهاث خيوله.
قاسم، مناضل باللغة.. وضد اللغة.. ومن أجل اللغة في الوقت نفسه، والنضال
باللغة وضد اللغة ومن أجل اللغة هو أشد أنواع النضال قسوة وتجذيراً وثورة
ونبلاً في الآن نفسه.
قاسم، ليس شاعراً فحسب، وإنما هو رائد إذا ما أدركنا أن الريادة تقتضي
أن يكون المثقف مؤسساً وقاسم حداد ليس مؤسساً فحسب، وإنما هو مؤسسة كذلك
إن رأيناه عبر منبر كلماته.. أو رأيناه في صوته المتناثر.. في قصائد الخليج.
نحتفي بقاسم ربما متأخرين، ولكن حسبنا أننا استطعنا أن نحتفي ذات مساء
بقاسم حداد، شكراً جزيلاً.
عريف الحفل: إذن نواصل كلمات المتحدثين والآن كلمة سعادة الأديب والقاص
المعروف أحد فرسان الاثنينية السابقين وهو الأستاذ عبده خال.
مساء الخير، يبدو أنني سوف أجنح إلى أماكن
أخرى في الحديث عن قاسم، كما يفعل قاسم حداد تماماً، أضع المرآة على الطاولة.
أحملق، وأتساءل: من يكون هذا الشخص؟ أكاد لا أعرفه. أستعين بالمزيد من
المرايا. وإذا بالشخص ذاته يتعدد أمامي ويتكاثر مثل الصدى كاتدرائية الجبال،
فأتخيل أنني قادر على وصفه: إنه قاسم حداد.. تقريباً، هذه الجملة لقاسم،
هذا الوصول للبحث عن معرفة الذات، وأنا حاولت التعرف على قاسم من خلال
الصورة، هذا الشارب الكث والعينان اللتان تلتهمان ما يصادفهما من غير أن
تعوقهما النظارتان الشفافتان، تركض في تلك التضاريس باحثاً عمن أسرك بشعر
جباه غنيمة من بين سهوب وجبال النفس العصية. تقف متسائلاً: هل أعرف هذا
الشاعر؟
وفعل قاسم مع ذاته يمارسه القارئ مع كل كاتب معجب به، ربما يضع صورة كاتبه
أمامه ويسأل: هل أعرف هذا الكاتب. ويطمئن إلى معرفته به..
يدعي بعضنا معرفة الكُتَّاب من خلال سحناتهم المشنوقة في هيئة واحدة على
ما يكتبون، وربما نتمادى في هذه المعرفة حتى نذهب إلى القول: إن هذا الكاتب
خجول أو جرئ أو صاحب نظرات حادة. هذه الاستعارات المجازية هي استعارات
لنعزز ثقتنا بعمق حدسنا وقوة ملاحظتنا. ولأن الإنسان جُزر متباعدة يضمها
هذا الهيكل الذي يقال له الجسد لا يمكننا من تقدير ذلك التباعد الشاسع
بين جزرها، بين يابستها ومائها، بين أرضها وسمائها بين عمقها وسطحها، إن
الإنسان يحمل تضاريس عصيّة على الفهم، عصية على الإمساك، عصية على التحديد،
عصية على المقاربة.
وقاسم حداد، حينما حاول التعرف على ذاته، كان قادراً على استحضار الشكل
لكنه تائه في مستويات النفس المتعددة، تائه في ذلك المحيط الذي يقف يومياً
بين أمواجه المتلاطمة. فهل معرفة النص توصلنا لمعرفة الكاتب؟ لا أظن ذلك،
فالنص يقودنا لمستويات متباعدة من شخصية الكاتب، ربما تجلسنا في غرفة مظلمة
وتمارس معنا لعبة احزر.. وفي كل محاولة لتحديد المشهد الذي نطل عليه من
خارجه تكون الإجابة واهنة وهزيلة. فهل أعرف حقاً قاسم حداد حتى أكون هنا؟
ربما أنطلق في سرد سيرته وأتشعب بين مرجانها وأهبط لسفوحها وأتسلق قممها..
إلا أن هذه ليست هي المعرفة! حينما غُبَّ على قاسم معرفة ذاته التي انشطرت
في مرايا عدة، إنما كان هذا المشهد مشهد العالِم بغور الوادي الذي يطل
منه.
وأما معرفتنا به فتتمّ من خلال الصورة التي تتناسخ بأمجادها.. تتناسخ بالقصائد
التي توقفنا عالياً فتجعلنا نقدر ونجل صاحب تلك الصورة.. يتحول لدينا إلى
أغنية لا نجيد ترديد مقاطعها. ويتحول لدينا إلى قصيدة نشدو بها ولسنا قائليها.
وكلما أبهرنا صاحب الأمجاد بأمجاده، تعالى صاحبها وغدا كل ألوان قوس قزح،
مهمته أن يبهرنا بتداخل ألوانه ونصاعتها فيتضخم في دواخلنا حتى نعجز عن
الحديث في حضرته.
في السنوات الأولى من عملي الصحفي كنت أتهيب الحديث مع رموز ثقافتنا العربية،
ثمة عجز يعتريني حينما أقرر الحديث معهم، وقاسم أحدهم. إن سلطة الاسم تحولنا
إلى ضعفاء مستضعفين أمام تلك الشخصية، وإن للكتّاب هيبة السلاطين، تتحول
شخصياتهم إلى سلطة تجعل الكلمات تتردد بين فيك، وتجعل فرائصك ترتعد (لا
يحدث هذا إلا مع من يقدر الكُتَّاب حق قدرهم). في أول مهاتفة كلامية بيني
وبين قاسم حداد حدثت قبل ست سنوات، وكان تهيبي لا يزال قائماً من الحديث
مع رمز كقاسم حداد، رفعت السماعة الهاتف وثمة جمل كنت أحوكها في مخيلتي
مع سماع صوته، كان صوته فخماً شعرت بالارتباك حيالها وأخذت سلطة الاسم
تضغط عليّ : أستاذ قاسم : نعم . أنا عبده خال. هكذا بارتباك..، أهلاً عبده..
كيف هي أخبار الأصدقاء في السعودية ؟ وانطلقت ترحيباته لتبدأ تلك الصورة
الضاغطة على مخيلتي تتموج وتداري عصفوراً من موج العاصفة، وكانت مخيلتي
تترف صوراً متعددة لقاسم، أخذت تغيب وتغيب لتنجلي في صورة أكثر وداعة وحميمية.
ومع كل مهاتفة معه ظل قاسم حداد مبهراً، كلما هممت بمحادثته تضخم في مخيلتي
وبز ثقتي ويتركني ألملم الكلمات التي تليق به.
إن الكتابة المتميزة تصنع من صاحبها شخصية تبتعد به عنا صوب القمم، ونظل
من سفوحنا نضع الاحتمالات عما يمكن أن تكون عليه القمة. فهل فعلاً ستكون
الكلمات التي تقال الليلة لباساً يليق بهذه القامة التي رنونا إليها طويلاً
وسرنا بها في مخيلتنا كتجسيد للفنان الذي التزم بقضايا الفن والجمال وحرية
الإنسان وقضاياه الكبرى، وكلما حرص على إجلاء الإنسان من الإنسان ذهب به
هذا الفعل بعيداً، بعيداً صوب الزنازين المحكمة، وهناك يغزل قصيدته ويأوي
إلى الكلمات، يأوي إلى قمته التي تبقيه طائراً يرف بجناحيه في الفضاء البعيد
وإذا أتى إلينا لم يأتِ إلا غيمة يانعة كلما أطلت أمطرتنا بمائها. فهل
فعلاً أنا أجلس هنا للحديث عن قاسم حداد؟ سأتلفت لأتأكد من ذلك.. فعلاً
أنا مع قاسم، لكنني على يقين بأن كل الكلمات التي ستقال لن توفي قاسم عتبة
واحدة من مجده الذي بناه بنهر القصيدة. شكراً.
عريف الحفل: وقبل أن نستمع إلى قصيدة للشاعر الدكتور بهاء عِزِّي سأترك
الميكروفون للأستاذ أحمد عايل فقيهي الأديب والصحفي المعروف.
الأستاذ أحمد عايل فقيهي فسعادة الشيخ عبد المقصود خوجه، فالدكتور عبد الله مناع فالأستاذ قاسم حداد فالأستاذ علي أبو العلا فالشيخ مصطفى الرهوان |
مساء الخير، في البدء، تحية خالصة للشيخ
عبد المقصود خوجه، هذا الرجل الذي يؤكد كل يوم أنه مضيء حقاً بإيمانه بأهمية
الكلمة وجلال هذه الكلمة ومسؤوليتها.
وأنت تقرأ شعر قاسم حداد تبهرك هذه اللغة، هذا الثراء في اللغة، هذا البهاء
المتوَّج بالعمق في اللغة، هذه الإحالات التي لا تنحاز إلى الراهن فقط،
ولكنها الأكثر انحيازاً إلى المستقبل والأكثر إيماناً بالإنسان، وهو بهذه
الخاصية لا يمثل حالة لغوية فقط، ولكن يمثل حالة شعرية تتجلى في فضاءاتها
مفردات الحرية والوطن والإنسان، بالمفهوم العميق لهذه المفردات، ثم البحث
عن الخلاص من سلطة السائد والمألوف والمتعارف عليه والمتفق عليه سلفاً
في الذاكرة والواقع، إنه الشاعر الذاهب إلى أبعد من اللغة، إلى اللاممكن
والمستحيل، اسمعوه يقول:
هل أنت وطني؟
لست في ريبة ولا في ثقة
ولكن النوارس المذبوحة في قلبي
لا تقدر أن تنام
تظل مرعوشة تنتفض فتسبغ بأرجوانها
لم تخجل النوارس من ذبحها
لم تكن في ريبة ولا ثقة
ولكنها كانت تسأل هل أنت وطني؟
تلك النوارس المذبوحة في قلبي والتي لا تنام
ماذا أقول لها لكي تهدأ في الذبح؟
قاسم حداد جاء من لحظة الميلاد إلى لحظة الكتابة مختزلاً العمر والمسافة
وعابراً قارات الأبجدية وجغرافيا الروح، وبشجاعة الفارس ومغامرة الفنان
والشاعر في قصيدة مكتوبة بإيمان بالغ القسوة وقسوة بالغة الشفافية، وبهذا
الموقف الذي لم يحد عنه قط ولم يتزعزع عنه البتة، وهو بهذا يقدم النموذج
الناصع والأمثل للمثقف الذي لم يسقط في فخ الإغراءات الرخيصة والعابرة،
ولكنه يمثل ذاكرته وذاكرة البسطاء من البحارة والعمال وساكن الهم والواقفين
على حافة أزقة وشوارع ومداخل المدن البائسة والحزينة والملتاعة.
أهم ما في قاسم.. قاسم نفسه، وأهم ما في قاسم مواقفه، وأجمل ما تضيء هذه
المواقف هذا الشعر الذي لم يذهب إلى اللغة المدائحية والسقوط المجاني والباحث
عن مجد زائف وغير ذي جدوى، لقد ذهب إلى أبعد من اللغة إلى ما وراء اللغة،
منذ دواوينه "البشارة" و "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة"
و "الدم الثاني" وانتهاءً بـ "قبر قاسم"، يجد شعر
قاسم حداد نفسه أمام لغة تصاعدية مرتكزة على رؤية تتصاعد باتجاه المطلق،
وباتجاه هذا الوعي الحاد بالإنسان وبضرورة التغيير بحثاً عن عالم جديد
ومختلف ولحظة زمنية وحضارية أكثر اختلافاً أيضاً، ألم يقل ذات يوم:
وطني بعيد مثل لؤلؤة البحار
وطني تزنره المياه وتستريح
يدي عليه كأنه سعة المدار
وطني تهجيت الكواكبَ واحتميت
كأن بيتي موقدٌ وكأن أحلام الوشيعة
خبز أيامي وقافلة انتظاري
وطني بعيد فالتجأت قلت أستثني
قلت أستثني لآخر مرة
وأطوف أكتب هذه الشطآن آخرِ مرة
وأصير ذاكرة الضواري
قصيدة قاسم حداد استثنائية ليس في المشهد الشعري البحريني والخليجي وحسب،
لكن في المشهد العربي الشعري، لكن استثنائية بوصفها قصيدة قاسم حداد، وبوصفها
قصيدته هو لا قصيدة الآخرين، إنها آتية من نفسه ومن حرقة الواقع الذي ينتمي
إليه، وبالرغم أن قاسم حداد جاء من ثقافة الأطراف لا ثقافة المركز، إلا
أنه كسر ما يسمى بثنائية المركز والأطراف، فجاء حضوره مضيئاً في المشهد
الشعري العربي ولم يرتهن إلى المكان المخاتل، لقد تجاوز المكان فصنع من
المكان مكاناً آخر، وأفقاً جديداً.
الآن يأخذ الشاعر تكريمه الذي ينبغي أن يكون، الآن يقف الشاعر على الجسر
الذي يوصله إلى المعنى الذي حلم به، والغاية التي آمن بها، وهو بهذا يستحق
هذا التكريم ويليق به هذا التكريم، ويحتفي به المعنى أيضاً، ذلك أن قاسم
حداد في البدء والخاتمة كان وظل معنياً بالإنسان والأرض وبكتابة لغة جديدة
ممهورة بالمواقف الشاهقة والصمت النبيل، وشكراً.
عريف الحفل: إذاً، نصل إلى نهاية كلمات المتحدثين فنستمع بما جادت به قريحة
الشاعر المعروف الدكتور بهاء عزي فليتفضل.
بسم الله الرحمن الرحيم..
عندما يُحتفى بالشعراء الكبار يجول بفكرك على الفور مدى السمو الذي بلغوه
في الشعر، ومدى تميز النهج الشعري الذي عُرفوا به، ومدى الهدف السامي الذي
يجهدون أنفسهم وملكاتهم في سبيل الوصول إليه، وهم يسمعون شعرهم هذا ويترنمون
به في الآفاق، بل ويملون أغراضه، يفعلون كل ذلك بفضل ما منحهم الله من
موهبة فذة، وقدرة على التأثير، وما تميز به خيالهم من اتساع وقوة ورقة
وجرأة، وبفضل ما توفر لديهم من الأدوات اللازمة للسبك السامق للشعر العربي
الفصيح.
ولذلك، فإن الشاعر الذي له مثل هذه القدرات والأغراض والقضايا هو شاعر
فذ. منذ وقت ليس بالبعيد، بدا لي أن أُنشئ قصيدة لهؤلاء الشعراء الكبار
الأفذاذ، فتراءى لي هرم منهم، رأيت فيه المتنبي، ورأيت معه كثيراً من الشعراء
الكبار، وكنت كلما تحدثت مع شاعر منهم أقول لنفسي هذا هو (الشاعر الفذ).
إن الشاعر الذي يحتفي به سعادة الشيخ الأديب الجليل الأستاذ عبد المقصود
خوجه، ونحتفي جميعنا به معه في هذه الليلة، هو من أكبر هؤلاء الشعراء الكبار
الأفذاذ وهو الشاعر الكبير الفذ قاسم حداد.
في مثل هذا الشاعر قلت:
حيِّ هذا الفذ واستوقد زناده |
|
حيِّ فيه الشعرَ مزهوَّ الريادهَ |
حيِه نهجاً بديعاً مُسمعاً |
|
طبَّق الآفاق يمليها مراده |
وغدا يسبُرُ أعماق النهى |
|
جاهداً يجلو فما أَعيت جهاده |
كلُّ أفق راده نوَّره |
|
كل بحر خاضه زاد امتداده |
فسنا كالفجر في إصباحه |
|
من دياجير الْمدى شبَّ وِقَاده |
فأتى الشعرُ الذي أبدعه |
|
جوهراً يهديه للشعر قلاده |
شع منه النور وَحْيَاً ملهماً |
|
وخيالاً شاد للشعر عماده |
فترى الشاعر سيفاً مرهفاً |
|
وتراه الصَّبَّ يستجدي سُعادهَ |
وترى الحكمةَ من إشعاعهِ |
|
وسَنَاها لاح يجلو ما أراده |
وترى كيف الذي شاد الدنى |
|
شادها، أو كيف ذا فَلّتْ عتاده |
وترى الشادي على قيثاره |
|
موقدَ الإحساس من شعر الإشاده |
تسمع الأوتارُ من وقدته |
|
خفقانَ السيف أو همساً لِغاده |
|
*** |
|
هكذا الشاعر في إبداعه |
|
يُنْطِقُ الإحساس يستجلي اغتماده |
فإذا النطق شجون سبكت |
|
وتراً يشدو وسيفاً وجلاده |
وحلوماً عظمت مبدعةً |
|
وحبيباً يشتهي منه وداده |
بهرته الغيدُ يوماً فرنا |
|
قاصرات الطرف يغرين جياده |
فدنا ينشد من شعر الهوى |
|
ورخى الأرسان يغري بالقياده |
فإذا هنَّ أسيرات هواه |
|
.. وفي الأسر يقيِّدن فؤاده |
فاستمع من شعره ذاك الصدى |
|
كلما فر من القلب أعاده |
جذوةً من خفقةٍ مضرمةٍ |
|
تتوالى من هوى رام الزياده |
فزكَتْ أفنانُه مزهرةً |
|
حكمةَ الحس.. قصيداً وعِباده |
فترى الشاعر مهديَّ الْهوى |
|
وترى الغيد تعشقن الشهاده |
|
*** |
|
يا قصيداً يقف الشاعر يلـ |
|
ـقي فتهتز قلوب بِالإشاده |
هل يسودُ الشعر إن لم تحكِه |
|
ألسنُ الدهر براهينَ سياده؟ |
فأَجاب الدهر من غيرته |
|
وله في رده صوت العماده |
لا يغرنك ما خط الخوا |
|
كله يفنى وإن أَغلى مداده |
إنما الشعرُ الذي شاعره |
|
أَبْدَعَ الْمَعْنى وأوْفاهُ احْتِشَادَه |
عربياً قدُّ نظماً خافقاً |
|
بجناح لا ترى الدنيا امتداده |
وترى الناس لدى إطلاله |
|
ناقداً يدري ومن يزري انتقاده |
كلهم قَاضٍ.. فهذا عادل |
|
ينصف الشعر، وفي ذاك مراده |
والورى يعتدُّ بِالشعر الذي |
|
يَشْغلُ الدنيا ويستوحي رشاده |
ولسانُ الناس في ترديده |
|
يصطفي منه ويتلو مستجاده |
وإذا الشعر تخطى سِفْرَه |
|
لصدور أشربت حب العباده |
كان شعراً يرنم الكون به |
|
بين تقدير الرضا والإستزاده |
عريف الحفل: وبعد أيها السادة.. الأخوة الحضور، لا بد أنكم مثلي تتوقون للاستماع
إلى فارس أثنينية هذا الأسبوع فلنستمع إليه.
ستسمحون لي أن أرتبك بحرية، وأن أتلعثم بحرية
أيضاً، فقد غمرتني هذه الكلمات وهذا الاحتفال، وهذا الاحتفال كريم بمشاعره،
يستعصي عليّ أن أصفها.
أصحاب السعادة، الأساتذة والأصدقاء، صديقي الأستاذ الشيخ عبد المقصود خوجه،
أظن أنني سأقصر كثيراً عن الشكر، لكن قبل ذلك اسمحوا لي في هذا المقام
وفي هذه اللحظة بالذات أن أقدم التحية الخاصة لأهلنا الصامدين في فلسطين،
وأظن أنها أضعف الإيمان، لأننا نقدمها من هامشنا الصغير بوصفنا الضحايا
المؤجلة، وإذا كان في الشعر ما يسعف الروح فإنني في هذه الأمسية أحاول
معكم تفادي أكثر لحظات الضعف الإنساني التي أعيشها متشبثاً بالدرس العظيم
الذي ظل الشعر يلقنني إياه بلا فائدة.
أيها الأصدقاء الأعزاء، إن غبطة هذا اللقاء تمنحني الآن شعوراً جديراً
بالشعر، أشكركم شخصاً شخصاً على حضوركم الطيب، لكن اسمحوا لي أيضاً أن
أشكر صاحب الفضل في هذه المناسبة الأخ الأستاذ عبد المقصود خوجه، راعي
هذه الاثنينية الذي قد وجّه لي هذه الدعوة منذ أكثر من عام وبقيَ يتابعها
باللياقة واللباقة الآسرة، أشكره لأنه هيأ لي شخصياً فرصة لقاء هذه النخبة
المتميزة من الجمهور الأدبي والثقافي في جدة، وهي المناسبة الثقافية الأولى
لي في هذه المدينة صديقة البحر، واسمحوا لي أيضاً أن أعبر عن تقديري العميق
للأصدقاء والأساتذة الذين شرفوني هذه الليلة، بمداخلاتهم وصقلهم للأسئلة
التي يثيرها الشعر، أشكر الأستاذ عبد المقصود خوجه، والأستاذ عبد الله
منّاع، والأستاذ إبراهيم غلوم، والأستاذ سعيد السريحي، والأستاذ عبده خال،
والأستاذ أحمد عايل فقيهي، والأستاذ بهاء عزي .
أيها الأصدقاء.. ليس لدى الشاعر أجوبة، لكن يمكننا معاً ونستطيع التأمل
في الأفق الذي تشير إليه أسئلة الشعر، أكرر لكم شكري على حضوركم الطيب،
وأرجو أن تقبلوا مني قراءة بعض القصائد التي سألتزم بالوقت الذي يقترحه
السيد مدير الأمسية، ولا أخفيكم بأنني مرتبكٌ ومرتعش الفؤاد وأشعر بأنكم
غمرتوني حقاً بما يفيض لسنوات طويلة، وما بقى من عمري لن أنسى هذه اللحظات،
أكرر شكري للأستاذ خوجه وأشكركم جميعاً.
الشيخ عبد المقصود خوجة: يا سيدي أنت عريس هذه الليلة، فيبدو أن ارتباكك
ارتباك العرسان، فالتقط نفسك، فالكل سعيد بسماعك والكل يتوق إلى أن يقرأك
شخصياً، أنا على يقين أن أكثر الحضور يعرفون من هو قاسم حداد، وما هو عمق
قاسم حداد، وما هو قاسم حداد الرجل والموقف، فأنت بين أهلك، وبين جمعٍ
من محبيك، فَقِرْ نفساً واطمئن فؤاداً، كلنا إعجاب بك، ولهذا اخلع عنك
تردد العرسان، وكن المقدام كما عرفناك بقلمك، والذي يصل أحياناً برهافة
الحرير وخدش السيف، فلنستمع إليك وأهلاً وسهلاً ومرحباً بك، فتفضل يا سيدي.
" انتحارات"
سنقرأ شعراً
يؤلفه الأصدقاء وينتحرون...
ونغتاظ مما سيخسره الأصدقاء
لتبكيرهم في الذهاب
فلهم عندنا جنة في العيون،
لدينا لهم ما تبقى لنا
من بلاد ومن حانة،
يستعيد بها الساهرون مرارتهم
في زجاج كئيب ويحتدمون،
لدينا لهم جوقة من بقايا الحروب،
جنودٌ يؤدون كل النهايات
يفتون في جنة الله
ويستفسرون عن الشمس
حتى يكاد الجنون،
أيها الأصدقاء لدينا لكم
من تراث الضغائن مخطوطة حرة
فكيف سنقرأ شعراً لكم
وأنتم بعيدون عما ادخرناه لليل من قهوة مُرّة
ومن فلذات وأعداء لا يرحمون،
لماذا تَشكّون أنّا وحيدون من بعدكم،
ونحن هنا في البراثن مستوحشون
ونرفل في الوهم،
كيف تسمون أخطاءنا نزوة
ولدينا لكم،
لو تركتم حماقاتكم برهة خصومٌ ألداءُ
يسترقون من النص ما يجعل السيف تفاحة،
يغالون في الاجتهاد ويستنفرون إذا مسهم صمتنا،
أيها الأصدقاء الوحيدون في صمتهم،
لماذا ذهبتم بمنعطف فادح
ولكم عندنا العاشقات اللواتي يطرنَ لكم شهوةً
ويغسلن بالرغبات الحميمة أجسادكم،
لدينا لكم لو تريثتم نزهةٌ في الهزيع النزيه من النص...
كي تأخذوا آخر الأوسمة،
فكل انتحاراتكم عبثٌ عارمٌ وكل احتمالاتنا مظلمة،
لماذا تظنون أنا قرأنا لكم سأماً؟ وتنتحرون.
لماذا لنا وحدنا أن نرمم إرث الضغائن بالشعر
كي نستحق اللحاق بكم،
ولكم وحدكم رغبة في الغياب كما تشتهون؟
أيها الأصدقاء الحميمون،
ماذا سيبقى من الشعر يقرأه الآخرون علينا
لننقذ أرواحنا بغتة
ريثما يسترد الخصوم طبيعتهم في الكتاب
وينتحرون.
"الوردة الرصاصية"
في البدء كانت جنة الرؤيا
أرى فيما أرى
تبكي صنوبرة على صحن المدينة، والخيام تجل له الرؤيا
أرى طرقاً ستأخذني إلى طرق ستأخذني إلى طرق وبحرا
كالمدى
فيما أرى
كانت ستعشقني العذارى، سوف أصبح نجمة
في شرفة، لو نشرة المذياع قالت آخر الأخبار قبل الهجرة
الأولى
رأيت وما رأيت
مدينة تمشي وعذراواتها يفقدن عشاقاً ويفتقن القميص
ويحترفن الغزل كي يفتقن ثانية
رأيت كما رأيت
لهن شاهقة الرؤى
لي منتهى شجر سيحنو فوق
جنتي المحاصرة المباحة
هل رأت تفاحة الفصحى قلنسوة
البلاغة غيمة الشعراء
كانت جنة الرؤيا بدايتي الأخيرة
هل رأت فيما رأيت
نهاية الهجرات
كل مدينة وجر ومنعطف السلالة
جيفة ترث الجزيرة
هل أرى وطناً يعيد الشكل، يمزج جنة الرؤيا بفوضاي
الجميلة، يخطئ المعنى معي، يهتاج في لهب السبابا
قالت الأخبار هجرتي الكسيرة في طريق كلها طرق مطوقة
بعذراوات
يحرسن المخيم بالدم العاري
ويسطعن انتشاء في دم لي
أو دم لغموض أخباري
لهن خفائف يخفقن فوق مخيم وكنيسة تنأى
رأيت صلاتهن جنازة
يعشقن فرساناً ويفتقن القميص
لكي يطيب الغزل، يفتحن الصدور. لهن جرح وردة في
القلب. يفضحكن العواصم بالمخيم
هل أرى فيما أرى
مرآتي انهارت على حجر الطريق ورفقتي ينصبن أشراكا
يسمين الحراب حديقة والماء مأوى
يبتكرن نهودهن، يضعن في شرفات أحلامي حناجرهن
لي عشيق مغامرة بلاد هيأت أسرارها
لذبيحة الرؤيا
أرى فيما أرى
مدناً تجرجر عارها ومدينة تستنفر الأسرى
ترصع جمرها مختالة
وتصيح بي في هودج الهجرات
لي ماء يقاومني لكي أنسى
لها ماء يسمى ملجأ وخديعة تئد
النساء
يطأن قلبي
كل ما ينسى يسمى جنة الرؤيا
لهن تميمة في طينة الجسد الطري
وكلما أنسى
اسمي وردة الفوضى عشيقتي الصغيرة. كلما أنسل
من ليل المدائن، من سلالة جيفة ترث الجزيرة
كلما
في جنة الرؤيا أرى مستقبلاً
وأرى حفيرة
* * *
عفته اللغات ليحتمل الموت
كي يشهد الشرق مستسلماً للغروب
حوله جوقة
ليس للشرق، لم يبق إلا صد للقيود
التي تنحت العظم
إني بريء من الشرق
من قلعة من كهوف
بريء من الصمت مختبئاً في الكلام
اللغات التي أسعفتني إلى الموت غادرتها
ألجأ الآن للخيمة الحرة المشتهاة
ألجأ الآن للتيه للمنتهى
ليس لي
للبيوت التي طاردتني
لجبانة ضاق بي قبرها
للمدى يحضن الطائرات المغيرة ليلاً
ويغتالني
* * *
مشى في شهوة الفوضى
يواري كل شيء في فضاء الشرق في شكل له
لا يقبل الترميم
مشى في وحشة التهويم
لن يصل الكلام إليه
يمضي شاهقاً يغضي لجنته التي شْهى
يؤالف أم يخالف
أم يؤدي طاعة للطقس في ردهات
هذا الكهف
لا تسأ
فقد أضحى بعيداً نحو جنته
وحيداً صار في حل من التنظيم
لن يصغي لمنعطف اللغات، تراثه تيه
ويخرج من جمال رماده شعب الشظايا
شهقة القنديل
جلجلة الكتابة والصدى
وفضيحة التنجيم
يمشي خارج التقويم
* * *
عفته
ولكنها حاصرتني
رمته على كوكب الليل
هاجرت كي أفضح الليل في
الشرق
لكنها
في غبار التراتيل كانت له
للذي نكهة الخبر في ساعديه
الذي يبدأ الشرق من لثغة في يديه
الذي
أسعفته اللغات وصلت عليه
التي أسعفتني شكتني لشرق النهايات
نحنو عليه
بشمس
رصاصية
ودعته
دعته لكي يقبل القتل، كي يحسن
اللغو واللهو
كي يستفيق الحطام الإلهي
لكنها حاصرتني
* * *
لوه
واشتبكت جيوشٌ فوق جثته
تلائم
أو تقاوم
طينة الجسد الرمادي احتمت بسلالة الشورى
تقاوم أو تلائم:
طينة الجسد الطري تجاسرت
عبرت بلاداً كالشواهد، راودتها شهوة المنفى
تلائم
عندما سألوه كانت نحلة الرؤيا تغيم بمقلتيه
وكان تاريخ يضلله الوضوح
سألوه
كان موزعاً بين السقيفة واحتمالات الخلافة
واضطراب النص والفتوى
ومختلف الشروح
سألوه في شفق الوقيعة والمشانق كلها
كانت له
قاومت:
لكن ما الذي يبقى
تقاوم لأجلك الرايات
موتك سيد
ستكون عبداً عندما لا تنحني في ظل قوس النصر
يبقى، ما الذي يبقى
تقاوم أو تلائم
جنة الرؤيا يداك
وكاحلاك على رماد بارد، قاومت أو لاءمت
كانوا يسألون الفقه والقانون والمتن الذي
كتبوا هوامشه وسدوه بجلدة كاسر
وجميع ما يبقى لك الآن
الكتابة والغياب
هذيت أو كاشفت، إن سألوك
قل لهم الجواب
هذيت أو حاصرت أسرار الذبيحة
سيد في الموت
لا دمك الذي يغري بأنخاب دم عبد
ولا العربية الفصحى ستبتكر البلاغة عندما ترثيك
قاوم
واحفظ الطين الطري
ولا تلائم
كلما سألوك
قاوم
سوف تهذي سيداً ويموت موتك
عندما نصبوا السرادق خارج الأسوار وانتظروا
لكي ينهار وقتك
أين صوتك دع لهم سعة لكي تصل القوافل مكة
بالقدس
تمتد القبائل
دع لهم، يطأون جثتك الفطيسة
كلما واصلت صمتك
فاتئد
سيكون في الطين الذي ليديك شاهدة
لتسمع عندما تهذي
يقاوم:
أو يلائم
عندما تغوي يديك سفينة التيه
انفصل
دع فسحة كي لا تغادر جنة الرؤيا
وقاوم
* * *
يت يدين تشتبكان في جسد
رأيتهما ملطختين بالتلوين
صلصال وصورة عاشق وتفجع الحبلى
خفائفها الجميلة سوف تسقط
من لها
ويدان تشتبكان في الجسد الطري، وجنة في الطين
رأيتهما
عشيق شارد
ومخاضها يغري اللغات
خطيئة العربية الفصحى
لها
ولها خفائفها الجميلة، كدت من خوف عليها
من لها
مغدورة ويدان تشتبكان في جسد تقصته الحروب
، رأيتها
ورأيت فيها لحظة التكوين
* * *
أسرار فاكهة المساء، سريرة المأوى
ومحتملان
موت للذي ينسى
وموت للتذكر
سيد في القيد أرخى للمدائن من مدينته
سيهذي مثل شعب
من له
من لي بهاوية ليهذي
جنتي نعش على رئتيه
من لي
من له
طرق ستأخذني إلى طرق ستأخذني إلى طرق
وأحجار الطريق ستلبس اللحم الذي
قدمان عاريتان
في برد، وكل الأسلحة
تكتظ في أثر طريد
ربما هلعاً
شريد
ربما ولعاً
لها، قدمان
جنات، جحيم، ربما تنسى جميع الأضرحة
قدمان
هل قدم مقدسة الخطايا والخطى ابتهلت
لشيء ليس يسمع
ليس يغفر
خيمة أم خرقة في شهقة الصوفي
أسرار لفاكهة
ستنسى عندما تهتاج في شغف وترتطم الحجارة
بالمدائن المدى
من للصدى
من لي بصارية تسملها المرافئ
للمرافئ
للمرافئ
إنه يهذي
يجانس أو يطابق أو يناقض
إنه يهوى إلى لغة الشرائك
من له قلب ستكسره المناديل الصديقة
أو له شعب ستخلعه الخوازيق الشقيق
جنتي عرش على قدميه
محتملان
موت للذي ينسى
سيد في القوس
يصغي للقرى ويقايض المدن الحبيسة بالأغاني
عندما ضاقت به، اتسعت له
وسعت لأكثر من دم
يمشي ويهذي
لم يكن قلباً له
جرحاً
وكل رصاصة تأتي بظهر رصاصة
والقلب، هذا الجرح لا ينسى
ولا يتذكر القتلى
لعلي صرخة في أمة ثكلى
لعلي أمة ثكلى
لها من لي بذاكرة تحاصرني.. ولا تبلى
أتوا من فجوة في البحر
جاءوا من جنوب الوقت
إن الله لا يسهو
ولكن الجهات أتت مدججة
بما لا يذكر الجندي أو ينسى
* * *
وردة للبحر
أشكال لموت الأرض
عريش للذي يغزو
قالت واحتمت بالخنجر الدامي
لها قتل وللشعراء فاجعة الكلام
وللذي يرتد قبر
لم يعد قبر
هي الأرض التي للموت
للبحر المراكب والمدى، وممالك مالت على رئة لشعب
شب عن قيد اللغات
لها الأطفال لها، لمغامر ينجو، لهودجة المدائن
وهي تكبو غير عابثة، لشعب شط في تيه ويستثني
ويغفو
غير عابثة وتكبو
من لها، من لي
أرى جثثاً تسير وتحمل الرايات
لم تزل في سجدة الخوف الكئيبة. لم تزل في وهدة
ورأيت نعشاً سيداً
لغة وبحر
والذي يرتد مرصود
له قيد وقبر
سيدي ملك على بحر
وذاكرة ستنسى عرشها، وعريشة أشهى
ومختبلون مأخوذون بالبحر المدجج
بالمدى العربي مثل القيد، بالقتلى
بمحتمل العواصم وهي في كيس الخراج
بأمة مصلوبة تهفو لموت سيد
ومفاصل أقسى.. وأعلى
لم تزل
مغدورة تهتاج في قوسين
شامخة بوجه الذبح، تصرخ
كالذبيحة في المدى العربي.. كلا
قال لي
ما أجمل القتلى
هناك موزعين على المداخل يحرسون قبورهم
وأنا على قيدي هنا
هل كنت مختلجاً يواري عاره
أم كنت مثل الوقت محتلاً
من لي بذاكرة تحاصرني.. ولا تبلي
* * *
هودجها يميل
عدل الفرسان هودجها
يميل
مليكة في غربة الشطآن
موغلة تعذبها القبائل
واحتمال الليل، والسفر الطويل
تختال في وجع
له في كل أرض خنجر
ومآتم منصوبة وفم قتيل
مرصودة للهتك، أطفال لها
ولها الصحاري المدى العربي في قيد
وهودجها يميل
وحشة تبكي على وحش
وهودجها مليك الأفق
أعراس لها في مأتم القتلى
ولن تغفو
ولن يهتز بعد الآن هودجها الثقيل
* * *
يت رماده يرد يهزج يستعيد نثاره شجراً وتاريخاً
ومحتملان
دار للذي دمه بروج الوقت
دائرة لمن ينسى
رأيت رماد إرثاً لمعراج الصدى، درجاً لشعب شارد
في غربة الأمواج مثل التاج، كان رماده تاجاً على شرق
النهاية وهي تبدأ، لم يكن ينسى عناصره. حريق عامر
وعرائس القتلى وبلدان لها مدن تقاتل أهلها وتحاصر
الشهداء، مرتداً من الأنقاض يخرج، لم يكن هذيانه تعباً
ولا فوضاه تذكرة الخديعة، كان في وله رماداً سيداً
ملك على كلماته، غني، رأيت كلامه شجراً وتاريخاً
ومحتملان
زوج للصبية حينما يتضاحك النهدان
في خجل ويكتظان بالشوق الشهي
زجاجة الرؤيا لمن ينسى ويغفر
عندما يهذي يصوغ رماده وطناً، وطينته الطرية أول
التكوين
* * *
شكل البرتقال وزينة الفوضى وخندقة القتال وعاشق
يحظى بعاشقة وقافلة من الأعداء
شامخة
كأن نقيضة الأسماء: تذكاراتها لغة
وللكلمات في أشكالها جنس الذبيحة وابتهالات
الغبار
وصورة للماء
خل وهادماً فينا
يداها دورة الأفلاك
أبراج لها تاج
وهودجها يغطينا
دعوها تحضن الجرحى وتنتخب الضحايا
تفتدي، وتحاسب الموتى إذا ماتوا
دعوها حرة فينا
ستعطينا دماثتها لنشعل زيتها فينا
يداها برتقالة دارنا وحديقة لتهالك الأسماء
كانت عندما كانت هوت في حوضها مدن وأفراس
ونجم شاحب وشرارة الأنواء
* * *
فضحتنا مثلما سكينة تندس
هذا حلم وحش
ونختال به
نسأل من أين إلى أين ولا نسأل عن تاريخها الآتي
ولا تهتز في أحجارنا سنبلة للشك لا نشكو من الوحش
فجاءت
مثل جنية تهذي لكي تلهو بنا
فضحتنا
فتركنا للذي ينثال من أحلامنا
حرية الموتى
تركنا كوكباً في جسد الشرق لكي يختار من أيامنا
وتركنا ماءنا الغالي لكي
نشرب من بئر المقابر
فضحتنا
والذي ينهار لن نرأف به
للفضح هذا الجسد
الهالك
هذا الجدث
المالك
لم يبق لهذا الشرق من وقت
سنبكي عندما يخطئه الهدم
افضحينا
أحجارها تاج على ذهب المدائن
صورة للماء
أخبار الحدائق في خبيئتها وليست جنة للنار
مدت لليتامى للمصابين ابتلاءاً بالردى
مدت يداً
كانت تحاصر آخر الرايات في شرف القبيلة
من رأى مدناً مكدسة
رأيت هوادج القتلى على خشب عتيق
ربما العرب الذين
مدينة صارت وتختصر المدن
تمحو وتكتب
من رأى امرأة تلملم ظلها لتصد جيشاً
من رآها. في قميص واحد
حلماً ووحشاً
من رأى عرباً على عرب
سلالات، لغات
من رآها أمة منذورة
عرشاً ونعشاً
لهن تميمة الذكرى ومدخراتها
يمشين مصطبرات
ثاكلة وعذراوات
في قمصانهن غزالة مذعورة وجسارة الأسرى
سينسين الكلام، خيامهن الهتك، من أعطى
لفاكهة المساء سفينة مكسورة ومحا الهواء
وصادر الميناء
من أعطى النساء نوافذ الرؤيا وأطفأ نجمة
الأفلاك
من دمنا على يده
ومن يده على دمنا
ومن منا سيرسم آخر الإشراك
من للنسوة اللاتي بنين النهر والمجرى
لهن خديعة الذكرى
لهن الفقد والنسيان
من لي بعدهن ومن لهن عريشة بعدي
وحيدات على خشب المخيم
والمدائن تشحذ المنفى
ويرجع لي الصدى
وحدي
لهن القبر
لي قيد وللفوات أختام الطرائد
للموائد نخبة الأقداح
للرسل الكثيرة فجوة في التيه
مصطبرات
لا يمشين لا يمشي بهن الماء
عذراوات
من لي
ما الذي أسرى لمنعطف الخريطة
مشرقاً كحمامة البشرى
غريباً غائباً
ومضرجاً بتمائم الذكرى
أحايد بين موتين
انتهاء الأرض حتى قهوة المأوى
وخاتمة النشيد
بكت لي أو بكت في جنة تهوي على القدمين. قالت
ربما
وتشبثت بتهدج الفرسان
من لي بعدكم خلّوا خيولكم
تخب وخيموا عندي. دعوها
تحرس اللغة الجريحة
كي أموت وحيدة في حضن
فارسي الوحيد
بدأت خاتمة النشيد بدأت في الذكرى
دعوني خائفاً لو أنهم تركوا لقلبي حسرة الفقد الذي
ينسى
نسوني في نساء، خبأوني في سرير الغدر. لو أن السفائن
كلها ضاقت لكان القتل أجمل من يد مغلولة في وحشة
الصحراء
بكت عند الرحيل وكنت في الذكرى
* * *
بغتة تبرق أسرارنا
في دماء الكوامن في آخر الليل
من ليلة هيأتها التأويل، من قاتل، من مليك ملاك
من هناك
حيث أسماؤنا في بلاد
وأحبابنا القاتلون احتموا في بلاد
ونحن بلا مدخل للسماء
سيبقى على الموت أن يفتدينا
سيبقى لنا في القبور وأسرارنا فسحة للفضيحة
يبقى هلاك لنا
هل رأيت الجنائز تخرج محتجة
ورأيت الدماء المهانة في موتها
ورأيت السماء
تضيق، بعصفورة الأنبياء،
سيبقى هلاك
لنا بغتة هذه المزدهاة بتاريخها
طفلة في السبايا
لها في اللغات انتحار
وفي الشجر المستهام انكسار الغصون
لها في الجنون احتمال البقايا
ترى من لها في السفائن في غربة البحر في جيئة
وزعتها القبائل في شهقة حرة.. أن تموت
طفلة صدرها في السيوف وأخبارها شغف للحياة وقمصانها مثل شمس تطوف
ملطخة مترعة
ببقايا الصباح وقهوتها للضيوف الغزاة
وميزانها غابة الأشرعة
طفلة راهقت
والسلاح تميمتها
ظهرها في المخيم والأمة الراجعة
* * *
نهض الرماد كأنه ينأى
كأن شهيقه في زينة البحر
انتهى وقت
سيأتي آخر
فدخلت في نار العناق
سيذهبون الآن
من لي
من لهذي الخيمة المكسورة الوتدين
من يبقى يصد رصاصة الموت الأخير
بكيت في التذكار
كان البحر وحشياً وكنت ملطخاً بالفقد
مازال الدم المهدور في كأس الشوارع في رؤى خشب
ينعطف المواكب
كانت الرايات تجهش
سوف تذهب
من سيبقى
كنت في شفق من الذكرى
كأن السبي فينا مرة أخرى
كأن البحر لن يسع المراكب، والنوارس
سوف تغرينا بمقتبل الضباع
كأنما ينأى
ويحتكمون للفوضى
لهم أسرار ولهم بلاد
جنة الجرح التي رسم الملائكة حولها سوراً
سيحتكمون للفوضى
بلاد لم تزل
وحجارة تمشي
وقلب أثقلته كثافة الرؤيا
بكت لي
دع جوادك يرتوي
من زرقة النهدين
دعني
ربما بعدي ستحتدم الرماح
وبعدك الصحراء
قالت
كلما تنأى
سيحتكمون
تبدأ هذه الفوضى
يد في صخرة الوديان، سوسنة تسن براءة الأمواج
كنا فتية في وردة الفوضى
يعيدون الملامح للذبيحة
يستعيدون الطريدة
فتية للفقد منتصرون في أشلائهم
ويد على جرح
يد في جنة
ساروا على أسرارهم
كان الطريق يعيرهم ليد فترسمهم على حجر الطريق
ملك على الفوضى
وسيدة بلا عرش
وقافلة توزع جمرة الرايات، يخلعها الصديق
خطيئة الرؤيا
ستذهب
من لها
من لي
ستهرع عادة القتلى إلى حجر
دعوه
ذلك الحجر الجميل
دعوه
يبنون البلاد عليه
فوضاهم وجنتهم
لهم أسرار فاكهة ونهر سوف يكسر عادة المجرى
ويركض أو يشط
وربما ينأى
لنافذة تخبئ نجمة الليل
هل تسع المراكب كل هذا
الموج
دعني
دع دمي في وردة الفوضى
يفيض ويحتمي كطريدة النيران خلف الغابة
البركان
يحتكمون
قائمة القضاة
منصة الحكم
المحامون
الذبيحة والطريدة
شاهد الرؤيا
وحراس المدينة
لم يزل ينأى
تلاحقه المذابح
من له
من لي.
القلعـة
أبني القلعة من حولي
أشيدها حجراً حجراً
وأستنفر الجيوش لتبدأ الهجوم
وحدي أستعدي شهية القتال في شجاعة الأعداء..
أهيئ لهم كي يبدءوا شحذ الأسلحة
ويحسنوا التصويب
أبعث بكتب التحديات وأنتظر في القلعة
وحدي..
كل موجة من الهجومِ أسميها تفاحة الغواية..
أمقت الأسلحة ولا أحسن الحرب،
وليس لدي جنودٌ ولا سعاة وحدي
كلما ارتدت هجمة أسعفت الجرحى،
وبعثت بالأسرى مدججين بالهدايا
أرمم أسوارَ القلعة،
أدهنها وأزينها بالقناديل
كي ترشد الهجوم التالي..
فربما يحلو لهم أن يبغتوا في الليل
فها أنا وحدي والقلعة صامدة .
عن قيس
سأقول عن قيس
عن الهوى يسكن النار
عن شاعر صاغني في هواهُ
عن اللونِ والاسمِ والرائحة..
عن الختمِ والفاتحة..
كنتُ مثل السديم، استوى في يديه،
هداني إليه..
برئت من الناس لما بكاني إليهم..
زها بي وغنوا الأغاني بأشعاره..
فما كان لي أن أقدّر هل أشعلني أم طفاني..
سأقول عن قيس
عن جنة بين عيني ضاعت
عن هواءٍ أسعفَ الطير واستخف بنا واصطفانا
عن كلما همَّ بي تُهتُ فيه،
وباهيتُ كي نحتفي بالمزيج..
عن العشق تلتاعُ فيه الحجازُ
ويشغفُ في ضفتيه الخليج..
سأقول عن قيس
عن حزنه القُرمزي..
عن الليل يتبع خطاه الوئيدة..
عن الماءِ لما يقولُ القصيدة..
بكى لي البكاءَ،
وهيأ لي هودجاً،
وانتحى يسأل الوحش عني..
كأني به لا يرى في القوافل غير الخيول الشريدة..
سأقول عن قيس
عن العامري الذي أنكرته القبيلة..
عن دمه المستباح..
عن السيف لما انتضاه من القلب..
واجتاز بي أرضَ نجدٍ ليهزم كل السلاح..
عن اللذة النادرة،
عن الوجدِ والشوق والشهقة الساهرة..
عن الخيل تصهل بي في الليالي..
والصهدِ يغسلني في الصباح..
ويا قيس يا قيس،
جننتني أو جُننتَ،
كِلانا دمٌ ساهرٌ في بقايا القصيدة..
* * *
عن
ليلى
سأقول عن ليلى
عن العسل الذي يرتاحُ في غنجٍ على الزندِ
عن الرمانة الكَسلى
عن الفتوى التي سرّت لي التشبيه بالقندِ
عن البدوية العينينِ والنارينِ والخدِ
لها عندي..
مغامرةٌ تؤججُ شهوةَ الشعراءِ لو غنُّوا
صَبا نجدٍ متى قد هِضتَ من نجدِ..
عنِ النَوْمِ الشَفِيفِ يَشِي بنَا.
عَنْ وَجْدِنَا، عَنْها.
لِئَلا تَعْرِفَ الصَحْراءُ غَيْرَ العُودِ والرَنْدِ.
سَأقُولُ عَنْ ليلى
عن القتلى.
وعن دَمِنَا الذي هَدَرُوا
عنِ الوحشِ الصديقِ.
وفِتنةِ العُشَّاقِ
واللَّيلِ الذي يَسعى لَهُ السَهَرُ
عنِ الطِّفْلينِ يَلتقيانِ في خَفَرٍ.
ولما يُزهرُ التفاحُ يَخْتَلِجَانِ بالميزانِ
حتى يخجلُ الخفر.
لِلَيلَى شَهْقةٌ أحْلى
إذا ما لَذةٌ تَاهَتْ بِنا
وتَنَاهَبَتْ أعْضَاءَنا النِيرانُ.
مُتْنا أو حَيينا.
أو يقولُ النَّاسُ أخْطَأنا
سَتَبْكِي حَسْرَةٌ فِينا إذا غَفَرُوا.
سَأَقُولُ عن ليلى
عَنِ المسَافِرِ عِنْدَمَا يَبْكِي طَوِيْلا
عَنِ السِحْرِ اللَّذِيذِ إذا تجَلّى في كَلامِ عُيُونِها
عَنْ نِعْمَةٍ تُفْضِي لأنْ أقْضِي رَحِيلا
عَنْ مَراياها مُوَزّعَةً تُخَالِجُ شَهْوَةَ الفِتْيانِ
عَنْ ميزَانِها مَشْبُوقَةً
عَنْ عَدْلِهَا في الظُلْمِ.
عَنْ سَفَرِي مَعَ الهَذَيَانِ.
عَنْ جِنِّيَّةٍ في الأِنْسِ تَنْتَخِبُ القَتِيلا
لَيْلايَ لَوْ يَدُهَا عَليَّ
ولَوْ يَدِي مَنْدورةٌ تَهِبُ الرَسُولا
سَأَقُولُ عَنْها مَا يُقالُ عَنِ الجُنُونِ إذا جُنِنْتُ
ولِي عُذْرٌ إذا بالَغْتُ فِي مَوْتِي قَلِيلا.
المقطع الأخير..
قل هو الحب
قُلْ هُوَ الحُبُ
ولا تُصْغِي لِغَيرِ القَلْبِ،
لا تَأخُذُكَ الغَفْلَةُ،
لا يَنْتابُكَ الخَوْفُ عَلى مَاءِ الكَلامْ.
قُلْ لَهُمْ في بُرْهَةٍ
بَينَ كِتابِ اللهِ والشَّهْوَةِ
تَنْسَابُ وَصَايَاك
ويَنْهالُ سَدِيمُ الخَلْقِ في نَارِ الخِيامْ.
قُلْ لَهُمْ،
فِيمَا يَنَامُونَ عَلى أحْلامِهمْ،
سَتَرى في نَرْجِسِ الصَحْراء
في تَرْنِيْمَةِ العُوْدِ وغَيمِ الشِعرِ سَرْداً وانْهِدَامْ.
قُلْ هُوَ الحُبُّ
ومَا يَنْهارُ يَنْهارُ، فَمَا بَعْدَ العَرَارْ
غيرُ مَجْهُولِ الصَحَارَى وتَفاصِيلِ الفَرَارْ.
غيرُ تَاجِ الرَمْلِ مَخْلُوعَاً عَلى أَقْدَامِنَا،
والذي يَبْقَى لنَا تَقرؤهُ عَينُ الغُبَارْ.
والذي لا يَنْتَهِي، لا يَنْتَهِي.
مثلَ سرّ الموتِ
والبَاقِي لَنَا مَحْضُ انْتِحَارْ
قُلْ هُوَ الحُبُّ
طَريقٌ مَلكٌ نَبْكِي لَهُ، نَبْكِي علَيهْ.
لَوْ لَنَا في جَنَّةِ الأرْضِ رُواقٌ واحِدٌ.
لَوْ لَنا تُفّاحَةُ اللهِ جَثَوْنَا فِي يَدَيهْ.
عريف الحفل: الحقيقة الأسئلة التي وردتنا
من السادة الحضور والموجهة لسعادة فارس الاثنينية، السؤال الأول من فضيلة
الشيخ محمد علي الصابوني، يسأل قائلاً:
هل الشعر موهبة ووجدان يتفاعل مع نفسية الشاعر؟ أم هو صنعةٌ وحرفة يستطيع
كل من مارس علم القوافي أن يتربع على عرش الشعر، ويصبح شاعراً مرموقاً؟
يشار إليه بالبنان، فقد كثُر الشعراء في هذا الزمان، وكلٌّ يزعم أنه مبدع؟.
الأستاذ قاسم حداد: أظن بأن الفن والإبداع والشعر من هذا الحقل، هو بإذن
الله موهبة، وكل ما يأتي بعد ذلك سيصقل هذه الموهبة، لكن الشرط الأساسي
وهذا اتفق عليه كل المعنيين بالأمر والمتصلين والعلماء؛ والمبدعون أيضاً
يقترحون علينا أن نؤمن ونصدق هذه الحقيقة لكي نضع الفعل الشعري أمام الشرط
الحاسم منذ اللحظة الأولى، وهي النعمة التي يمنحها الله للإنسان، غير قابلة
للتفسير، غير قابلة للتحليل المسبق وغير متوقعة، لكن التجربة فيما بعد
هي التي تؤكد أن هذا الإنسان موهوب أو غير موهوب، لأن كثير من المدرسين
والأساتذة والعلماء يعرفون بحور الشعر أكثر من الشعراء أنفسهم، لكن من
المؤكد أن معرفة البحور والمحيطات لا تساعد الإنسان أن يكتب شعراً.
عريف الحفل: الأخ السائل الأخ محمد عبيد الله السيد الأودن، يقول طبعاً
يسأل شعراً يقول:
أرى أن الهوى أصلُ المشاعر' |
|
فلولا نورهُ لم يبدُ شاعر |
وأحسب أنه سرٌ جديرٌ |
|
ببحث رموزه فوقَ المنابر |
فما هو رأيُكم في الحب إني' |
|
أرى أن الهوى أسمى المشاعر' |
الأستاذ قاسم حداد: أنا أعتقد أن الحب أهم من الموهبة إذا أردنا الحقيقة،
لأن الحب هو الفعل الأساسي للإنسان للحياة ككل، فالحب بكل أشكاله حقيقةً
لأن لا أتصور أن هناك شاعراً أو مبدعاً أو.. في كل حقول التعبير الإنساني
لا يمكن أن يصدر عن شعور غير شعور الحب، يعني.. وهذا هو الشرط الذي يجعل
العمل الأدبي جميلاً وجديداً وجديراً بالإنسانية، لأن فعل الكره وفعل الحقد
والمشاعر السلبية على الأقل من وجهة نظري لا تستطيع أن تحقق إبداعاً، لذلك
يجب أن نضع شرط الحب قبل الأشياء الأخرى.
عريف الحفل: الأستاذ عبد الحميد الدرهلي يقول:
شاعر عالمي تقدره أكثر من غيره ولماذا؟ وبماذا يمتاز شعر هذا الشاعر عن شعرك؟
وهل بوسعك أن تصل إلى مستوى شعره؟
الأستاذ قاسم حداد: هو في الحقيقة ليس هناك شاعر محدد يمكن أن أذكره الآن،
لكن هناك شعراء في مراحل مختلفة يمكن الإنسان أو الكاتب يُعجب بهم، وهذا
يتوقف على مستويات الوعي والمعرفة والخبرة في حياة الإنسان أن يكون في البدايات
يعجب بشاعر أو بقصيدة وفي بعد تقدمه في السن والتجربة يكتشف تجارب أخرى،
ومن الظلم لي شخصياً على الأقل أن أذكر شاعراً محدداً لكن هناك شعراء كثيرون
من العالم، أتلقى الدروس من قصائدهم يومياً ولا أكتب الشعر لأنني أريد أن
أضاهي أحداً.
عريف الحفل: الأخ غياث عبد الباقي يقول:
بدماء مئات الشهداء من أهلنا رجال المقاومة في فلسطين تُكتب أجمل قصائد الشهامة
والوطنية، بل هم إن شاء الله يصنعون الفجر القريب حيث النصر على أعداء الأمة
وأعداء الإنسانية. والسؤال: ما هو دور الشعر تجاه ما يحدث لأهلنا في فلسطين
الجريحة وحتى يتحرك الشعراء لنصرتهم؟
الأستاذ قاسم حداد: يعني دائماً أشعر بأن ما يحدث على صعيد الواقع هو أكبر
من النصوص التي تُكتب، خصوصاً في لحظة الانفعال ولا أميل إلى الكتابة المتسرعة
عن التجارب، لكن هناك فسحة رحبة أمام الإنسان العربي هي فسحة الأمل إن كان
الأمل في النص الأدبي أو الفني أو الأمل في ما يحدث رغم العتمة ورغم الهزيمة
المركزة والإهانة التي نتدهور إليها يومياً، أظن بأن هناك حقائق كبرى في
تاريخ الإنسانية والبشرية، ونؤمن بها حقيقةً، إن العدل والحق والجمال هي
الشروط.. هي الأهداف والغايات التي نسعى لها جميعاً وتسعى لها الأديان، والاجتهادات
المختلفة الإنسانية خصوصاً، على هذا الصعيد أنا أتشبث بالأمل وأقترحه دائماً
في حياتي وفي نصوصي، أظن بأنه زاد نحتاج إليه باستمرار.
عريف الحفل: الأخ محمد العرابي يقول:
نريد أن تسمعنا مقطعاً شعرياً تحبه ولماذا؟
الأستاذ قاسم حداد: أولاً: أعترف حقيقةً بأنني طوال حياتي لا أحفظ شعراً..
لا أشعاري ولا شعر الآخرين وأنا أعتقد بأن هذه موهبة إضافية للشاعر عندما
لا يحفظ الشعر يكون مهيّأً عندما تكون القصيدة الجديدة، مهيّأً لأن يكتب
شيئاً جديداً، فأرجو أن تعفيني لأني بالفعل لا أحفظ أشعاراً على ظهر قلب.
عريف الحفل: هذا الأخ سامي خُميّس أيضاً يطلب نفس الطلب، يقول:
قصيدة قريبة إلى قلبك على الأقل ولو تقرأها من الورقة؟
الأستاذ قاسم حداد: القصيدة لي أم للآخرين؟
عريف الحفل: لكم أنتم طبعاً.
الأستاذ قاسم حداد: فكرت في شاعر، هو ليس أحب ولكن.. سأقرأ مقطعاً إذا سمحتم
لي.
رقصة الذئب
انتَظِرْ..
سهرة الأصدقاء انتهت..
وانتهى فيلق الندماء..
الذين استداروا على كأسهم يخلطون
يا قرين الجنون انتظر..
ريثما نسترد التآويل في نصنا
علنا نتدارك أخطاءنا الصائبة
ثمة التائبون عن النص
يسدون نصحاً لنا بالرؤى الغائبة
فانتظر إنهم يصقلون التفاسير
يُفتون أن النبيذ القديم سيفدح أقداحهم
يسكرون انتقاماً بأخبارنا ويَدَّافَعون ويمحون آثارنا خشيةً
فانتظر..
نصك الآن رهن امتحاناتهم
مثلما تُخلط الأشربة
ربما يمزجون الخرائط بالليل
يختبرون العناصر بالنوم
يهتز ميزانهم كلما تعففت عن مأدبة
يعبث الأصدقاء..
وينتابهم ذعرهم كلما تماديت في التجربة
بالغ الأصدقاء بأسمالهم
فانتظر..
لا تنم خارج الحلم
تندم حيناً وينفض عن جرحك الندماء
ويستفردونك في سهرة مسرعة
فانتظر..
لا تدع كأسك المترع
ساعة الأصدقاء انتهت فليكن...
لم يزل زيت قنديلك المنتخب
يستفز الغضب..
فليكن يأسك المعدني اندلاعاً غريبا
يشك ويفتح أسئلة في يقين الذهب
فانتظر.. عند منعطف فاضح
تفقد الأصدقاء ودهشتهم..
مثلما يفقد الذئب عزلته المشرعة.
عريف الحفل: هذا الأخ الصحفي الأخ حسن الشهري، من جريدة الجزيرة يقول:
قبل أربع سنوات بعثت لك بمحاور لقاء صحفي، إلا أنك ذكرت بأن الأدباء في البحرين
اتخذوا قراراً بعدم التحدث لوسائل الإعلام إلا بمقابل، أسوة بما يحدث في
الغرب.. وعللت لي حينها بأن المطبوعات تكسب وتروج وتستفيد من مثل هذه اللقاءات،
فلمَ لا يستفيد الأديب؟. السؤال: هل ترى أن الأديب والشاعر في الخليج يمكن
أن يحقق مثل هذا الهدف؟ وهل وسائل الإعلام يمكنها أن تساهم في ذلك؟
الأستاذ قاسم حداد: لا طبعاً، لا في الخليج ولا في البلاد العربية، الشاعر
لا يكسب لكنْ الصحفيون ورؤساء التحرير وأصحاب شركات النشر هم الذين يكسبون،
وأنا أتذكر هذه الحادثة وهي في الحقيقة حادثة وردت في ظرف كنا نعيش تجربة
مريرة مع إحدى المؤسسات الثقافية.. وكان الحوار محتدماً حول الأساليب التي
نقترحها دائماً على المؤسسات الثقافية والصحافية خصوصاً، لكي يجري احترام
المثقف واحترام الشاعر واحترام الأديب كما تُحترم الفعاليات الأخرى في المجتمع،
فأظن بأن المؤسسات الثقافية العربية إذا كانت كما تزعم بأنها معنية بالثقافة..
بالمنظور الحضاري خصوصاً وليس من المنظور الاستهلاكي والإعلامي، لكن بالمنظور
الحضاري، إذا كانت معنية يجب أن تضع ميزانية واضحة الملامح للقسم الثقافي
كما تضع للقسم الرياضي مثلاً، كما تضع للقسم الاقتصادي، هذا اقتراح نطرحه
دائماً وإذا حدث أن صادف أحد الصحفيين رد من أحد الشعراء فأظن أن الشاعر
له حق ومن حق الصحفي أن يطرح هذا الاقتراح على المسؤول في الجريدة، إذا كنا
جادين وأنا للأسف أشعر أنه حتى الآن في المجتمع العربي لا يجري التعامل مع
الثقافة والمثقفين والأدب والإبداع والفن، الفن بالمعنى الحضاري لا يجري
التعامل معه بصدق وبأخلاق إنسانية على الأقل.
عريف الحفل: الأخ كامل صالح شاعر وصحفي، يقول:
إضافة إلى ما أشار إليه د. غلوم حول معنى "البشارة" فهي ترمز أيضاً
في المصطلح الكهنوتي المسيحي إلى السيد المسيح عليه السلام. انطلاقاً من
ذلك هل يرى الشاعر قاسم حداد في قراراته العميقة أنه منقذ "الشعر العربي"
من آثامه.. وإلى أين يريد قيادته؟
الأستاذ قاسم حداد: أنا شخصياً! منقذ.. منقذ؟
عريف الحفل: هو كتب هكذا.. نعم.
هل يرى الشاعر قاسم حداد في قراراته العميقة أنه منقذ الشعر العربي من آثامه؟
وإلى أين يريد قيادته؟
الأستاذ قاسم حداد: العفو أنا لا أزعم أنني سأنقذ أحداً، أنا في الحقيقة
محتاج أحد ينقذني.
الشيخ عبد المقصود خوجه: أنقذنا معك.
الأستاذ قاسم حداد: لكن أظن بأن صدور الشاعر مطلق شاعر خصوصاً يعني من الرغبة
الصادقة في إصلاح العالم، هذا الشعور الطبيعي وهو شعور الحب الذي أشرنا إليه
قبل قليل، هو الشعور الطبيعي الذي يجعل العمل الإبداعي مبرراً أمام الشاعر
نفسه ومبرراً أمام العالم، لأن رغبة إصلاح العالم ومقاومة الظلم وتحقيق العدالة
وتحقيق الجمال وتجاوز التخلف... هذه هي رغبات دائماً تشكل الغذاء الروحي
الذي يمنح الشاعر على الأقل بينه وبين نفسه يمنح ثقة وأملاً لا يحصل عليهما
من المحيط من المجتمع الذي يعيش فيه ومن العالم ومن مجريات العالم، فأظن
بأنه ليس الشاعر والمبدع فقط، أي إنسان في حياته يملك هذا الأمل ويملك هذا
الحلم الجميل الذي يجب عدم التنازل عنه وعدم التفريط فيه لأنه هو مبرر حياتنا
بشكل كامل.
عريف الحفل: الأخ محمد العرابي يقول:
قاسم حداد من أنت؟ وأين تجد نفسك؟
الأستاذ قاسم حداد: هذا السؤال الأزلي، أنا لا أزعم بأن القصيدة كافية لأن
تعطي الإجابة لا على الشخص ولا على النص، لكن أنا أحد الملايين من الكائنات
في العالم التي وُهبت بعض قدرات التعبير عن الذات وعن الأحلام الإنسانية،
وأنا أشعر بفخر كبير بأنني أمتلك هذه القدرة المتواضعة للتعبير عن نفسي والتعبير
عن أحلام البشرية وأحلام الناس، ولدي أسئلة كثيرة أطرحها على نفسي أيضاً.
عريف الحفل: الأستاذ عثمان مليباري يقول:
لو أتيح لك أن تُدوِّن تجربتك الشعرية.. فما هي المحطات التي تقف عندها؟
الأستاذ قاسم حداد: أظن محطات كثيرة، أعتقد بأن طفولة الشاعر أو على الأقل
طفولتي بالذات، لأني دائماً أشعر بأن طفولتي.. واحدة من الدروس المبكرة التي
علمتني قيمة الحياة، قيمة الحياة وأهمية هذه الحياة هذه في الطفولة، تجربة
حياتي.. العملية جعلتني أنتقل فجأة من الطفولة إلى الرجولة تقريباً بسبب
الظروف الاجتماعية التي عشتها، فجأة وجدت نفسي أتحمل مع والدي مسئولية العائلة
ومسئولية الحياة إلى آخره..، فهذه المحطة الثانية جعلتني أشعر بأن صعوبة
الحياة هي الدرس الثاني والتي يجب ألا تجعل الإنسان يضعف أمام هذه الصعوبات،
ولكن الدرس الثاني أكد الدرس الأول الذي هو أهمية الحياة وجمالها.
الدرس الثالث: وهو الدرس الذي يمكن أن أقترحه لإكمال الدروس السابقة وهو
درس الإحساس بقيمة الحرية، وأعتقد بأن هذا هو الدرس الأجمل في حياتي على
الصعيد الشخصي، وهذا ما جعلني دائماً في مواقف كثيرة أقترح بأن فترة الاعتقال
والسجن هي أجمل فترات حياتي، لأني تعلمت فيها هذه الحقيقة والقيمة التي تجعل
الحرية هي أهم قيمة في حياة الإنسان، والتي يجب ألا يتخلى عنها بأي شكل من
الأشكال وجديدة في حياتنا، نحن نتجرع هذه الأقداح المريرة أكثر من خمسين
وسبعين وثمانين سنة، ولأسباب مختلفة ليست فقط لسبب العدو الصهيوني، ولكن
أيضاً.. أسباب مركبة ومعقدة جعلت هذا العدو يستنسر على أنه يستهين بنا لأننا
عشنا طوال حياة الإنسان العربي في التاريخ الحديث تحت أنظمة لا تحترمه ولا
تمنحه الحرية، ولا تجعله يكتمل بشخصيته الحضارية، ويكون ضعيفاً... وفي مهب
الرياح البسيطة، فما بالك رياح عاتية مثل الريح الصهيونية والقوى العالمية،
أظن بأن الثقافة العربية تحمل هذا العبء وتتأثر به وتقترح على المجتمع وعلى
المؤسسات والمنظومات السياسية منذ خمسين وستين عاماً تقترح عليه المشاريع
التنموية والثقافية والحضارية والتقدمية ولكنه يمعن في تهميش هذه المشاريع،
ويرفض الإجابة لأسئلة هذه الثقافة العربية التي تطمح في تطوير المجتمع. ولكن
الآن عندما وقع هذا المجتمع العربي بأنظمته السياسية تحت القوى العالمية
سيخضع لشروط القوى العالمية ويقبل شروطها التي تتدخل في تفاصيل حياته ومناهج
تعليمه وأسلوب حياته.
عريف الحفل: الأخ هاشم الجحدلي يقول:
يا قاسم ابن حداد.. في (الجواشن) أين ينتهي قاسم.. ومتى يبدأ أمين صالح..
وهل ستكرر؟
الأستاذ قاسم حداد: أنا دائماً أعتقد بأن كل تجربة هي تقترح قانونها وقيمها
التي لا تكون صالحة للمقارنة بتجربة لاحقة، وأظن بأن من الأفضل أن تكون التجربة
الأخرى غامضة حتى الآن، من الأفضل أن تكون مختلفة، ولا أعرف حتى الآن ما
هو ما يدخر لنا المستقبل خصوصاً في التجربة المشتركة مع أمين صالح.
عريف الحفل: الأخ نديم الخيراتي يقول:
في بعض نصوص ديوانك "قبر قاسم" نرى تماهياً في التجربة داخل النص
مع ذوات تستحضرها في ذاتك. والسؤال: هل ترى بأن هناك تشابهاً في التجربة
من الناحية الروحية؟ أم هي محض رؤيا تجذرت في اللاوعي وانبثقت في شكل تماهٍ
تأويلي غير مقصود في حد ذاته؟
الأستاذ قاسم حداد: التشابه في تجربة أي شاعر أو أديب بشكل عام، تشابه هو
أحد الأشكال التي يكون مرشحاً لها الشاعر، ولكن في كل تجربة جديدة يحاول
الشاعر أن يتفادى أو يقلص هذا التشابه، وأن يرجح الاختلاف والمغايرة في النص
الجديد عن النص السابق ولكن في "قبر قاسم" تجربة الكتاب خصوصاً
هذا الكتاب هو يتكون من ثلاثة كتب في الحقيقة، الكتاب الأول وهو "فهرس
المكابدات" والكتاب الثاني "قبر قاسم" و الكتاب الثالث "فهرس
الأخطاء" الكتب الثلاثة هي تتقاطع من حيث التجربة الإنسانية للشاعر
والتجربة الإنسانية ككل، ولكن تتمايز أو أفترض أو أقترح أنها تتمايز في الأجواء
الشعرية وفي اللغة التعبيرية وفي أدوات التعبير والدلالات.. والرموز.. والأقنعة
إلى أي حد استطاع كتاب "قبر قاسم" أن يوصل هذه التجربة بملامحها
المختلفة؟ أظن بأن هذا دائماً يتوقف على القارئ، ومن المؤكد بأن كل قارئ
له بناء على قربه من التجربة الشعرية، وعلى مستواه المعرفي والثقافي وحساسيته
الإنسانية تتوقف عليه، حكم القيمة التي دائماً بالنسبة للشاعر هاجس ومهم
لكي يتحسس مدى نجاحه أو فشله عند القارئ.
عريف الحفل: الأخ سليمان سالم يقول:
إن المثقف العربي اليوم في مأزق بين صلف المؤسسة وسطوة المجتمع الذي لا زالت
تسوده عقلية قروسطية ترفض التغيير وتستطيب المكث في إسار الماضوية المسلَّماتية؛
فكيف يمكن إيجاد مكوِّن عقلي جديد وخلق آلية عقلية موضوعية تقوم على التجربة
والاستقراء ليكون لنا مكان بين الأمم، فلقد سئمنا واقعنا الضحل ورتابته القاسية؟
الأستاذ قاسم حداد: هذا هو السؤال والتحدي الحضاري الذي يواجهه المجتمع العربي،
وأظن بأن الكلام عن المؤسسة العربية ككل ليس فقط الثقافية هي مؤسسة مضادة
لكل ما يتصل بالإبداع الذاتي للفرد، هي مؤسسة لا تقبل الاختلاف، لا تقبل
النقد، ولا تقبل شخصية الإنسان ككائن له حقوق وعليه واجبات، المؤسسة العربية
تتعامل مع الإنسان تعامله كرعية ليس كمواطن، رعية بمعناها يجب أن تصغي ولا
تسأل، هذه الطريقة في التعامل لا نستطيع الزعم بأنها ستبني مجتمعاً وتطور
وتنمي الإنسان، بهذا المعنى الأسئلة يجب أن تطرح خارج المؤسسة.
للأسف الذين يزعمون بأن المجتمع العربي والواقع العربي يخلو من المبدعين
ويخلو من المفكرين، ويخلو من الطاقات الإبداعية والعلماء، هذا زعم غير صحيح،
الدليل على ذلك وكنا قبل قليل مع الأستاذ خوجه نتكلم عن الآلاف المؤلفة من
العقول العربية التي نزحت وتركت وطردها المجتمع العربي إلى العالم وهي الآن
تساهم في حمل عبء الحضارة الإنسانية، في كل الحقول ونزحت لأن النظام العربي
والمؤسسة العربية الاجتماعية والسياسية طردت هذه العقول، لأنها لا تحترم
العلم ولا تحترم المعرفة ولا تسمح للسؤال الذي ينطوي عليه العلم والمعرفة.
المشكلة في المجتمع العربي هي مشكلة المؤسسة، نحن نصادف يومياً جميع أنواع
المشاريع في المجتمع العربي لكن كل مشروع فردي يكون ناجحاً، اجعل هذا المشروع
يصير مؤسسة أكثر من اثنين أكثر من ثلاثة سيكون فاشلاً، لأن العقلية القائمة
عليه تقوم على نفي الآخر، نفي النقيض، ونفي السائل، ونفي الاختلاف، لا يمكن
أن يتطور مجتمع متجانس مثل تجانس الصخور، والصخور أيضاً مختلفة، يجب أن يكون
هناك تنوع، يجب أن يكون هناك قبول للرأي الآخر لأن الرأي المختلف هو الذي
يمنحني ثقة بأن ما أفعله صحيح وقابل للنقد، لا يمكن أن نصادف فعالية حضارية
غير قابلة للنقد، بهذا المعنى لا بد أن نؤمن بحق الإنسان في المسائلة وحق
الإنسان في النقد، وحق الإنسان في الاختلاف، هذه أحد أشكال الاختلاف والحضارة
ليس ديمقراطية فقط، شكراً.
عريف الحفل: الأخ عجلان أحمد الشهري يقول:
تعرضت كتب الأدب إلى "إمارة الشعر" في فترة تاريخية خلت من تاريخ
أمتنا العربية، فكان أميرها الشاعر الراحل "أحمد شوقي" -رحمه الله-
سؤالي من هو أمير الشعر في عالمنا العربي المعاصر من وجهة نظركم؟
الأستاذ قاسم حداد: إذا سمح لي السائل أظن بأن الشعر الآن تجاوز مفهوم الإمارة
في الشعر، وهو سلوك وتفكير يجب أن نتفاداه في حقول أخرى فما بالك في الشعر!.
عريف الحفل: الأخ سعيد الهادي يقول:
هل أنت شاعر هجائي هل هذا نتاج تأثير بيئتك عليك، أم نتاج تأثرك بشعراء يسلّون
سيوفهم حين يأتيهم شيطان الشعر أم غير ذلك؟
الأستاذ قاسم حداد: حسناً.. حسناً.. أقترح إذا سمح لي السائل بأن المفهوم
المتغير والمختلف والمتحول في الشعرية العربية أصبح متجاوزاً للتوصيفات التقليدية
للقصيدة أو للكتابة الشعرية، فلم يعد مفهوم مثل مفهوم المديح أو الهجاء أو
الوصف إلى آخره، لم تعد هذه التوصيفات تستوعب التجربة الشعرية الجديدة، لأن
لحظة النص في الكتابة الشعرية يمكن أن تستوعب مشاعر مختلفة، يمكن أن تستوعب
مواقف ورؤى مختلفة في اللحظة نفسها، وأخشى إذا سمحت لي أظن بأن كثيراً من
الأسئلة يمكن أن يساهم معي بعض الأصدقاء الحاضرين، لأنه من المؤكد أن لديهم
أجوبة قد تكون أكثر تخصصاً وأكثر غنىً، فأرجو أن تقترح على أصدقائي الحضور
يساهمون في الإجابة إذا تفضلتم.
الشيخ عبد المقصود خوجه: يا سيدي درجت الاثنينية أن الحوار يتم بين ضيف أمسيتها
والأخوة الحضور.
عريف الحفل: الأخ خالد المحيميد من جريدة الوطن يقول:
قرأت لك في مجلة "أقلام" العراقية حواراً قلت فيه أن أكبر خطأ
يرتكبه الكاتب العربي هو التفرغ مقابل راتب من السلطة، هل لا زلت على رأيك؟
الأستاذ قاسم حداد: نعم.. هو ليس مقابل راتب هو كأي مواطن من حقه أن يستغل
ويعمل مثله مثل أي مواطن.. وهذه حقوق متاحة، جمعية حقوق الإنسان تدافع عن
ذلك ليس عن الشاعر حتى عن الإنسان العادي، وأظن بأن المؤسسة التي تصل في
لحظة من اللحظات أنها تمنح الشاعر التفرغ لكي يواصل كتابته وراتبه يمشي هذا
شيء ليس كرماً مضاعفاً من السلطة وليست هبة وليست مكرمة خصوصاً.
عريف الحفل: الأستاذ نبيل خياط يقول:
الحداثة كيف تنظرون إليها؟ وكيف تنظر هي إليكم وأنتم تعيشون في غمارها؟ هذا
هو السؤال الأخير طبعاً.
الأستاذ قاسم حداد: حسناً، سؤال كثير مهم وأشكر السائل عليه، وهو مناسب لكي
نختم حديثنا..
الأستاذ قاسم حداد: طوال الوقت كان يصاحبني قلق دائم أمام مصطلحات يجري تداولها
كثيراً وخصوصاً مصطلح الحداثة التي أزعم بأنها هي واحدة من أخطر المصطلحات
التي يجري تداولها في السنوات الأخيرة، بالنسبة لي الحداثة ليست في النص
الأدبي ولا أزعم بأنني كنت أصدر بوعي وسبق الإصرار والترصد، عندما أكتب القصيدة
أكتب بشروط حداثية معينة، لكن هذا يحدث عفو الخاطر.
أفهم الحداثة بصيغة أكثر تعقيداً وأكثر أهمية وجذرية، أفهمها طريقة تتصل
بالمجتمع وبالحياة وبالمفاهيم اليومية في حياتنا والمستقبلية أيضاً، لأن
قصر الحداثة على النص هو قتل للأفق الذي نحلم به كبشر، وهو الحلم الذي ينقل
المجتمع العربي إلى المستقبل، والمستقبل هو القَدَر الذي يجب أن نؤمن به
لنيل حقوقنا الإنسانية المطلقة، أظن بأن الحداثة ممكن أن تتجلى في مفاهيم
يومية وبسلوك يومي يمتد ليشمل السياسة والمجتمع والأخلاق والثقافة والعلوم
والاقتصاد، أظن بأن الحداثة هي هذه الآفاق وليست القصيدة وليست النص وليست
القصة، شكراً.
الشيخ عبد المقصود خوجه: أحب أن أرحب بسعادة الدكتور منغوم مختار سيسي سفير
جمهورية جامبيا بالمملكة ودول مجلس التعاون الخليجي، والأستاذ فاضل غي رئيس
تحرير صحيفة الصحوة السنغالية، الذين شرفونا بهذه الأمسية فأهلاً وسهلاً
بهما وبكم جميعاً ولشاعرنا الكبير وزميله الدكتور إبراهيم غلوم التقدير والاحترام
على ما قدماه هذه الأمسية وبالذات عريس هذه الليلة أتعبناه بحوارنا وأسئلتنا
الكثيرة، ولكن صدره دائماً يتسع لمحبيه فأكرر الشكر له باسمكم واسمي، وأترك
الزميل الأستاذ كتوعة ليكمل الأمسية.
عريف الحفل: الحقيقة بين يديَّ دعوتان: الأولى
طبعاً من جمعية الثقافة والفنون بمحافظة جدة تدعو حضراتكم لحضور أمسية
ثقافية عنوانها (أثر الصحافة في الثقافة) وذلك مساء الأحد 1/2/1423هـ في
تمام الساعة التاسعة مساء بمدينة الملك فهد الساحلية، ويحي اللقاء كل من:
الأستاذ محمد صلاح الدين الكاتب والصحفي المعروف، والدكتور عبد الله مناع
الكاتب والصحفي المعروف، والدكتور عاصم حمدان أستاذ الأدب بجامعة الملك
عبد العزيز بجدة، ويشارك في الأمسية ويدير دفة الحوار الأستاذ الدكتور
عبد الله المعطاني.
وكذلك دعوة أخرى من نادي مكة المكرمة الثقافي الأدبي حيث سيكون لديهم إن
شاء الله غداً محاضرة عنوانها (علاج الأمراض النفسية على ضوء الشريعة الإسلامية)
وعلم الطب الحديث، يشارك فيها كلٍ من فضيلة الشيخ علي العمري، والأستاذ
الدكتور عبد المنان مُلاّ بار وبمشاركة وإدارة هذا الحوار فضيلة الشيخ
الدكتور أحمد المرعي.
أود أن أذكر حضراتكم بأن ضيف أو فارس الاثنينية إن شاء الله في الأسبوع
القادم سيكون معالي الأستاذ أكمل الدين إحسان أوغلي مدير عام مركز الأبحاث
للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باستنبول. والدعوة كما يقول دائماً
الشيخ عبد المقصود عامة وليس للاثنينية رقاع دعوة.
الحقيقة جاء دور الآن زف عريس هذه الليلة إلى عروسة وهي لوحة الاثنينية
التي ترتدي ثوبها الأسود والمقصب، كما هو مكتوب عليها حفل تكريم سعادة
الأستاذ قاسم حداد، شكراً لسعادة الأستاذ قاسم حداد على إضاءتنا هذه الليلة
وشكراً لكم أنتم أيها الأخوة الحضور، كما يقدم سعادته أيضاً لوحة تذكارية
للفنان خالد خضر، شكراً لسعادة ضيفنا وصحبه الكرام، شكراً لكم أنتم أيها
الحضور، إلى أن نلتقي مجدداً في الأسبوع القادم والدكتور أوغلي، نستودعكم
الله،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
|