والناس من منظور رابع يمكن للقراءة أن تتجه في خط تكراري دائري ينطلق من نقطة ارتكاز أو ابتداء ثم يعود إليها بعد التطواف على العديد من المواقع والظواهر في أوسع مجال ممكن، لأن حركة العودة أو الدخول في الدخول لن تتم إلا بعد بحث واستكشاف يمتزج فيه الفردي بالاجتماعي والإنساني والشعري بالفكري والمعرفي والأيدويولجي، وهنا تحديدا يمكن لكل الحركات السابقة أن تندمج في الإطار الدائري الذي تتقاطع داخله الخطوط والحركات هكذا
وأيا كانت التأويلات لهذا النص فإن مظهره الشكلي المتعدد، والمتولد عن تقنيات تقطيع وتوزيع أجزائه فحسب كما رأينا، يكتسب أهمية خاصة لمجرد انه يرد في سياق كتابة تعلن و تمثل بداية ومنطلق مرحله شعرية جديدة تماما على قاسم حداد كما أشرنا إليه من قبل من هذه الزاوية لن تكون للعبة تشكيل الشكل مجرد قيمة وظيفية باعتبار ما تولده من عناصر الترابط والانسجام بين أجزاء نص طويل جدا كهذا ويبدو جليا من لغته انه كتب بنفس شعري واحد إنها تؤمن هذه الوظيفة دونما شك لكنها أيضا تمثل التطور العميق الذي طرأ على وعي الشاعر وحاول اختباره وتجريبه في هذا النص من جهة وفي نصوص قلب الحب المكتوبة بلغة نثرية مختزلة من جهة أخرى فالقيامة التي يعلنها النص في عنوانه هي، من هذا المنظور الأعم والأهم، زلزلة وتحول عن شعرية القول والتعبير والتوصيل إلى شعرية الكتابة المنطوية على معاني التشكيل والتجريب التي نجد آثارها في كل ما كتبه قاسم حداد منذ القيامة إلى اليوم 29
في مجموعته يمشي مخفورا بالوعول نجد شكل النص الممتد في أوضح تجلياته حيث يهيمن سواد الكتابة على بياض الصفحة الذي تكتسحه الكلمات والعبارات المتلاحقة والطويلة اكتساحا
ومن المنظور العام أعلاه لا يمكننا أن نعتبر هيمنة السواد الكتابي أثرا لعودة قاسم إلى مرحلة هيمنة الدال اللغوي على الدوال البصرية غير اللغوية، أو لعودته إلى شعرية الإيقاع التفعيلي المعتاد لأن موقع الإنجاز الشعري في سياق التجربة الخاصة يدل على أن الأمر هنا أيضا يتعلق بلعبة تشكيل تنبثق عن وعي مختلف متجاوز للمواقع والمواقف السابقة
ولعل أبرز أثر لحضور هذا الوعي يتمثل في حرص الشاعر على افتتاح المقاطع الأولى من نصه هذا بكلمات مبرزة بخط ثخين أو كلمات مكتوبة عاديا لكنها مؤطرة بنصف مربع يتكرر إلى نهاية نص هو عبارة عن قصيدة واحدة تمتد في أكثر من مئة صفحة بلا عنوانات رئيسة أو فرعية، لأن محو العنوان تم تعويضه بهذه اللعبة التشكيلية الخاصة والجديدة، أو المبتكرة، مثلها مثل تلك اللعبة التشكيلية التي رأيناها في شظايا تماما
30 فالجامع المشترك بين النصين يكمن في تجريبية الكتابة الشعرية إذ تتحول إلى مشهد بصري يلفت الانتباه بكثرة مظاهر انزياحه أو عدوله أو انحرافه، وفي مستوى الجزئيات كما في مستوى الكليات
فهذه المظاهر الكثيرة أو المتعددة الأشكال والقيم والوظائف هي ما يحدد ويولد سمات الخصوصية والتفرد في الإنجاز النصي الخاص منظورا إليه في إطار علاقاته بتجربة الشاعر في عمومها وهي أيضا ما يحدد ويولد نفس السمات في عموم التجربة الإبداعية الفردية منظورا إليها من زاوية علاقات تفاعلها مع تجربة إبداعية جماعية يشارك الشاعر الكاتب في تطويرها واعيا كل الوعي بأن مفاهيم الكتابة والقراءة تتغير وتتطور باستمرار في عصر هيمنة البصري، الصوري المشهدي ، في مجالات الإبداع وخارجها كما أشير إليه من قبل
هكذا فإن عمليات العنونة والترقيم وموضعة النص الجزئي من خلال النقاط والفواصل والخطوط والأقواس وموضعه النص الكلي في فضاء الصفحة الواحدة أو على امتداد صفحات كثيرة من خلال تقليص أو توسيع مجال الكتابة كل هذه العمليات ليست سوى آثار تلك اللعبة التجريبية التي تمارس في مستوى تشكيل الشكل وظلت تستقطب اهتمام قاسم حداد منذ الثمانينات إلي الآن
حينما نعاين هذه الآثار في مجملها من المنظور العام أعلاه يمكننا الخلوص إلى نتائج تبلور أهم القيم الجمالية والأبعاد الدلالية للعبة تشكيل الشكل في سياق مغامرة إبداعية حديثة تبحث عن نحويتها الشعرية الخاصة فيما تحاول المشاركة من خلال البحث والتجريب في إنجاز طموح أو مشروع جماعي يحلم به ويقاربه كل مبدع بطريقته الخاصة
من هذا المنظور يمكن التأكيد مجددا على أن الكتابة الشعرية الحديثة لم تعد تتمركز بالضرورة حول الدال اللغوي ولا حول المعنى المحدد بمرجعية مسبقة أو المبثوث في الطرقات، وهذا ما يعيه ويصدر عنه قاسم حداد في جل إنجازاته الشعرية كما لاحظنا 31
ورغم أن هذا الشاعر، أو غيره من الشعراء العرب المعاصرين، لم يغامر باتجاه الأشكال الشعرية التي تلغي الدال اللغوي وتستبدل به علامات بصرية تجريدية خالصة، كما في ما يسمى بالشعر المجسم والميكانيكي 32إلا أنه ممن ساهم بإنجازه في إلغاء مركزيته وخلخلة حضوره حتى ليقترب أحيانا من محوه كما رأينا وسواء انطوى هذا الموقف على رؤية نقضية للغة والثقافة الرسمية والسائدة التي تحملها وتنقلها أو على مجرد رغبة في التجديد، أو الاستجداد بلغة حازم القرطاجني، بحثا عن ما يتجاوز هذا الدال والعبارة اللغوية إلى دوال ومنظومات أخرى، فإن البحث عن نحوية- كتابية شعرية كان لابد له أن يفضي إلى ممارسة ذلك الإلغاء وتلك الخلخلة
من هنا تحديدا يتصل الشعر بالفكر النقدي الحديث الفلسفي الذي يتخذ من اللغات والخطابات التقليدية مجالا له لكشف وفضح أشكال مركزياتها وسلطاتها وعنفها الذي كثيرا ما يستند إلى مقولات ميتافيزيقية مبثوثة في مختلف مجالات القول والكتابة من منظور آخر يمكننا أن نلاحظ كيف انتقل الشاعر الكاتب من مرحلة تشكيل الشكل في المستوى الافتراضي، التأويلي كما في القيامة إلى مرحلة تشكيل قابل للإدراك الحسي المباشر والتحليل انطلاقا من هذا المستوى وذلك تحديدا بفضل استثماره للطاقة الكامنة في منظومات رمزية غير لغوية قابلة ومحفزة لقراءة سيميائية خاصة تتطلبها مثل هذه الكتابة الحديثة المركبة والمتعددة العناصر والمظاهر
في سياق هذا التحول لاشك أننا أمام أبعاد وقيم ودلالات جديدة لصورية شكلية تشمل وتتجاوز مفاهيم الصورة المجازية، الاستعارية أو التشبيهية، التقليدية المرتبطة بالعبارة اللغوية، خصوصا إذ يتحول النص كله إلى صورة بصرية مجردة أو مشخصه كما رأينا من قبل فالصورة الجديدة هذه تمثل انزياحا كليا عن الصورة البلاغية التقليدية إذ تتحقق لا في مجال المتخيل الذهني بل في مجال الفضاء النصي ذاته، وانتقالها من الزمني إلي المكاني يعطي لمفاهيم الاستعارة والتشبيه والكناية والمجاز دلالات جديدة ترتبط بهذا الانزياح مثلما تدركه البلاغة الجديدة والسيميائيات وعلوم الخطاب الحديثة 33
كذلك حتى مفهوم مركزي في السياقين، الإبداعي والنقدي، القديمين والحديثين مثل مفهوم الإيقاع لا يعود هنا منحصرا في معانيه التقليدية والمنبثقة عن والمتمركزة حول العبارة اللغوية لأنه لابد أن يشمل مختلف أشكال التناسبات والتوازنات البصرية، المنتظمة والحرة، المجردة والمشخصة كما رأينا من قبل ذلك لأننا أمام كتابة شعرية أصبحت تخاطب العين أكثر مما تخاطب الأذن وتتفاعل مع ثقافة الصورة أكثر مما تستعيد ثقافة القول وتحاور الفكر أكثر مما تستثير العواطف والانفعالات بدون روية أو تفكير، ومن هنا فتنتها بالنسبة لشاعر عاشق مجنون بلغته وكتابته الإبداعية التي تفتننا إذ تحاور و تجاوز ذاتها باستمرار
لاشك أن تجربة كتابة شعرية كهذه تتعمد إيقاظ الفتنة لا في مجال العلاقة بين الشاعر والورقة البيضاء فحسب، و انما أيضا في مجال العلاقة بين قراءة نقدية وأخرى، أو أخريات لقد انطوت قراءتنا الراهنة على فرضية ظلت مواراة أو مسكوت عنها وآن وقت ومكان إعلانها وتبريرها مفاد هذه الفرضية أن القراءة التقليدية، ونسبة عالية من القراءات النقدية السائدة اليوم في الفضاء العربي ولدت و لاتزال تكرس فينا ومن حولنا شكلا من أشكال العمى المزدوج، الجمالي والفكري
السبب الأعم والأهم أنها ظلت تسمع النص أكثر مما تراه، وتبحث فيه عن المعنى الجلي الممتلئ والمطابق لأصل ما، أكثر مما تبحث في أدوات إنتاج المعاني والقيم الجمالية والدلالية المتعددة وتساهم في تكثيرها حتى تفيض عن كل أصل وتتجاوز كل مرجعية 34
وتجاوز هذا النمط من القراءة ضرورة معرفية وفكرية لأنها أصبحت تعاني من مفارقة مزدوجة نتيجة لعدم ملائمتها للكتابة الإبداعية الحديثة حقا من جهة، ولمباينتها، بمعنى تراجعها وتخلفها، عن فكر نقدي حديث يعمل باستمرار على نقض وتفكيك وخلخلة المركزيات والأسس الميتافيزيقية التي تتوارى فتحد من مجالات البحث وأفق المغامرة في السياقين الإبداعي والمعرفي، وأحيانا باسم المعرفة العلمية والدقيقة ذاتها
فكيف يمكن لقراءة أن تقرأ إنجازات قاسم أو سعدي يوسف أو محمود درويش أو أدونيس أو محمد بنيس وهي لا تزال تختزل الأساليب والصور والإيقاعات الشعرية في تلك المقولات المنبثقة عن مركزية الدال اللغوي وبلاغياته المنبثقة أصلا عن شعرية القول والسماع ؟
نطرح هذا لتساؤل لأنه باستثناء الدراسة الرائدة بعنوان الشكل والخطاب للمرحوم محمد الماكري لا نجد مقاربات معمقة لمظاهر وتقنيات تشكيل الشكل الشعري كما تتجلى في مجموعة غنية من الآثار المبثوثة في ذلك الفضاء اللامرئي أو المنسي للنص
حتى هذه الدراسة الرائدة حقا ما ان تنتقل إلى التطبيق واختبار مقولاتها ومفاهيمها على إنجازات محددة حتى تفضي إلى غير أو أقل كثيرا مما كان متوقعا ومنتظرا منها فالباحث يقتصر على نماذج نصية لا تمثل سوى عينة واحدة من الإنجاز الشعري الحديث نصوص مكتوبة باليد كما يستند إلى الكلام النظري في لغة البيانات لقراءة وتفهم ظاهرة موجودة قبل وبعد أي بيان، ثم إنه يخضع قراءته ومقروآته لمنطق المقايسة والمقارنة مع ما أنجز في السياق الغربي ليصل إلى أن الأمر لا يتعلق بوعي متكامل ولا بحاجة جماعية يبررها السياق الإبداعي والثقافي العربي 35
لقد حاولنا في الفقرات السابقة الكشف عن أبرز آثار الوعي بأهمية الشكل في تجربة قاسم واجتهدنا في تحديد وتحليل أهم أبعادها الجمالية والدلالية في أكثر من مستوى وذلك لقناعتنا العميقة بأن الأمر يتعلق ببحث جاد ومجدد عن تلك النحوية الشعرية الجديدة كلما تتراءى لمبدع تشكل الكتابة الإبداعية محور الإرتكاز في وجوده
كما حاولنا أن نؤكد في غير موضع على أن هذا البحث الإبداعي الجمالي هو في عمقه بحث عن فضاءات جديدة لكتابة جديدة وقراءة جديدة، أي عن ثقافة مختلفة وفكر مختلف وقيم إنسانية مختلفة عما هو سائد ومهيمن ومع أن ما نذهب إليه قد يبدو كتأويل خاص لتجربة شعرية خاصة إلا أن هذا التأويل يستند إلى بدهية أن الأمر بتعلق بظاهرة جماعية عامة، لأن الجرأة على اللغة ينطوي بالضرورة على موقف من الثقافة، ولأن صور أو أشكال الفضاء النصي هي جزء من صور وأشكال الحياة في لحظة ما وحيز ما، ولأن كل كتابة جديدة هي علاقة جديدة بالآخر والعالم 36
نعم قد تكون لعبة الفن كله مجانية في مستوى ما، وبالمعنى الكانطي تحديدا، لكن اللعب بالكلمات وفضاءات الكتابة والقراءة عند قاسم و أمثاله من المبدعين الجادين المتميزين ينطوي بالضرورة على معاني البحث والنقض والتجاوز
فالفن عموما هو النقض الاجتماعي للمجتمع، كما يلح عليه أدورنو وغيره، وشاعر مثله يعي ولابد انتماءاته إلى شروط ثقافية وحضارية تكاد فيها سلطات المؤسسة التقليدية، الرسمية والأهلية، أن تهيمن على مجال كل قول وكل كتابة وكل صمت، وهذا تحديدا ما يقاومه المبدع ويحاول رفضه ونقضه وتجاوزه وإن في مستوى لعبته الإبداعية الخاصة وفي مجال حضوره وفعله الجمالي- الثقافي الخاص
ونلح على هذا البعد العام لا لمجرد أن آثار معاناة المبدع، الشاعر وغيره منثورة في متنه، جسدا وكتابة، وإنما أيضا لأن في هذا ما يمكن أن يدل إلى أهم وأعمق سمات الخصوصية والاختلاف للمغامرات والتجارب الإبداعية العربية الحديثة، سواء كانت شعرية أو سردية أو مسرحية أو سينمائية أو حتى معرفية وفكرية
وفي كل الأحوال فلسنا واثقين كل الثقة في أن ما ذهبنا إليه هنا وفي المقاربات السابقة يسمى ويحدد ويحلل ويعلل كل سمات التميز في هذه التجربة الشعرية المتميزة بحياد مطلق أو بموضوعية أكيدة فالمؤكد أننا نقرأ ونكتب عما يفتننا أكثر منها وفيها، واعين كل الوعي بمشروعية وضرورية هذا النمط من القراءات التي لا تخفي افتتانها بمقروء كهذا، وواعين خصوصا بأن لكل قراءة ولكل كتابة أشكال بصيرتها وعمايتها الخاصة، ومن هنا تتعدد مظاهر ودلالات تلك الفتنة التي تظل تنتظر أو تتربص بمن يوقظها في
الورقة البيضاء
سيدة الكلام
وعبدة القراءة
بيضاء بعد الكتابة
وتظل بيضاء بعد كل قراءة
شظايا، ص 86، ببعض تصرف
إنجاز
قاسم حداد نموذجا
د معجب سعيد الزهراني
|