(2)
منذ صدور أول مجموعة شعرية للشاعر قاسم حداد "البشارة" عام 1970
م والشاعر ما انفك يواصل تجاربه الشعرية حتى بلغت مجموعاته الشعرية
إحدى عشرة مجموعة 24 كانت آخرها
مجموعة "قبر قاسم" التي صدرت عام 1997، فضلاً عن ذلك تلك
الكتابات النثرية العديدة ذات الصلة بالجوانب الإبداعية والنقدية،
التي تحاول أن تؤسس للاختلاف من منظور التغاير مع السائد والمهيمن،
والخروج على التناظر الحاد، والنمطية الجاهزة لا على مستوى الإبداع
الأدبي فحسب وإنما يمتد ذلك ليصبح جزءاً من نظرة شاملة تتضمن الإنسان
والحياة، والزمان والمكان، ومن هنا كانت الدعوة إلى الشك في كل شيء،
وإخضاع الواقع إلى المساءلة، والدعوة إلى التمرد والثورة على البنى
التي تحكم هذا الواقع، وتسير نظمه وفق المألوف والسائد والمكرس والمتعاليات،
وغيرها من العناصر التي تستمد وجودها من الماضي، وتعمل في الوقت ذاته
على إشاعة روح الطمأنينة في النفوس، والركون إلى الصمت والحجر على
العقل، وقتل روح الإبداع، واغتيال الذات، أو قمعها في أحسن الأحوال،
كل هذه العناصر مجتمعة أو متفرقة كانت وراء صياغة نفس ثائرة متمردة
ترفض المهادنة أو الخضوع للتهديد أو السلطة أو الابتزاز أيا كان نوعها
أو مصدرها، فمضت تمعن في هذا الواقع تأملاً وتشريحاً وتفكيكاً متخذة
ممن الحلم طريقاً تنأى به بعيداً عن التلوث والتفسخ والخرائب، شاهقة
في بهاء الكون، منتشية بلذة الاكتشاف ورجفة العناصر لحظة الاتصال 25.
إن المتأمل في شعر قاسم حداد، في مجموعاته الإحدى عشرة، يلحظ خيطاً فكرياً ينتظم
معظم أنسجة تجاربه الشعرية ويكوكبها في بؤرة ارتكازية محورها الذات والواقع، لا بالمعنى
الضيق لهذا الواقع وإنما بالمعنى الشامل ن لكل ماهو مفروض بحكم الممارسة التقليدية،
مكونة بذلك موقفاً إنسانياً مثقلاً بالتصورات والأحلام وال،أخيلة الذاتية التي تحاول
بها الذات اختراق حواجز الواقع، وقوانينه الصلدة، بحثاً عن فضاء يستوعب أحلام الذات
ورؤاها. في عالم يفتقر إلى أبسط معاني العدالة والحرية، ويعمق في الوقت نفسه إحساس
الذات بوعيها، وبالآخر الذي تنفصل عنه تارة وتمتزج به تارة أخرى، لتمعن مرة أخرى
في الابتعاد عنه، محققة بذلك جملة من أنواع الوعي، تظهر عبر الحس والعاطفة وأحلام
اليقظة 26
، والرؤى المضمرة وغير المضمرة، ولذا كانت حوارات الذات، مع نفسها أو مع غيرها، تمر
عبر تلك النوافذ المشرعة، على مدى سنوات تجاربها مع الواقع، جاعلة من هذا الأخير
هدفها الأسمى نحو التغيير، ويتم ذلك كله في إطار نزعة التمرد التي تستولي على الذات
في نظرتها إلى الأشياء من حولها، وسنرى بعد قليل جملة من تلك الحوارات التي تتلاءم
بصورة أو بأخرى ما ينادي به بيان "موت الكورس"
1 - الذات ونزعة التمرد
تنحو
مدلولات ألفاظ الثورة والدم، والهدم، والطوفان والماء، والنار والحرق، والرماد، وشهوة
الفوضى، وغيرها من الألفاظ والعبارات الشائعة في قصائد قاسم حداد، الى تأسيس موقف
رافض لكل شكل من أشكال السلطة المكرسة بحكم الواقع لا العقل، صادر عن إحساس عميق
بقيمة الإنسان، الذي فرض عليه أن يواجه عالماً مملوءاً بالقهر والعسف والظلم، عالماً
تغيب فيه العدالة في خضم الممارسات والسلوكيات السلطوية الخارجة على نطاق العقل،
والمنطق السوي، مما دفع باتجاه التمرد والثورة والإصرار على تغيير هذا الواقع ولو
بوسائل الحرق الشامل لكل مقوماته، وإعادة بعثه من جديد، إذ بنظرة واحدة، كما يقول
قاسم : " نستطيع أن نكشف مقدار البشاعة والظلم والوحشية التي يتدهور إليها الواقع
والإنسان معاً، ثمة أحداث تجري تؤكد أن الإنسان لا يتغير، الطيب والشرير، والجميل
والقبيح، إذا ولدوا بهذه الصفة يواصلون ذلك حتى الموت، الإنسان الأول لا يزال يتحكم
فينا." 27
ومن الجلي هنا أن قاسماً يصدر في رأيه عن إحساس واع بنبض إيقاعات العصر، وما يطرحه
من تحديات وإشكالات لم تعرض للإنسان القديم، ولا يعني هذا أن الشاعر كان يستنسخ فلسفات
التمرد الغريبة، المتكئة على العبثية والعدمية والنزعة الإلحادية كالتي نجدها في
أعمال نيتشه، وكامي، وسارتر وسيمون دي بوفوار وغيرهم، وإن كانت بعض عناصر هذه الفلسفات
تنسرب في بعض قصائده، بصورة واعية أو غير واعية، لكنها لا تغير النزعة العامة التي
ينطلق منها شعره، وهي البحث عن عالم آخر يستوعب رؤى الذات في صراعها مع الواقع، ولذا
كانت رموز النور والشمس والبحر والمرأة والأطفال والنخل والماء، مؤشرات المستقبل
التي يراهن بها الشاعر على عفن الحاضر، ومكرسات الماضي، وبقدر ما تزداد التحديات
المعاكسة لإرادة المستقبل يمعن الشاعر فضحاً وتشريحاً لهذه القوى المعاكسة التي لا
يجد حرجاً في نعتها بنعوت جارحة، تبلغ أحياناً درجة عالية من السخرية والشتيمة، في
كتاباته الشعرية والنثرية على حد سواء، وقد رأينا بعضاً منها في نماذج هذه الدراسة.
إن نزعة التمرد في الذات المعاندة لحركة اللا معقول من حولها تستند في مرجعيتها
أساساً إلى توهج الذات بقيمة الإنسان، في هذا الكون، ودوره في صنع الحياة، والتمرد
في حد ذاته ليس نفياً فحسب بل تحدياً ومعارضة ضد وضع من الأوضاع 28
، يتكرس في النهاية كموقف تعرف به الذات المعارضة، لتحمي نفسها من الانحراف وراء
مغريات الواقع، أو القبول بمعطياته الآلية، التي تغتال حواس الإبداع، وتحيل الإنسان
إلى جزء من آلة صماء تطحن في داخلها رحى الحياة، ولذا كان نفي الواقع أو التحلل من
تبعاته، والتمرد على أبنيته التقليدية، بداية الإحساس بالحرية، والتوتر، والقلق،
وهي العناصر المفضية في نهاية الأمر إلى التحدي والمجابهة :
في حل من الأسماء في حل من اللغة الكسيحة والهوى من زعفران المحو، من جبانة تمشي وفي حل من
الحرب التي غدرت بأسلحة المقاتل من جدائل طفلة موءودة من أمة لا تقرأ التاريخ في حل أنا من ميتين يواصلون الموت في حل سأمسك دفتي بيدين من نار وماء أحتمي في مذبحي، وأصير أغنية النفور 29
في هذا النص يتجلى الحس الفردي في أعلى درجات تمرده على الوعي الجماعي، وعلى
الثقافة وتاريخ الجماعة بصورته النمطية، وهذا المحور أو الإلغاء أو التخلي عن ثقافة
الانتماء، لا يأتي لمجرد الاختلاف فحسب بل يأتي تأكيداً لناقض الرؤيا الجديدة مع
السائد ونفورها منه، كما يمنح الذات مساحة من الحرية تحقق فيه، بعيداً عن تأثيرات
الآخر، شهوة التمايز النوعي، وسط سلطة ثقافية طاغية تفرض وجودها عبر منافذ مختلفة.
ويرى قاسم في مكان آخر أن مسألة الانتماء في المجتمعات المختلفة تأخذ منحى وحشياً
يبلغ حد العبودية، التي لم تنجح أقنعة الحضارة في إخفاء وحشيتها وطفحها بالمهانة
والإذلال، 30
لذا نرى الشاعر يبدأ في تفكيك عناصر هذا الانتماء واحداً واحداً ليحمي نفسه من هذه
العبودية التي يشير إليها، فيرفض من جملة ما يرفض "الأسماء" من غير أن
يحددها، وفي ذلك توسعة دلالية لتشمل كل النماذج التراثية ذات السطوة الثقافية، كما
يبرأ من اللغة الموءودة، المهدرة بكثرة الاستخدام، وسوف نفصل فيما بعد موقفه من اللغة
ومواصفات هذه اللغة التي يترسمها وعاء للإبداع الجديد، ثم تتوالى بعد ذلك عناصر التبرء
لتشمل عدداً من الممارسات ذات الطبيعة الخاصة بالجماعة، ولعل أكثرها سخرية صورة "محو
الزعفران" ذات الصلة بالطقوس السحرية التي يستجلي بها العامة أحداث المستقبل،
ومن الصور الساخرة أيضاً صورة جدائل الطفلة الموءودة، في إشارة إلى الموقف السلبي
من المرأة، ولعل في ذكر هذه الأشياء ن وتحديد بعضها تحديداً قاطعاً ما يشير إلى أنها
مسمرة في بعد آحادي يتعارض مع حركة المستقبل، وطبيعة الحياة ذاتها.
ومهما
يكن من أمر ن فقد تبدو الذات، من هذا المنظور، معزولة عن الحياة أو بالأحرى منعزلة
_ إذ لا نرى إلا صوت الذات من خلال شبه الجملة النحوية التي تسيطر على النص سيطرة
مطلقة، تأخذ فيها لفظة "حل" المقترنة بحرف الجر "في" بعداً أساسياً
في تكوين وبلورة صور عدم الانتماء الذي يؤكد عليه النص _ غير أن الأمر ليس كما يبدو
للوهلة الأولى، عزلة أو تمرد سلبياً بل محاكمة للواقع وفضحاً لممارسات التخلف التي
تأخذ شكلاً طاغياً كأسلوب حياة، ولذا تنأى الذات بنفسها عن أن تنخرط فيه، محتمية
بأدواتها الرمزية، الماء والنار، وسيلتي التطهير الأسطوري، اللتين تمنحان الذات شعوراً
بقيمتها الحياتية كرمز للسخط على انحرافات الواقع.
وتجنح الذات، في قمة
الغضب والانفعال، تحت وطأة الواقع إلى اتباع أسلوب إشاعة الفوضى في النظام لإرباكه،
وخلخلة بنائه، ولفت الانتباه إلى ما يمكن تحقيقه بالتمرد والفوضى :
تعال
نفض الفوضى ونوزعها في لبن الأطفال ونمزجها بجنون العقل تعالى نؤسس رفضا
في النبض وومض الأرض ونغوي الشهوة بالغزو وحلو اللهو تعال نشكل لفظ
الحرف ونكسره ونغرر بالكلمات المتزنات ونغتصب العذراء نولدها أجمل ما تحمل
31
تأخذ الدعوة إلى الفوضى والتمرد، في هذا النص بعدا فنيا تتجاوز فيه الذات نفسها
إلى الآخر، بحفزه وتحريضه على التمرد، واعتبار مؤسسا جوهريا في صناعة المستقبل، ويتم
ذلك من خلال إدخال المخاطب في شبكة النص ومحاورته بطريقة تحفيزية تتكئ على عامل الإغراء
النفسي، المضمخ برائحة الجنس التي تفوح من عبارات النص، ودعوته إلى الدخول مع الذات
في مغامرة تفجير الواقع، وفق برنامج ذي خطوات محددة، يكفل تحقيق عناصر التمرد في
البنية الحياتية والنفسية للإنسان، منذ جذوره التكوينية الأولى.
ويبدأ البرنامج
بالدعوة إلى فض الفوضى، وتوزيعها في حليب الطفل، وعلى الرغم من وجود علاقة دلالية
بداهية تجمع بين الفعلين "فض" و "وزع" سواء قبل البنية التركيبية
للنص أو بعدها، فإن إيحاءات الفعل فض تبقى حاضرة كدلالة لعملية اختراق المحظور، فتتراسل
في اللاوعي مع افتضاض عذرية المرأة، كقيمة لها حساباتها الخاصة، ومن هنا لم تكن الفوضى
المطلوب توزيعها في لبن الطفل فوضى عادية، بل فوضى مركبة، ممزوجة بجنون العقل، لكي
تتوازى مع لا معقولية الواقع، وبالتالي يصبح المحظور مبرر الانتهاك من منظور الشعور
بالعبودية، أو حين لا يجري التعامل فيه مع الناس إلا باعتبارها _ كما يقول قاسم _
حيوانات فاطسة 32.
وهكذا تأتي الفوضى اختراقاً للسائد، وتأسيساً للرفض كمكون فطري ينساب في شعور
الإنسان مع الرضاعة، وينمو مع نموه، ومن هنا ندرك لم كان هذا التركيز على توزيع الفوضى،
أو الرفض، في لبن الطفل في مواجهة قيم الجماعة القاهرة.
ويبقى فعل الأمر
"تعال" المتكرر في بنية النص محتفظاً بوقعه الإغرائي في جر المخاطب إلى
السعي لتأسيس الرفض في العروق، وشحن الأرض بالبروق المنبئة بالثورة، وتحريك الشهوة
باتجاه الغزو، ولفظة "الغزو" في سياق الشهوة، التي يحتفي بها النص، عميقة
الدلالة على فعل الاختراق والتجاوز، وصدع النظام في المكرسات، ولعل المثير حقاً في
هذا النص هو ذلك الربط بين "الغزو وحلو اللهو" من منظور إغواء الشهوة بالتحرك
في الاتجاهين، كما لو كان الغزو ذاته لا يختلف فطرياً عن شهوة اللهو ومتعته.
ويمتد أفق التمرد عند الذات ليطال الأسلوب التشكيلي للغة بدءاً من الفونيم،
الجذر المؤسس للكلمة إلى الكلمة ذاتها، إذ يكمن في هذا الفونيم أسرار التركيب الإبداعي
للغة، ولنتأمل في النص تفجرات فونيم الضاد في الكلمات "نفض" و"الفوضى"
و"رفضا" و"النبض" و"ومض"، و"الأرض" وتفجرات
فونيم الجيم في كلمتي "نمزجها" و"بجنون"، المتواليتين، وتفجرات
فونيم الواو، في كلمات متتالية، "تغوي"، "الشهوة" "نغزو"،
"حلو"، "اللهو" حيث يأخذ تراسل الحروف، عبر التركيب البنائي
للكلمة في الانفتاح على دلالات مختلفة، ومن هنا كانت الدعوة إلى تشكيل الحرف وكسره،
في النص، تأكيداً على قدرة اللغة على التوالد اللا متناهي من الأصوات والكلمات التي
تنتظم في تشكيلات مختلفة، وهذا يعني قطيعة مع المنتج الجاهز للغة، وقسر اللغة على
قول ما لم يقل من قبل، ولذا كان رمز "اغتصاب العذراء" في النص، يشير إلى
قدرة المرموز إليه (اللغة) على الاستجابة لمقتضيات هذا الاغتصاب بمنتج أجمل مما سبق،
ويذكرنا هذا المفهوم عن اللغة عند الشاعر بقول أدونيس، في "بيان الحداثة"
إن على الشاعر الجديد أن يرتبط باللغة الأم، لا بنتاجها، ولئن كان يولد من الرحم
الواحدة أبناء يتناقضون في كل شيء فبالأحرى أن يكون في اللغة أيناء لها يتناقضون
كتابياً " 33.
ولا تتردد الذات أبداً في الكشف عن هاجس الهدم الذي يهيمن عليها في لحظات ذروة
الغضب من الأوضاع المحيطة بها على نحو يكشف عن عمق المعاناة التي تكابدها في مسيرة
الدعوة إلى تجاوز الرموز التقليدية للحياة :
أنا شهوة الهدم كل السلاطين
أحذية للغزاة تساءلت : هذا مضيق يبرز خنا بين فخذيه أم يستبينا 34
بهذه البساطة اللغوية البالغة حد العفوية تضع الذات نفسها بصورة مباشرة أمام
الموقف، من غير مواربة، أو التفات عليه، فليس الهدم شهوة طارئة عندها يمكن أن تتجاوزها،
بل غريزة أو نزعة في فطرة تركيبة التمرد عندها على البنى السلطوية من حولها، ولعل
في البنية التركيبية لمطلع جملة النص الشعري، المكونة من مبتدأ وخبر ما يعزز من هذا
المفهوم الذي يرسخ شهوة العنف التي تدفع باتجاه الجارح من القول في جرأة بالغة، تجلب
النظر إليها، بوصفها بنية لغوية ذات دلالة إيحائية يتجاوز فيها الدال مدلوله ليصبح
دالاً لمدلول أبعد، كما يتجلى ذلك واضحاً في عبارتي السطرين الثاني والثالث من الخطاب،
فالعبارتان لا تعنيان ما تقول بالمعنى الحرفي، وإنما تتجاوزان ذلك إلى المعنى الإيحائي
المرتبط بالنظام الترميزي للغة، لتشيرا إلى حالة الاختناق السياسي، الذي تغيب فيه
الحرية، ولذا جاء تساؤل الخطاب عن حالة الموقف مشوباً بالسخرية والمرارة.
وفي قصيدة "تحويلات طرفة بن الوردة" محاولة لاستيحاء نزعة التمرد في شخصية
طرفة التراثية، وإسقاطها على الذات، فيتم في إطارها استغلال الطاقات الإيحائية، والإشعاعات
الرمزية التي تثيرها العلاقات الجدلية في المحيط الاجتماعي للشخصية التراثية، إذ
تنصهر في بوتقة التجربة الشعرية المعاصرة فلا يبقى منها ما يدل عليها 35
إلا اسم الشخصية التراثية الذي لم يسلم أيضاً من أن يطاله التحوير، فطرفة هنا ليس
طرفة بن العبد بطموحاته التي لا تكاد تتجاوز ذاته، بل هو طرفة بن الوردة، الذي تتسع
أمامه آفاق الرؤيا فتشمل الذات والمرأة، والأرض، والليل، والشمس والصحراء، والسيف،
والثورة، والكلمة واللغة، في منظومة واحدة تترجم أحاسيسه المفعمة بالتمرد على مظاهر
الحياة من حوله :
شارد، شهوتي العنف. تَجَرَّع لغتي صرخة في الليل،
في الصحراء ماء كنت مرسوماً على الضوء. وكنا نشر الضوء معاً قلت تاريخي
رماد، وتراثي دمي المخلوع 36
إن التمحور حول الذات، وكشف أحاسيسها المترعة بالعنف إلى درجة الشهوة الغريزية،
لا يعني تعالياً على الجماعة، بقدر ما هو إحساس فائض من الوعي يحدد علاقة الذات بنفسها
من جهة، وبالأشياء، أو بالعالم حولها من جهة أخرى، فالإحساس بالشرود، قد يوحي بالنفي
والرفض لكنه يعمل على استنفار كل طاقات الوعي في الذات لتبرير نزعة العنف، وإعادة
بناء الأشياء، أو استعادة بنائها، كما هي في شقيها السلبي والإيجابي وقد تبدو الكينونة
التي يشير إليها الخطاب، في سياق الوعي الذاتي، مسؤولة عن تلك النظرة السلبية إلى
الماضي التي تدفع باتجاه القطيعة التامة مع كل ما لا ينتمي إلى العصر، ولعل معطيات
الضوء، ومعطيات الليل والرماد كفيلة بتجلية تلك المفارقة الحادة في وعي الذات بالحياة
وصراعها معها، فطرفة المعاصر يفتقد مرجعيته التاريخية، أو بالأحرى يرفضها لعدم قدرتها
على استيعاب تجربته، أو عدم تعاطفها على الأقل من معاناته، ومن هنا يصبح دمه المهدور
هو تراثه، وهو هويته التي يواجه بها تحديات العصر.
ومع أن عناصر الأمل والتفاؤل
في عالم مختلف تشيع في أكثر من مكان في قصائد قاسم حداد، كما نجد ذلك واضحاً على
سبيل المثال في رموز الخطاب السابق، فالصحراء تختزن الماء، والذات مرسومة على الضوء،
والضوء يشرب منه الجميع، لكنه أمل لا يضرب بعمق إذ تبقى حالة الإحساس بغياب الوعي
عند الجماعة طاغية على ما سواها مما يرفع من درجة المواجهة والتحدي، التي تبلغ أحياناً
حد الشتيمة :
إن كنتم مقتنعين بأن الشمس غداً تشرق باسم القانون إن كانت أقدام الطفل تضيع بأحذية السلطان وأن الطلقة ضائعة إن كنتم منسجمين
معاً في نوم الحلم الأول والنوم صلاة الزمن الواقف لا تنتبهوا سيجيء
زمان الصحو يا أبناء وحيد القرن 37
لاريب في أن عناصر الخطاب وبنية تشكيلتها اللغوية، المعتمدة على الصيغة الخبرية،
في رسم درجة الاختلاف بين الذات والجماعة، توحي بعمق درجة هذا الاختلاف في الرؤيا،
والوعي، فالجماعة تؤثر السلامة، من منظور الوعي السلبي المرتكز على التجربة في اللا
جدوى من القفز على معطيات الواقع، إن التعارض بين القناعتين يمنح الذات تداعيات ذهنية
تفجر فيها الموقف عارياً بصورة حادة تكشف عن أبعاده الحسية، في صلب جوهر الممارسة
الذاتية لاحتمالات التغيير، وأبعاده المستقبلية، وتنشط في الوقت نفسه في خلخلة قناعات
الجماعة باعتبارها من أوهام الغيبوبة التي تستحوذ عليهم، براحتها النفسية مجنبة إياهم
المتاعب، ولذا كانت عبارة "إن كنتم مسنجمين معاً... " عبارة حافزة لدفع
المخاطب إلى تأكيد أو نفي الاتهام، ومثلها في ذلك كل العبارات التي تدور في فلك الجملة
الشرطية، التي تهيمن على أنساق الخطاب، حاملة دلالات سلبية على غياب الوعي عند الجماعة.
قد يبدو من بنية صيغة الخطاب في سياق جملة الشرط محاولة للإبقاء على روابط الذات
بالجماعة، من منظور الاختبار النفسي لموقف الجماعة من حالة الجمود، غير أن تداعيات
الغياب تدفع الذات إلى الانفعال، الذي يبتر خيوط هذه العلاقة، فتصرخ " لا تنتبهوا
" وهي عبارة كافية على بيان حس المفارقة في الرؤيا، بيد أن النزوع إلى المستقبل
يطغى على الحس، لتصبح حتمية التغيير، أو لحظة الصحو، قادمة مع الزمن "سيجيء
زمان الصحو "، هكذا ترهص الذات بالآتي، عن قناعة راسخة، مشوبة بحفز الغارقين
في أحلام النوم عن حركة العصر إلى الانتباه، فتصفهم بـ " يا أبناء وحيد القرن
"، وهو تعبير لا يثير دهشتنا وغرابتنا في ربطه بعناصر النوم، والحلم، والزمن
الواقف إلى غير ذلك من العناصر التي تصب في مجرى الغياب والجمود، إذ تؤكد الذات هنا
على تفردها في هذا القرن في الخروج على سلطة الموروث والمكرس والمتعاليات الثقافية،
وهذا الإحساس عندها قد يبلغ من الحدة ما يجعلها تصرخ في أسى أنها في حل من التنظيم،
وأنها تمشي خارج التقويم، كما سنرى ذلك بعد قليل، هذا إلى أن قراءة أخرى لهذا التركيب
المثير قد تنصرف مباشرة إلى القرن ذاته باعتباره قرناً لا نظير له في التزامه بالجامد
والموروث، ومهما يكن من أمر، فإن هذا الوصف لا يعدم أن يثير بعض التصورات الذهنية
الأخرى، التي قد تخرجه من دلالاته إلى دلالات رمزية أخرى، بيد أن النظر إليه في حدود
حرفيته أقرب إلى حالة الحنق والإحباط التي تعتري الذات في موقفها من الجماعة.
ويتصاعد الإحساس عند الذات بالانفصال حتى عن الجماعة، التي كانت تعول عليهم
كثيراً في مسيرة التغيير، وبخاصة حين تراهم يتحولون ضدها مؤثرين الراحة على الدخول
في متاهات الحلم، وتهويمات النفس في شيء قد لا يأتي أبداً :
يا أصحابي يا من كانوا يا من حولهم حقد الحب النائم سيفاً آخر في ظهري من ينقل
هذا الوقت عبر الدم ؟ من يعرف _ يا أبناء اللغة الملعونة _ حجم الهم ؟ ...... فليتعلم أصحابي أو من كانوا أن الكلمات الملعونة جرح في حلم الإنسان لكنّ الفعل دواء لا يخطئ فالفعل دواء لا يخطئ إن كنتم منسجمين معاً قولوا من منكم يا أبناء وحين القرن من يعطي هذا الوقت الواقف لونه ؟ أسألكم 38
إن إحباطات الذات، كما تتجلى في أنسجة الخطاب المفعمة بنبرات الأسى، والغضب،
تدفعها إلى تحليل الموقف، والكشف عن المواقف الهشة في أفق التجربة الإنسانية مع الحياة
حين تتداخل عناصر القول والفعل فلا تستبين أبعادهما في ذهن الجماعة، بوعي، أو بغير
وعي، وهنا تتدخل الذات لتمسك بخيوط الموقف من جوانبه المتعددة، وتسكن في حركته وصراعه،
مدفوعة بمبادئها المتكئة على الرفض لفكرة المهادنة أو الخضوع حتى لخاصتها من الجماعة،
حين تختلف معها في الرأي والموقف.
وتأخذ جملة النداء، في هذا السياق، بعداً
جوهرياً في رصد حركة التحول والتداعي، والاستدعاء في بنية النص الشعري، فالمنادي
المنسوب إلى ياء المتكلم. "يا أصحابي " ينطوي على علاقة حميمية، يتذكرها
المتكلم محاولاً الإبقاء عليها، غير أن تداعيات الموقف وضغوطه، تدفعه إلى مراجعة
هذه العلاقة، ووضعها في إطارها الصحيح " يا من كانوا " إذ لم يعودوا أصحاباً
بالمعنى الذي تريده الذات، ومن هنا كانت الذات حريصة على ألا تصل إلى هذا الاستنتاج
إلا عبر المرحلة التي قبلها لبيان مدى الإحساس بالفقد، والأمل في عودة هذه العلاقة
إلى سابق عهدها، إذ أن الذات لم تؤثر على جملة النداء السابقة عبارة أخرى كأن تقول
بصورة مباشرة "يا من كانوا أصحابي " ولو فعلت ذلك لكان المعنى مختلفاً،
وخارجاً عن إطار اللحظة الراهنة التي يرصد الخطاب تحولاتها المفجعة، ولذا كانت أفعال
الخطاب تتوزع بين الفعلين المضارع والأمر لتكثيف تداعيات اللحظة الراهنة، على الرغم
من أن المحيط السردي للخطاب ينطلق من الماضي، بيد أنه ماض وثيق الصلة بالحاضر، موضوع
الخطاب، ولذا كان قلق السؤال منصباً بصورة مباشرة ومتكررة إلى احتمالات الحاضر، "من
ينقل هذا الواقف عبر الدم "؟" من يعطي هذا الوقت الواقف لونه " ؟
وغني عن القول، أن السؤال هنا ليس مجرد بنية لغوية في نسيج النص فحسب، بل هو
جزء جوهري من البنية النفسية، التي تصدر عنها الذات، باعتبار وسائل العنف، سواء كانت
محواً أو حرقاً، أو طوفاناً، أو دماً، هي الطريق الوحيد لتغيير الحاضر، وعلى هذا
فليس غريباً أن نرى الشاعر في موضوع آخر يؤكد على هذا الخاطر بصورة لافتة :
وقد كانت الأرض مشتاقة للدماء وقد كانت الأرض مشاقة وقد كانت الأرض 39
وبتأكيد فاعلية الدم في علاقته بالأرض، التي يمثل لها بالشوق، كعلاقة غائبة
في بنية تكرارية، فإن خلخلة بنية التكرار، بإسقاط كلمة "للدماء" في الدور
الثاني في نسق الجملة وحذف كلمة "مشتاقة" في الدور الثالث من ذات الجملة،
تأكيد آخر لغياب فاعلية الدم، وبقاء هاجس الشوق لهذا الأخير حاضراً يرف في بنية التكرار.
ومهما يكن من أمر فإذا كان نبض السؤال وقلقه، في نفس الذات، يشي بتراجع العنف
عند الجماعة، كوسيلة خلاص، وانفراد الذات بحمل الهم الجماعي على مستوى القول، فإن
الذات تدرك أبعاد وحدود القول مهما بلغت حدة لغته، وبخاصة حين لا يستند إلى مرجعية
فعلية تنقله من طور الكلام إلى طور الفعل ن ولذا كان هناك اتكاء خاص على دور الفعل
في نطاق الجماعة، "لكن الفعل دواء لا يخطئ" "فالفعل دواء لا يخطئ"
ويتم ذلك في سياق الاستثارة الحافزة إلى الفعل من منظور الأمر والسؤال، "قالوا"
"أسألكم"، لكن خيبة الذات في المخاطبين، تبدو أبعد من حدود الأمر أو التساؤل،
وهو ما يفزعها إذ يتصدع حلم التغيير، وتبقى الذات وحدها في متاهة الحلم، أو الوهم،
ولذا نجدها تشتاط غضباً حين يداخلها هذا الإحساس، فتجسده في عبارات مهينة، "من
يعرف، يا أبناء اللغة الملعونة، حجم الهم "، "من منكم يا أبناء وحيد القرن..."
والتعبير الأخير يتكرر للمرة الثانية، موحياً بالحالة النفسية التي تجتازها الذات
في علاقتها بالجماعة.
إن قراءة أخرى لبعض عبارات النص وبخاصة حديث الشاعر
عن أبناء اللغة الملعونة والكلمات الملعونة، قد تبدو وثيقة الصلة بعبارة أخرى سابقة،
تجسد هم غياب الوعي، الذي تول إلى معاناة أخرى، "يا من حولهم حقد الحب النائم
سيفاً آخر في ظهري"، وتشير رمزية السيف في الظهر إلى كلمات النقد القاسية التي
تعرضت لها الذات في خلافها مع الجماعة، ومن هنا جاء الوصف بالملعونة منصباً على اللغة
والكلمات التي كانت كالسيف في الظهر، وبذا تصبح لغة الشتم، ووصف الجماعة بأبناء وحيد
القرن، أمراً مبرراً من هذا المنظور، علاوة على إحساس الذات بالانهزام في تثوير الجماعة.
ولعل وحدة التطرف، في التمرد والرفض، وشهوة الفوضى، في بعثرة الأشياء من أجل
إعادة إصلاحها في سياق نظرة مختلفة، قد تبدو غير مقنعة عند الآخرين، مما يجعل من
اختراق القناعات السائدة أمراً بالغ الصعوبة، وتعترف الذات بفشلها في هذا الجانب
حين تقول : " وما دمت قد فشلت في تغيير الواقع فلن أسمح له، على الأقل، أن يغيرني
على هواه زاهداً في كل شيء، لا تغريني سوى الحرية 40
تلك الحرية التي تحقق له ذاتيته بعيداً عن مستعبدات الآخرين :
مشى في شهوة
الفوضى يواري كل شيء في فضاء الشرق في شكل له لا يقبل الترميم مشى في
وحشة التهويم ... وحيداً صار في حل من التنظيم .... يمشي خارج التقويم
41
إن لحظة الإحساس بالانكسار تمنح الذات قدرة على التوهج، واستنفار كل كوامن الوعي
فيها، ووضعها في إطار المرأة التي تنعكس على صفحتها كل الزوايا التي تظهر العملية
الرؤياوية في علاقة الذات بنفسها من جهة أو علاقتها بالآخرين من جهة أخرى مؤكدة على
تفرد الذات وانفصالها لا على مستوى الجماعة فحسب بل حتى على مستوى المكان والزمان،
"مشى في وحشة التهويم "، " يمشي خارج التقويم "، إن نظرة الذات
إلى نفسها خارج الأبعاد الفيزيائية للزمان والمكان، لا يعدو أن يكون اختباراً ذاتياً
لصلابة الموقف في مواجهة التحدي.
وهكذا نلاحظ أن نزعة التمرد، والدعوة إلى
الفوضى، والرفض المطلق، لكل أشكال السلطة المكرسة والاستعانة عليها بأدوات الحلم
والمخيلة لفض العصي والمغلق واكتشاف الحقيقة خارج فيزيائية الزمان والمكان _ كلها
سمات مهيمنة على معظم التجارب الشعرية عند قاسم حداد، مكونة له في ذلك موقفاً فكرياً
من الحياة، والواقع، وهي بهذا لا تختلف في مضامينها عما يتردد من أفكار ورؤى في خطابه
النقدي الذي رأيناه بعضاً من نماذجه في مطلع هذه الدراسة.
2 _ الذات ومساءلة الواقع
لا
يمثل الواقع عند الذات إلا المصدر الذي يمدها بالعناصر التي تساعدها على تشكيل الموقف
المناهض، ومن ثم فهي تؤكد ابتداء على أنها لا تعكس الواقع ولا تحاكيه، وأن ما تراه
ليس هو الواقع الحقيقي وإنما صورة مصغرة غالباً ما يكتنفها الزيف والتشويه، وأن خلف
الصورة يكمن المشهد المضمر الذي ينبغي تجليته، وهتك أستاره، لهذا يستهويها استجواب
الواقع، وإغواء المستتر 42
، فيأخذ الوضع المأساوي للإنسان في هذا الواقع اهتماماً خاصاً باعتباره الأداة الفاعلة
في التغيير، وبدون فهم قيمة الإنسان على هذه الأرض، تفقد الحياة معناها وجوهرها :
قل لي يا شيئاً يجهلني هل تعرف ما معنى الإنسان يعيش بلا طير يصدح هل تعرف ما معنى الإنسان يعيش العرس ولا يفرح من غير سماء تعرفه مجهول
القصة والعنوان 43
يسقط الخطاب ابتداء عن عمد علامة الاستفهام من صيغة السؤالين، في الرسم الكتابي
ليفسح مجالاً أرحب للتأمل فيما يطرح من تساؤل حول معنى الإنسان، ومضيئاً في الوقت
نفسه نقطة التساؤل بجملة فعلية تنطوي في ظاهرها على إشارة رمزية تعمل على تحويل الموقف
من سؤال إلى لغز يستعصي على الفهم، وتتكرر جملة السؤال ذاتها وبالتقنية السابقة نفسها
مدعومة بإضاءة أكبر لصيغة السؤال الثاني لتعميق غموض معنى الإنسان في هذا الواقع.
ومن الجلي أن العلاقة، بين المتكلم والمخاطب، في صيغة ملفوظات السؤال، علاقة يسودها
التوتر يفضح فيها المتكلم المخاطب، على نحو يكشف عن معنى سقوط الإنسان عند المخاطب،
الذي لا يصرح باسمه وإنما يكني عنه بلفظة "شيئاً" في سياق النكرة غير المقصودة
تهويناً من شأنه، في مقابل لفظة "يجهلني" التي تتداعى في سياقها مأساة
الإنسان المقموع تعبيراً، وفرحاً، والمطارد سياسياً فلا يهنأ باستقرار أو حياة آمنة،
مما يدفع باتجاه بلورة موقف قائم على الرفض من كلا الاتجاهين : سلطة الواقع المرموز
لها بـ "شيئاً" وهي ليست مجهولة بحكم الواقع، لكها نكرة بحكم الرفض من
الآخر، والإنسان المجهول بحكم الواقع، لكنه في ذاته غير مجهول إنه "الإنسان"
وليس جنس الإنسان، ولذا كانت أداة التعريف عميقة الدلالة في إشارتها إلى واقع بعينه.
ويبقى التساؤل قائماً من غير إجابة، وما ينبغي أن تكون له أصلاً إجابة، إذ ليس
الهدف بحثاً عن إجابة أو تفسير أو تعليل يبدد القلق ويعيد الاطمئنان إلى النفس بقدر
ما هو محاولة لإعادة التفكير في الواقع وتحريك العقل باتجاه لا معقوليته التي تهدم
جوهر الإنسان وروحه.
ويظل الإنسان عند الذات هو الهاجس الأكبر الذي تسعى
إلى إظهار معاناته في أبشع الصور التي تجسد زيف الواقع ونفاقه 44
في محاولة منها لخلخلة القيم الاجتماعية الراسخة، ومن هذا المنظور ترسم لنا الذات
في قصيدة "ثورة من الداخل" معاناة الفتاة مع القيود البالية التي تمنعها
من الإحساس بنشوء الحب ن أو الإعلان عنه :
يثور الحب في قلبي... من الداخل ويهتز الصدى في الصدر يا أمي.. بلا حسبان وأشعر نشوة الإنسان حين يعيش حين يثور حين الرعشة الأولى أحس حقيقة الإنسان ... سئمت تحجر الكلمات
فوق جدارنا الصخري سئمت الموت عبر حياتنا يسري أريد الحب أشعره كما الإنسان أنا إنسان يا أمي... أنا إنسان 45
وإذا يأخذ الخطاب بتصعيد الإحساس بالقمع المتجاوز لإنسانية الإنسان، في المشاعر
والخلجات التي تمور بها الصدور، فإنها في الوقت ذاته لا يغفل الإحساس بإظهار مشاعر
السخط والتذمر من تلك القيود المحطمة لإحساس الإنسان بأنه إنسان قبل كل شيء لذا تأخذ
لفظة "الإنسان" عبر أنسجة النص، في مستوياته التعبيرية المختلفة بعداً
أساسياً في إبراز وعي الإنسان بإنسانيته، التي لا يجد وسيلة متاحة لممارستها وسط
مظاهر الحصار المتنوعة، فتتكرر تلك اللفظة المثيرة ست مرات، حتى تحولت إلى نغم إيقاعي
يجلو مشاهد الصورة العامة للخطاب.
ومع أن النص في ظاهره يشير إلى وضع الأنثى
وحقها في ممارسة الحب في واقع يرفضها، ويرفض الاعتراف بمشاعرها، فإن دلالته العميقة
تتجاوز ذلك ليصبح دلالة رمزية تتناول قضية الإنسان بصورة عامة، وحقه في ممارسة مشاعره
وأحاسيسه بصورة تتلاءم مع إنسانيته.
إن الحضور الطاغي للذات في لحظتي الوعي
وتوهج الشعور، كما يجسدها ظرف الزمان "حين" الذي يتكرر ثلاث مرات يسهم
بصورة فاعلة في إبراز عناصر الغياب المضمرة في الذاكرة على نحو يكشف عن مشاعر الرفض
الممثلة بالإحساس بالسأم من الكلمات المتحجرة، ومن الموت البطيء الذي ينخر أنسجة
الحياة، والتطلع إلى حياة خالية من السجن والسجان والسوط المهين لكرامة الإنسان.
بمثل هذه الرؤية تتضاد الذات مع الواقع في قيمه ومعتقداته، مشكلة لها موقفاً
تبدو فيه مقهورة بسلطة واقع يسوده القمع، وتحكمه التقاليد والعادات البالية، التي
تستمد وجودها من المألوف والممارس بحكم العادة لا العقل والمنطق.
وبقدر
ما تصبح الذات أكثر حصاراً وتضييقاً عليها، تتفجر بالأسئلة التي تصطدم بواقع صلد،
لا تؤثر فيه معاول الأسئلة بل تتحطم على صخرته القاسية.
وأبقى وحيداً أمام
الجدار وتبقى معي وتبكي بطيئاً قبيل النهار وأبقى وحيداً.. وحيد أغازل نفسي على الماء مرة وأضحك مرة وأبكي كثيراً... لأن الصغار.. بدون عشاء ينامون دوما،ً بدون عشاء لأن الشتاء يعود سريعاً ونحن عرايا بدون طعام
بدون لحاف بدون غرام. وأبكي لأن الفؤاد الصغير يظل حبيساً وراء الجدار لأن الجار يظل ثقيلاً على كاهلي فلا تسألي... لأن السؤال يلح.. يلح بدون
انفجار 46
يفصح الخطاب عن أزمة القلق في انتصاب الجدار حاجزاً عن ممارسة الحب بين الذات
والآخر (الأنثى) ويبقى الحرمان حاضراً في فضاء التفكير بالحب، فالحب يموت قبل أن
تكتمل فصوله، ولا تملك الأنثى إزاء هذا الموقف إلا البكاء، في حين تنكفئ الذات على
نفسها، ومجسدة مشهد الوحدة القاسية في توزعها بين مغازلة الذات لنفسها، في انعكاس
صورتها على صفحة الماء، وضحكها من هذا المشهد الساخر لكسر طوق العزلة. وقد يكون هذا
السلوك العفوي من الذات والآخر تجاه تجاوز الحدود والقيود المحبطة للحب صورة نمطية
تعبر عن حالة العجز التي تعتري الإنسان ذا الموقف، حين لا يكون قادراً على تفجير
الحاضر، والنزوع إلى المستقبل برؤية جديدة، فالمشهد لا يخرج عن دائرة الوصف الذاتي
لحالة العجز، التي تسلم إلى حالة عجز أخرى، تتجاوز فهيا الذات فرديتها لتطل على المصير
الجماعي الذي يستكنه الحرمان الممض فهناك صورة الأطفال بدون عشاء _ وهذا ليس حدثاً
عابراً بل ملازماً لهم "ينامون دوماً بدون عشاء " _ وهناك صورا الـ "نحن"
عرايا بلا دثار أو طعام أو غرام، ولا سبيل إلا البكاء، خروجاً من مأساة الحس المفجع
بمظاهر الحرمان والحصار على المستويين الفردي والجماعي، ولكن يظل إحساس الذات باختناقها
من انتصاب الجدار هاجساً ماثلاً أمامها في نهاية الخطاب، كما هو في أوله، يدفع باتجاه
التساؤل الملح، غير أنه لا يفضي إلى المتوقع منه، مما يزيد من شعور الإحباط والقلق،
وهي الرؤية التي يريد الخطاب التنبيه إليها.
ومن الجلي أن العناصر التكوينية
للخطاب تنبع في أساسها من محاصرة العلاقة بين الذات والأنثى _ الحاضرة الغائبة _
بفعل خارجي مفروض عليها، فالأنثى حاضرة في الذهن، وغائبة في الواقع، ولذا ليس غريبا
أن يعبر عنها بضمير الغيبة في مطلع الخطاب، لتأكيد محاصرة الغياب لهذه العلاقة، التي
ينتصر عليها بفعل المخيلة التي تحولها إلى لحظة حضور دائم، "وتبقى معي"
ليتم بالتالي مخاطبتها بضمير المخاطب، "فلا تسألي" تجسيداً لفاعلية هذا
الحضور في الذهن رغم الحصار.
وتكشف المكونات النحوية في بناء الخطاب، لتصوير
الواقع، عن محاولة لإضفاء صيغة حية لحركة الزمن ن من خلال بناء الفعل في صيغة الفعل
المضارع، على امتداد شبكة خيوط النص سواء كان في سياق ضمير المتكلم، أو المخاطب أو
الغائب، مما يوحي باستمرارية حضور هذا الواقع الذي يسائله، في حين أن العلاقة بين
الفعل وفاعله يسودها الإضمار، فالفاعل في معظم الأحوال يبقى ضميراً مختبئاً في بنية
تشكيل الجملة النحوية، وهذا البناء اللا واعي لتلك العلاقة الإضمارية يومئ إلى الإحساس
بالانفصال عن الواقع من جهة، كما يمكن اعتبارها من جهة أخرى متوائمة مع حركة تغييب
أو تهميش دور الإنسان، الذي تؤكد عليه الذات، كما رأينا في بعض النصوص السابقة.
وحين يبلغ امتهان الإنسان درجة شمولية تندفع الذات إلى ابتكار المشاهد المهينة
والجارحة للذوق أحياناً لتجسيد بعض من نماذج هذا الامتهان إمعاناً في تفكيك وفضح
سلوكيات الشريحة المهيمنة على حياة الآخرين.
وكان الذي فوقنا يبول علينا،
ونحن نقول : اسقنا ونشرب، نسكر حتى تمر الليالي علينا وحتى يصدق أن السكوت
كلام نسير ونعرف كيف نشق التراب، ونبذر داخله الكائنات وكيف نحزّ الرؤوس
ونزرعها عبر كل العصور 47
هذه الرؤية المجازية تنطلق في جوهرها من الإحساس بالانسحاق من الداخل الذي ينعكس
في مرآة خارجية، ذات بؤرة واسعة، تستوعب مشهداً جماعياً لحالة الامتهان والذل، لجعل
العالم الخارجي أكثر حضوراً. وتفرض سردية الخطاب في سياق الماضي "وكان الذي...
" إشكالية التفرقة بين زمنية الواقع المقدم، وزمنية الكلام، فالتوازي بين الزمنيين
معدوم لاختلاف طبيعتهما، غير أن الذات تحتال على ذلك، لجعل التوازي ممكناً إلى حد
ما، بأن تملأ المشهد بالتفاصيل المجسدة لطبيعة العلاقة التي تربط بين السلطة المستبدة
والجماعة، لتقفز بالتالي من أحادية الرؤية إلى تعدديتها، متكئة في ذلك على البنية
النحوية للخطاب، التي تشير بصورة مباشرة إلى الواقع المعيش، من خلال هيمنة الفعل
المضارع على أنسجة النص على الرغم من أن اللحظة التي ينطلق منها الخطاب لحظة ماضية
لكنها مرتبطة بالحاضر الذي يعقبها، في إشارة إلى حضور هذا الواقع واستمراره، وارتباطه
بلحظته التاريخية، ومهما يكن من أمر فإن التفرقة بين الزمنيين : زمن الحدث، وزمن
الكلام تظل حاضرة لا يمكن تجاهلها حتى مع امتزاج الماضي بالحاضر، وتأكيداً لاستمرارية
الحدث نفسه.
ومن الجلي أن الخطاب هنا لا يتحدث عن واقعية حرفية، وإنما يجنح
إلى ترميز الواقع ترميزاً يكشف عن نمطية العلاقات الطبقية في عالم يرفض احترام إنسانية
الإنسان، وحسب تلك الجملة البغيضة، في صدر الخطاب، "وكان الذي فوقنا يبول علينا"،
أن تختزل كل مشاعر الصلف من جهة، والذل والامتهان من جهة أخرى، اللذين يغيبان فاعلية
الإنسان في مواجهة الموقف إلا من جانبه السلبي المغرق في السلبية، ولكنها السلبية
المهادنة التي تختزن في أعماقها كل عناصر الثورة والانتقام.
ويصبح غياب
الوعي الجماعي مشكلة تؤرق الذات في عدم القدرة على التوازي من غياب الوعي عند الآخر،
مما يدفعها إلى تعميق وعيها بطرح الأسئلة البالغة الحساسية تجاه الأشياء الثابتة،
التي يتجنبها الآخر غفلة أو جهلاً أو خشية، وهي بهذا تطور إشكالية الحضور إزاء الواقع
بدفعها إلى أقصى درجات التأزم مع الذات بغية تعرية الواقع، وكشف عواره، وتفكيك بنيته
التحتية :
حوانيت توزع مرض الحزن والنوم. ومصحات بحجم السأم المرابط
تنشر سلالة الشرطي والصلاة والشفق واحتقان الأمل في الوريد وتحتل الغفلة
جيلاً بلا أسئلة أنا خندق عمقته السؤالات والشك أن الطفولة ماء وأنّ التخيل
طريق إلى الماء وطن !؟ هذا انتظارُ مجرمُ هل يخرج التمثال من أحجاره
السوداء. هذا وطن قولوا لماذا ؟ كيف ؟ من أين ؟ إلى أين ؟ 48
بمثل هذا التصور يبدو الواقع عند الذات مؤلماً، يتغشاه الحزن والخمود، وتتعاوره
عناصر الهدم والسأم المرابط، ويحتقن الأمل في الوريد، ويغيب الوعي، فلا مساءلة ولا
أسئلة على امتداد جيل كامل ن وغياب المساءلة يعني غياب العقل واختفاءه، وهذا ما يبدو
أن الخطاب يومئ إليه بصورة غير مباشرة، ليثير في الجماعة لحظة تأمل فيما حولها من
أشياء لمسببات الحزن والسأم، في سياق ترميزي يجتلي الذات والآخر، وبمقدار ما يغيب
الوعي عند الآخر، يتوهج وعي الذات بنفسها في موقف مفارق مؤكدة فيه حضورها المتمايز،
إذ تصبح خندقاً من التساؤلات والشكوك التي تمس بداهة العلاقات بين الأشياء في أسمى
براءتها ونقائها، (الطفولة + الماء + النخيل) وأن مجموع نتائج هذه الأشياء هو الآتي
الذي طال انتظاره ليغير وجه الحياة، لكنه لا يأتي، ومن ثم يصبح الشك والتساؤل هو
الطريق إلى تثبت هوية الذات في خضم الغفلة الجماعية التي تهيمن على الواقع.
ويصبح الوطن، من خلال تنامي حس القلق على المستقبل، مثار الهاجس الأكبر المهيمن على
الذات، في قلق الانتظار والترقب، ولذلك تصبح عبارة "هذا انتظار مجرم "
مجسدة لمشاعر السخط التي تصطدم بالواقعية المضادة لمفهوم الوطن عن الذات، ومن هنا
نجد أن لفظة "وطن" الواقعة في سياق التساؤل المجرد من أدوات الاستفهام
التقليدية هي البؤرة المثيرة، والمفعمة بالدهشة، لتضاد مفهوم الوطن عند الذات، والواقع،
ومن ثم فلا غرابة أن تجنح الذات في خضم هذا التضاد الضمني إلى الدخول في محاجة ذهنية
مع الواقع في التفاتة إلى الآخر، "هل يخرج التمثال من أحجاره السوداء "؟
تلك هي المعادلة الصعبة، التي تنفجر به الذات باحثة عن إجابة شافية تبدد قلق المصير،
ولا يخفي أن تلك الصفة "السوداء" التي وسمت بها حجارة الوطن، لكن هذه المحاجة
على أية حال لا تتوجه إلى الذات قدر توجهها إلى الآخر، الذي يستقطب اهتمام الذات
فتضع أمامه حسها الفردي تجاه إشكالية الوطن "هذا وطن!" ثم لا تلبث أن تدخل
في لعبة المساءلة من منظور الوعي الجماعي المدفوع بالحس الفردي "قولوا"
لتنفجر بعدها الأسئلة في سياق التوجيه الذي تفرضه الذات، في إطار الدعوة إلى القول،
وهي أسئلة محددة تنطلق من رؤية البحث عن السبب والكيفية والمصير، في رحلة استكشاف
جماعي للواقع، بغية تحقيق تجانس بين الرؤيتين الفردية والجماعية، فلا تصبح بعده الذات
معزولة عن الحس الجماعي الذي تعول عليه كثيراً في تغيير الواقع.
(3)
1_ الذات والنص الجديد :
تستمد الكتابة الشعرية الجديدة وجودها، عند قاسم حداد من مفاهيم الحداثة التي تمثل ثورة على كل أشكال وأنماط الموروث الإبداعي، لتحلل تماماً من سطوة النص الأول، على أن اعتبار أن للكاتب حقاً في تشكيل صورة الحاضر مثلما كان للأسلاف حقهم في صياغة الماضي 49 ومن هذا المنظور دعا قاسم إلى كسر الحدود بين الأنواع الإبداعية الأخرى، وصولاً إلى النص المفتوح 50 الذي يستمد مرجعيته من المجهول لا من المعلوم، وهو في هذا لا يختلف عن أدونيس في الدعوة إلى التحلل من القيود المفروضة على وسائل التعبير المختلفة 51 ، فكلاهما قد أوغل في هذا الجانب تطبيقاً، بشكل خاص عند أدونيس وتنظيراً وتطبيقاً عند قاسم حداد، مما أوجد ردة فعل نقدية معاكسة جعلت قاسماً يستشعر وطأتها في ردة فعل اخرى مضادة لمفاهيم النقاد التقليديين، "ففي معظم تلك الكتابات النقدية يبدو التعاطي النقدي مع أشكال التعبير، كما لو أنه مس بأرسخ المعتقدات الدينية لدى الإنسان موحياً بأن ثمة منطقة محرمة ليس للكاتب أن يتجاوزها وهو يحاول صياغة منظوره الجديد لكن حقيقة الأمر تشف عن نزوع لا واع لعدم المساس بالأصول الموروثة، وبالتالي الخضوع لوهم محاكمة كل خروج عن تلك الأصول باعتباره خروجاً شاذاً 52 . لكن قاسماً كان يدرك بعمق أن التحويلات الثقافية كفيلة بتقويض فكرة الثبات في النص الأدبي، وأن الأسوار التي تطوق أحلام المبدعين ستتهاوى تحت وطأة هذه الأحلام التي تتوق إلى البحث عن أشكال شعرية جديدة مفعمة بروح المغامرة المنقادة بنوازع الغريزة والحدس، ولذا كان الخطاب النقدي، عند قاسم حداد، وبخاصة " موت الكورس " وفيما بعد "ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر "، حاداً وعنيفاً لا يعرف المهادنة، أو المساومة في الدفاع عن حق المبدع في البحث عن الشكل التعبيري المناسب، من غير أن يستلزم ذلك عنده بالضرورة نفي الأشكال التعبيرية الأخرى، فالأخيرة اجتهادات بشرية كانت صالحة للتعبير عن عصرها، وهي جزء من الحوارات الإنسانية العامة بيد أنها قد لا تكون قادرة "على التقاط لحظة الإنسان في راهن حياته "، حسب تعبير قاسم حداد، "أو اكتناه اللحظة الحضارية الناشئة " حسب تعبير أدونيس، في "بيان الحداثة"، لذا نجد قاسماً يحتفي بارزاً بالعناصر الجوهرية المكونة لعشرية النص الجديد إما بإدخالها في نسيج النص الشعري، كجزء من حوارات الذات في موقفها من الأشياء والحياة، كالموقف من الكتابة، واللغة، والرموز، وإنما بتمثلها في بنية النص باعتبارها عناصر أساسية تسهم في تقديم رؤية مخالفة للعوالم، تمتزج فيها الذات بإيقاع اللحظة الثقافية الراهنة، مدفوعة برغبة جامحة، نحو استشراف المجهول والغامض، وتجاوز كل أشكال المسلمات الكتابية السائدة، مثل الكتابة خارج الوزن، والاتكاء على الحلم، وقوة المخيلة، وهي العناصر الأكثر ثراء ف التجربة الشعرية عند قاسم وسنحاول أن نلقي ضوءاً على بعض هذه العناصر لنرى مدى تجاوبها مع عناصر الخطاب النقدي عند الشاعر.
2 _ الموقف من الكتابة :
وسواء كانت الكتابة تمثل، عند قاسم، هذيان الحلم، أو رعشة الجسد، فإن هذا لا يخرجها عن حدود المتعة الذاتية التي يؤكدها الشاعر في أكثر من مكان، والموقف، وفيها يجد الشاعر نفسه، "عندما أكتب أشعر بحصانتي ضد هذا العالم، أصير قوياً وقادراً على المجابهات... الكتابة في الحياة ضرب من الدفاع عن النفس. 53 "وهي أيضاً ضرب من المعاناة النفسية الشديدة وبخاصة حين تكون الكتابة، مغامرة سديمية يتناوشها المجهول والغامض والحلم والرمز، في الخروج على نمطية الكتابة التقليدية :
يفتح أوراقه يمسك القلم يسطع البياض في الشاطئ الفسيح يقول : سأكتب كيف أكتب ؟ متى أكتب ؟ ويزيد الأوراق مساحة تلهج في البياض قلمه يرتجف بين إصبعين يكتب / يمحو لا يكتب لا يعرف أن يكتب لكننا نقرأ بياضه بانتشاء. 54
تبدو الإرادة متهيئة لفعل الكتابة، والوعي في أوج حضوره لاستقبال فيضها، لكن البياض، أو الصمت أو غياب الفعل الكتابي، أقوى من الإرادة والفعل، وهي كما يبدو ليست لحظة آنية عابرة ينتهي،أمرها بكسر الصمت والبياض، بل هي معاناة مستمرة، تجسدها بنية الخطاب التي جاءت معظم أنساقه في صيغة المضارع، لشحن إرادة الفعل بالحركة التي يهيمن عليها القلق، سواء من خلال حوار النفس، أو من ارتجاف القلم بين الإصبعين، أو الكتابة والمحو، أو التوقف عن الكتابة، أو نفي معرفة الكتابة.
وبمراوغة الكتابة غياباً تاماً، والبياض حضوراً ساطعاً تتصاعد إرادة الكتابة حتى الوقوع في العجز التام عن تحويل هذه الإرادة إلى فعل "لا يعرف أن يكتب" وهنا يصبح البياض دالاً مراوغاً، بالوظيفة التعبيرية الغائبة، لمدلول فعل الإرادة الغائب، "لكننا نقرأ بياضه بانتشاء "،وإذا كانت القراءة المنتشية تنطوي على تأكيد حضور البياض كلغة أخرى مقروءة، فإن هذا يشي بجدلية العلاقة التي تربط بين النص والمبدع من جهة، والمتلقي من جهة أخرى، بمعنى أن النص الجديد ينبغي أن ينظر إليه من واقع لحظته الحضارية وإشكاليته التعبيرية، مع لفت الانتباه إلى الرسالة باعتبارها وسيلة اتصال بين طرفين، قد تفرض على متلقيها أن ينظر فيها إلى ما بعد الوظيفة التعبيرية للغة، أو بعبارة أكثر تحديداً إلى شيء يقع خارج اللغة.
وبافتقاد حركة اللغة الكتابية على الأوراق يسود الصمت، إذ لا شيء بين حركتين في الذات حركة الكتابة، وحركة المحو، وتنتصر الذات لحركة المحو، بالإبلاغ عن عدم معرفة الكتابة، ليحدث بعدها اتصال على مستوى المتلقي الذي يستوعب إشارة الغياب، مؤكداً على حضور القراءة المنتشية في عتمة الكتابة، وأن تعطل الكتابة لا ينفي بالضرورة تعطل القراءة، كما لو أن مفهوم الكتابة قد توقف عن الدلالة على نوع خاص من أنماط اللغة، مع أن المفهوم ذاته ينطوي على اللغة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى 55
ومهما يكن من أمر فإن الإحساس برهبة الكتابة ومسؤوليتها العظيمة، يمكن أن نجده في أكثر من مكان، من قصائد قاسم حداد، موحياً بأن تجاوز المألوف والشائع في الإبداع لا يتحقق ما لم يتم شحن الوعي بحتمية هذا الصراع بين الذات الكاتبة، ومفهوم الكتابة الجديدة، الذي ينقاد في النهاية إلى تدمير الوعي التقليدي للكتابة، وبما أن الذات لا تملك تصوراً معيناً، أو شكلاً محدداً، لما يمكن أن تأتي به لغة الكتابة الجديدة، فإنها تسلم نفسها إلى الذهول المفاجئ، حين تضع الورقة أمامها، وتنتظر لحظة الفيض القادم.
أمام الورقة أقف مذهولاً مباغتاً من يجسر على كسر هذا البياض الجميل 56
يأخذ البياض في الخطاب، مساحة أكبر مم هي عليه أمامنا، في إشارة إلى أزمة الكتابة، وبخاصة حين يكون المبدع مهموماً بتجربته التعبيرية، كما هو الشأن مع قاسم. الذي يسعى إلى إقناع القارئ بأنه إزاء تجربة جديدة تأخذ الأمر مأخذ الجد، وتسعى إلى إرساء حساسية شعرية جديدة، لذا تأخذنا الذات إلى اللحظة الحاسمة، في تجربتها الكتابية، حين ينتصب البياض حاجزاً أمام فيض الكتابة، فيأتي سؤالها معبراً عن رهبة الكتابة، "من يجسر على كسر هذا البياض الجميل ؟"، ودافعاً لوعي القارئ إلى التأمل في إشكالية جرأة الكتابة في محيط البياض. وإذا كان البياض، يأتي في القصيدة الحديثة كأحد أبعاد عناصر الصمت المنفلتة من قبضة اللغة، بغض النظر عن كميته أو أوضاعه، في جسد النص الشعري، فإنه قطعاً يختلف عن البياض الذي يحيط بالورقة قبل أن تبدأ فاعلية اللغة في التحرك، إذ هو في الأول عنصر أساسي ذو دلالة على شيء يقع خارج اللغة، في حين أنه في الثاني صمت عارض، يحيط بالورقة، يسبق عمل اللغة، لا يلبث أن ينحسر أمام مداد الكتابة، ومن ثم يفتقد البياض جماله على الورقة، لتظهر على أثره جمالية الكتابة.
أما بداية عمل الكتابة عند قاسم حداد فهي غامضة لا يستطيع تفسيرها بيد أنه يستطيع أن يصف مباغتاتها له :
لا أعرف كيف أجلس هكذا رأسي قبعة الكون ويداي في جنون لست متعباً ولا حزيناً أرى البياض أبراج الفوضى ألمس الحبر وراحتي جنة الكلام حرف.. وتنهمر على شظايا الغيوم مثل طرائد تقع في الكمين. لا أعرف كيف هكذا أبدأ أعطي جسدي لحرير المباغتات أرخي أعضائي لهذيان النيازك وأتبع رنين الملائك وهي تمجد الغموض لا أعرف كيف لكني أبتهل للسر أن يصطفيني عبداً لحرف ينسج المرايا ويهندس الشكل لبياض طاعن في التحول 57
إن نفي معرفة كيفية الكتابة، عن الذات الكتابة، من هذا المنظور، وإضفاء مسحة من الغرابة عليها تجعل الوعي الإبداعي، في حالة تغريب، أو استلاب كلي لشيء غامض، لا يملك معه الكاتب إلا أن ينقاد لتداعياته، وينطوي هذا الإبداع النصي، لفاعلية السر الكتابي، على توجيه المتلقي إلى التعامل مع النص من منظور خاص، يأخذ في الاعتبار، حالة اللا وعي الكتابي التي تدفع المبدع إلى الوقوع في نطاق الهذيان الكتابي المتشح بالغموض، المعبر عن حالة الأسر الإبداعي التي يقصر دونها التعبير أو التعليل، وبالتالي يصبح النص، من هذا المنظور، متاهة، أو فضاء ممتداً، يتسع لكل الاحتمالات، والتأويلات، التي تفرضها طبيعة الدلالات المتداخلة أو المتقاطعة في لغة النص الشعري الجديد، الذي يعتمد، في توصيل رسالته، على فطنة القارئ، في إعادة تنظيم دوال القصيدة، وربطها بالعناصر الإشارية للنص وصولاً إلى الدلالة.
وأيّما كان الأمر، فإن النص الشعري هنا يتعامل بصورة واضحة مع مشكلة دينامية الإبداع، وموقع الذات المبدعة فيها، وهي قضية جدلية أثر حولها كثير من المسائل والقضايا، التي دخل فيها علم النفس التجريبي طرفاً في الموضوع، حيث تحولت اعترافات الشعراء، إلى مادة تحليلية يستنبط منها علماء النفس تفسيراً لدينامية الإبداع 58 ، ومع أن قاسماً لا يختلف عن كثير من الشعراء الذين يجدون أنفسهم في لحظة مدفوعين بقوة لا إرادية إلى الإبداع فإنه حرص في الوقت ذاته على أن يطلعنا على حالته النفسية لحظة التهيؤ لاستقبال الفيض الإبداعي في سياق التجربة الإبداعية نفسها، مما جعل منها وثيقة تجلو خبايا الهم الإبداعي عند الشاعر، بصفة خاصة.
تطالعنا في البداية حركة التهيؤ المتمثلة بالجلسة "أجلس هكذا" التي يرصدها النص في سياق حركة الحواس، وتضافرها في قدح شرارة الإبداع، من الرأس إلى اليد، مروراً بالبصر، وحاسة لمس المداد، في لحظة تماسها مع اليد، وهي في حالة توهج فعل الكتابة، المعبر عنه "بجنة الكلام" إيذاناً بإنتاج أدوات الكتابة، التي تتشكل عناصرها ابتداء من حرف، لتبدأ بعد ذلك حركة الفيض التلقائية، بصورة مثيرة تلعب فيها الاستعارة والتشبيه بعداً أساسياً في تجسيد مشهد تلك اللحظات الحاسمة التي تداهم الكاتب، كفعل الطبيعة المفاجئ، في ذروة حركته، ومن ثم فلا غرابة أن تكون عناصر الطبيعة أكثر تمثيلاً لتحديد العلاقة بين الذات والإبداع، فانهمار شظايا الغيوم، إشارة مركزة إلى لحظة التدفق التي تنهمر على الذات بعد توفيرها عناصر هذا التدفق، التي هيأت نفسها لاستقباله، سواء في تضافر عناصر الحواس، أو في رسم الصورة النفسية للذات " لست متعباً ولا حزيناً"، وهدوء النفس هنا لا يستقيم مع حركة الرأس، وما يحمله هذا الأخير من هموم، ولا مع حركة اليدين في جنونهما، مما يجعل من دلالة الإبداع هنا دلالة مراوغة تنطوي على بعدين متضادين يسهمان في نهاية المطاف في تشكيل دلالة أكبر ذات صبغة لا إرادية، "مثل طرائد تقع في الكمين"، هكذا تجلو الذات البعد الإبداعي عندها في مستواه الأول.
ومع أن مجلى الإبداع هنا يتسم بنوع من السلبية، التي قد تلغي دور الذات في الصنعة الإبداعية، فإن الإبداع في مستواه الثاني عند الذات يلغي دورها تماماً وتصبح أسيرة لعناصر أخرى، أكثر حضوراً منها، مما يجعل فعل الإرادة غائباً أو منقاداً إلى إرادة أخرى، لا يملك معها إلا الخضوع لها، ومن هنا جاءت الأفعال الثلاثة المتوالية "أعطي"، و"أرخي" و"أتبع" متلائمة مع حالة الاستسلام التي تشف عن معنى إرادة الإرادة ن المختبئ وراء حالة هذا الاستسلام الجسدي لمؤثرات خارجية، تنساق وراءها الذات، لتحقيق فعل إرادة الكتابة، ومن ثم كان هناك التفات إلى طبيعة هذه العناصر الفاعلية، ودورها في إيقاظ حافز الكتابة الغامض، وإنها على حد تعبير الخطاب "حرير المباغتات" و"هذيان النيازك"، و"رنين الملائك" مما يجعل من دلالة هذا النمط من الإبداع بالغة التعقيد والغرابة، لتتواءم مع حالة إنتاجه.
أما على المستوى الثالث، والأخير من درجات الإبداع، فإن الذات تؤكد على الجانب السري في العملية الإبداعية التي يلعب فيه الحرف دوراً فاعلاً في تشكيل أنسجة الخطاب وهندسته، بصورة تلقائية، تغدو معه الذات منقادة لتداعيات الحرف في إزاحته لمساحة البياض التي أخذت تتراجع، تحت تداعيات الحرف، وبقدر ما كان البياض، في بادئ الأمر، "أبراج الغموض"، كان الحرف في نهاية الأمر، يهندس الشكل ويقوض فوضى البياض لتصبح الكتابة، أو الحرف، نقيض البياض. وهذا لا يعني _ كما يقول (جاك دريدا J. Derrida) _ أن الكتابة هي ذلك الحرف البسيط، بل إنها تخلق المعنى بصياغتها له على سطح مؤهل للتوصيل إلى ما لا نهاية له 59
وأعرف، آنذاك، أنني كنت الحلم وظل الحلم وأنني ماء في مجرة القصيدة 60
ومهما يكن من أمر، فإن الدلالة الجوهرية للمفارقة، بين حالتي النفي والإثبات، حاضرة في الخطاب بصورة حادة، مجسدة معضلة الكتابة عند الشاعر الحديث، من منظور حالة استلاب الوعي واستعادته في سياق فاعلية المخيلة التي تزاوج بين الذات والحلم من جهة، والذات والماء من جهة أخرى، فمع الحالم يقع الاستلاب، ومع الماء يتم الحضور، فكما لا حياة بغير الماء، لا قصيدة بدون شاعر، مما يعني أن الشاعر حاضر في أنسجة القصيدة بطريقة أو بأخرى، مهما أوغل في عالم اللا وعي.
وفي لحظة يأس عابر تأخذ الذات في التشكيك في عدم جدوى الكتابة بعد الممارسة العملية لغواية الخط الأسود في مواجهة البياض أو الصمت من جهة، ومواجهة أثر الكتابة في الآخر من جهة أخرى :
هل صدقتم ما قيل عن الخط الأسود ؟ هل.. ؟ لا يمكن أن أكتب شيئاً بالأسود جربت جميع كتابات العالم، لا يجدي حرف لا يتعب لا يحمله كتف مجهد هل صدقتم أني أكتب.. ؟ لو أن الحرف القادم في رأسي طل على وجه العالم لانهارت في بيتي الأوثان المركونة من دهر غابر 61
إن صيغة السؤال المكررة، في مطلع النص، تحيل إلى حركة مغايرة، في مفهوم القيمة السابقة، المستقرة في ذهن الجماعة، لدور الخط الأسود، واللون الأسود تحديداً، كأداة كتابية ضاغطة ذات دلالة، مما يعني حضور مدلول آخر متسام، بالغ الشفافية، تشي به أنسجة النص. إن فشل دور الكتابة الموجهة، يعني فشل اللغة المستخدمة في خلخلة النظام القائم، مما يستدعي مراجعة المشروع من زاويته، الأداة، والذات، فإذا ما توقفنا عند الأداة، كقيمة تعبيرية، بدت غير ذات جدوى، لأن طبيعة ما يكتب لا يتواءم مع ما يستهدف، ومن هنا يأتي فشل الأداة، وهو في الوقت ذاته فشل أشد لمنتج الكتابة، لكن إشكالية الكتابة، التي يثيرها الخطاب، على الرغم من تحديد مرجعية إشكاليتها نصاً، "لا يجدي حرف لا يتعب..."، تبدو وثيقة الصلة بالغياب، غياب المتكلم، إنها نص ميت، قابل للتداول والتفسير اللامتناهي، لا ينافس في حضوره، وتأثيره سحر الكلام المنطوق، وهذا يذكرنا برأي أفلاطون، في الكتابة، كما يروي ذلك "جاك دريدا"، حيث وضعها في مرتبة دوالكلام، بل وصفها بالابن اللقيط، أو اليتيم، في مقابل الكلام، الابن الشرعي للأب "اللجوس" (الكلمة) 62 إذ في البدء كانت الكلمة، وهي أصل الأشياء، وضمان الحضور التام في العالم 63 ويقابلنا هذا المفهوم الأفلاطوني في الكتابة عند قاسم حداد، بصورة أكثر تحديداً في قصيدة "ماء المعنى" حيث يقول :
سيمت الكتابة خطيئة القول 64
ومن الجلي هنا أن وصف الكتابة بخطيئة القول يكاد يكون متطابقاً مع وصف أفلاطون لها بالابن اللقيط، مما يعني التشكيك في مشروعيتها في مقابل القول، وهذا ما يبدو أنه المعنى الذي تتوجه به الذات نحو المخاطب، في سياق السؤال، الذي يتكرر ثلاث مرات لتعميق مفهوم هذا الشك، المؤسس على التجربة الذاتية، مما يعني من هذا المنظور فشل الكتابة في بعديها الخاص والعام، كأداة تعبير قادرة على النفاذ والتأثير المباشر، وهذا ما قد يبدو متناقضاً مع خطابه النقدي، في موقفه من الكتابة والكلام، فالكتابة عنده نقيض الكلام، والكلام لسان الواقع، والكتابة رعشة الجسد، والكلام علف الأذن، وتراكمات بلاغية تؤله الشارع، والكتابة تفضح لا معقولية الشارع المتشح بالمنطق والوعظ والخطب 65 . فهل يعني ذلك تراجعاً عن هذا الموقف ومواجهة الشارع بنفس سلاحه، أو أن الموقف ينطوي على مراجعة لأسلوب المواجهة الواجب اتخاذها للتوازي على الأقل مع ما يطرحه الشارع ؟ وسواء أكان الأمر يتعلق بالبحث عن مفهوم جديد للكتابة، يتواءم مع روح العصر، أم اعتبار الخطاب الشفاهي أكثر تمثيلاً للذات المتكلمة، والذات المتلقية، في مضمونه ومعناه من الكتابة في لحظة ما، فإن الذات المنتجة للخطاب، تعترف بشكل مباشر بأنها لما تنتج بعد الخطاب القادر على المباشر ولو فعلت ذلك على حد تعبيرها، لانهارت الأوثان من دهر غابر.
ومهما يكن من أمر، فإن الصيغة الغائبة للخطاب المطلوب، أيا كان الدافع وراء غيابها، تفرض على الخطاب الموجود روح التعارض، حضور غياب، في سياق لعبة الممكن، وغير الممكن، إذ تصبح المغايرة، أو الاختلاف قيمة أفقية واسعة، بين المتاح والممتنع، في إنتاجية الكتابة، وبالتالي تصبح الذات أسيرة اختلاف مفهوم الكتابة، بانقسامها على ذاتها بين الواقع الحي، وبين الوهم المضمر، حبيس الرأس، "لو أن الحرف القادم في رأسي طل... لانهارت.. الخ"، لو هنا شرطية، لا يتحقق فعل الإنجاز الثاني من الجمل إلا بتحقيق فعل الإنجاز الأول منها، وهو يشير إلى التعبير، ليس خياراً ذاتياً، يأتي أو لا يأتي، وإنما هو خيار إرادة إبداعية تفرض عدم تحقيق وجوده لأمر ما، لا على مستوى التعبير فحسب بل على مستوى الدلالة، وهو الأهم في لعبة المغايرة الكتابية التي تحيل إلى مدلول مضمر، أو ما يسميه "جاك دريدا" المدلول المتسامي " Transcendental Signified" في سياق التجربة الكتابية.
لكن الكتابة عند شاعر كقاسم حداد تمثل خيار حياة، لا مناص من التعامل معها، مهما كانت سلبياتها، فالحياة _ على حد قوله _ "بعيداً عن الكتابة ستكون ضرباً من الذل والعراء، في عالم لا يرحم الضعفاء، بدون الكتابة أكون شخصاً مفقوداً لا رجاء فيه " 66 ، وتحت هذا الهاجس المقلق تأخذ الكتابة عنده بعداً احتفائياً تؤكد به الذات هويتها الثقافية :
أملك الآن أن أحتفي بالكتابة أملك الآن أن أحتفي 67
والآنية أو الظرفية الزمانية، في النص، هي هذا الانقلاب في مفهوم ودور الكتابة كموقف فكري تستند إليه الذات، في الدفاع عن نفسها وعن القيم التي تؤمن بها، إذ يصبح الزمن رمن الوعي بمفهوم جديد للكتابة يردم ذلك الانشطار في الذات، بين رفض الممكن والتوق إلى ذلك المضمر المتأبي على الحضور.
3 _ الموقف من اللغة :
إن النظرة الحداثة التي ينطلق منها الشاعر قاسم حداد، في نظرته إلى العالم والأشياء والماضي والحاضر والمستقبل، فرضت عليه أن يتعامل مع اللغة، من منظور مختلف، يوجه الذات نحو اختراق سلطة اللغة بغية الوصول إلى لغة جديدة قادرة على التعامل مع الحساسية والوعي الجديدين في بعدهما الواقعي بعيداً عن هيمنة النسق الماضوي، أو التسييد المصمت للغة، ومن ثم أصبح وعي الذات باللغة منتجاً لها بما يتفق مع طبيعة الذات، لا مع طبيعة اللغة أو سلطتها، "لا تقول لنا اللغة، نقول لها الأشياء، نعلمها المعنى.. النص يكتب اللغة، نهذي قليلاً ليبدأ نظام من الفوضى يخترق حاجز المعنى، والمعجم، والمستنقعات، ربما رأينا في الكلمات ذكورة، وفي الحرف أنوثة، تتيح للنص خطيئة تنقذ اللغة من عادة الوأد " 68 . وهذا المفهوم الجديد، في النظر إلى اللغة، لا يكاد يختلف عن مفهوم بقية الحداثيين في هذا الصدد، فمحمد بنيس، على سبيل المثال، يتحدث عن مفهوم مشابه حيث يقول : " في الذات لا في القواميس تتجمهر اللغة، تتعلم كيف تنهض، تعاود التكوين والتأسيس... للذات سلطة الانتهاك والاختراق " 69.
أدت هذه المفاهيم الجديدة في التعامل مع اللغة إلى بروز شعرية جديدة، ذات سمات بارزة، تجيد، على حد تعبير قاسم حداد، "مخاطبة الطفل الكامن في اللغة"، وولوج فضاء لغوي جديد تلتقي وتتقاطع فيه هموم الشاعر مع اللغة ذاتها، ومع رؤيته الأشياء والإنسان، في سياق تلك الحساسية الجديدة، التي تحث على التحرر المطلق من كل القيود المفروضة على الإبداع، بحثاً عن تجارب بلاغية جديدة تتواءم مع إيقاعات النفس، لحظة توهج الإبداع، والتصاقه بجسد اللغة، في طابعها العام، وجسد النص، في طابعه الخاص، وجسد الذات في انتشائه بالمغايرة والاختلاف، لتصبح لغة النص الجديد في نهاية الأمر بصمة الجسد.
لغتي ملطخة بي ولا تفسرني القواميس 70
ولعل لفظة "ملطخة" بصيغتها المضعفة بالغة الدلالة على مدى خصوصية هذه اللغة، الشبيهة بالبصمة، التي تكشف عن هوية صاحبها في خروجه على التمثيل المشابه، لتأكيد غيرية لغته، وتجاوزها للمألوف والسائد، ومما يعزز مفهوم هذه الغيرية تأبيها على تفسير المعاجم، في إشارة قوية إلى اختراق حاجز الدلالة المعجمية، والانعطاف نحو الانزياح الدلالي، بحثاً عن فضاء لغوي يتنفس فيه الشاعر لغته الخاصة :
ولي لغة أستقيها من الماء أبكي على صدرها أرهقتني محطات أشعاركم وحيد على زنبق الماء وقت يسمى ق ا س م قوس إلى سحر أمجادكم افتحي نهدك أنت أول الماء موتي نبي يغدر قرآنه ثم يغلق باب السماء 71
وإذ يفضح النص هنا عن مدى عمق الهم اللغوي، فإنه لا يغفل، في الوقت ذاته، مكابدات هذا الهم الذي يدفع باتجاه مرجعية لغوية لا تخضع لنسق ماضوي وإنما تخضع لتوترات النفس في نزعتها الفطرية، بعيداً عن هيمنة التراكيب المألوفة، والجاهزة، باتجاه مرجعية بدائية تستمد جذورها من فطرة الاستخدام الأول للغة، أو بعبارة أكثر تحديداً لغة مبرأة من الاستخدام، أو حسب تعبير أدونيس اللغة العجيبة، أو اللغة المغسولة من صدأ الاستخدام، أو اللغة المردودة إلى براءتها الأولى 72 ، أو كما هي في عرف قاسم "اللغة الطفل" ومن هنا نجد أن ربط مرجعية اللغة بالماء، عند قاسم حداد يسير في هذا الاتجاه، إذ في أصل الماء تكمن صفتا النقاء، والتطهر، وبالتالي تكتسب اللغة في مرجعيتها هذه القصة، وبقدر ما تتسع هذه اللغة لاستيعاب هموم الذات، تضيق اللغة الأخرى المتعالية عن ذلك، مما يساعد على الإحساس بتصاعد وعي الذات بهذه اللغة الجديدة التي تتوحد الذات عندها في سياق الزمن، لتصبح الذات واللغة والزمن سبيكة واحدة هي قاسم الذي يحمل البشارة، والنبوءة معاً، البشارة باستقبال الفيض الجديد من الماء، لغة الحياة، على نحو يحول مدلول "افتحي نهدك" إلى دال مراوغ يقود إلى نبوءة مخاتلة تجعل من موت الشاعر قرين النبوة التي لم تتم الرسالة.
ولعل ما يثير الانتباه في هذا الخطاب تقطيع اسم الشاعر إلى حروف لتأكيد حضور الذات في فضاء اللغة بصورة مباشرة، بوصفها صنعة خاصة، تستمد جذورها من نبعها الصافي الذي لم يدنس من قبل، لتعيد إنتاج اللغة من جديد، وبالتالي تصبح الذات دالاً لمدلول أبعد من صياغة الوعي اللغوي، إنها علامة فارقة في مجمل علاقات اللغة بما حولها، "قوس إلى سحر أمجادكم"، هذا ومن جانب آخر، فإن تجزئة الكلمات إلى حروف في بنية النص يؤكد الموقف العام لقاسم من تعارض الكلمة الذكر، والحرف الأنثى، فالأخير عنده قادر على التناسل إلى ما لا نهاية من الاشتقاقات اللغوية، بخلاف الكلمة، المنتج الجاهز، ولذا كان الحرف محل اهتمام الشاعر أكثر من الكلمة حتى سماه "نسل الفوضى" :
أدخلت الحروف في فوضاي فوضتها أ،مري وفاضت روح الحروف في روحي من يعدل الكون ويهندس المجرّة ميم سين ألف ياء صاد لام ويكسر الخيط ويكسوني 73
بهذه الصورة تعثر الذات في فوضاها على إمكانات الحرف الذي يطلق حريتها، ويتجانس معها في خلق مناخ من التشكيل اللغوي المنعتق من متعاليات اللغة، والخارج على المألوف والشائع من التعبير، ويأتي السؤال المجرد من علامة الاستفهام، " من يعدل.." رافعاً راية التحدي في مواجهة الثابت وإعادة بنائه وهندسته من جديد، وتشير دوال السؤال إلى أكثر من مدلول، بيد أن النص يتفادى مرشحات المدلول، لتبقى الدوال مدلولات بنفسها على نفسها، ولنتأمل هذا التوزيع الصوتي للحروف في بنية النص، وهندسة انتشاره وسر اختيار هذه الحروف بعينها دون غيرها، وكتابتها صوتياً لا رمزياً، فمهما حاولت أن تحرك مجموعة هذه الحروف باتجاهيها الرأسي أو الأفقي، يميناً أو شمالاً، لكشف لغز المدلول الذي تنطوي عليه هذه الحروف، أو العلاقات الدلالية التي تجمع بينها، فإنك لن تجد أكثر من دلالتها على نفسها باعتبارها المواد الأولية، في صنعة اللغة، القادرة على منح الكلمة ولادتها الأولى، ومن هنا كان هذا الاحتفاء اللافت بالحروف :
للحروف ضد القواميس والنحو والصرف 74
ومع أن الذات تتكئ بصورة مباشرة على فاعلية الحرف في ولادة اللغة الجديدة، فإن الذات ليست معزولة عن هذه الفاعلية بل هي جزء منها، وما الحرف إلى السلاح الذي تصارع به نظام اللغة الذي تتمرد عليه، على نحو يصبح فيه الحرف دالاً على اللغة الشعرية الجديدة، ولذا كان هناك تحريض على اكتشاف فاعلية هذه الطريقة في سياق السؤال الذي يغدو معه تحريض المخاطب الضمني على التمرد هدفاً مطلوباً لتجاوز نظام النسق الماضوي للغة، وكسر هيمنة نظام الثقافة السائد، أو تدميره، وتعزز الذات من دعوتها بالتركيز على أصوات اللغة، التي تأتي بغير انتظام في النص، لتأكيد اتساع فضاء الحرف وحريته في تشكيل الأبنية والأنساق اللغوية، ولعل هذا هو السر وراء العدول عن كتابة الحروف رمزياً إلى كتابتها صوتياً في بنية الخطاب، فضلاً عما تثيره هذه الطريقة من لفت الانتباه بصرياً على الخطاب المكتوب فيتحقق له من ذلك اهتمام المتلقي باستنفار حاستي الصوت والبصر معاً في سياق الاستقبال.
وإذا كان الحرف يمثل أحد طرفي المعادلة اللغوية، فإن النص لم يكتف بهذا بل يلفت تحريضي، لا يخلو من علاقة انعكاسية، ذات مردود إيجابي على الذات نفسها "يكسر الخيط ويكسوني"، وبالتالي يصبح وعي الذات المحدثة باللغة ذا بعدين : مصدراً ومستقبلاً، من منظور الهدم والبناء، مما يدفع باتجاه جماع عام من الجرأة اللغوية في التناول الإبداعي، بعيداً عن متعاليات اللغة.
ولم يكن هذا الاحتفاء بالحرف، عند قاسم حداد، الذي يضفي عليه نوعاً من القداسة الذاتية :
سبحان الحرف الذي يخرج من اللا مبالاة إلى المبارزة 75
ليبعده عن الاهتمام بالكلمة كقيمة تعبيرية في بنية العمل الأدبي، تتطلب ولادتها معاناة شديدة من القلق والانتظار :
كشحاذ أضع جبهتي على عتبة الكلمة وأنتظر منتفضاً كعصفور لعل الكلمة تخرج من صمتها وتعطف على تضرعي 76
بمثل هذه الصورة، التي يجلو التشبيه بعدها الفني، تبدو الذات منكسرة بدرجة حادة أمام سطور الكلمة، المتأبية على كسر حاجز الصمت، وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت أولية التعبير هي ما يستهدفه الشاعر من معاناته مع الكلمة، على نحو يجعل من بنية الكلمة، لا وظيفتها، مطلباً ملحاً للذات المحدثة، ومن ثم كانت تلك السطوة للكلمة التي تجعل الذات تتضاءل إلى درجة الخنوع والاستكانة انتظاراً لانفجار الصمت بالكلمة الجديدة.
يهيئ لها كلمات جديدة جديدة جداً أحياناً كأنه يتعلم اللغة لأول مرة 77
يبدو وعي الذات هنا في أوج إدراكه لمفهوم الجدة في اللغة، إذ يعيد تشكيل علاقته باللغة من خلال وعيه بالمنتج الجاهز الذي يتجاوزنه بالمنتج الذي لم يقل من قبل على نحو يصله بالمرجعية الأولى لتعلم اللغة، حيث يبدو كل شيء فطرياً، حتى في اكتساب اللغة الشعرية، لتكون أكثر صدقاً وتمثيلاً لرؤية صاحبها، وهذا يعني أن الذات تواجه مشكلة البحث عن الجديد الذي هو جزء من كيانها وروحها، لا ذلك القديم المستهلك تعبيراً ودلالة، لتؤسس لها علاقات لغوية، تخرجها من دلالاتها التقليدية الموروثة إلى دلالات أخرى جديدة، تصدر عن إحساس بمعاناة لهيب الصنعة اللغوية بجماع جهاز النطق :
جمرة شهقة اللغة قلامة اللحم المرعوشة في مكان بين الأسنان والحنجرة وقيل إنها تميمة المحدق ممعناً في غواياته تهتاج، فيبدأ النواح يوزع سرادقه فضاء يزخر بأشباح تزعم أنها الناس تئجّ مثل خبيئة العاشقة يكتظ بها الأسرى ويطيش لها عقل الطغاة. قيل إنها كلام النار للغابة وكلما جاء ماء، صعد الأوار واشتعلت ضراوة النحاة : جمرة. نار. كلمة / لا نهائية النص بصرةٌ. كوفةٌ. كتابةٌ / نهضة البوصلة هذا هو الصهيل 78
وينطلق هذا الربط، الواعي أو غير الواعي، بين "الجمرة"، و"شهقة اللغة" من وطأة الإحساس العميق بمأزق اللغة في صنعة النص الشعري، إذ تصبح اللغة موضوعاً للتأمل والحوار الدائم، سواء من خلال وعي الشاعر بها، أو في سياق الحوار الذي يدفع اللغة ذاتها إلى تأمل نفسها في القصيدة، 79 فتنساب في إطار هذا التأمل كل التداعيات التي يثيرها هذا الربط اللافت بين الكلمتين السابقتين (جمرة _ شهقة)، حيث تطغى صفة الأنوثة بشكل واضح على معظم أجزاء النص تجاوباً مع أنوثة اللغة وقدرتها على التوالد الدلالي غير المحدود، وكما تشير مدلولات الألفاظ : "جمرة"، "شهقة"، "المرعوشة"، "تهتاج"، "النواح"، "تئج"، "يطيش"، "الأوار"، "اشتعلت"، "ضراوة"، "نار"، "الصهيل"، إلى دلالة التوهج في أقصى درجاته، كما تنطوي الصورة، التي تصدر عن هذه الفاعلية المتوهجة، في بعض جوانبها، على حدة الانفعال والعنف، الذي يتبلور في سياق المكونات اللغوية والدلالية للخطاب، إذ يعمد النص ابتداء، كما رأينا، إلى إقامة علاقة متجانسة بين الجمرة وشهقة اللغة، في سياق الجملة الاسمية التي تحاول تثبيت مفاهيم تلك العلاقة التي ستتولد عنها فيما بعد رموز التوهج والعنف، فإذا كانت الجمرة تمتلك خاصية اللذع، أو الحرق، فإن اللغة في حالة تفجرها تملك مثل هذه الخاصية الحارقة، إذ تصدر عن لحظة انفعال مشوب بارتعاش الألم حاملة معها جذوة نارها الحارقة، وما إن يكتمل عقد الجملة الاسمية حتى ينبثق عقد آخر، في سياق حركة مغايرة، تتكئ فيه على الجانب الأسطوري، حي ينساب في إطاره نسق متتابع يتأسس على تداعيات الفعل المضارع الذي يفجر آفاق استخدام اللغة، وبمقدار ما تكون هذه اللغة "تميمة المجدف ممعناً في غواياته"، "فإنه يطيش لها عقل الطغاة "، وهذه الفاعلية الثنائية للغة في بعديها المتضادين، مابين تحقق الرضى في الأول، والرفض في الثاني، تنبع في جوهرها من قدرة اللغة الشعرية على استعمال دوال مختلفة للتعبير عن مدلولات متباينة، فاللغة يراد منها أن تفهم، ولكن بطريقة ما، وبخاصة حين يتم شحنها بدلالة قادرة على إثارة متلقي الرسالة.
وتأخذ اللغة في النص بعداً آخر حين تكون "كلام النار للغابة"، في إشارة رمزية إلى فاعلية اللغة وقدرتها على مواجهة الموروث بصهره وإعادة خلقه بصورة غير مألوفة، مثيرة للجدل، ومن هنا جاء الربط بين الماء وأوار النار، ملقياً علاقات التضاد بين الاثنين، ليؤسس عليها علاقة تجانسية على نحو يتضمن ارتباط علة بمعلول، "كلما جاء ماء صعد الأوار"، فبمقدار تجاوز اللغة الجديدة للموروث تتصاعد معها حالات الجدل والاختلاف والرفض غير أن حيوية اللغة، وفضائية النص أقوى من هذا الجدال، إذ تستوعب ذلك كله، ولعل هذا التبرير الذي يطرحه النص، آخذا في الاعتبار حالات الخلاف التراثي، التي اشتجر فيها النحاة حول بعض الظواهر النحوية، وسيلة لتجاوز الهياكل الثابتة وللغة وقوانين الخطاب اعتماداً على مفاهيم الحداثة الشعرية التي ترى أن الشعر لا يتحقق إلا بمقدار تأمل اللغة وإعادة خلق اللغة في كل خطوة. 80
ولعله من المفيد هنا أن نتوقف قليلاً عند بعض الظواهر اللغوية التي حفلت بها تجربة قاسم الشعرية، وأكسبت نصه الشعري خصوصية معينة تنبع من إحساسه بقدرة المبدع على تشكيل علاقات لغويو مبتدعة، في أنساق خاصة، تقد فيها اللغة بصورة جديدة، يمارس فيها التركيب الجديد تأثيره على بقية عناصر اللغة الشعرية وبقدر سيطرته على نظام الكلمة في بنية تركيبته، يكون قادراً على إحداث التأثير في المتلقي، إذ أن كل كلمة _ على حد تعبير Winifred Nowottny _ عندما تستخدم في سياق جديد هي في حد ذاتها كلمة جديدة 81 ، تستدعي الاهتمام، إما بما تملكه من طاقة إيحائية، أو إيقاعية، أو صوتية تتوزع على سطح النص، في نظام يحكمه تعقد اللغة الشعرية، التي تختلف بطبيعتها عن غيرها، وقد كان قاسم واعياً لهذا النظام بصورة كبيرة حتى أفضت لغته في بعض المواقف إلى الغموض، أو إلى الإيهام الذي يستغلق معه فهم التركيب، وفيما يأتي وقفة قصيرة عند بعض الملامح والعناصر التي تحيط بلغته الشعرية :
أ - استقلال الطاقة الإيحائية للكلمة أو العبارة :
يسعى الشاعر قاسم حداد _ شأنه شأن الشعراء المحدثين _ إلى استغلال الطاقة الإيحائية للكلمة، في بنية التركيب الشعري، لتكثيف الدلالة الشعرية التي يريد توصيلها إلى متلقي الخطاب، اعتماداً على أن الكلمة في الشعر _ كما يقول Wellek وصاحبه Warren لا تكتفي بالمعنى المعجمي، وإنما تثير معها معاني الكلمات التي لها صلة بها من حيث الصوت، أو المعنى، أو الاشتقاق أو الترادف، أن التشاكل. 82 مما يمنح الكلمة فضاء واسعاً من الدلالة في شبكة النص عبر السياق الذي يمثل الركيزة الأساسية للدلالة الشعرية، فإذا ما ألقينا نظرة على بعض مفردات النص السابق نلاحظ ذلك التوهج الدلالي الذي يشع من بعض الكلمات التي تعكس بصيغتها الصرفية حركة الفعل مثل "تئج"، و"الصهيل"، بصيغتهما المضعفة، و"يطيش"، و"الأوار"، حتى كأنك تسمع حركة ما بعد الغليان من خلال صوت الشين المهموس، وتصاعد لهب النار من خلال حروف المد، وصوت الراء المجهور. كما عنى الشاعر عناية كبيرة في استغلال أصوات اللين الطويلة لرسم المناخ الشعري الذي يتحرك في فضائه الموقف المراد التعبير عنه فرحاً أو حزناً، أو غضباً، ولنتأمل هذا الأنموذج المكتظ بأصوات اللين الطويلة، لنرى كيف يوحي بالموقف النفسي :
يا رفيقي.. ما الذي أفعله بالكلمات... ؟ في يدي طوفان أشعار.. وفي قلبي الحياة.. مثل شلال الجراح الدّاميات وعيوني سوف تنهار إذا ما الليل طال آه.. لكنّ العيون.. في قلوب الفقراء.... 83
تتوزع حروفا لمد بأنواعها الثلاث على امتداد شبكة النص، مع اختلاف في النسبة حيث يحظى المد بالألف بأكبر نسبة، يليه المد بالياء، ثم الواو، لترسم لنا تلك الخلجات التي تتناوشها عوامل الحزن، واليأس، والقلق من ذلك الكابوس، الذي يدفع إلى الانهيار، فيكون المد بالألف مناسباً لنبرة الشكوى إلى رفيقه، والمد بالياء ملائماً لنبرة الغصة التي يشعر بها الشاعر وقلبه يمور بالحياة، ثم تنطلق لفظة "آه"، في آخر الخطاب، كما لو أنها نفثة مصدور، أو أنه مكروب مما يجد ويعاني.
ب _ الاهتمام بالبنية الصرفية والاشتقاقية :
وحفلت التجربة اللغوية عند قاسم بالاتكاء على البنية الاشتقاقية والصرفية للكلمة يأتي بها فببنية النص لتلقي بأشعتها اللافتة ظلالاً على الدلالة السياقية التي تكتنفها، وهي ظاهرة تكاد تكون شائعة في معظم مجموعاته الشعرية 84 ، وسوف نقتصر هنا على بعض الأمثلة التي وردت في مجموعته الأخيرة "قبر قاسم" :
1. |
يحتضن أخطاءه ويهدهدها لكي تنام وتحلم |
ص 30 |
2. |
سمعت من يكرز للجرحى بحتم الموت |
ص 68 |
3. |
وكان بين حديد يتغرغر بماء الشهوة |
ص 79 |
4. |
اندلعت اللغة مثل قميص يبكي جسدا |
ص 82 |
5. |
مشروخ بشهوة الأسئلة |
ص 89 |
6. |
قلامة اللحم المرعوشة |
ص 101 |
7. |
تئج مثل خبيئة العاشقة |
ص 101 |
8. |
وتختجل الكلمات العذراء |
ص 136 |
9. |
مهاميز مثل عجلة العاصفة |
ص 136 |
10. |
ليل يتعثر بقفطانه المتخبخب، ويكبو عند المنعطفات |
ص 156 |
11. |
كان الجنس يتلاطم ويتبركن |
ص 160 |
12. |
مثل زجاجة تبكي على قلبين مفدوحين |
ص 212 |
لا مراء في أنّ هذه الكلمات المنتزعة من نصوصها وسياقاتها المختلفة لم تأت للإبهار اللغوي، وإنما لتأسيس موقف دلالي تتوزع شبكة خيوطه حول تلك الكلمة الغريبة التي تفرض وجودها على النص، وبالتالي تأسر متلقيها بصرياً على الورق، وسمعياً حين يحاول نطق حروفها، ومن ثم يصبح الدال في سياق الخطاب تخييلاً بصرياً وسمعياً ينطوي على مدلول غير أن المدلول يتراجع ليقع التركيز على الدال. 85
ج _ ظاهرة التكرار :
يأخذ التكرار، بأنماطه المختلفة، في التجربة الشعرية عند قاسم حداد بعداً لغوياً لافتاً في بنية تركيبته السياقية، فضلاً عن قيمته البلاغية والأسلوبية، وهو ينسرب في النصوص إما في أبسط أشكاله، كالكلمة والعبارة، وإما في أعقد تركيباته Complex repetition، فمن الصنف الأول، وهو اكثر شيوعاً، تكرار كلمة بعينها :
ألهث. كالسهم خلف الحدث ألهث. كالحقيبة في الأسفار ألهث. كحرف في نهاية الكلمة ألهث. كالكبرياء في الكواكب ألهث. كالبكاء المتعب 86
تتكرر كلمة "ألهث" في نسق متتال لرصد درجة حركة الذات في مستوياتها وأحوالها المختلفة، من خلال التشبيه، الذي يتوازى معها، في درجة لهاثها، بمتتاليات مماثلة، يلتقي فيها المحسوس بالمجرد، لقياس جانب نفسي ملح يدفع الذات إلى هذا اللهاث الذي لا يتوقف، ومما يلفت النظر في هذا النمط من التكرار أن الشاعر يلجأ إلى قطع الكلمة المكررة بنقطة تمنع اتصالها المباشر بجملة التشبيه بعدها، فكأن الكلمة بإيحاءاتها الصوتية ينقطع عندها النفس برهة، ثم يتواصل بعدها الكلام في قياس درجة انقطاع النفس اللاهث.
وهناك نمط آخر من التكرار تنشطر فيه الكلمة المكررة إلى صيغ صرفية أخرى، بيد أنها تظل مشدودة إلى الكلمة الأم التي انبثقت عنها :
كل جدائل تلك النسوة تعرفني آلاف الأحداق المفتوحة والمحروقة في لهب الفضة تعرفني وأنا لا اعرفها لا أعرفها افتح عينيك على لهب الماء ستعرفها هذا التاريخ الميت يعرفك الآن فلا تسألني. 87
هذه الكلمات المكررة، في سياق تصريف الفعل "عَرفَ"، التي تتخلل نسيج النص، فتشكل أنماطاً جديدة، من العناصر التي تتآزر فيما بينها على نحو يلغي الحواجز النفسية بين الإنسان والإنسان من جهة، والإنسان والتاريخ من جهة أخرى لتصبح معرفة الاثنين معاً وسيلة فعالة لفهم حركة الواقع، والتاريخ، ومع أن عناصر النص التي تدور حولها متواليات التكرار تبدو لصيقة بهذه المعرفة، بحم مأساوية الواقع، فإن الذات لم تستبعد تماماً فكرة نفي المعرفة عنها شخصياً على اعتبار أن معرفة الآخر أمر نسبي يخضع لاعتبارات ذاتية، "أعرفها"، "لا أعرفها"، ومن ثم لا يصبح هناك معنى للتساؤل، "فلا تسألني" لأن ضغط الواقع وأحداثه يفرض قراءته بصورة مختلفة.
ونلتقي بتكرار من نمط آخر يعتمد على المتتاليات التركيبية التي تتآكل بالحذف على التوالي حتى لا يبقى من التكرار إلا الكلمة أو الجملة الأولى، (النواة)، وهذا نلاحظه عند قاسم في أكثر من مكان في مجموعاته الشعرية :
لا أذكر أني كنت أريد وأحلم أهجس لا أذكر أني كنت لا أذكر أني لا أذكر. 88
يلاحظ أن النقطة الارتكازية في النص هي نفي التذكر الذي يمر بأربعة مراحل، يتوقف في نهايتها بعد الحذف المتتالي، عند النواة التي انطلق منها التركيب "لا أذكر"، لإثارة الاهتمام بنفي التذكر بغض النظر عن متعلقاته الأصلية التي انبثق في إطارها، لينتقل التكرار من نفي الخصوص إلى نفي العموم، فيمتد إيحاء هذا النفي إلى ما لا حدود له، وبالتالي تصبح اللغة منتجة لنفسها مرة أخرى بما يوجه الحذف المتتالي في كل مرحلة من مراحل بنية التركيبة الأولى للجملة.
أما أنماط التكرار المركب، عند قاسم حداد، فكثيرة ومتنوعة، وسنكتفي بنمط واحد منها خشية الإطالة :
غيروا شكل أسمائكم غيروا الشعر والخبز والعشب لكن دعوني أغني دمي مرة قبل موتي دعوني أوقع تاريخي المستهام ارتعاشاً بصوتي لكم صوتم وهي صوتي أنت. ورائحة الثورة الطفلة الوجه. أنت غيروا شكل أطفالكم. 89
يثير التكرار في الخطاب إشكالية علاقة جدلية بين أطراف ثلاثة : متكلم + مخاطب جمع + مخاطبة غائبة حاضرة، هي / أنت)، فتبدو الفجوة بين المتكلم وجماعة المخاطبين عميقة، ومن ثم كان التكرار يعمد إلى عملية فرز بين الطرفين، بصيغة فعل الأمر في نسقين مختلفين، يتأسس عليهما معنى الدعوة إلى طلب التغيير، وبالتالي يترسخ معنى الاختلاف الذي يفصل المتكلم عن الجماعة، ويصله في الوقت ذاته بالطرف الآخر المتوائم معه في نهدج التغيير "هي صوتي". إنّ كلمة "غيروا" التي تتكرر ثلاث مرات، تعكس تلك الحالة الشعورية، التي تحاول فرض إرادة التغيير من منظور مختلف، بيد أن الواقع يحاول فرض مفهوم آخر للتغيير، مما يدفع المتكلم إلى طلب الانعتاق من الجماعة، فينتصب التكرار في النسق الثاني مركزاً على دور الذات في تعارضها مع الجماعة، في سياق البنية النحوية للنص، حيث تسهم ياء المتكلم، في موقعي المفعولية والإضافة، بكثافتها المركزة، في تجلية هذا التعارض المتكئ على حق الذات في الممارسة التغييرية، التي تراها هنا ملائمة لها، من غير تسلط أو قهر، ولذا يأتي التكرار الاشتقاقي، "بصوتي"، "صوتكم"، ليكرس الحس المفارق لصوت الجماعة، بالقدر الذي تعمل فيه ضمائر الخطاب، "هي"، "أنت"، "أنت"، على تأسيس الحس الموائم لصوت الذات.
ويطالعنا النص بتكرار آخر مستكن في البنية الصرفية للكلمة المكررة بعد إسنادها لواو الجماعة، وياء المتكلم في كلا النسقين، ويتمثل ذلك في حروف المد الطويلة التي تتواءم مع حالة الضيق التي تستبد بالذات في علاقتها بالجماعة، التي تكاد تخنق صوتها فتنبجس بتلك التمديدات الصوتية، عالية النبرة، تعبيراً عن حالة الضيق، وعدم الرضى.
د _ البياض والحذف :
أصبح البياض والحذف من السماء الفنية الغالبة على القصيدة المحدثة، وقد رأينا بعضاً من نماذجه في هذه الدراسة، وكيف يدخل طرفاً فاعلاً في إشكالية إنتاج القصيدة على مستوى الممارسة الإبداعية، وفي سياق الصراع الجدلي بين المبدع واللغة، فامتناع اللغة وتأبيها في بعض المواقف يفرض الحذف أو البياض، لاعتبارات تتعلق باللغة أو بالمبدع ذاته، إذ تعجز اللغة أحياناً عن نقل كل ما تموج به الرؤيا الشعرية من عناصر غائمة في أعماق الشعور، فيأتي البياض دليلاً على شيء غائب، يحفز القارئ على تبديد هذا الصمت الذي يلف القصيدة، بالدخول طرفاً في إنتاج اللغة الغائبة من خلال التأويل الدلالي لهذا البياض، ويستوي في ذلك الحذف الذي تدل عليه النقط المرسومة في بنية تركيب الجملة باعتبارها دليلاً على محذوف، أو مضمر، يلفت نظر القارئ إلى التوقف عنده، وتأويل غيابه.
وتختلف مساحات البياض، وكمية الحذف في شعر قاسم، من قصيدة إلى أخرى فقد يبلغ أحياناً نصف القصيدة، وقد يكون دون ذلك تبعاً لحجم المعاناة الإبداعية في صنعة اللغة، ولذا قد يبدأ الشاعر بعد مساحة البياض في القصيدة يحث القارئ على اختراق بياض القصيدة :
من يجسر على كسر هذا البياض الجميل ؟
إذا وضعنا صيغة هذا السؤال ضم السياق العام الذي صدر عنه، في مثال سابق من هذه الدراسة، يتضح لنا الموقف بجلاء، وهو أن الكاتب مهوم جداً بلغته التي قد تتحول بفعل صراعه معها إلى شفرة سرية، مغلفة بالبياض، الذي هو لب الحقيقة المخفية، التي لا يستطيع الشاعر أن يكشف عنها، وإنما يدعو الآخرين إلى الدخول طرفاً في الكشف عن هذه الحقيقة التي تقع خارج اللغة، والبحث عن لغة لما وراء اللغة، لتعبر عن هذه الحقيقة الغائبة.
هـ _ الغموض :
يثير مصطلح "الغموض" إشكالية جدلية في النقد الأدبي الحديث والمعاصر 90 ، وبخاصة ما يتعلق منه بالجوانب السلبية التي طغت على العلاقات الدلالية للنص الشعري فأصيبت بالعتمة التي باعدت بين المتلقي والنص، وزادت هذه الفجوة اتساعاً حين طغت أشكال غريبة من التجارب الشعرية التي ليس لها حظ من الشعر إلا المسمى الذي انتسبت إليه وهو منها براء، وقد نبه قاسم حداد إلى هذه الظاهرة المزعجة فقال : "أشير إلى ما يستوقفني كثيراً في معظم الكتابات الراهنة، حيث يجري تغييب كامل للعناصر التي يمكن أن تشف عن نص مكتوب بالعربية، مما يؤدي بي _ أثناء القراءة _ إلى الشعور بأنني أمام مادة مترجمة عن لغة أخرى وأظن أن عدم تأمل هذه الظاهرة.. يمكن أن يؤدي بنا إلى خسارات فادحة سوف تؤثر على التكوين الجديد للتجربة الشعرية العربية ". 91 وهذا يعني أن قاسماً يدرك بوعي مدى ما وصل إليه الإبهام المستغلق 92 في بعض التجارب الشعرية، التي تبلس ثوب الحداثة، وهي أقرب إلى الهلوسة من الحداثة، أما الغموض الناتج عن كثافة الطاقة الشعرية، والقابل للزوال والتبدد بتعدد القراءة، التي تجلو مدلولات النص، فهو الواجب الوجود في الشعر، إذ يتحول الغموض إلى عنصر إيجابي 93 ، وهذا المعنى للغموض قد لا يختلف كثيراً في هدفه النهائي عند قاسم حداد فهو يعتبره جزءاً من تجربة الحياة، إذ "إن غموض النص ينطوي على فضح لزعم الواقع بالوضوح، من هنا تأتي مخاطرة أن نسأل الكاتب عن نصه إنك لن تحصل على جواب.. فربما ازددت غموضاً.. ليس الغموض الذي نصادفه في الفن من اجتهادات الفنان، على العكس، إنه الدأب الدائم الذي يبذله الفنان في الكشف عن أسرار تجربة الحياة، وفضح الكامن والمتماري فيها.. فما يسمونه غموضاً يكمن في درجة الاستعداد الثقافي لدى الفنان والمتلقي.. لتحقيق المتعة، لنعرف أن الغموض هو الفجوة التي علينا أن نجتازها معاً". 94
إذن لا يأتي الغموض في النص لمجرد الغموض، وإنما يأتي استجابة لتجربة الحياة المعقدة، التي تفرض على الفنان تحت ضغوطها المستمرة إلى الهروب من الوضوح المباشر إلى الغموض الشفاف، يبدع الشاعر في إطاره بكلمات معادلة موضوعية لتجربته الانفعالية تقوم فيه كلماته بجعل الانفعال يتبع الخط العام للفكر، 95 الذي يصدر عنه الشاعر في تناوله للأشياء والحياة، على نحو يجعل المتلقي يستجيب لغواية المخيلة في الدخول إلى إعادة لعبة الدوال في النص، وتركيبها بصورة مختلفة، لا تخرجها عن إطارها العام، لكسر حاجز الغموض، وتحقيق متعة مشتركة يتوازى فيها الشاعر والمتلقي في فهم تجربة الحياة.
وينطبق هذا المفهوم النقدي للغموض على الكثير من التجارب الشعرية لقاسم حداد، حتى مع دخول المصطلح جزءاً من حوارية القصيدة عنده :
هذا الرمز لكنّ الغموض نوافذ مفتوحة كالجمر نحو النار تيجان من الكلمات، كل مغامر يختار تاج الغار أو تاجاً من الأزهار 96
بهذه الصورة يحدد الخطاب مفهوم الغموض الإيجابي، إذ ينفتح الغموض على مدى واسع من القراءات، وتعدد القراء، تتبدد فيه عتمة المدلولات، اعتماداً على مهارة التناول في الكشف عن جوانب الغموض، وبمقدار حرفية المهارة تتعدد مدلولات النص، ليصبح المتلقي شريكاً في إنتاجية النص.
لكننا لا نعدم، من جانب آخر، أن نجد عند قاسم ما قد يناقض هذا المفهوم حين يصبح الغامض عنده غير قابل للتفسير أو للوضوح، على نحو يصل درجة التعالي والتحدي :
أنا الغامض الذي لا يتوضح ولا يقبل التفسير الغيم يقرأ المطر الشجرة تحاور الريح الرمل يحزم البحر ويُزنِّر السواحل الجرح يصادق النصل بغتة لكنه يفهم وأنا الغامض الذي ليس للوضوح أغوى النجوم أسويها أحذية لكلماتي. 97
يواجهنا الخطاب بضميرين يتحديان الوضوح، ويكرسان غموضهما، ويبدو من السياق أنهما ليسا لمتكلم واحد، فالثاني معطوف على الأول لاشتراكه معه في خصوصية الغموض، وتعذر الوضوح، إذن فمن يكون هذا الضمير الأول الذي يتحدى الوضوح ؟ أهو النص، أم هو مبدع النص الذي يتعمد الغموض ليحفز المتلقي على تحدي الغموض، وتفسير النص، قد يلمح من القراءة الأولية، للنسق الأول من النص، أنّ النص نفسه يطرح تحدي تفسيره من خلال تلك المتواليات، مبتدأ (مفرد) + خبر (جملة فعلية)، التي تتكرر أربع مرات على التوالي، ومع أن النية النحوية لهذه المتواليات لا تثير مشكلة مع الوظيفة النحوية للكلمات، التي هي في الأساس سبب الغموض، فإن الغموض هنا يكمن في طبيعة الاستعارة التي تحكم العلاقة الغامضة بين هذه العناصر التي يراد الجمع بينهما مع اختلاف طبيعتها، ومع ذلك فإن مدلولات الاستعارة تشي بنبوءة الانفجار القادم، وتحدي القوة.
أما الضمير الثاني في الخطاب، فليس ثمة مشكلة في مرجعيته، إنه ذات الشاعر التي تصنع لغة هذا الغموض، في سياق تطويع اللغة للإبداع الجديد، وهذا الغموض الاستعاري يعود إلى صدق الشاعر وموضوعيته وهو يتجه نحو الخارج انطلاقاً من وحدة انفعالية، قد يضفي عليها صورة لغة داخلية، تختلف عن صورة اللغة الخارجية التي نعبر بها عن أفكارنا اليومية، فبالوحدة الانفعالية يجور المبدع على المعنى ويوسعه ويخترع الكلمات. 98
من هنا يتبين أن تحدي الوضوح أو التفسير ليس على إطلاقه، وليس مقصوداً لذاته بقدر ما هو محاولة اختبار من الشاعر لمتلقي النص لحفزه على التعامل مع نص غير مألوف في بنية تشكيلته اللغوية، يستلزم حضوراً مكثفاً لفك شفرة غموضه، ولا أظن أننا بحاجة إلى تقديم مزيد من الأمثلة لكشف حالات الغموض الشعري عند قاسم فما قدمناه من نماذج متعددة في صلب هذه الدراسة يغني عن ذلك.
|