عن الشاعر وتجـربته

قاسم حداد يبعث الرجل في قيس لتكون ليلاه امرأة

طلال سلمان - لبنان

أعاد قاسم حداد قيس ين الملوح العامري إلى رجولته ا لمهدورة. ركب الأخيلة، وولج الأحـلام المرصودة، وتوغل في الرؤى المنداة بدمع الهجر والحرمان بالأمر، حتى بلغ مضرب الهوى المسفوح فالتقاه.
قيس بن اللوح يسكن في شـعره، فـإذا ما توقفت التلاوة، وتصاعدت التنهدات، تسرب، كما الهواء المضمخ بطيب ليلى ليمـلأ الفضاء بصورته الهيولية والتي ملامحها أجنحة الفراشات.
لا عنوان لقيس خـارج ليلى ولا موطن لليلى خـارج القصيدة.

وفي القصيدة التقاهما قاسم حداد فأعاد غزلهما ومد لهما الفراش وأخذ عن قيس عبء الشعر وتركه يتلاشى معها في الآهات المنغمة لعذاب الشهوة الحلال.
( سأقول عن قيس عن حزنه القرمزي
عن الليل يقفو خطاه الوئيدة
عن الماء لما يقول القصيدة
" ويا قيس، يا قيس، جننتني أو جننت
كلأنا دم ساهر في بقايا القصيدة ).

دخل قاسم حداد إلى التهويمات فأمسك بها بشغاف قلبه وأضاف إليها آلامه وجراحاته و تمثلاته، فإذا قيس- مثله- إنسان من لحم ودم، وإذا ليلى امرأة، وإذا الاثنان يستكملان فعل الحياة، وإذا قاسم قد أخذ الشعر ودفعه إلى ضياء العزاوي ليصوغه باللون والظل والتوهم، لوحة للحقيقة جميلة بعريها كما التصاق الجسدين.
أعاد قاسم حداد إلى قيس ذكورته التي طمسـتها أسطورته التي أحـالتها إلى طيف، فإذا ليلى أنثى تخترق القصيدة وتمرق منها إلى جسد الشاعر المضنى فتأخذه بها وتكتشف فيه منابع جديدة للحس تنهل منها حتى تروي عطشها وتطفئ بعض مكامن النار التي لا يهدأ لها أوار:
( يكاد يخف إليها من مكانه انجذابا وهي تذهب عنه ذهاب القميص مسلولا عن الجسد، فأدركت قيسا ريح باردة مـست صدره المكشوف بعد انسلال القميص. جـالس في غرفـة الطريق يسقي النسوة شعرا ويبكي عطشا وهن يتضاحكن مما يثيره الحب في كيانهن الذي من ماء لا تطفئه النيران يتضاحكن وهو يبكي وشمسه الصغيرة تذهب.)
"... له الله، تلك حبيبته في السبايا، يسير ويحمل جثمانه، شاخصا في غبار القوافل، تحدو وتتركه في البقايا.
رأيناك يا قيس، يا قيس، يا تاجنا في الضحايا )
"تتمرغ في ثناياه ويندس في أردانها، تتدافع به ويترنح معها، تتهدج ويتهجد ويختبل ويصيبهما مثل الهذيان، والسهرة سرادق بلا سقف حتى يمسهما صوت الفجر فيخرجان من بعضهما كما يخرج الحالم من الحلم ".
لأول مرة يتبدى قيس رجلا، والرجل أجمل من الطيف. والحب أجمل من الشعر. لا ينطق الحب إلا شعرا، أما الشعر فلا ينجب الحب بل يغنيه:

( آتيك، آتيك، لا أنت في الشك ولا أنا في الغفلة. أمضني السفر وثلجه، الصمت وجحيمه . فعليك أن تشقي لي القـميص على آخره، كي أدخل آنى أتيت وأخـرج آنى ذهبت. عليك أن تجعلي باب الخباء متروكا بعدي لكي تدخل البادية كلها والحضر كله،).

ليلى ظلت داخل الشعر وخارجه امرأة. لكن تجسد قيس رجلا أطلق سراح الأنثى في ليلى.
(.. واستزدتها فزادت: في تلك الساعة تفلت الأزمة والأعنة ولا تكون القيـادة محصورة في واحد ولا يقدر عليها اثنان ولا يعود للحدود معنى فالغيم نازل يمسح العلامات والملامح ولا يسعف البصر ولا البصيرة وتبدأ حواس لا حصر لها في الشعر. أي النصفين يكون حلالا مباحا للحبيب في جسد الحبيب. ففي تلك الساعة لا نعرف أينا يشعل جسد الآخر وأينا يطفئه، أينا الجمر وأينا الهواء.

(تمتع بليلى، إنما أنت هامة
من الهام يدنو كل يوم حمامها
تمتع إلى أن يرجع الركب انهم
متى رجعوا يحرم عليك كلامها. )
( وكنت وعدتني يا قلب أني
إذا ما تبت عن ليلى تتوب
وها أنا تائب عن حب ليلى
فما لك كلما ذكرت تذوب "؟

لأول مرة قيس وليلى رجل وامرأة وثالثهمـا الحب، يغلب الصد واضطـهاد القـبيلة، يقـهر المطاردين الكثر، يتخطى حـواجز عار التشبيب والعيب وخوف العواذل.
لأول مرة يعيش قيس وليلى مشاعرهما، يخرجان من الشعر ليدخلا الحياة ويتمتعا بشميم عرار نجد، مدركان أن ليس بعد العشية من عرار.
ليهنأ قاسم حداد بشميم هذين اللذين حولهما من تماثيل لأسطورة مستحيلة إلى إنسانين عظيمين على الأرض كما في الشعر في الأعالي.@

جريدة "السفير" 11 أيلول 1998

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى