عن الشاعر وتجـربته

شعر يفضح الجميع موت الكورس

وائل عبد الفتاح - مصر

في خليج المغامرة، يحاول الشاعر البحريني قاسم حداد اصطياد لؤلؤة القصيدة من محار القهر والتعسف، ببساطة شراع سفينة يلونها التاريخ ؛ ويقترن بها خط متعدد الرؤى، إلى الفضاء المتسع للشكل واللغة في مواجهة رياح المؤسسات التقليدية، ليصنع الشعر دهشته ويعلن نفسه ضد النص القديم، طمأنينة القارئ، سيطرة المقدس، وأوهام الشاعر / الملهم.
ومن هنا نبدأ !!
تخترق قصائد قاسم حداد ذاكرة مجتمعة، باتجاه تحدي السلطات الموروثة، في عملية هدم _ بناء تشترك فيها فعاليات حركة ثقافية ناهضة، في البحرين (تضم أسماء مثل القاص أمين صالح، الشاعر علي الشرقاوي، القاص عبد القادر عقيل، وتصدر مجلة "كلمات"..) لا تهادن مألوف القيم السائدة، من،أجل رسم جديد لخرائط الواقع، المهمة تقتصر على الرسم، وفضح الزيف على جانبي النهر، هكذا يرى قاسم حداد دور الكتابة في حركة التغيير حيث الحقائق واضحة في ظل شمس غابت معها أكاذيب السياسيين، وأوهام المثاليين.
ولكن، هل تستمد الحركة الثقافية في البحرين زخمها من سند اجتماعي، ولماذا يقتصر إنجازها الإبداعي على الشكل، دون إضافة تذكر في المساحات الأخرى ؟
يعلق قاسم حداد في "موت الكورس" : "الحركة الثقافية في البحرين والأدب بشكل خاص، صدر منذ بداياته المعاصرة ضمن حركة اجتماعية ناهضة، في منتصف الستينات، وهي المرحلة التي كانت حركة المجتمع العربي مشغوفة بتطلعات وآمال عضّدها نضال متقدم. هذه الأرضية، ما تزال تمنح العمل الإبداعي في البحرين بعداً رؤيوياً إنسانياً، يجعله أكثر اتصالاً بالأفق الشاسع للأدب في العالم. لكن هذا البعد، لم يكن شعاراً يحول دون التشبث بالطموح الفني. والمبدع منا لم يخضع للأوهام المتصلة بجماهيرية الأدب والواقعية الوضوح وما إلى ذلك من الطروحات، التي مارست إرهاباً وكبحاً للكثير من المواهب والفعاليات الأدبية والفنية، في الخريطة الأدبية العربية، بالنسبة لنا، ستجد أن الذي تمكن من أدواته وموهبته وعبر عن نفسه بثقة ورؤية فنية واضحة، هو من الذين احتفوا بشكل تعبيرهم أكثر من ارتهانهم بوظائفية الأدب وأوهام الوعظية والترويج للأفكار والشعارات. وعندما نلقي نظرة فاحصة الآن، سنرى حجم الدمار الذي حل بالعديد من التجارب والمواهب في الأدب العربي، من جراء التكريس الغبي لكل ماهو مضاد للحريات الإبداعية، التي لا بد أن يحافظ عليها الكاتب.
"ويهدينا الحلم، نحن المخبولون بالكتابة، في غموض الملابسات اللا نهائية التي تسمى : الحياة. قادر أن يمنحنا لذة الاكتشاف ورجفة العناصر عند الاتصال. عوالم تنأى بعيداً عن القداسات والخرائب. تلك هي ابتكارات الحلم الذي به ننجو من التلوث والتفسخ "و" الكاتب ليس عبداً للأشكال، بل مبدعاً وخائناً لها في آن. كل شكل يصير قفصاً في اللحظة التي يثبت فيها ويستقر جئنا لنلهو بالأشكال. نبتكر شكلاً لنحطمه في اليوم التالي : هكذا نبارك حرية الكاتب الداخلية ونمجد سطوته على مخلوقاته. نسعى إلى شكل يكون بديلاً، أو عدواً لما سبق ابتكاره وترسيخه. نسعى إلى التحرر من القوانين والمفاهيم التي تؤطر وتحدد كل كتابة. نسعى إلى إثارة غيظ الأكاديميين وسخطهم.. وإذا كان الإبداع في الأدب العربي المعاصر يستحق الاهتمام وكان صادقاً مع نفسه وعبر عن جوهر حياتنا، فلأنه منحنا دهشة اكتشاف أشكال تعبير جديدة غريبة وجريئة، بعيداً عن كافة السلطات المادية والمعنوية.
" أنا مستقبل الماضي
أغادر في الطبيعة، في دم الأشجار
أعضائي مسافرة لترميم العناصر في غبار النار
سوف يقال :
"تكوين تقمصه الرماد
وفارس أغفى كئيباً.. وانتهى.. "
جثث مرممة تواري عارها، ودمي يهاجر كالوشيعة."
(قصيدة : تراث الليل)
يكتب أحد النقاد عن ديوان (النهروان) "كتابة قاسم حداد شديدة الالتصاق بذاكرة اللغة العربية، وبالتالي بشطر من محمولها التراثي ". ويكتب ناقد آخر.. "ونحن نقترب من الفضاء الشعري عن قاسم حداد، نجد أنفسنا أمام فضاء عشقي مع اللغة واحتفاء كرنفالي بالكلمات، احتفاء يغري بجاذبية خاضعة لقانون شبقي، يفصل هذيانه، ويكشف عن نشوة القاموس الذي يتأسس عليه النص.." ولن نرى غرابة في الرأيين إذا تتبعنا نتاج قاسم حداد الشعري (وكان آخره "عزلة الملكات" ونص مشترك مع أمين صالح بعنوان "الجواشن")، لنلحظ عشق اللغة، والاحتفاء بالكلمات، في إطار تلخصه الإجابة السابقة ".. احتفوا بشكل تعبيرهم أكثر من ارتهانهم بوظائفية الأدب.." هل هذا توصيف صحيح لتعاملك مع اللغة..؟
"ساعدين، لكي يبدأ الترميم
افتحي خطيئة اللغة
ساعديني.."
(قصيدة : هي)
والإشارة إلى اللغة، والاحتفاء بالكلمات، ضرورية لتوضيح أن (اللغة/ الكلمات) هي واحد من عناصر التعبير المتاحة أمام الكتابة الأدبية. فبالكلمات فقط، نستطيع أن نخلق الأدب، وليس بالأفكار، وفي اللغة العربية لم تزل الطاقة الكامنة تنتظر المبدع التي يكشف عن جمالات التعبير التي لا نهاية لها، وعندما تصادف اهتماماً كبيراً من الكاتب باللغة والكلمات فإنما هو يفعل الشيء الطبيعي، لأن الكلمات هي مادته وأدوات عمله، مثلما يعتني الرسام بألوانه وخطوطه والمفكر بأفكاره.
ولكنه قال ذات مرة : "إنني أمارس حريتي القصوى في الهيام بالشعر، دون أن أتدخل قسرياً في التحديد، مسبقاً، ما إذا كنت سأكتب هذا النص وزناً أو نثراً. صارت اللغة في الشعر أكثر حضوراً من السابق، ومنها ينهض النص متجاوزاً الوزن والنثر" ويضيف.. "النص الجيد، وهو يتلخص من أعباء التفعيلة، لا يستطيع الذهاب إلى الشعر بدون الموسيقى. هذه الموسيقى التي تكتظ بها اللغة العربية بما لا يقاس فالنص الذي لا ينهض بإيقاعه، ولا يقدر أن يقنعني بذلك، أنجد صعوبة كبيرة في التعامل معه، إيقاعية اللغة العربية تقدر أن تمنح النص الحديد روحاً شعرية تزخر بالموسيقى، أريد عندما أقرأ النص أن أشعر بأنه مكتوب باللغة العربية، وليس كما لو أنه نص مترجم. ففي العربية حيوية وطراوة، إذا أغفل عنها الشاعر فقد واحداً من أجمل عناصر الطبيعة الإبداعية للشعر العربي بشكل خاص..".
نيران الأسئلة
في "موت الكورس" وهو نص مشترك كتبه قاسم حداد مع أمين صالح، نجدهما يقولان : "لسنا جنوداً، ينبغي توضيح ذلك "!! نرنو إلى الرابض في الخندق، نشاطره الحلم والرغبة، وأحياناً نتبادل الاكتشافات. الكتابة بالنسبة لنا متعة ذاتية، نأتي لنكتشف ما يذهلنا، ليست لدينا مواعظ، نكتب لنتعلم لا لنعلّم. اكتساب مهارات.. الكتابة _ إذن _ تدمير لعناصر الواقع بعناصر الحلم. شحذ للأنصال لمحو المسلمات، حينذاك، يهيئ العالم نفسه للتشكل وفق الصيغة الجديدة.."
كيف ؟ يجيب قاسم حداد : لست ممن يعولون كثيراً على الدور المباشر الذي يمكن أن يحققه الأدب في الواقع. تغيير الواقع ليس من مهمات الأدب. لا أحمل هذا الوهم ولا أكتب على أساسه. أكتب القصيدة لنفسي، لأحصن نفسي ضد الواقع. أكثر الناس عجزاً في تغيير الواقع هم الكتاب (على عكس كل مزاعمهم التي لا تزال تروج عنهم). وما دمت عاجزاً عن تغيير الواقع فإنني بالكتابة أستطيع أن أمنع الواقع عن تغييري. وحين تصل هذه القصيدة إلى الروح الآخر وتتحول إلى شعاع صغير، فإن هذا يكفي لطرح أسئلة الشك في هذا الواقع.
"هو النهر
هذا دم أسس الماء فيه بلاداً
وأسرى
له الخلق
فافتح له القلب
هذا الغموض ازدهار فوضى له الخلق
فوضى"
(النهروان)
إذا تحقق هذا، على ندرته (يتابع حداد) فإن هذا يكفي لنصدق بأن ثمة قلق ما يرشّح الآخر لمجابهات منوعة مع الواقع، والقصيدة من حيث في حوار الروج العميق، من حيث هي حوار الروح العميق، فإن هشيم الواقع المحيط لن يصمد أمام نيران الأسئلة.
وإذا تيسر للقصيدة أن تجعل من التراث الإنساني _ عربياً كان أو غيره _ مادة تسهم في تفجير المكتشفات في طريقه، فإن هذا جمال رؤيوي يضاف إلى منجزات الشعر.
هكذا بطلقة واحدة، يدفعنا قاسم حداد إلى عمق مفهوم للحداثة، يطرحه الناقد الدكتور جابر عصفور، عندما يري أنه "لا سبيل أمام الوعي المحدث، عندئذ، إلا إعادة طرح الأسئلة الجذرية كلها، مرات ومرات، ليتعرف الإيقاع المستحيل للتقاويم التي يعيشها والأقاليم التي يتجول بينها، أقصد الطرح الذي لا يغدو فيه السؤال مجرد استفهام، بل طراز وجود وتعرف هوية.." ويؤكد من ناحية أخرى.. "إن هذا الوعي لا يتعرف نفسه، ولا يدرك التحول الواقع في زمنه الحاضر المستحيل، ولا يحاول أن يحمي نفسه من الجنون أو الانتحار ولا يسهم في تأسيس زمنه الآتي، إلا بالأسئلة التي تجرحه لتبرئه، والأسئلة التي تدمره لتوجه، والأسئلة التي تدق باب المحال الصامت لتنطقه ".
"كنا أمل الرمل والغصون
تميمة الوهم والنبي، نفتح الوقت بالحجارة
كنا وتر القوس والسماء
نسمي أخطاءنا ونهيم
نعيد لأجسادنا شغف الموت
لأحفادنا منتهانا
لم تزل لأشجارنا طبيعة الوحش
لم تزل شريعة الرعب فينا
نشغر الوقت بالكتابة
ونكبو
طينة تبرأ
لم تزل هذه الفرائس تهرب
والذي يطلق الطرائد فينا، لم يزل سيداً
عبده سيد في دمانا"
(قصيدة : دم سيد)
وهنا سيكون التساؤل مطروحاً، هل سيكون للقصيدة المفعمة بـ "نيران الأسئلة"، دور في تدمير البنيات الثقافية الجامدة، والشاعر _ في مرحلة حاسمة كهذه _ كيف سيكون فاعلاً مؤثراً، هل سيمتطي جواد الباحث وينقب عن مناطق التغيير،،أم سيسكن شرفات تأمل ذاته..؟
يقول قاسم حداد : "في مرحلة كهذه حاسمة ليس من العدل مطالبة الشاعر بكل ما فشل فيه الآخرون، ساسة، مفكرون، اقتصاديون، أحزاب، أنظمة، وجماهير أيضاً. دعوا الشاعر في حرياته يفضح الجميع. ربما لأنه نفس الشاعر الذي حرمه الجميع من حقه في الإسهام في النقد والحوار والنقض. مثله مثل الذين صاروا ضحايا هذه "المرحلة الحاسمة ".
حقاً هناك من يحتاج ويريد من يرفّه عنه في هذه المرحلة الحاسمة، لكن الشاعر.. الشاعر خاصة.. لن يفعل هذا.
فضاء الهذيان
يقترب هذا الطرح كثيراً من طرح مماثل على الجانب الآخر من الوطن العربي، فإذا كان حداد من على شاطئ الخليج العربي، يعلن نفسه، "ضد النص القديم " فإن محمد بنيس من على شاطئ المحيط الأطلسي يتحزم _ في قصيدته، حياته _ برؤيته.. " ما أكبر غباوتنا عندما استسلمنا لأقاويل الوهم، وخضنا، رغماً عنا، لسلطة السياسي الذي لا يرى في الإبداع إلا تابعاً لحقيقته ! كان هذا القالب امتداداً للنظرة الستالينية التي انتقلت مع ما سمي بالواقعية الاشتراكية إلى "العالم" العربي، فيما هي استمرار لتاريخ هيمنة الديني على الشعري" ( من بيان الكتابة).
هناك إذن، طريق آخر لإبداع هوية متجددة، كاشفة، متفجرة بالحقيقي وفاضحة للجامد، المحاصر للحريات، ضد طغيان المستبد، والرؤية الواحدة، واليقين الحامل للذين يدعون امتلاك الحقيقة المطلقة، هذا الطريق كان نقطة التقاء فتحت بعد حزيران / يونيه 1967، ومن بعدها حزيران / يونيه 1982، طاقات كشفت خديعة الحاكم / الفرد، وتداعياتها في الشاعر / النبي، وأن للشاعر أن يحاول المعرفة، لا أن يمتلكها وهذا أحدث في القصيدة الحديثة مساحة صمت ونزوعاً طاغياً نحو التأمل. قاسم حداد أحد شعراء هذه القصيدة، يفسر : " التأمل ليس خاصية سلبية في مجال الشعر، على العكس فيما ينقص شاعرتا العربي موهبة التأمل ؛ فالجميع تقريباً يتكلمون ويصرخون عن أشياء وقضايا ومعاناة لم تحصل على قدر كاف من التأمل. نحن بحاجة للتأمل والمزيد من التأمل. ويتضاعف دور الشاعر في هذا المجال _ خاصة _ بسبب غياب الفلاسفة عندنا. لدينا منظرون سياسيون يفكرون بحماس السياسة، في حين أن اشكالياتنا تتطلب التأمل.. والصمت الذي تشير إليه في القصيدة إنما هو ضرب من التأمل..
ومنذ زمن طويل لم تعد مسألة المباشرة والغموض، هاجساً يشغلني على الإطلاق وأتمنى على الآخرين أن يعتنوا بكتابتهم بمعزل عن هذه الأوهام المكرسة.
"قلت : في حل أنا من شهوة التوضيح
نسر "جامح" صوتي
لي الشهق الشموخ
وللضفادع شهوة الموت البطيء
على السفوح"
(قصيدة : أسرار الساحر)
عندئذ.. "تطأ يابسة مشحونة بأصداف الغرابة. الكتابة هذيان الحلم وتجليه، في آن نواجه المعقول بالغرابة، بهذه الطريقة نفضح لا معقولة الشاعر التي كانت تستر نفسها بالمنطق والوعظ والخطب.. (موت الكورس).
إن الفضح - إذن _ "الفضح المستمر، مواجهة (وربما رد فعل) فوضى وعبثية الواقع، بهذيان القصيدة، هكذا يرى قاسم حداد : "ظل الشاعر القديم يهذي حتى قال شعراً".
ليس مجازاً هذا القول، فالهذيان الإبداعي هو أحد أجمل الآفاق. الذي يذهب إليها المبدع من حيث هو يبحث عن جواهر أشياء الحياة. لا حدود لحريات الكاتب عندما يتعلق الأمر بالتعبير عن ذاته. إنه لا ينبغي التوقف عند حدود كل أشكال التعبير وأدواته متاحة أمامنا ولسنا ردود فعل عمياء. المبدع هو الطفل الذي يستغيث في خراب الكون وهو خراب _ للأسف _ لا يتوقف.
"لمن نكتب ؟ سؤال داعر، خبيث، جبان، يدعو ضمناً، إلى القبول والامتثال، إلى المهادنة والتملق، إلى كبح كل خروج عن المألوف. سؤال لا يعنينا، بأي شكل من الأشكال ولا نحترم من يطرحه.
نعلن موت الكورس، وبأننا : ضد الإرهاب الذي يمارسه القارئ (والكاتب والناقد والناشر وبقية المؤسسات). حين يفر تصوراً أو مفهوماً، محددا وثابتاً، ويطلب من كل كتابة أن تخضع له.
ضد راحة وطمأنينة القارئ على حساب مصادرة حرية الكاتب.
ضد القارئ المستهلك.. مع القارئ الفاعل.
ضد القارئ الذي يبحث عن الحلول والتغيير والثورة في كتاب، لينام رائق الذهن على سرير مريح.
ضد ماهو مقولب ومعلب ومهين للذكاء البشري.
ضد كل كتابة تهادن وتتملق القارئ (وبالتالي تزيف واقعه وتحرف وعيه)"
إن الكتابة، عند هذا الحد، دخول في المغامرة الدائمة وركوب للصعب من الجياد ؛ والمحاولة الدؤوبة لكينونة القلق والحيرة، تتكون من بعدها فضاءات الرحابة للوجود، ولكنها (وستفتح هنا مئة علامة تعجب) قد تغويها المغامرة، وتسير في الخط الممتد البعيد عن جاذبية الحياة _ الواقع، حيث لا يستطيع الجواد العودة، ويظل السؤال (نكون أو لا نكون ؟) بلا إجابة، ونكون قد مزقنا الفضاء لصالح لا شيء ".
يضع الناقد كمال أبو ديب، شعر قاسم حداد، في إطار ظاهرة "لغة الغياب" إحدى مميزات قصيدة الحداثة، وهي.. "لغة شعرية و أو رؤية شعرية، أو نج من أنهاج التناول الشعري يميل، بدلاً من إبراز "الشيء" أو "الموضوع" المعاين، والسعي إلى منحه درجة عالية من النصاعة والوضوح، إلى الحركة بعيداً عن "الشيء"، وتجنب إبراز تفصيلاته الجزئية وإلى توجيه ضوء خفيف ظلي باتجاهه، لكن بقدر كبير من الانحراف عنه ".
"جنة الرؤيا يداك
وكاحلاك على رماد بارد، قاومت أو لاءمت
كانوا يسألون الفقه والقانون والمتن الذي
كتبوا على هوامشه وسدوه بجلد كاسر
وجميع ما يبقى لك الآن
الكتابة والغياب"
هذا "الميل إلى الحركة بعيداً عن "الشيء"، يفتح أمام قاسم حداد مسافة للتأمل، الذي يتيح بدوره فرصة لمناقشة الوقائع بمنظور خاص، يسمح به، ويدخله إلى بناء القصيدة كطاقة جديدة، تلقي على شعر حداد بظلال، أبرزها - كما يرصدها النقاد - الذهنية التي قد تفقد النص - أحياناً - حيويته.
ولا ينكر قاسم حداد :
لست بريئاً من "تهم" كالذهنية، دون أن أكون متفقاً على أن الذهنية شرط لغياب الحيوية، على كل حال، فإنني لا أفهم كثيرا بالنقد، إلا بالقدر الذي يدفعني إلى إفساد قصيدتي بشرحها أو تبريرها.
هل هذا سعي حثيث بالشعر، من أجل تقديم رؤية.. ؟
يمضي حداد في الإجابة، التي كاد أن يطلقها : عندما أفتح المخيلة على أفق النص فإن الرؤية تمنح العالم من حولي طبيعة مغايرة، أراه متحولاً، قريباً من الحلم الممتد في أمكنة وأزمنة متداخلة. من هذه الشرفة إلى أي حد نستطيع أن نسمي هذا الفعل "رؤية" بالشكل الذي يقترحه السؤال ؟ لست أدرك هذا تماماً، ربما لأنني لا أزعم باقتراحي رؤية متكاملة للعالم. أكثر من هذا فإنني لا أكاد أثق في رؤية مستقرة للعالم، فموقفي من العالم شيء لا يحدد رؤية واحدة ومستقرة للعالم نفسه. فالأخيرة أكثر عرضة للتغير والتحول، في حين يظل الموقف جذرياً ومتصلاً بعناصر أكثر عمقاً في حياة الإنسان. فقراءة الواقع مثلاً شيء لا يختلف عن قراءة التاريخ إلا في الدرجة.
"هذا هو الشاحب الصوت
يشحذ تاريخه
شاخصاً في خراب يؤرخ
يرخي رواياته
يستعيد الوميض الذي لم يمت
الوميض الذي لا يموت..
(النهروان)
وقاسم حداد، الشغوف بالتاريخ، الساعي عبر دروبه لرثاء الحاضر العربي، إذ يسعى لكي يمنح لغته بعداً رؤيوياً عميقاً فإن "المحمول التراثي لهذه اللغة (كما يقول الناقد الياس حنا الياس) يظهر على شكل رموز مساقة في هودج آني، يسمح لها بالانفلات من إطارها التاريخي لتحاول الحلو في حاضر، يستقبل هذه الرموز برحابه.."
وهكذا تكون "الكتابة مرصودة بإشارات لها تاريخ، ولا تبلغ القراءة شأوها إلا إذا تمت "تعبئة" هذه الإشارات بـ " محتواها التاريخي الثقافي.." إذن فتجربة قاسم حداد الشعرية، يتمتع التاريخ - داخلها - بحضور قوي، يؤهله لأن يكون فضاء شعرياً، تهدم فيه خرائب الواقع، وتقام - من خلال قراءة جديدة - المدن الواسعة للحلم، هنا يقول حداد : "إن الحس التاريخي هو العنصر أو الشرط الحضاري الجوهري بالنسبة لعمل المبدع. وبدون هذا الشرط سيكون المبدع معرضاً دائماً للفشل في سبر الحياة، وسيقصر عن إدراك حركة الجوهر في هذه الحياة، وبالتالي فإن الحدود بين الواقع والتاريخ تظل عنده متماهية بمعطيات سلبية، فعندما يرى إلى ظاهرة السلطة والعسف مثلاً من المحتمل أن يقع تحت الوهم ذاته الذي يغرر بالسمكة حيث : كلما اتسعت الشباك ظن السمك أنه في الحرية !!!

الشاهد / العدد 69 / أيار /مايو 1991

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى