إبراهيم نصراللــه
يمكن للمرء أن يبدأ من هذا المنجز الشعري الكبير الذي أبدعه الشاعر قاسم حداد، وها هو ماثل في مجلدين صدرا حديثا، لكن النظر إلى صورة قاسم من خلال شعره وحسب، تغييب لأشياء كثيرة، رغم أن هذا الشعر يجمع جغرافيا روح الشاعر وتاريخها ووجهة ريحها.
أول ما وصلنا من قاسم، وقبل شعره ربما، ذلك الشاعر المتمرد خلف القضبان، ولذا فإن له ريادة تصحيح الصورة القارة حول منطقة الخليج والجزيرة برمتها، وكان (البشارة) الأولى، مع عدد قليل سواه، لصورة الإنسان المختلف الذي يخط أرضا خضراء على الرمل بشجاعة نادرة، أرضا/ واحة رغم كل الرمال المتحركة التي تتسيد جغرافيا المكان وبساتين نخيله.
ولعل هذه الأمر وحده، كان يمكن أن يجعل من قاسم حداد رائيا وشاعرا، حتى لو لم يكتب قصيدة واحدة.
ومن هنا، وهناك، كنا نتلقط أخباره، كما تتلقط الأمهات أخبار أبنائهن الجنود في أزمنة الحرب، وقلوبهن على عتبات البيوت. وحين كانت تصلنا قصيدة منه فقط، أو ديوانا منشورا، كان بإمكان الهواء أن يجد مكانه الذي ضيعه ثانية في رئتينا.
أحببنا قاسم قبل أن نراه، أحببنا ذلك اليقين الصلب كغصن أخضر الذي يفيض عن حدود قصائده قاصدا مستقبلا مختلفا عكس بوصلة الليل.
(نأتي لكم كلامنا محمّل بالشوق والفزع
محمّل برعشة العصفور
بانتفاضة القلوب
نأتي لكم جراحنا تلوب
ورأسنا يشكو من الوجع..
يا أيها الباكون من أفراحكم
هل تفتحون الباب
هال تمسحون دمعة جارحة الأوتار
هل توقدون النار
وتكتبون الشمس والإنسان والجواب؟)
ولم يكن قاسم الذي يرسل هذه الرسالة يكتب كلمات، بل كان يكتب شمسا وإنسانا، ويحولهما جوابا لما كان وكنا فيه من أحوال.
لكن قاسم الذي كان ينادي بأعلى صوته المجروح، كان توأم ذلك الألق الحقيقي الذي تبزغ منه ملامح الشعراء الكبار، البشر الكبار، لأنه لم يكف لحظة عن إشعال ناره بنفسه حتى وإن كان في القصيدة يطلبها من الآخرين.
وهل يمكن أن يعيش الشاعر الشاعر على نار الآخرين.
هل يمكن للشاعر أن يظل شاعرا إن تنازل عن كونه جمرة تتجمع في كينونتها حكمة النار ولمسة يد الدفء؟
حين التقينا بعد سنين طويلة، طويلة أكثر مما يجب، كان قاسم ذلك الشخص الفارع الذي صاغ قامته كما تشتهي النخلة أن تكون، كان عاليا، وهل ثمة قامة يمكن أن تكون لمن ينحني أو انحنى مرة واحدة.
وحدهم الكبار يولدون من رحم جمالهم ومن يقين نقطة الضوء الملوّحة هناك في امتدادات وجهتهم، ومن قصائد تكتبهم كما يكتبونها، وحدهم الذين ينسوننا البحث عن الفرق الغامض بين حرف الألف، أول الكلام، وقامة البشر، التي حسمت الخلاف بين طموح الإنسان وبقية المخلوقات.
وعلى تلك الأرض حيث ولد قاسم، كان لا بد له من أن يأخذ بوصية واحدة: وصية النخلة، وهل ثمة ما يشبهنا مثلها.
***
كثيرون كتبوا الشعر، وأكثر منهم أولئك الذين سيكتبونه، رغم صلادة العصر الجليدي الكبير الذي يهدد هذه الأرض، لكنهم قلة أولئك الذين يمكن أن نقول أنهم يملكون جمال قصائدهم.
وفي واقع ثقافي مبتلى بالمعارك الصغيرة وشهوة القطط لالتهام أبنائها، والأبناء لالتهام آبائهم وأخوتهم، يتجسد قاسم حداد مثالا أخلاقيا رفيعا، منزها عن كل ما هو زائل، كما لو انه لم يخلق من تراب، ومحب لسواه من الشعراء والكتاب كما لو انهم قصائده التي تمنى أن يكتبها، ففاجأته مجسدة أمامه.
ورغم أن قاسم من أكثر الناس إندفاعا نحو الحياة، إلا أن في اندفاعه هذا مسحة صوفية، وزهدا، كما لو ان الوحدة التي تكونت هناك في العتمة، ظلت تفيض عن حدود روحه إلى أن حملته كموجة نحو بحر الناس.
ولعل قاسم من القلة القلية أيضا التي ظلت تؤمن أن كل الأغاني التي يمكن أن يغنيها الإنسان وحده هي أغاني حزينة بالضرورة. ولذا ظل مؤمنا بالبحث عن شروط تؤكد وجود الآخرين، لا عن مبررات نفيهم. ومن هنا تتجاور قصيدته مع قصائد غيره ، كما يتجاور نفسه بحب مع من سواه من الكتاب العرب.
يعيش قاسم لحظة كتابته الخاصة الحميمة كما يعيش لحظة وجوده الفاعل كواحد من تيار نادر في ثقافتنا العربية، وهو في الحالتين ينبع ويصب في وجهة تعمل بدأب على (ترجمة هذا الليل) شمسا تليق بما ادخره البشر على هذه الأرض من أحلام.
نشر في الإتحاد 26/11/2000
|