عبدالله محمد - البحرين
من الرؤى الفلسفية التي نحن بحاجة إلى وقفة موسعة أمامها هي قضية العقل وسؤاله الملح حول العالم يقول الشاعر :
"أريك جنون العقل.. ولا تسأل كيف الرؤيا غامضة لا تسأل كيف دخلت.. ستعرف كيف"
هنا تحس بانسياب الفكر الوضعي داخل هذه الأبيات، فالوضعيون يقولون أنهم لا يرفضون العالم الواقعي لا علمياً ولا نظرياً، بل إن الدلائل كلها تدل في كتاباتهم على قبولهم للعلوم الوضعية وضرورة الاعتماد على التجربة وفي قبول النتائج العلمية ورفض المثالية الفيزيائية ويؤكدون أن العالم أزلي ولا معنى للسؤال (من بداية له أو موجد أوجده) ولقد كرر الشاعر قاسم حداد هذه الجملة أكثر من مرة، بل إن جنون العقل هذا قد دخل في صراع ليس ببسيط بين الفلاسفة، تحول بعد ذلك من مفهوم مجرد مادي كعقل إلى مفهوم غيبي، أصبح هو بالفعل المطلق الوحيد، فمن "أفلاطون الذي طرح نظرية التذكر التي تقول أن المعرفة تذكر والتي تحاول تفسير المعرفة الإنسانية بقولهم أن ذلك تم للإنسان ويتم بواسطة عون خارجي عن طريق ما يسمونه.. "بالعقل الفعال" وهو أحد العقول الفلكية أو أحد الملائكة عندهم، وهو الله نفسه عند بعضهم مثل الافروديس ومن هذه استمدت فكرة ضرورة حكم الفلاسفة وفكرة العظمة التي يتصف بها هؤلاء الفلاسفة كما عند الفارابي وسواه، وتوجد نفس النظرية لدى أر سطو والكندي وابن سينا ومعظم الصوفية الاشراقيين ولقد تقدم عنهم الاكويني الذي جعل "العقل الفعال" جزءاً من العقل البشري ".
أما "الشيء الحلو" فيبدو أن الشاعر يرمز به إلى فكرة في أعماقه لا يستطيع الفكاك منها :
"ورأيت الشيء وكان جميلا "
"الشيء الحلو الراكض في جسدي
يصطحب الآن كفي ".
ويستمر شاعر الماء (قاسم حداد) في إدخال الشيء الحلو في الدخول الثاني والثالث وهنا يتضح قريباً سر هذا الشيء الحلو حينما يردد في الدخول الأخير : " ورأيت الشيء الحلو رفاقاً أعرفهم لكن من أين سأذكر أني أعرف هذا الجمع"
ثم يؤكد بأن هؤلاء الرفاق وما يحملون من أحلام ستبقى
"إن جميل الشيء الكامن في القلب يظل جميلاً قبل القول وليس يقال "
وفي دخول الدخول يتوحد مع الرفاق :
"أعطيت الشيء الحلو يدي
فتذكرت
تذكرت تذكرت
تذكرت البدء "
تذكر بدء حياته معهم أم تذكر الأحلام أم ماذا !؟
الفضة والأسطورة
وأخيراً كان واضحاً من هذا الدخول، إن الشاعر استعمل مصطلحاً رمزياً أدبياً يدخل ضمن مدلول فلسفي أسطوري، ونقصد به كلمة "الفضة" التي استعملت في المداخل الأخرى أيضاً وكانت محور القصيدة _ الديوان من البداية إلى النهاية، إنها اللوغوس لدى الشاعر أي المبدأ الأول والحقيقة التي يبحث عنها والتي يراها أمامه ويقترب منها ليكتشف ألغازاً أخرى ومن ثم يواصل البحث.
وقبل الدخول في عمق هذه الكلمة لابد من توضيح مهم وهو أن الإسرار الخفية كالأساطير والخرافات والتفسيرات المثالية لخلق العالم التي هي بمثابة لباب للحياة الدينية لم تقتصر على القصص الشعبية عند كل طبقة من طبقات المجتمع، بل نفذت أيضاً إلى الفنون والشعر والروايات المسرحية والفلسفية أيضاً، ولكن هذا لا يعني بأن المفكر أو الشاعر حينما يستعمل تلك الأساطير والتفسيرات قد آمن بها فعلاً، بل يستعملها من أجل توصيل عمق رمزي ونظرة جمالية في أشعاره وكما يقول بشلار : "ندافع عن أطروحة غيبية وذلك بالذات لأنها لا تنشد أية غاية غيبية".
وليس ببعيد على الشعراء أن يقتبسوا من الأساطير _ كما ذكرنا _ ما يثير رغباتهم المكنونة في استفزاز عقل القارئ وتدمير المعتاد في الواقع، ولقد كان هزيود ذلك الشاعر الإغريقي القديم قد ألف أشعاراً سميت بأصل الآلهة " وتناول فيها المشاكل الحياتية والأفكار العملية بمحتوى لاهوتي، أي محاولة تفسير حقائق موضوعية خلقية واجتماعية تفسيراً أسطورياً كما يتضح في تناوله للشر والمرأة والتاريخ البشري ". وبمناسبة دخولنا في عالم الأساطير علينا أن نراجع القيامة من جديد، فمنذ الدخول الأول تحس أن الريش النائم يحملك إلى بداية العالم ويمر بك إلى أن نشأت الحضارات والقبائل ونشبت الحروب والثورات، أكان ذلك انعكاساً لأعماق الشاعر أو لتجاربه ؟ المتتبع للفكر الأسطوري سوف يتذكر أسطورة خلق العالم لأنه يعيش في لحظات قراءته للقيامة لحظات خلق العالم ضمن منظور شاعر له عمق فلسفي وتاريخي في وعيه وتجاربه، لذا فليس مستبعداً أن تتذكر طريقة تولد الآلهة الإغريقية، لأن الآلهة في تلك الأساطير هي الكون وأجزاؤه، فهزيود الشاعر الكبير يتحدث "في البدء كان العماء CHAOS ثم كانت بعدئذ الأرض (جايا) وثمة أصل ثالث وهو ايروس EROS وهو الحب وقد ولد لهذين (العماء والأرض) الأثير ETHER والنهار، وولدت الأرض والجبال والسماء، وولد من اقتران الأرض والسماء الاقيانوس أي المحيط ونشأ من تزاوج السماء والأرض الجبابرة TITANS ولم يكن أورانوس إله السماء يحبهم فقذف بهم إلى الظلمة ولكن الأرض ساءها هذا، فعرضت عليهم أن يقتلوا أباهم، وقام أحدهم واسمه كرونوس وتزوج الأخير بأخته ولقد قدم هزيود تفسيراً تشاؤمياً للتاريخ عبر المراحل الخمس الذي يرى أن الجنس البشري مر بها حتى زمانه أولها "عصر الذهب أي عصر السلام والكمال، ثم خلق الآلهة جيلاً آخر وهو (العصر الفضي)، أحط منزلة من الأول ولكن يمتاز أفراده في نموهم مائة عام ثم يأتي العصر النحاسي ثم عصر الأبطال وبعده عصر البرونز وأخيراً عصر الحديد.
فهل يا ترى كان الشاعر متأثراً بمميزات العصر الفضي الذي بقي طويلاً، ومازال في تصوره مستمراً ؟ أم أن الفضة رمز لنور شفاف بلوري تنبهر منه الأبصار ؟ أم أن الفضة هي الضوء الأول في العالم وخصوصاً أنها دخلت في ديوان يسمى "القيامة" والقيامة في كل الأديان والأساطير ترمز إلى انتهاء مرحلة للبشرية وترمز إلى الدمار النهائي ومحاسبة الناس والعالم وقيام عالم جديد، فبعد الخلق ورؤيته للعالم وتجاربه لابد وأن تأتي القيامة وخصوصاً أن الدخول الأول في القيامة كان دخولاً هادئاً في مراحله الأولى ويختبئ تحت هذا الهدوء بركان ثائر وزلزال تحس بهزاته في الدخول الثاني فترى الدماء والعنف والقيم المتناقضة مع المبادئ السامية. لذا نجد فكرة السقوط أو "التدهور المستمر للجنس البشري التي وجدت في الأساطير والدمى والفلسفة. والأديان الكبرى الثلاثة مشيرة إلى حياة أولى سعيدة (آدم في الجنة) ثم الخروج أو السقوط كعقاب على الخطيئة ثم تتدهور الأمور حتى تقوم القيامة". إن هذه الفكرة تحس بها وأنت تواصل مع الشاعر قاسم حداد بدايته إلى حين إحساسك أنت بالذات بأن القيامة آتية، قيامة بشرية تزلزل الموجود الذي رآه الشاعر.
ولكن الفضة تفسيراً آخر، فليس ببعيد أن الفضة التي قد ترمز إلى الصفاء والنقاء والحقيقة، هي ترمز أيضاً إلى الضوء أو المبدأ الذي يضيء الطريق، ولقد جاءت من الفلسفة الأوروفية التي عاشت كمجموعة واسعة الانتشار في القرن السادس ق.م.
فهل يا ترى الفضة تعني أيضاً العقل وتطوره لدى الشاعر ؟ وتحكي إحدى القصص الخرافية أنه : كان هناك غول كبير يتربص بالمسافرين المارين في غابته فيصطاد هم ويسحبهم صوب كوخه، وهناك كان لديه سرير ذو حجم ثابت، فإذا كان صيده، أطول من السرير يقطع أجزاءه الزائدة منه ليتساوى جسمه مع طول وعرض السرير وإذا كان الإنسان قصيراً ونحيلاً يبدأ في سحب أجزائه إلى أن يمتد (يتمزق) ليتساوى مع السرير أيضاً وحينذاك يبدأ في التهامه.
وأرجو أن لا أكون في موقع الغول وأن لا تكون القيامة سريري والفلسفة صيدي.
أخبار الخليج 29 يناير 1988
|