عن الشاعر وتجـربته

حداد يدخل المرايا

إعداد محمد البنكي - البحرينة

في ثقافة الأربعاء الماضي قدمنا الجزء الأول من تناولات حسين علي جمعة لديوان قاسم حداد الخامس "القيامة"، وفي السطور التالية تتم بقية المساهمة حول الديوان نفسه.
لقد تعرضت هذه "القامة" لما لا حدود له من التأويلات والتفسيرات التي - في سطوة الإخلاص الفكري الساذج - لم تر في هذه المحاولة إلا نكوصاً وارتكاساً كأثر عن ظروف موضوعية تتصل بمحيط المعاش في حياة الشاعر أكثر مما تصل باستكمال الأدوات الفنية في رؤيته. يدرس شوقي بغدادي هذه المحاولة فيتغشاها بالتساؤل :
أم هي سريالية جديدة حين يستسلم الشاعر لتداعي اللاشعور - عن وعي - كي يغوص على الحقيقة في المتاهات الباطنية اللامتناهية للنفس ؟ هل هي محطة مراجعة تأملية حرة لجميع تجارب المرارة والبحث الماضي في شكل تهويمات طليقة من جميع التقاليد ؟ ثم ينتهي من قراءته التي نتيجة تقصي التفسير الذي ينحاز إلى "ما أسماه بالدوافع النفسية الدفينة - ولا أقول الفنية - إذ لا بد من وجود الدوافع النفسية التي دفعت شاعراً متواصلاً مع الجماهير باستمرار إلى اختيار تجربة من هذا النوع وأشكال تعبيرية، لا يمكن القول أبداً أنها تحقق تواصلاً حياً مع جماهير القراءة وخاصة الجماهير التي يهم أمرها الشاعر".

ترى هل السر هو في القضية نفسها أم في حامل القضية أم في الاثنين معا ؟.." بتلك التساؤلات يبدأ، وبهذا التساؤل ينتهي شوقي بغدادي.. ولعله من الواضح تماماً أن مغزى كل التجربة في هكذا سؤال - إنما يختزل في صعيد فكري في القضية - وصاحب القضية - والجامع بينهما وحشية هي القراءات التي تفتفت بكارة الشعر على هذا النحو ولو كانت محاولة بغدادي محاكمة فكرية - لا أقول قراءة - لهان الأمر ولكنها تدعي القبض على ما هو فني في شرايين التجربة ومجاري دمائها، وتمثل هذه القراءة التي تصلح كمانفستو نموذجي عن خروج قاسم على الواقعية الملتزمة، نصب قاسم حداد خارجاً وضليلاً ومختلفاً ولكن هل حقا ؟!
إجابة من صاحب الشأن نفسه نقرأها في مقابلة معه أجرتها مجلة "أوراق" الأدبية، ونفضل هنا إثبات السؤال والإجابة معاً، على النحو التالي :
أوراق في حديثك مع مجلة "إبداعات ومواقف" المصرية، قلت "ان الشعر ظاهرة حضارية، وليس ظاهرة سياسية ". من ناحية نظرية نتفق معك في هذا الطرح، ولكن عند التطبيق نرى أن معظم مجموعاتك الشعرية تحمل الهم السياسي، فكيف تفسر هذا التناقض ؟.
قاسم : من يقدر على الزعم بأن الكاتب (الشاعر خاصة) يستطيع أن يكتب نصه بمعزل عن الهم السياسي ؟ إن مجرد التفكير في هذا الاحتمال يبدو نوعاً من الجهل أو التجاهل.
عندما أقول ظاهرة حضارية أعني أن كل عناصر الحضارة ستكون داخل تجربة القصيدة، والسياسة التي هي شبكة الحياة، لن تكون خارج تجربة الشاعر الحضارية. المسألة بسيطة ولا تدعو إلى الاعتقاد بالتناقض، نحن ينبغي أن نفهم الأمور بوضوحها، وليس بعتمة العقول الغبية، التي تحملق في الإصبع فيما تشير لها ناحية الشمس، وأعتقد أن مثل هذه القضايا أصبحت بالية، ولا يجب أن تشغل بالنا ونضيع وقتنا حولها، أنت مثلاً في سؤالك، تقول انك تتفق معي في الطرح، ولكنك ترى في قصائدي غير ذلك..

كيف يمكن أن أفهم طريقة فهمك ؟ فأما أنك تفهم معنى "حضارة على غير ما هي عليه، أو انك تريد أن تجعل "السياسة" عنصراً أكبر من الحضارة، وهنا يكمن خلل كبير نحن عندما نفهم المصطلحات (على الأقل) بمعطياتها التاريخية، سنكون أكثر موضوعية ووضوح رؤية أثناء الحوار، وسنتوجه لقضايا أكثر أهمية".
وبعد.. فهل خرج قاسم عن واقعيته ؟

أزعم أن معايشة صوتية - لا أقول قراءة - للتجربة، ترفض هذا التساؤل أساساً.
سيقال : تحول قاسم، نعم وليكن، فالشقة بعيدة فلسفياً بين التحول والتغير، التحول يطال الأغراض، والتغير يطال الجوهر.. والشاعر في هذه التجربة، إنما يدفع إلى تعزيز التزامه عميقاً، خلافاً لكل القراءات السابقة !!
هو في هذه اللحظة على عتبة الرؤية في باب الحضرة.. يشخص إلى التجلي المستمر أي في صور الموجودات.. يقرأ شفرة المعنى، إنه الآن يستمع إلى عهد ولايته - كما يعبر النفري - حيث العبور من العموم إلى الخصوص.. وقديماً سطر محمد بن عبد الجبار النفري الصوفي هذه التجربة من تحفته المبدعة " الموافقة والمخاطبات ".
وحديثاً سطر قاسم حداد معرفته الصوفية الجديدة في قيامته التي للمفارقة طرحت منا وسلوى على أقاليم، وحجارة من سجيل على أقاليم أخرى.. شأن المذهل الخارق حدود المتعارف، نستلم "مواقف" حداد "ومخاطباته" في مثل قوله":

دخلت مرايا الأحلام
وكت سلام الماضي للقادم
رأيت الأشياء تعلمني
فكلمت المحتمل الراكض
قلت
سأعرف
قال الريش عرفت
فجئت عبرت جحيم العالم
والفردوس
صرت أجس المستقبل
أبلس في راحات الهجس
تذكرت المرآة الأولى تصرخ بي
ادخل
فدخلت
صرت الضوء
تكلمت كلام الماء
رأيت الريش الهاطل من
جسدي ويدي يقول
فقلت

ان هذا التصيير والدخول الصوفيان هما المعبر الذي فرش دروب الإبداع أمام تجربة الشاعر وفتح أفق القيامة والبعث الجديد ليحقق منظور الميلاد الثاني الذي تحتم للضرورة الشعرية، فكما أنه "لا يدخل ملكوت السماء من لم يولد مرتين، فإن دخول ملكوت الشعر وجنة الرؤية تبدو مشروطة بتجرية هذا شكلها بالنسبة إلى حداد.
إن الذي نطمئن إليه هو أن قاسم في قيامه إنما يعمق التزامه الواقعي أكثر فأكثر.. وكما الصوفي يعيب على أهل الظاهر تمسكهم برسوم الألفاظ ووقوفهم في غايتهم عند الرسوم العقلية المحدودة.. يفضي قاسم إلى معاينة أكثر تجلية للجوهري والعارض من خلال رحلته عبر المرآة والتجلي ذلك أن المشاهدة الخيالية الاستبطانية - كما لاحظ كوربان - تحقق نوعاً من التكثيف والتركيز الذي قد يكفه الحضور المادي الحسي، إذ كان هذا الكف هو ما نتبينه في حالة الجنون المشهورة التي وضعها الصوفية للتعبير عن أن الاتحاد الخيالي الذي استحوذ على المجنون كان يفوق كل اتحاد عيني مادي، ولذا كان يشيح عن ليلى خوفاً من أن تحرمه كثافة حضورها المادي من هذا الحضور الآخر في مشاهدته الخيالية، تلك المشاهدة التي بدت ليلى فيها أكثر لطفاً ورقة وجمالا.

لا أعتقد أن المقاربة الصوفية لتحولات قاسم تأذن بافتراض تخل عن الواقعية، بله أن تأذن باقتصار كهذا الذي جعله عرضه لما لا حد له من نعوت الخروج والضلال والتراجع الفكري إزاء قضايا الهم الاجتماعي العام.
إن أخط الحالات المرضية التي يمكن أن تقتل القصيدة على الدوام، هي حالة فقدان المناعة، والقدرة على التحصن أمام جراثيم المنجز الذي يفتك بخلايا الحياة فيها.

والقصيدة التي تظهر عليها سمات الفكر المعلب برسم التصدير سلفاً هي قصيدة مرحلة المرآة - وخصوصاً أدونيس - في الأعراب عن اتجاه يرمي إلى التجديد الرؤيوي ذو السمة البنيوية في الوظيفة الشعرية.. كما أن الصوفية.. وهذا هو الأهم - قد ربطت بين المرايا، وفكرة التجلي، وفكرة القيامة بشكل يجعلنا مشدودين إلى هذا الاستحكام الإبداعي اللاواعي الذي جعل قاسم حداد يربط بين هذه الموجودات الثلاثة في صعيد واحد، يفسح المجال للتأمل عميقاً تناص هذه المرحلة من عطاء الشاعر مع مدارج السلوك الصوفي في معاينة الحقائق.

يقول الدكتور عاطف جودة نصر "والذي يمكن استخلاصه من مذهب الصوفية في التجلي، أن الله لا يشاهد إلا في الأشكال والصور العينية التي يظهر فيها سواء كانت هذه الصور من محتد الخيال أو من محتد المحسوسات، فلا يشاهد ولا يتجلى لمن يشهده عارياً عن الصور التي هي بمثابة المرائي والمجالي ".
وقد كان قاسم مشدوداً إلى المكنون خلف هذه المرائي والمجالي وإن لم يحصل على إجابة حاسمة في بداية الأمر، فهذا راجع إلى تفيض بلدنياتها بحسب عزائم "المريدين".
وترسم اقترابات تتواشح مع جحيم دانتي وغفران المعري ومخاطبات النفري وفصوص ابن عربي وفتوحاته.. كما أن كثير من مفردات القاموس الشعري الذي نضح بالتجربة، مرشحة للفضح بشخوص صوفي لا تستطيع أن تواريه - ومن يدري، فربما لا تريد !!

لقد كان قاسم حداد في معاناته الصونية ناهضاً بالديني أو الاسراري (وليس الدين) وصولاً إلى حيازة لغة لكلية الحضور الإنساني وكلية التجربة الإنسانية. رأينا كيف استعار لذلك لغة صوفية وأجواء طقسية بوصف هذه اللغو وهذه الأجواء تحققاً لشمولية التجربة الإنسانية في أبعادها جميعاً، فهي لغة الإنسان في بحثه عن وجهته وعن حركته المصيرية كما تقول خالدة سعيد.

على هذا النحو توغل قاسم حداد في أنسنة اللغة الدينية، هو اتجاه قد سبق إليه على اعتبار بداية هذا التوغل منذ العشرينات مع جبران وإعادة ظهوره مطلع الستينات في "أغاني مهيار الدمشقي" لأدونيس، وبئر يوسف الخال مشكوك أصلاً في بنوتها الشرعية لنطف الإبداع ورحم الرؤيا وإذا كنا نلح إلى إبداعية "القيامة" في فضاء الشعر، فذلك لأننا نتوسم فيها انفتاحاً حاداً على جنات الحداثة وتلك التي لا تحد بأسوار الأقاليم الثلاثة : القارئ، الناقد والأيدلوجي.
"قيامة" قاسم، بهذا المعنى، هي أفق مفتوح للهتك، وبحر مشروع للارتياد.. ونوارس هذا الأفق ولآلئ ذلك البحر لن تعطي نفسها إلا لمن يعايش.. يبحث.. يستبطن.. تماماً كما الشاعر في لحظة الكتابة "فإن تبحث أكثر جمالاً من أن تجد، ففي البحث حركة وخلق، وفي الوصول استقرار وثبات، وهذا طريق جديد إلى جاهزية أخرى".

وإذا أدى بنا هذا البحث إلى قراءة صوفية نحسب أنها الأكثر ملاءمة لهذه التجربة، فلا يمنع ذلك من أن نقف لنتحاور ونتناقش في القراءة الواحدة بعد الألف التي قد ترصد هذه التجربة على نحو مغاير ولكننا نقدم هنا ما نعتقد أنه يتواطأ في إثبات الصفة الصوفية لهذه التجربة.. فلقد وقفنا آنفاً أمام مرحلة المرآة، واجتهدنا في إضفاء بعض الدلالات عليها لغير سبب، سنضطر إلى العودة ثانية لهذه المرحلة.. فمن المعروف أن قاسم حداد أعلن عن هذا الديوان قبل صدوره تحت تسمية "المرآة في مدماك التجربة ككل.ز كما أن الشعراء المعاصرين قد استخدموا طبيعة نفسها كما هي عند الصوفية.
"ولا يتجلى العلو على نحو واحد، وإنما يتنوع التجلي بتنوع الصور، كما يتنوع بحسب استعداد المتجلي له لتفاوت الاستعدادات شدرة وضعفاً.

ويبدو المتجلي والمتجلي له في وضع المرايا المتقابلة التي ينعكس بعضها على بعض، فالمتجلي له لا يرى على حد تعبير ابن عربي إلا صورته في مرآة الإنسان في رؤية نفسها، كما أن الإنسان مرآة المتعالي في رؤيته أسماءه "(5).
هكذا تتداخل مرحلة المرايا.. ثم هي بعد ذلك لا بد تؤدي إلى القيامة والخلق الجديد - أليست القيامة تخلقاً بعد موت ؟!..
لقد كشف مذهب الصوفية في التجلي عن أفكار وتصورات أساسية، منها لا نهائية صور التجلي إذ ليس لها حد تنتهي عنده، على أن الربط، هذا الربط يبدو أشد استحكاماً حين يربط ابن عربي بين فكرة التجلي (ذات البعد المرآوي) وبين القيامة بقوله : إن التحول في الصور عند التجلي ليس خاصاً بالقيامة، وإنما يحدث هذا التبدل في الدنيا (6) واهباً بذلك المشروعية لقيامات أخرى وأخرى تحقق التجلي بهذه الدرجة أو تلك !..

هذا ما تسمح به الوهلة في تتبع الإشراق الصوفي في "القيامة" ونفيه أخيراً إلى أن المعايشة الموضوعية لأجواء التجربة تعطي إيحاء لا يقبل الشك بشهودات صوفية المهجورة، وهو اتجاه مستمر حتى الوقت الراهن، فحين يكتب أمل دنقل "العهد الآتي " إنما يكتب إنجيله الخاص، بأسفار وإصحاحات ومزامير، ليقدم تصوره للحظة التاريخية في سياقها الأجد.
أن أنسنة اللغة الدينية مظهر لأنسنة الدور النبوي أو اضطلاع الإنسان بعبء مصيره، بعبء تفسير الكون ومن ثم تغييره، عبر تغيير صورته في الوعي.

ان الحداثة الشعرية كما سبق ان قررنا هي حركة تبدأ من سقوط الأشكال وتحطم المنجز.. ومن هذه النقطة بالضبط يتوجب أن نؤرخ لحداثة قاسم حداد.
على أننا لا نعني بسقوط الأشكال مدلوله الضيق المتعلق بكلس النص التقليدي القديم ولا بجانبه العروضي الخليلي كذلك.. وإنما نعني به حركة ممتدة في مستويات النص متعدد البنية بدءا من العاطفة والتخيل، مرورا بالتركيب والإيقاع وانتهاء بالمضمون والحركة الداخلية لمكونات النص.

وقاسم حداد إذ يحقق وفرة من النجاحات في "القيامة " لا بأس بها على هذا الصعيد، فإنه يمضي في مغامرة الحداثة الأكثر خطورة في المرحلة الثالثة من تطور تجربته، انه يواجه إلحاح الخصوصية والتفرد.. وهو بعب تماما الشروط القاسية لهكذا تطلب، يقول..
"ربما قبل خروج القصيدة العربية بما يمكن أن نسميه جاهزية التقنية في القصيدة القديمة، كانت هنالك تقنية ؟؟؟؟؟؟
(يتبع)

الأيام الثقافية - العدد 2375 الأربعاء 6 سبتمبر 1995

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى