عن الشاعر وتجـربته

مقالات

قاسم حداد في نشيد اللهب
بقلم عبدالله محمد

في هذه الحلقة الثانية يواصل الكاتب عبدالله محمد آراءه النقدية في ديوان الشاعر قاسم حداد فيقول :
هنا في الطين - التراب لابد أن نطير جميعنا معه ، محملين على الريش النائم ، مخدرين بوعي لنرى الأسطورة والملحمة والفلسفة ، ففي التراب تستشف تداخل الصور في مخيلة الشاعر وهو يسبح في الفضاء على ريشه ونكتشف محاسبته للذات ما بعد الدخول إلى النار ومحاسبة الالتزام أو القناعات السابقة التي كانت رخوة في لحظاتها الأولى في وعي الشاعر والجموع .

"فهذي الأرض الرخوة لا تحملني
وقفت
الأرض الرخوة تُرخي تربتها وتسوخُ"

وكلما كان لا شعوره يكشف له أن المشي على الرخو مخيف ، يأتي صوت آخر يدفعه نحو الأمام ليس على الرخو فحسب بل على الماء الألين من رخو الطين .

"من يمشي فوق الرخو بلا خوف ستمشي من غير مخاف فوق الرخو وفوق الماء .. ستمشي "
التردد في دخول ما لا يدخل فيه ، في المخاطر وفي المجهول

"تقدم فتململت
تقدم فتلفت
أخذت بيدي
تعال تعال"

وبتردده كان يبحث عن منقذ ينقذه ، فيلتفت ليبحث عن ريشه الناعم ليحمله ، هذا الرخو يتحول إلى صخر ، إلى قناعة راسخة ، الحقيقة الحارقة ، الشمس التي تستطيع تبخير الماء من الطين وتحويله إلى صخر "تحيل الطمي السائل صلباً" ويستمر التحول / التغير من رخو إلى طين إلى صخر صلب إلى جلمود صلد وبانصهار الصخر وتجميده مرة أخرى يتحول الصلد إلى شيء أصلد .. وتتحول الذات إلى جلمود لا يتفتت مهما تدحرج على الصخور والأحجار .

"الجزء الرخو من الأرض بلاد
هجرتها الشمس
صار الرخو قويا
صار الرخو صخوراً تحت القدمين العاريتين
ومد الرخو يديه
تثاقل قال
أنقذني
هات الشمس
تكلم عني
باركني بالدم تجئ الشمس
تخيل الطمي السائل صلبا
هات
اصهر ني .. حولني جلموداً
ترتاح حوافر خيل الشمس عليه
اضبطني بالقدمين الضاريتين ..
أصير

تحولات الشاعر

إن تداخل العلوم الطبيعية بالإنسانية هو تعبي عن التحولات في الذات والوعي ، تلك التحولات التي أفرزتها تجاربه القاسية في الحياة والسجون لتتحول قناعاته إلى جلمود لا يذوب ولا يتأثر بعوامل "التعرية" الطارئة السريعة .
إن تلك التحولات تتزامن مع تصورات الإنسان البادئ من الطين ، إنه يرى نفسه يخلق أمامه ، رأى التراب _ الطين الرخو يتحول إلى صلب _ جسد ينصهر في الحياة ليتحول إلى جلمود ، مناضل ، عنيد لتحولات الواقع الموضوعي والذاتي ، إنه يرى نفسه المطلق الذي خلق الحياة من رخو الأرض .

"فمددت يدي ملأت الكون برخو الأرض
وصافحت الجزء الرخو من الكون فضج الفرحُ الخالق في أوردة الأرض
سمعت الفرح المخلوق"

هل هو السحر ؟ الخيال النرجسي .. الارتباط بالبقية الباقية من الرخو في القضية ومواصلته ، إعادة الحياة والفرح في الأرض ، وحينما حاول الذوبان مع الرخو وفعل ذلك لبرهة سمع الصوت المهدد .

"كفي .. فكففتُ .. فتحتُ الكف"

صرخة (كافية) تنقل الخيال من لحظات الفرح والنشوة وفجأة إلى لحظة الانصياع لعالم جديد "تعال .. تعال" (هنا سنهمل جماليات القصيدة وقدرته الرائعة في التلاعب بالحروف وخلقها .. كفى .. كففت .. الكف .. فهذا من اختصاص نقاد متخصصين)
تعال إلى الماء يا فضة أيامي الأولى ليكتمل النضج ، بعد أن رحل الشاعر إلى الأعماق ليخلق ذاته ليصل إلى الأرض ليثير لها قناعاته وتبرمه وضياعه وليواصل معها صراع وعيه بلا وعيه ليصل إلى القمة .

يبدو أن للشاعر حوادث وتواريخ وقصص مع الماء ، فالماء مرتبط بالشاعر ليس في هذه القصيدة فحسب بل في قصائد أخرى تحمل بعضها اسم الماء ، وعلماء فلسفته العميقة منذ طاليس ، ذلك الفيلسوف الأيوني الذي يرى بأن الأشياء كلها تصدر من أصل واحد وبالتالي رغم اختلافاتها الظاهرة هي واحدة "الاختلاف بين الأشياء حيه لأنها متحركة وأن حياة جميع الأشياء من الرطوبة ، من لماء ، وأن الحرارة نفسها تتكون من الرطوبة وتبقى حية بها ، وأن بذور جميع الأشياء ذات طبيعة رطبة ، وأن الماء هو أصل الطبيعة الرطبة في الأشياء " هكذا تكلم طاليس

"الآن أصير .. أنا أعرف
أدخل .. فدخلت
كان الماء جميلاً .. كان الماء أنا
وكأني أعرفه"

الماء في الأديان هو أساس الحياة وفي الفلسفة الهندية يؤكد الفيلسوف "براهماندا" أن الماء كان قبل كي شيء ومنه خلق الله البيضة التي انفلقت مكونة السماء والأرض من كل من نصفيها ، والنيسابوري (الثعلبي) يريان بأن "الله حينما أراد خلق السماء والأرض خلق جوهرة حجمها أضعاف طباق السموات والأرض ، ثم نظر إلى الماء فغلى وارتفع منه دخان وزبد وبخار " والحضارة البابلية والمصرية تفسران خلق العالم من الماء وبشكل أسطوري أيضاً مؤكدتان أن الماء هو المبدأ الأول غير المخلوق .

سر الماء

أما الشعراء ، فيأتي على رأس من فسر الكون وخلقه كتفسير طاليس هو شاعر الملحمة الإغريقية هومر . ولقد تحول هذا المبدأ الأول لدى بعض الشعراء والحضارات إلى رمز أدبي جميل وصعب لدى شاعرتا .. حقاً وراء الماء سر ما يحمله لنا الشاعر يكشفه لنا قطرة قطرة .

"أباهي بك أيام الليل
أريك الوهم
أسمي فيك الحلم الآتي"

هذا الماء الذي يرمز في كثير من الأحيان إلى التجدد والتطهر والثورة أو خط الثورة والتغيير ويرمز إلى الطهارة في حياة الإنسان ، يصارعه الشاعر ويندمج معه ويسمع منه "الشامخ" "الجميل" "اللاهج" ، الماء الذي كان مختبئاً في ذاكرته يحاول تذكره بصعوبة ويقترب من الحقيقة ويربط الماء بالدم الثاني وهناك من يمنعه من الاستمرار في اكتشاف الحقيقة والاستمرار في الغوص بماء الطهارة والثورة "قال كفى" ولكن ولأول مرة يرد على الصوت نقيض ردوده في الهواء والنار ولا يكفف "فصرخت الماء أنا" وهدده الصوت من جديد "كفى" فتراجع باستسلام "وبكيت" .
وترك هذا العالم _ الذكرى _ الأعماق _ ومن الريش النائم من هذه المرحلة ، بعد أن اكتمل نضجه .

"ومشيت وسر الماء معي
أخذت بيدي وسر الماء العاشق في رئتي"

هل مشيته وهو في لحظات الفرح والقبلات يعني وقوفه بعيداً عن النار .. تصيبه حرارة اللهيب فقط "رأيت يدي في الدم وماء الدم"
ولقد عبر جبرا ابراهيم جبرا في كتابه الأسطورة والرمز عن اعتماد الشاعر على الماء وكان مصدره الأساسي كتاب غاستون بشلار "الماء والأحلام " إذ وضح أن :

"الخيال الأدبي وكذلك الخيال الذي لا يعبر عن نفسه بأعمال أدبية يمكن ربطه في كل حالة على حدة بأحد العناصر الأربعة التي تحدثت فيها الفلسفة القديمة النار _ التراب _ الهواء _ الماء والتي تنشأ عنها أربعة أنواع من خليقة الكون وتحدد أربعة أنماط من المزاج الشعري وأن الكتاب يختارون (حدسيا) صورهم في العنصر الذي يؤثرونه بدائياً وبشيء من الوعي وهو يعترف أن ما يفعله (باشلار) هو صور الماء والذين يشاطرونه هذا التفضيل بوسعهم أن يدركوا أن الماء يمثل أيضاً نوعاً من المصير لا مجرد مصير باطل من صور عابرة أن مصير باطل من حلم لا ينتهي ، بل مصير جوهري دائب باستمرار على تحويل مادة الكينونة ، ومن ثم سيدرك القارئ بمزيد من الأسى والحزن أحد أوجه الفلسفة الهيراقليطية لا نستطيع أن نخطو مرتين في النهر نفسه _ لأن الإنسان في أعماقه قد جعل يشاطر الماء مصيره الجاري"

انتهاء الدخول الأول

ومن دخوله عبر الهواء إلى مجيئه ثم دخوله في النار ووقوفه أمام الطين الرخو إلى احتضانه للماء .. فهم .. استوعب .. "فهمت" ، وبهذه الكلمة ينهي الشاعر رحلته في الدخول الأول وبمعنى آخر ينهي الريش الناعم رحلته الأولى وينزل الذات من الفضاء الكوني ومن فضاء الأعماق ليرتاح ..

ويوضح غاستون بشلار منهجه هذا حول العناصر أو الظواهر الأربع والتي يعتبرها داخله في تفسيرات الأمزجة الشعرية:

"تتراءى لنا على الرغم من وجود علاقة بين العناصر الطبيعية الأربعة وعقيدة الأمزجة الأربعة ، إن الذين يحلمون تحت تأثير النار ، أو الماء أو الهواء أو التراب ليكتشفون عن تحالف كبير – لا سيما وأن الماء والنار يبقيان عدوان حتى ولو تلاقيا في الهاجس والذي ينصت إلى خرير الساقية لا يمكنه أن يفهم الذي ينصت إلى نشيد اللهب: إنهما لا يتكلمان لغة واحدة .. إننا لو طورنا هذه الفيزياء أو هذه الكيمياء الهاجسية بكل ما تنطوي عليه من عمومية ، لوصلنا في يسر إلى عقيدة رباعية القيمة للأمزجة الشعرية ، والحق أن رباعية الهاجس لتكافئ رباعية الكربون الكيميائية نقاء وإنتاجية وأن للهاجس مبادئ أربعة واتجاهات أربعة ينطلق منها إلى فضاء اللا نهاية . وإذا أردنا أن نكشف عن سر شاعر حقيقي ، مخلص ، أمين على لغته ، شاعر قد أصم أذنيه عن الأصداء التي تتنافر مع الانتقائية الحساسة ، شاعر يود أن يعزف على جميع الحواس ، فيما علينا إلا أن نقول له كلمة واحدة (قل لي ماهو شبحك أهو العفريت أم السمندل أو حورية البحر ؟ أم السلفة ؟) (السمندل حيوان خرافي يعتقد بعودته إلى الحياة بعد احتراقه والسلفة أنثى السلف وهو كائن خرافي يرمز إلى الهواء في الأساطير) والحال أن جميع هذه الكائنات الخيالية قد تكونت وتغذت من مادة واحدة:

فالعفريت أرضي ، مكثف ، يسكن في شق صخرة ويتولى حراسة المعدن والذهب وهو مشبع بأشد المواد تماسكاً والسمندل ناري ويبتلع نفسه في لهيبه أما حورية الأمواه فتنزلق بلا ضوضاء فوق المستنقع وتتغذى من انعكاس صورتها على صفحة الماء وأما السلفة فيثقلها أقل شيء وتجفل من أقل الكحل وقد تغضب من المدخن الذي يلوث عنصرها وترتفع دون أدنى مشقة في السماء الزرقاء ناعمة بفقد شهيتها إلى الطعام .. إن هذا التصنيف للإلهامات الشعرية لا يتعلق بالمادة أبداً بل بالاتجاه ولا يتعلق بالجذر الجوهري أبداً بل بالميول والتسامي ".

لذا فالدخول الأول قد انقسم إلى أربعة أقسام وهي العناصر الأربعة بجانب استعماله لرموز في غاية التوسع كالفضة والريش المحمول به العقل والشيء الحلو .. الخ أمام هذه البلورات الجميلة يخرج المؤمن قراءته للدخول الأول بالكثير من الاستنتاجات الفلسفية أهمها أن شاعر الماء قد وضع عناوين لتفسير الفلاسفة قبل أفلاطون لخلق العالم وإن كان كل فيلسوف طرح تفسيره الخاص لمادة من المواد الأربعة وفي فترات تاريخية مختلفة ، إلا أن الشاعر مثلما عالم يلتزم بفصل الأمزجة الأربعة للهاجس الشعري لدى بشلار ودمج كل هذه الأمزجة في هاجس واحد كذلك الحال .

أيلتزم بالتسلسل التاريخي أو بالتعريف الحرفي ، بل جمعهم في مدخل واحد وتصرف معهم تصرفاً أدبياً راقياً وحولهم إلى رموز تخدم عمله الأدبي ، وكان هذا الجمع لكل التعريفات الفلسفية في مدخل واحد قد اقترب كثيراً من تفسيرات إخوان الصفا وكذلك من تفسير الفيلسوف أبنادوقليس الذي عاش في القرن الخامس ق . م والذي فسر تكوين الخليقة من العناصر الأربعة معاً وهي : "الهواء والنار والتراب والماء وهي عناصر أزلية أبدية لا تخضع للتعبير من ناحية الكيف إلا أنها تفسر التغير الحاصل في الوجود تفسيراً كمياً تحت تأثير مبدأين آخرين هما المحبة والكراهية ".

وإذا كان للبغدادي رأياً حول الدخول الأول والذي يعتبره اتحاد الشاعر "بالهواء ثم بالنار والتراب والماء كعناصر ضرورية لتكوين مخلوق مطهر ، صلب ، شجاع ، نفاذ البصيرة " إلا أن هذه المعاني لها أبعاد فلسفية ورمزية لدى شاعر الماء يعمق هذا الرأي .

 

أخبار الخليج / 8 يناير 1988

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى