تكريم قاسم حداد في مهرجان أصيلة، مناسبة للاحتفاء بهذه الشخصية بما يتجاوز مجرد الاحتفاء بشاعر. مناسبة لأن نرى في قاسم حداد الأبعاد الأخرى التي تنفتح عليها شخصيته إبداعيا وإنسانيا.
المفارق أن بعض الإشارات لهذه التجربة الفريدة من أقلام دأبت على الزعم بالانفكاك من أسر الجمالي وسطوته ما زالت لا تفعل شيئا غير التأكيد على هذه السطوة وهذا الطغيان للجمالي المحض، وكأن قاسم حداد لم يكن يوما غير هذا!!
غير أن قاسم حداد بعيد جدا ومنذ زمن مبكر عن أن يكون مجرد شاعر يضاف إلى سلسلة التجارب الشعرية في الوسط لثقافي البحريني أو حتى العربي بشكل عام.
وحين يقدر لباحث أن يقارب بعمق هذه التجربة سيجد لدى قاسم حداد هذه المزاوجة النادرة بين عدم الابتذال وعدم التعالي، بين الالتزام والتحرر، بين العزلة والانهماك في شؤون العالم، وبين طرفي معادلة الضرورة والحرية التي شغلت الفلاسفة.
وعلى العكس مما نظن فإن قاسم حداد كان كلما ازداد خبرة وتقدما في التجربة الابداعية اقترب أكثر من وهج الحياة وأسئلة الناس البسيطة منها والعميقة، وليس كما قد يظن النقد المدرسي بأن قاسم حداد كان أكثر وفاء لجماهيره إبان البدايات الصادرة عن شرط أيديولوجي.
وحين يقدم قاسم حداد إسهامه في قضية فكرية أو أدبية أو سياسية تجده دائما على التخوم القلقة أكثر منه في اليقين المستريح. وتكاد في كل مرة تسأل نفسك أقاسم حداد هو الذي يقول ذلك؟ وهو الذي كان قد قال ما يشبه العكس تقريبا منذ فترة وجيزة؟
فهذا الذي يتحدث ذات ندوة عامة عن أهمية تقبل التجارب الجديدة بأخطائها متطرفا في الدفاع عنها حتى أنه ليتساءل ما الكارثة التي ستحدث لو كتب شاعر خطأ ويستدل من هذه الحساسية ضد خطأ الكتابة على هشاشة النظام الثقافي العربي ووقوعه في تقديس اللغة بدل مساءلتها، هو نفسه قاسم حداد الذي سيكتب (خلف الأحمر .. بالألوان) منتقدا بحزن ومرارة أدعياء الكتابة الذين يطلبون رأيك باعتبارك موجها ثم لا يفعلون غير عكس ما تنصحهم به تماما.
وقاسم حداد الذي تتمثل فيه شخصية الخارج على آباء الشعرية العربية وداعية المغامرة الحرة إلى أقصى بحار الشعر هو نفسه الذي سيقف من تجربة نزار قباني مؤبنا موقف التلميذ البار من أستاذه ولكن دون تقديس.
وحيث يقف في (الجواشن) موقفا نقديا من الطهرانية الاشتراكية التي طبعت بطوباويتها الجيل السبعيني سيعود في (ورشة الأمل) ليتذكر بمحبة رفقة التنظيم ومعاناتهم في العمل السري.
ويواصل قاسم مفارقاته الرائعة حين يعود إلى تجربة في رواية الحب العذري الطهراني (قيس وليلى) ليجعلها رواية ليست فقط عن الحب بل عن ممارسته أيضا في بوهيمية راقية لا تستهلك الجسد ولا تسجد للروح.
ثم حين يتحدث عن ضرورة ألا يصبح التراث صنما، لا يغريه ذلك بأن ينتقص من هذا التراث بل يستلهمه في أكثر من مقالة أو قصيدة.
وإذ يتحدث عن المفاهيم المستقبلية كالعولمة وعن دخول شرط التقنية الجديدة والتكنولوجيا في كتابة النص، لا تكون مستقبليته على حساب الإيمان بأصالة الموهبة كما لا تكون (عولمته) على حساب انتمائه لأمة يعرف مشكلاتها ويحنو على إنسانها خصوصا في أضعف صوره وأكثرها عرضة للبطش والانتهاك.
وحتى في ذروة الدفاع المبكر عن بيان موت الكورس مثلا وعن مغامرة النص الجديد المختلف من شباب متحمس يومها، حرص قاسم حداد في أحاديث لقاءاته على التهدئة والرصانة، وعلى عدم الخلط بين المغامرة الحقيقية وبين وهمها، حيث الخروج على شكل فني يقتضي معرفته أولا واحترامه أيضا.
كأنني حين أقرأ قاسم حداد أتذكر حكمة علي عليه السلام في نهج البلاغة، فهو الذي ينتقد الدنيا ويزهد في مباهجها ثم إذا به يعود ساخرا ممن ذم الدنيا حين يشعر بأن ثمة في الأمر ادعاء الزهد لا الإيمان به.
وليس في الأمر تناقض، فقاسم حداد رجل السياق لا رجل النسق، السياق بوصفه أكثر مرونة في ابتكار الحكمة الموجزة على قدر السؤال، ونقول ابتكار الحكمة لنفرق بينها وبين الموعظة، إذ في الأولى خلق وفي الثانية اختلاق.
ومع كل هذا التعدد (المفرد بصيغة الجمع)، ثمة أمور لم يساوم عليها قاسم حداد أبدا، ومن أهمها حرية المبدع إزاء كل المنظومات الرسمية و(الشعبية)، وحساسيته المضادة للسلطة، أية سلطة، واعتداده بكرامة المثقف.
ولما بدا لكتبة الأجهزة في فترة من فترات سنوات الجمر التسعينية في القرن المنصرم أن يستثمروا بعض مثقفي الحداثة ضد ما شهده الشارع يومئذ من تحرك شعبي فيه مزيج من العقلانية والطيش، بل وحين تبرع هذا البعض غير مشكور بالتنديد المجاني بالعنف (الرجعي) دون إدانة عنف الأجهزة، نشر قاسم حداد نص (جبل يصغي للريح) في إشارة لا تخلو من دلالة لمن ألقى السمع وهو شهيد على أن السلطة التي تفتقد موهبة الإصغاء إلى حكمة الشعب ستضطر يوما لأن تصغي لطفولة الريح، ولكن في إشارة أخرى أهم أيضا وهي أنه بوسع المبدع أن يقف في لحظة ما موقفا سياسيا أو إنسانيا دون أن يبتذل شعبويا من جهة ودون أن يتعالى نخبو يا من جهة أخرى وهو درس لنا جميعا.
وهو نص سأقرأه مرة أخرى في كتاب (نقد الأمل) الذي كان أول ما طلبته من أسرتي في الزيارة الأولى، وأنا في مكان ما على سطح الكرة الأرضية وفي مناخ صالح جدا للقراءة لسبب بسيط وهو أنه لا يصلح لغيرها. وسأقول شارحا النص لزملاء أغرار معي هناك لا عهد لهم بالكتابة غير شعارات الجدران: هل سمعتم بقاسم حداد؟ فيجيبونني بهز الأكتاف.
وحتى مع المرحلة الجديدة من عمر النص الحاكم لم يضح قاسم حداد بشكه (الغريزي) في منظومة الهيمنة ولم يفارق لحظة حذر الذئب من شراك الصيادين.
ومن يقرأ إحالته لنص أفلاطون مثلا في (له حصة في الولع) سيشعر بعمق الهوة التي تفصل مدى الحياة بين قاسم حداد وبين مقترحات ردم الفجوة بين الفيلسوف والحاكم.
على أن نبي اليأس هذا، هو المتفائل في الحديث والرقيق في العلاقة، وعلى أن كبرياء المبدع لديه لن تمس تواضع الإنسان.
كأن قاسم حداد في نثره وشعره اليوم نظير للرموز الثقافية العالمية الكبرى التي تجاوزت مجرد الكتابة لتصبح مرجعية لثقافة الضمير وضمير الثقافة في بلادها، مثل غابرييل غارسيا ماركيز وأوكتافيو باث في أميركا اللاتينية وسولجنتسين في روسيا وغونترا غراس في ألمانيا.
فمع كل منعطف سياسي على الأخص وقبل أن تلحق الثقافة بالسياسة كالأقمار الملحقة بالكواكب، كان هؤلاء ينفلتون من أفلاكهم كالمذنبات الملتهبة ذاهبين في أمواج الفضاء في ومضة رفض لا تخطئها عين الراصد المتأمل.
هكذا الآن أراه أو أتخيله وهو يخترق المحتفين به في أصيلة وكأنه يصف روحه القوي والهش في آن، بكل توازناته في كتاب (النهروان):
مشى في شهوة الفوضى
يواري كل شيء في فضاء الشرق في شكل له
لا يقبل الترميمْ
مشى في وحشة التهويمْ
لن يصل الكلام إليه
يمضي شاهقا يفضي لجنته التي أشهى
يؤالف أم يخالف
أم يؤدي طاعة للطقس في ردهات
هذا الكهف
لا تسأل
فقد أضحى بعيدا نحو جنته
وحيدا صار في حل من التنظيمْ
لن يصغي لمنعطف اللغات، تراثه تيهٌ
ويخرج من جمال رماده شعب الشظايا
شهقة القنديل
جلجلة الكتابة والصدى
وفضيحة التنجيمْ
يمشي خارج التقويمْ
|