قاسم حداد شاعر من البحرين في طليعة حركة شعرية لم تقصر عن متابعة الحركة الشعرية الحديثة في المشرق العربي. لمع اسم قاسم حداد في أواخر الستينات شاعراً مناضلاً، ولم يكن التفريق بين الشاعر والمناضل ممكناً ذلك الحين. بل هو لا يزال صعباً متعسراً الآن، أمضى قاسم حداد في السجون سنوات مدافعاً بشرف عن موقفه وليسوا كثراً الشعراء العرب الذين كتبت لهم مثل هذه الإقامة الطويلة في السجن. في هذا الباب قد يكون قاسم حداد نادراً فريداً. أسوق ذلك لأذكر أنني لم أستطع مرة أخرى أن أقرأ عبداللطيف اللعبي أو قاسم حداد بدون أن أشعر بأن الكلام الذي أقرأه يزن بتجربة كان رحاها جعد الشاعر وعصبه. وأننا لا نقرأ الكلام بقدر ما نكشطه عن الدم والعصب الجمعين فيه. قراءة ليست سهلة ولا حرة، فالعادة أن قارئ الشعر يقرأه بنبضه هو وجسده وعصبه (أي القارئ) وكأنه يعير للكلام جسده وروحه. فإذا جاء الكلام من جسد وروح ماثلين فيه مقيمين لا يتحولان عنه، ظل الكلام المقروء آخر، بعيداً ظلت له رسومه وحدوده وكيانه، فلا يكون في مستطاع القارئ أن يتمثله أو يتأوله أو يستعيره إلا في حدود، فمثل هذا الكلام ليس هائماً مجرداً يبحث عن غاية وجسد ومعنى، لدى قارئه كما أنه يحمل على جدية وحقيقة لا تتيحان للقارئ أن " ينتهكه " ويعمل فيه تقطيعاً وتوصيلاً، كأن في هذا الكلام حظاً من الوصية أو الشهادة لا يغيب.
كتابة اللعبي في هذا المجال تبقى مربكة، ففيها من الصراخ والعنف ما يرتد للجسد أكثر مما يرتد للقلم، أما قاسم حداد فقد أعفانا منذ بداياته من هذا الخلط. لكننا لم نعف أنفسنا فالكتابة الضاربة في الجسد والحياة والتجربة كانت دائماً أو نطرده عن عيوننا بسهولة.
كان شعر قاسم حداد حريصاً جداً على أن يماشي شعر المشرق، ويحاذيه فلا يتأخر عنه خطوة أو يقتفي خطى طواها وأبعد عنها، قاسم حداد في هذا لا ينم عن متابعة دقيقة لشعر المشرق فقط. بل يدل على رفض التبعية والتحاق ميزانهما الظاهر تأخر في الزمن والمحلة والأسلوب، كتب قاسم حداد يوم عرفنا بداياته من السقف الذي بلغه شعر أدونيس واليوم يكتب من السقف الذي بلغته القصيدة النثرية. ذلك أمر سنه قاسم فيما يبدو لشعراء الخليج فهم بعده (أيا كان نجاحهم) لا يتأخرون عن القصيدة الغربية وخاصة في لبنان وسوريا. في تجرؤها وهذيانها اللغوي وحيلها بل وفي بهلوانيتها واغرابها – عزلة الملكات – مجموعة قاسم حداد الأخيرة كتاب شعري تغلب عليه قصيدة النثر يكاد الكتاب في وحدة أسلوبه واتصاله يشعر بأنه نص واحد. والكتاب من العبارة الأولى، ليديه حديد يقود صرخة المدينة ويفتل العربات المصابة بفتوى النهر، لا يترك لأكثر شعراء سوريا ولبنان إغراباً وهذياناً .
ثم أين تقع لحظة الحداثة الأدبية تلك، أليست قائمة في مطلع الحداثة. إن لم نقل في عطل أساسي رافق ميلادها. فهذه القصيدة التي تزعم أنها حطمت الحاجز كلها واستنفدت طاقة اللغة على الغراب وتزويج الشوارد واجتراح التراكيب ليست سوى تذييل لقصيدة "التداعي اللغوي" التي كانت أكثر قصائد الحداثة سلطة وذيوعاً. هذه القصيدة طفح لغوي يستدعي كل مرة اللغة بكامل احتفالها وصخبها يستدعيها من مجاريها جميعاً بدون أن يعقد الكلام في محور أو بؤرة.
وبدون أن يتيح للكلام أن يتموضع او يتداخل ويتشابك و ينتسج في مناخ وعالم، هكذا يتحول الشعر الى قمم كلام متصلة متتابعة والى ارتجال للعالم وتلخيص له في كل عبارة، قصيدة التداعي اللغوي فيما تزعم انها تنتهك اللغة تتعبد لها وتحولها الى نص متعال مفارق منقطع عن الزمان والمكان ويحول الشعر الى رجع وترخيم للغة محجوبة متوارية ولنص لغوي مستتر فكل قصيدة عودة الى هذا النص الشامل واللغة الكاملة وكل قصيدة قبس من هذا النص الشامل واللغة الكاملة. هكذا ينبني الشعر على نموذج متخيل قد لا يكون سوى حنين للأصل والنسب الأول، وفي كل الحالات قد تتحول القصيدة إلى مجرد استعراض لغوي، إلى درس في الغراب. ولم يفعل الشعراء الجدد سوى حمل قصيدة التداعي اللغوي إلى نهايات بدت معها أكثر تعملاً وإملاء وصنعة وانقطعت اللغة فيها أ،كثر فأكثر عن أي موضع أو تشكيل رحمي عضوي لتتحول إلى هذيان قاموسي، إلى انتشار وسيولة للغة برانية لا تنعقد في حل.
" وأنت يا مجنون، الأحلام يا مفتدى الصبايا وشقيق الذبيحة يا جنس التآلفات والقوس المأخوذ بطبيعة الفتوى "
شعر قاسم حداد ليس هنا تماماً، شعره يطلع من تآزم القصيد البلاغية. من بعد الشقة بينها وبين اللغة الأولى المفارقة التي كانت تستمد منها تماسكها ولحمتها واحتفاليتها، فمذ غاب ظل اللغة الأولى الكبير حتى باتت القصيدة المتداعية مقطعة الأوصال معرضة لفقدان الإيقاع والاختلال، لذا لا يقرأ القارئ إلا وهو يتعثر، فالكلام لا يسيل بدون أن تظهر شغفه ومتنافراته والموجة الكلامية لا تلبث أن يتقطع زبدها. وتكاد تختنق هنا أو هناك، هنا لا تختفي الصنعة في رجع الأصل وإيقاعه بل تظهر غير مجوبة ولا مموهة ؛ تظهر نافرة بحيث لا تمتنع عن الشعور بأن الكلام يكاد يتحول في بعض مواضعه إلى افتعال وسوط للغة واجبار لها على تراكيب لا تستوي لها صلة رحمية أو عضوية. لا تمتنع عن الشعور (كما لدى شعراء لبنانيين وسوريين) بأن الشعر اغتصاب اللغة وقسر واستنفار براني. وأن الشعر في تحوله إلى هذيان قاموسي يبقى على أرض لغة هامدة (إن لم تكن ميتة) لا يولد من اجتماعها وتزاوجها واتصالها شرارة وفسحة وعالم. أي أن الاجتماع والتزاوج يتمان من دون عصب ولا دم ولا حياة.
قد يكون وراء ذلك في شعر قاسم حداد تأزم قصيدة تأزماً ظاهراً فقصيدته وهي تسعى للخروج من العموم والشمول واللغة الفضفاضة والسيولة البلاغية وارتجاز الأنا. فقصيدته في سعيها لذلك لا تنتزع نفسها من الحضن التي نشأت فيه كل هذه النعوت، إنها تريد أن تنسج في قصيدة التداعي اللغوي نقداً ومغايرة لا ينهيان إلا بإظهار صدوع هذه القصيدة واختلالها فكأن القصيدة تجازف بوحدتها وتماسكها وإيقاعها.
|