عن الشاعر وتجـربته

مقالات

ورشة الأمل.. مجاز الفضاءات المفتوحة
معجب الزهراني
(السعودية)

يطيب لي ان اعود الى كتابة المقالة الأولى بعد الاجازة عن كتاب قاسم حداد السيري بعنوان "ورشة الأمل - سيرة شخصية لمدينة المحرق (مركز الشيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة، المحرق، 2004). في اغسطس الماضي لوح لي صديقنا المشترك محمد البنكي بتساؤل وجيه عن وعد لم انجزه في حينه موضوعه الكتابة عن هذا النص الخفيف الشفاف الجامع بين محاسن النثر ومفاتن الشعر. كنا في اصيلة للمشاركة في تكريم قاسم ولذا لم يكن في الوقت متسع لغير ما اجتمعنا من اجله. لاعذر لدي في التأجيل غير ما كتبت من قبل. فقط اريد ان اوضح انني ممن يتخذ الكتابة المقالية عملاً خفيفاً ممتعاً بين عمل مرهق وآخر مثله او اثقل منه. هكذا اترك للموضوع حرية اختيار موعده بحسب تهيؤات النفس ومرونة الأصابع وشهوات العين اذ تحدق في بياض الصفحة لتبدأ لعبة الكتابة والباقي على الله.
النص الذي احاور هنا يختزل حكايات الذات في حكايات الحياة بمدينة المحرق التي يبدو جلياً ان الكاتب/الشاعر لم يشف من عشقها فضاءً لتجارب الطفولة الماضية والكتابة الراهنة. انه مقطع آخر من خطاب المحبة الذي ازعم انه المكون الأجلى والأجمل في كل ما كتب قاسم شعراً او نثراً. "أخبار مجنون ليلى"ذروة تعبيرية لهذا الخطاب اذ ينطلق في فضاء المتخيل وتختبر الذات طاقاتها وكأن حكاية الحب هي حكايته وحكاية كل الشعراء العشاق. "ورشة الأمل" يمكن ان يشكل قاعدة للخطاب ذاته اذ يتنزل الى واقعية الأشياء وعلاقات البشر. هو هكذا لأنه يكشف عن جذور ذلك الخطاب في تجربة الحياة اذ تنتشر في فضاءات مفتوحة على البر والبحر. فالشاعر ينتمي لوسط اسري اجتماعي بسيط تخترق المعاناة حياته اليومية لكنه يواجه الحياة كلها بالعمل البسيط والأمل العظيم الذي هو قرين اليأس وقناعه الأمثل. قيم التآلف والتعاطف والتعاون في وسط كهذا هي حاجة لكل احد عند كل احد.

وتبلغ هذه القيم مرتبة الضروريات عندما تواجه جماعة محلية صغيرة البحر الذي يمكن ان يتسع كالصدر الحنون لكل عمل وأمل ويمكن ان يتسع كالقبر المفتوح على كل الخيبات والمرارات. البحر هنا كالصحراء، كلاهما يعلم الإنسان عدم التعلق بالأشياء التي ما إن تتكاثر حتى تتملك الانسان وتصبح المصدر الماثل لكل مخاوفه اليومية القاهرة المبتذلة.
فالفضاء مفتوح على الاحتمالات كلها، والكائن الذي ينغلق على ذاته ومصالحه هنا يعاند القانون الأهم للحياة في بيئات كهذه. لا غرابة إذاً أن تلح ذاكرة الكاتب على الأبواب المفتوحة منذ المقاطع الأولى لأنها واقع الحياة قبل ان تكون المجاز الأهم لكتابة خلاقة كهذه.

فالباب المفتوح يغري بالدخول والخروج في حركة تواصل إنساني لا تهدأ الا حين ينام الجميع قريباً من احلامهم بالمزيد من التواصل مع الطبيعة والآخرين من حولهم. هذه الفضاءات في المنزل تشبه كثيرا الحواس في الجسد ما ان تنغلق لفترة طويلة حتى تذكر بالموت.

تذكرها وهي في حالة الانفتاح هو الدليل الأوكد على ان الكتابة ذاتها تريد ان تعزز قيم التواصل ومعاني الحيوية، خاصة وأن تبدل الأحوال والوضعيات يغري بتوجه كهذا ولو من باب التعويض الرمزي. وحينما يوضح الكاتب الشاعر ان نصه هو "سيرة شخصية" للمدينة فإنه ينبهنا منذ العتبة الأولى والأهم للنص (العنوان) الى ان الذاكرة ليست حاكمة بأمرها او حكما على غيرها لأن لعبة الكتابة الماهرة الماكرة حولتها الى فضاء مفتوح تنتخب منه اشياء وتهمل اشياء. هنا الفرق الجوهري بين خطاب التذكر الأولي المباشر الذي يحسنه كل ذي لسان او قلم وخطاب الأدب والفن اذ يتعامل مع تجارب الحياة كمواد اولية تحتاج الى كثير من اعمال الفكر والمخيلة كيما تتحول الى مواد جمالية في النص الفردي المتفرد. لم يعد قاسم في حاجة الى من يشهد له باتقان لعبة الكتابة الابداعية وهو المبدع الذي نعرف اليوم. ما نحتاجه نحن هو تقصي اصول التجربة في مثل هذا النص السيري الذي يصبح مصدراً اساسيا للمعلومات الثمينة عن حياة مبدع مثله لم نكن نعرف الكثير عنه رغم كثرة نصوصه السابقة!. ماذا تعلم قاسم المبدع من قاسم الانسان العادي؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي التوقف عنده في مقام الحوار مع نص سيري كهذا.

لنبدأ بتجارب الحياة في البر، اي في المنزل والشارع والحارة والمدرسة والبستان والجسر.. ولابد من منطق الاختزال. ألمحنا من قبل الى ان الوسط الأسري كان بسيطاً بساطة موارد الرزق وأنشطة الحياة اليومية في البيت كانت علاقات الألفة غامرة رغم مكابدات الحياة التي يتحمل كل فرد منها نصيبه وإن اختلفت المواقع والمراتب والأعمال. الشاعر كان الولد الوحيد ولذا لابد ان كل مشاعر الحب والحنان كانت تتقاطع عنده وتتكثف عليه من دون افراط في التدليل. المشاركة في اعمال ورشة الحدادة هي مبتدأ التجربة الأولى والأهم في الانجاز. الصفائح المعدنية الرقيقة كانت تتحول على يدي الأب الى علب مهندسة الشكل نافعة لأكثر من غرض. كأنها ارهاص مبكر بتلك الكلمات التي سيلتقطها الابن المبدع من عادية اللغة اليوميه ليحولها الى تعبيرات مهندسة جمالياً لتمتع وتفيد. ربما كانت اصوات المطارق صاخبة في الورشة لكن الحرفية العالية في الذهن وحركة اليد كانت تؤمن لها الايقاعية الحرة والمنتظمة في الوقت نفسه. ولع قاسم الشديد بايقاعات الحروف والكلمات في كل كتاباته له جذور أكيدة في هذه الخبرة. اما توصيل المنتوجات الى اصحابها فلابد انه كان تواصلاً فعلاً يتيح فرصا متجددة للتعرف الى الآخرين والتعرف على الفضاء من حول الطفل اليقظ الروح والمتفتح الحواس على كل غريب مدهش. ليس من قبيل الصدفة ان يكون عنوان النص "ورشة الأمل" لأن ذاكرة الكاتب ومخيلته لا تزالان مفعمتين بآثار تجربة عمل أليف حميمي في فضاء اليف حميمي كهذا الفضاء.
لم يتعلم قاسم شيئاً يذكر في المدرسة لأنها فضاء رسمي حديث عادة ما يتحكم آخرون فيما يتاح وما يمنع تعليمه فيه. الخبره الأهم تتصل بمعلم اللغة والأدب، عبدالحميد المحادين، الذي داعب جذوة الشعر في الطفل الصغير وعلمه بحركة شعرية بسيطة وصارمة ان الابداع والحرية صنوان لايفترقان. ليس غريباً إذن أن يذهب قاسم المبدع الآن إلى أن من المعلمين "مدرساً" و "أستاذاً" و النمط الثاني هو وحده من يستطيع أن ينمي شجرة الابداع في أطفال يفترض أن كثيرين منهم ميسرون لإبداع خلاق ما في المستقبل. علاقات الصداقة ببعض أفراد هذه المؤسسة هي أثمن ما تبقى من ذكريات حية في شخص يدرك جيداً أن بين اللعب الحر وبين التلاعب بالكلمات والتعبيرات علاقات تشاعل عميق لأن النشاط هنا وهناك تحرير للطاقة يمتع الروح وينشط الذهن ويدوزن حركات البدن وسكناته. أحياناً قد يتحول اللعب بأشياء الآخرين طيشاً مؤذياً، ولن ينسى القراء مشهد الطفل قاسم وهو يركض عاريا مذعوراً لساعات طويلة بعد أن انتهك بلعبة فضولية بريئة قوانين الملكية التي تضع حدوداً صارمة بين فضاء وآخر. فالمشهد المأساوي يستعاد كمشهد درامي فاتن، خاصة وأن الركض فيما بين البحر والبر علم الطفل أن كل الشواطئ تعيده إلى بلدة صغيرة كان الطفل يحسبها ممتدة إلى نهاية العالم. ثم من يدري أن الركض الحر في الهواء الطلق غذاه الخوف في البدء لكن طاقات أخرى هي التي ضمنت الاستمرار فيه لطفل خفيف على الجاذبية وحليف للهواء كتلك الوعول والذئاب التي سيكثر حضورها كمجازات في جل نصوص قاسم ؟! لاحقاً سيعمل الشاب في البناء ومن ثم يشارك في تشييد منازل الذاكرة التي سيألف فضاءاتها الداخلية وستكون أبوابها المفتوحة معبراً متاحاً إلى هذه الفضاءات إذ تحولها خصوصيتها الحميمية إلى ملاذ آمن له ولأمثاله ممن تطاردهم الشرطة بعد كل فعل احتجاجي.

فالهارب هنا لن يكون غريباً على المنزل وأهله، ثم إن هربه وتخفيه هما راحة عابرة بين فعلين احتجاجيين تسعى الذات من خلالها إلى تحسين شروط الحياة والعمل ولذا يتعاطف معها الناس كما لوكانت ذاتهم الجماعية المشتركة.

 
 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى