"عرفت مدينة المحرق، في لحظتين باهرتين من الاكتشاف: الأولى بوصفها مدينة الأبواب المفتوحة دائماً. والثانية بوصفها ورشة الأمل" قاسم حداد، ورشة الأمل
المكان بقدر ما يكون مُشْرَعاً (الأبواب المفتوحة) على المستقبل (الأمل) يكون مدينة، وتتحقق كينونة المدينة بطبيعة الفعل (الورشة) الذي تنجزه في إنسانها. كانت المحرق مدينة بأبواب بحرها المُشْرَعة على الأمل، وأفعال ورشتها المُصْهِرة للاختلافات.
الفعل في المدينة حدث يقوم به الإنسان من أجل تغيير عوالمه وأحواله ومواقفه، تُصنع المدينة بما تنجزه ورش الحدَّادة والصاغة والحاكة والبناة من أعمال، وما تنجزه ورش فلاسفتها وأدبائها ومتكلموها، فالمدينة ينجزها فعل يدوي وفعل كلامي، الإنسان بقدر ما ينطق في ساحات المدينة ينجز عوالم من الاختلاف، ما تحدثه بكلامك هو فعل المدينة الكلامي.
ويكتسب هذا الفعل الكلامي مدَنيّته، بقدر ما تستحيل به طبيعتنا طبيعة أخرى، فهذا الفعل هو المميز الذي يعطي المدينة هويتها الخاصة، ويجعلها صاحبة مشروع مفتوح بأمل المستقبل. وبقدر اتساع باب هذا الأمل تكون طاقة العمل.
تتسع أبواب المدينة بقدر انفتاح ورشتها على أفعال الاحتجاج والاعتراض والمثاقفة والتأسيس والتعدد والاختلاف والصهر والإبداع والحوار. المدن ورش اختبار تهيّئ للإنسان أن يمارس وجوده على نحو إشكالي. هل كان لقاسم حداد أن يعلن (موت الكورس) لولا أبواب بحر المحرق المشرعة بالمثاقفة والمغايرة؟ هل كان لسقراط أن يعلم الفضيلة لولا أسواق أثينا المشرعة بالحوار؟ هل كان لأبي حيان التوحيدي أن يرسل هوامله الجامعة بالشك والاعتراض والاحتجاج لولا فضاء بغداد المفتوح على العالم؟
المدن ليست مساحات جغرافية وأبنية مرصوفة وأسوار مغلقة، المدن أفق البشرية المفتوح، وهي تفيض على العالم كي يمارس إنسانيته الشقية. المدن أفق للسفر للانتقال من المعلوم إلى المجهول، ومن اليقين إلى الشك، ومن الهندسة الأقل إلى الهندسة الأكثر ومن الخريطة الواحدة إلى الخرائط المتعددة.
هل ستكون المحرق مدينة لو لم تكن ورشة من الفعل المستمر؟ لو لم تكن خميرة للأمل والعلم والعمل؟ كما يقول قاسم في سيرتها.
حين تفقد أي مدينة هذه الخميرة فستبقى "موجودة في احتمالين: ذاكرة التاريخ، أو مخيلة المستقبل" لكنها ليست موجودة الآن. |