فرحت بكتاب قاسم حداد «ورشة الأمل: سيرة شخصية لمدينة المحرّق» (المؤسسة العربية) لأكثر من سبب. أولها أن الكتاب سيرة ذاتية، وأنا من عشاق كتابة السيرة الذاتية التي تغوص في التاريخ الشخصي لأصحابها، وتتيح لهم وللقراء أن يستجلوا ما فات من سنوات العمر، مسترجعين أزمنة التأسيس ومحطات التحول بواسطة الذاكرة التي هي مبدأ الحركة ومنتهاها في الفعل الدائري لعملية الاستعادة التي تضع فيها الذات تاريخها موضع المساءلة، وذلك من منظور الحاضر الذي يستدير إلى ماضيه، كي يتعرف على البدايات التي أدّت إلى النهايات، والمقدمات التي قادت إلى النتائج التي اصطدمت بشروط الضرورة، فاستعانت عليها بحرية التذكر الذي هو انعتاق من أسر الحاضر الفردي والجمعي، ومواجهة له بما يدفعه إلى الأمام صوب أفق واعد من التحرر. ولذلك تظل كتابة السيرة الذاتية فعل تعرف بامتياز، ومرآة مزدوجة: سواء في منظور الأنا التي تكتبها أو منظور الأنا التي تقرأها.
وثاني هذه الأسباب أن كتاب قاسم حداد سيرة شخصية لمدينة المحرّق، العاصمة القديمة لدولة البحرين. وهي واحدة من المدن - الجزر المنسية في ضجيج العواصم العربية، الصاخبة والجاذبة لكل الأضواء، وذلك بما يلقي بعتمة عدم المعرفة على الجزر الصغرى والفضاءات المنزاحة إلى الهوامش، بعيداً من سطوة المراكز التي تحول دون عدالة التوزيع الجغرافي للمعرفة. الطريف أنني نسيت، طوال تجوالي في المحرّق، أن أسأل عن أصل اسمها، وهل له علاقة بالحرق أم بشخصية من شخصيات التاريخ الأسطوري العربي القديم، فالمحرِّق (بكسر الراء المشددة) صنم كان بسلمان لبكر بن وائل وسائر ربيعة، وكانوا قد جعلوا في كل حي من ربيعة له ولداً. أما المُحرَّقة (بالضم وتشديد الراء المفتوحة) اسم مفعول من حَرَّق إذا بالغ في إحراقه بالنار. وهي قرية باليمامة من جهة مهب الشمال من حَجْر اليمامة والِعرْض (بكسر العين وسكون الراء) في مهب الجنوب منها، وترجع التسمية إلى صراع بين أولاد عبيد بن ثعلبة الذين تقاتلوا على ملك أبيهم بعد موته بما أدى إلى إحراق قرية البادية والشاطئ على السواء، وذلك في يوم من أيام العرب التي ذكرها الأعشى في شعره. ولست متأكداً من سلامة التفسير الذي ذكره ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان»، فالتسمية لا تزال تحتاج إلى تحرير وتدقيق من أبناء أو بنات «المحرّق» الجزيرة، القرية، المدينة التي أحببتها لحبي تاريخ أهلها الثقافي والقومي.
وآخر أسباب فرحي بكتاب قاسم حداد «ورشة الأمل» أنه سيرة شخصية للمدينة التي أسهمت في تكوين ملامح قاسم حداد الطفل الذي انطبع بطابعها، خصوصاً حين قاده فضاؤها المفتوح على البحر من كل اتجاه إلى الانفتاح الباكر على العوالم المحيطة التي قادته إلى الشعر، وفتحت له أفق الحوار مع شعراء الحداثة العربية الذين سبقوه، فكان، ولا يزال، مع عبدالعزيز المقالح اليمني، أهم شاعرين حداثيين في منطقة الخليج وشبه الجزيرة. ولا أذكر، الآن، من منهما عرفته قبل الآخر، لكن المؤكد أنني أنطوي لكليهما على المحبة نفسها لدماثة الخلق وصفاء النفس، والتقدير نفسه للإنجاز الإبداعي الذي ارتاد أفقاً شعرياً جديداً في بيئته، وفتح من الأبواب المغلقة ما أتاح الانطلاقة الإبداعية لأجيال لاحقة. وكما تابعت عبدالعزيز المقالح في دواوينه المتلاحقة، عبر أكثر من ثلاثة عقود، وذلك منذ أن كتبت معلقاً على إحدى قصائده المنشورة في مجلة «الآداب» البيروتية، في أعقاب كارثة العام السابع والستين، تابعت قاسم حداد في دواوينه التي تتابعت، ابتداء من سنة 1970 التي أصدر فيها ديوانه الأول «البشارة» في البحرين. وأعقبه بديوان «خروج رأس الحسين من المدن الخائنة» الذي صدر في بيروت 1972. وتوالت الدواوين التي شملت «الدم الثاني» (1975) و «قلب الحب» (1980) و «شظايا» (1981) و «انتماءات» (1982) و «النهروان» (1988) وذلك في المسيرة التي توجتها الأعمال الشعرية الكاملة المطبوعة في مجلدين (سنة 2000) والتي لم تكن نهاية المطاف الإبداعي، فما زالت قصائد قاسم حداد متصلة، وكشوفه الإبداعية مستمرة في أقاليم عالمه الممزق بين شروط الضرورة وغوايات الحرية.
وكنت أعرف أن قاسم حداد لم يكمل تعليمه الجامعي كما فعل أصدقاؤنا المشتركون الذين تدكتر منهم إبراهيم غلوم، وعلوي الهاشمي، وفؤاد شهاب. ولذلك كنت في شوق لأن أعرف كيف تكونت موهبة قاسم الشعرية ثقافياً، وكيف انبثقت في فضاء المحرّق التي تلقى منها وبها وفيها جمرة الشعر التي توهجت، فانتقلت من مدارها المحلي المغلق إلى مدارها القومي المفتوح. ولذلك جلست إلى كتاب »ورشة الأمل» في اليوم الذي تلقيته من قاسم، وقرأته في الفندق قبل أن أغادر البحرين. وعرفت منه عن مدينة المحرّق ما لم أكن أعرفه، وعن تكوين قاسم الصبي ما أضاف إلى إعجابي القديم به. وأذكر أنني داعبته فور أن أخذت منه الكتاب بسؤالي عن مدى شجاعته في الاعتراف وخروجه على المعتاد في السيرة الذاتية للكبار (أمثال طه حسين والعقاد وأحمد أمين) الذين لم يذكروا، في سيرهم الذاتية، إلا ما يتجانس وصور النقاء والكمال التي لا تسمح بصراحة السرد أو شجاعة الاعتراف في ما يتصل بمسيرة الذات وعلاقاتها بالآخرين. وقد ذكرت لقاسم إعجابي بشجاعة لويس عوض وسهيل إدريس في حديث كل منهما عن أبيه في السيرة الذاتية التي كتبها كلاهما، والتي ظلت مشروعاً مجهضاً بفعل الضغوط العائلية في حالة سهيل إدريس الذي كان صريحاً إلى حدّ يدعو إلى الإعجاب في حديثه عن أبيه على رغم ما يسببه هذا الحديث من صدمة للأعراف البرجوازية السائدة التي لا تزال تؤثر المواربة على الصراحة والهروب من الكشف الذاتي على شجاعة الاعتراف مهما كانت صادمة.
وأحسبني مضيت، في حديثي إلى قاسم، معرّجاً على الدور الذي يشغله «الأب» في السير الذاتية المعاصرة، مقارناً بين صفات السلب التي تلازم صورة الأب في سير لويس عوض، وسهيل إدريس، ومحمد شكري. وهي سير لا تخلو من التمرد على الأب الرمزي أو الفعلي بما يحقق الشعيرة الفرويدية لقتل الأب. ولم أنس، في حديثي، الإشارة إلى ما كتبه عبده وازن عن العلاقة بالأب في تحليله الكاشف لسيرة صمويل شمعون الذاتية التي سردها روائياً في العمل الذي ترجم إلى الإنكليزية بعنوان «عراقي في باريس» وصدر عن دار بنبعل منذ أشهر معدودة. وهو تحليل يكشف عن تعارضات صور الأب في السير الذاتية المعاصرة التي لم تخل من شجاعة الاعتراف. ولم يجب قاسم حداد على أسئلتي المشاكسة إلا بقوله: سترى بنفسك فيما كتبت، وقد رأيت بالفعل ما يؤكد شجاعته في الاعتراف بأشكال المعاناة التي عاناها وأسرته في طفولته، ووضعه الطبقي الذي لم يخجل من الحديث عنه، بل استعاده من منظور الذات التي تضع تاريخها الشخصي موضع المساءلة، وتتأمله كما لو كانت تتأمل حضورها في مرآة، فتضيف إلى وعيها ما يزيدها ويزيدنا معرفة بهذا التاريخ من ناحية، والفضاء الجغرافي والطبقي والثقافي الذي تحركت فيه هذه الذات حركتها الأولى من ناحية موازية. ولذلك كانت تسمية الكتاب «ورشة الأمل» منطبقة على المكان والكائن الذي تحرك به وفيه، فهي إيماء إلى حنين غير معلن عن عالم لم يعد موجوداً، وإشارة إلى مجاوزة شروط الضرورة في المكان بالمكان.
و «الورشة» اسم مقترن بفعل البناء حيث جماعة من المعلمين والفعلة يشتغلون، على نحو ما نجد في «المنجد» القاموس، فهي كلمة مقترنة بصفة الورش التي لا تخلو دلالاتها من كثرة الحركة التي يفضي مدلولها إلى تجدد الإمكان الذي يقود إلى الأمل أو يصنعه أو يبنيه بلا فارق كبير. والأصل في التسمية هو المدينة التي تعلمت فيها الذات ودرست الحياة، فتقاطعت معها، لكن من منظور الرؤية الإنسانية التي انطوت عليها الذات في علاقتها بالمدينـــــة التي أنشأتها، وكان لها الدور الأكبر في صياغتها ثقافياً وإنسانيــاً وإبداعياً. ويعني ذلك أن الكتابة لن تشمل كل شيء عن المحرق - المكان، المحايد، وإنما المحرق الفضاء الذي يغدو مرآة للذات، سواء في علاقتها بمدينتها التي تسعى إلى اكتشافها في لحظة متأخرة من الزمان، فتراها - في مرآة الذاكرة - مدينة مفتوحة الأبواب دائماً، لا تكف عن صنع الأمل المتجدد نتيجة هذا الانفتاح، فهي معنى يجعل منها مشروعاً لا يكتمل إلا إذا اتصل بحيوية الأمل الإنساني، وهي حضور يملأ الوعي بها، من حيث هي مدينة تظل مصدر بناء وحيوية وبوتقة أفكار نابضة بالعمل، وذلك إلى المدى الذي يدفع الذات التي تسرد سيرتها إلى أن ترى في المحرق سواد البحرين، أي مصدر حياتها، بالمعنى الواقعي حينا وبالمعنى المجازي غالباً.
وسواء كانت صور المحرّق في سيرة قاسم تنتسب إلى الحقيقة أو المجاز بالمعنى البلاغي، في علاقة الدوال بمدلولاتها، فإنها صور مستعادة بواسطة الذاكرة في لحظة من لحظات الحاضر الذي يرتد على ماضيه لكي يفهم حضوره الذاتي في الآن، وذلك من خلال الحضور نفسه في الماضي. وبقدر ما يغلب ضمير المتكلم على السرد الاسترجاعي للذات التي تستدير إلى ماضيها، منطلقة من دوافع حاضرها، فإن هذا الضمير يشير إلى العدسة التي تتلون بألوانها المنظورات المشاهدة بعيني الذات التي ترى ماضيها من خلال حاضرها بأكثر من معنى. ولذلك لا تنظر الذات التي تروي سيرتها إلى ماضيها في غضب أو سخط، كما نرى في بعض السير الذاتية، ولا تتطلع إليه مستعيدة شروط الضرورة القاسية التي تجاوزتها، على نحو ما نرى في «الأيام» لطه حسين التي كتبت في سياق أزمة كتاب «الشعر الجاهلي» سنة 1962، وكان فعل كتابتها محاولة للانعتاق من الأزمة الحادة للحاضر باستعادة الأزمات التي تجاوزتها الذات في الماضي، والتي تدل - ضمناً - على تجاوز الأزمة الحاضرة. لا تفعل الذات الساردة في «ورشة الأمل» هذا أو ذاك، وإنما تنظر إلى الماضي في حنو وحب، مصدرهما – في ما أحسب - الشعور بالرضا في الحاضر الذي تحققت فيه الذات بأكثر من معنى، وشعرت باكتمال الرحلة، في ثنايا هذا التحقق، والتغلب المبهج على الكثير من شروط الضرورة التي جاوزتها.
ويبدو مفهوماً - في هذا السياق - الاقتصار على مرحلة الطفولة التي لا تجاوز السنوات العشر الأولى للطفل إلا بقليل، وذلك بوصفها السنوات التي تصوغ الملامح التي ستظل قائمة، والتجارب التي لن ينضب معين تأثيرها. وهي سنوات تحيط بها البراءة، وبكارة التلقي الذي يتميز به إدراك الطفل الذي تتفاعل المدركات في مخيلته، فتتداخل العوالم الواقعية والخرافية، كما تتداخل عوالم الرموز الموروثة والحكايات الشعبية التي تتحول إلى طقوس أدائية، طقوس تظل منجذبة - دائماً - إلى عالم البحر الذي يغدو كائناً حياً في الأعين المعلقة به من حيث هو العنصر الفاعل والحاسم في تحديد مصائرها. ولذلك تحرقه النساء الغاضبات بالنار، وتبتهل إليه الأنفس الحرية كي يعيد الغائبين من الأهل والأحباب، ويناوشه أصحاب الحرف التي لا تتباعد عنه إلا لتعود إليه في ما يشبه تموجاته أو تحولاته التي تكتسب دلالاتها الخاصة في عوالم الفقر المدقع الذي تتحرك فيه طفولة السارد التي يجسّدها ضمير المتكلم الراوي للسيرة.
وغير بعيد عن البحر، الزائر الأزرق الذي يتجول في غرف البيت، والنساء يشهرن عليه النار، هناك القاعدة التي تتحرك حولها دنيا المعوزين الذين تتحدث السيرة عن واحد منهم. وهي قاعدة «قوت لا تموت» التي تعني أنه لا حياة إلا بالعمل الشاق لكل فرد من أفراد الأسرة، وذلك على نحو يقضي على المشاعر الغضة البهيجة للطفولة اللاهية ويستبدل بها روح المسؤولية التي تعم الصغار كالكبار، خصوصاً في بيت ينهمك جميع أفراده في عمل متنوع متواصل من أجل توفير الحد الأدنى من أسباب العيش، فيتحول حوش بيت العائلة الكبير إلى خلية نحل منذ الفجر حتى المساء، الجدة تربي في حظيرة داخل الدار بقرتين تدرّان بعض اللبن ومنتجاته، وإحدى العمّات تعمل بالأجرة في تطريز الملابس، والعمّة الأخرى تشتغل بأجر شحيح في مهن مختلفة، والوالدة توظف معرفتها في العمل على آلة خياطة مقابل بعض الدراهم النادرة، تعينها الشقيقة الكبرى، والأب يعمل بالحدادة التي يستعين فيها بابنه الذي ينقسم ما بين عون الأسرة والتعليم، ولا ينجيه من مرارة الانقسام سوى بذرة الإبداع التي انطوى عليها، فأنقذته من المصير الذي كان ينتظره.
وتتتابع بعض المشاهد المؤثرة في سياق «قوت لا تموت». وتصل إلى ذروتها في يوم من الأيام، بعد نهار فاجع قضاه الأب بحثاً عن عمل من دون فائدة، مع همّ الديون التي لم يستطع دفعها لأصحابها، فيعود مثقلاً بما فيه إلى البيت ليفاجئه الابن بطلب حذاء جديد للمدرسة، فتنفجر كل مرارات الأب في الطفل البريء الذي يركض مذعوراً إلى حضن والدته التي أدركت ما حدث، ولم يطاوعها قلبها على كسر قلب طفلها، فتحركت في ظلمة الليل الدامسة، وفتحت صندوقها الصغير تحت سرير الوالد، وزحفت نحو رأسه تسمعه همساً يضاهي التضرع، وهي تقدم له النقود التي جمعتها من عملها في الخياطة ليشتري الحذاء المطلوب، هامسة بكلماتها الحانية للأب الحنون الذي ندم على غضبته على ابنه، فينفتح قلبه على كلمات الأم: «إنه ولدنا الوحيد، نحن تعودنا على حالة العوز، لكن لا تكسر قلب ولدك يا محمد». وكانت هي المرة الأولى التي يسمع فيها الطفل أمه تنادي أباه باسمه مجرداً، ويشهد هذه اللحظة المكثفة من العلاقة التي تربط بين الأم والأب الذي همهم بكلمات تشبه النشيج، وهو يتلعثم بكلمات غامضة، ويقترب من ابنه الذي ظنه نائماً، ويلثم وجهه بقبلة حسبها الابن الجنة.
ولقد تهيأ الطفل منذ ذلك اليوم، لا شعورياً، للانهماك المبكر في الحياة العملية القاسية التي حالت دون إتمام التعليم، ولم تمنح الطفل سوى طفولة غامضة وحب مختزل. لكن هذه الطفولة الغامضة لم تخل من درس قاس آخر بعصا الأب هذه المرة، وكان ذلك حين اكتشف الأب، مصعوقاً، أن الابن سرق من الصندوق الخشب الصغير ما كان يوفره الأب من شقاء عمله في دكانة السمكرة التي كان يساعده فيها الابن. ويقسو الأب في عقاب الابن كي لا يكرر اقتراف جرم السرقة مرة أخرى، وتبقى ذكرى العقاب مطبوعة في ذاكرة الطفل الذي يدرك – في ما بعد - عظم جرم السرقة من المال الذي كان الأب يدخره لإطعام أسرته، والذي لا يبرر سرقته أي شيء مهما كان. ولا ينسى الابن كلمات الأب له بعد أن انتهت واقعة العقاب التي خلقت غيمة من الحزن الشفيف في عيني الأب الذي يبرر – في ما بعد - لابنه قسوته عليه بأنه خاف أن يتعود ابنه على سرقة الناس، فعاقبه قبل أن يعاقبه الآخرون.
هذا الأب الذي لم يخل من الحنان الذي كانت تغلفه القسوة، وقت الضرورة، ما كان يمكن أن يموت في ذاكرة الابن الوفي الذي يهدي إلى أبيه سيرته الذاتية، تقديراً لحضور الأب الذي جمع ما بين الإيثار والتضحية وإنكار الذات والبذل في سبيل العائلة التي وهب لها حياته، كما وهب لابنه المثل الأنقى في الحنو والحب الذي جعل هذا الأب، الحدَّاد، يبدو وكأنه يمهد أيام ابنه بيدٍ، ويضرم اللهب في حديد الوقت بيدٍ أخرى.
ولذلك لا نرى من الصور السلبية لهذا الأب ما يعكر على صور الحنان الملتصقة به، ويستبدل السرد الذاتي للسيرة بالتمرد على الأب، وبفعل قتله الرمزي، استعادة الحضور الآسر لهذا الأب الذي يتحول إلى حضور مكثف من الحنان والرعاية والحب الذي ينتقل منه إلى الابن، فلا يرى هذا الابن من ماضيه إلا ما يثير فيه شجو التعاطف وحسن التقدير ومشاعر التعاطف والرضا بماض أسهم في تكوينه، وزرع فيه الصلابة التي تفجرت معها مشاعر الإبداع التي ظلت كامنة، ومشاعر التمرد على شروط الضرورة الاجتماعية والسياسية التي قادت الطفل الذي كبر إلى زنزانة رطبة، استعان على مدارها بالكتابة التي كانت سفراً إلى الأفق الواعد، وفعلاً من أفعال التحرر الإبداعي. ولكن قاسم حداد يحرمنا، عامداً، من متابعة الطفل الذي كبر، ربما لأنه يدخر مسيرته لجزء لاحق من السيرة الذاتية، وربما لأنه آثر التوقف عند البدايات الأولى التي فتحت النفس كما تفتح اليد المرتعشة بالأمل محارة من المحارات التي تنطوي على اللؤلؤ الذي لا يستعاد ولا يضاهى ولا يقبل الفقد.
|