عن الشاعر وتجـربته

مقالات

ورشة الأمل لـ قاسم حداد: سيرة تسخر من الفقد والنسيان
جعفر الجمري

ما الذي يمكن كتابته عن "ورشة الأمل"؟
"مرصعة بالذي ليس يحصى من الفص والنص
ها إنني جملة شاهده. ..
... في كتاب العذاب"
سأكتبه
مثلما يصقل الشخص أسماء أطفاله
كي يؤثث مستقبلا للكتاب"
هل هي استدراك تلك "الورشة"؟ لا أعتقد ذلك. هل هي "تنبوء ممكن" لما هو كائن؟ وهل تعود نبوءة تلك التي ترصد الكائن من حيوات الناس وبياض الأمكنة؟ أميل الى الثانية. المغفل عنه والمطمور هناك... إزاحة أكوام من التضليل أوالنسيان عنه لا يقل أهمية عن النبوءة بل هي في الصميم منها.

"ورشة الأمل". جد قليلون أولئك الذين يمكنك أن تقف على عنوانات أعمالهم مثلما تقف على النصوص ذاتها، بل هي نصوص في واقع الأمر، رصد بسيط وعابر لعنوانات المجموعات الشعرية التي أصدرها قاسم حداد تؤكد لك ذلك:
الدم الثاني، يمشي مخفورا بالوعول، نقد الأمل "مجموعة مقالات"، له حصة في الولع، المستحيل الأزرق، علاج المسافة، وسيرته الأولى "ورشة الأمل". ولا يعمد قاسم الى عنوانات كتلك بمعزل عن "منجم النص".

يذهب نحو السيرة محصنا بالوفاء لكثيرين، من بينهم "ظهر قلبه"، ذاكرته التي لم تسعفه كثيرا في "مرحلته التأسيسية"، من بينهم "فقراء ورشة الأمل" الذين "يحسنون قراءة كتاب البحر ودفاتر العذاب"، من بينهم "الحنين الجريح لتلك الأمكنة`` من بينهم "جنة الجنون"، من بينهم "بحر يداعب مخلوقاته ويمنحها لونا جديدا في كل لحظة مثل أب يأخذ أطفاله الى النزهة" من بينهم "مواصلة الركض على الساحل بلا هدف سوى الهرب من المنجل اللامع الذي يلوح به ذلك الفلاح المقهور" من بينهم "دالوب" "الفتى الأسمر ذاته جالسا في وسط دائرة الرقص القديمة وهو يلقن صفيحته المطعوجة درسا واحدا لا يبدو انها تتعلمه أبدا". من بينهم "ظاهرة المد"، وكأنها سيرة للمد تلك التي خرج بها علينا حداد. سيرة لمد الطفولة والأمكنة والوجوه والعذابات. سيرة لمد الأزل وحزن مقيم. كأنه يأبى الا أن يكون سيد وعاهل الحالات!.

يفتح حداد أفقا يبعث على الإغراء. يمارس استدراجا نبيلا لمشروعات معطلة آن لأحدهم أن يبادر في البدء بها، قبل أن يمعن الإسمنت والحديد المطاوع ونوافذ الألمنيوم وسحر الكهرباء وسطوة القار، قبل أن يمعنوا جميعا في الإطاحة بالشرفات والجص والزخارف الموغلة في جنونها. ثمة ضرورة لاشتغال انثروبولوجي وسوسيولوجي ليس على جزيرة المحرق فقط، وإن ظلت هي الصفوة من الأمكنة والأجدر بالبدء بها، ولكن على مدن وقرى تظل أو هكذا كتب عليها أن تظل الشاهد المنكسر أمام حال من الصمم والعمى والخرس، حال من الفرجة المشبوهة.

سيرتنا هي، في الصميم من عذاباتنا وآمالنا المؤجلة ويأسنا المقيم وذهابنا نحو جهة جارحة، وبحر متورط بالغدر والدفء... الرحمة وسحله الأزرق.
ربما أكون معنيا بتلك السيرة أكثر من سواي. تجمعنا "ورشة حوار" ليلي بين الأم والأب لشراء حذاء، وحوار أم وأب بعد عوز. حوار عن "علبة بسكويت" اشتراها الأب وركنتها الأم في إحدى خزانات الألبسة احتسابا ليوم شد الأحزمة حول البطن. وحين تولي وجهها صوب الخزانة ، وأثناء جلوسهما معا، القي بلحاف عطن جانبا لهول الوليمة الطارئة. يفاجآن بي وقد توسطتهما طلبا لحصتي من إسكات جوع مرت عليه أيام ثلاثة.
قلت لقاسم ذات اتصال، وأنا أقرأ سيرته: كم كنت أتمنى أن أكون ابنا لأبيك، فثمة أطفال كثيرون على استعداد لتغيير آبائهم لو أتيح لهم ذلك، خصوصا الآباء الذي يصطنعون ثارات بينهم وبين أبنائهم الذين لا يحسنون صنيعا في الحياة سوى البراءة.. سوى ما تعلق بذاكرتهم من أن الأمهات سقف العالم. وأجزم أن أمي ظلت ولا تزال واحدا من أجمل السقوف المطرزة بمشغولات من الصبر والسهر ودموع لا تتهيأ لها الا في خلوة بعد أن توصد الأبواب وتغطي وجهها كي لا تبدو منكسرة أمام مخلوقات لا تتوهم حضورها. بالمفتاح الذي تدسه تحت مخدتي كي تسلمني للطرقات الموحشة ولكنها أكثر رحمة من عصا ضريرة تنهال على الجسد النحيل دونما حسبان للأجزاء الحساسة منه.
كم كنت مرفها بأب يشبه الماء في سحره؟ كم كنت النضج والإستواء بذلك الأب الذي "كان يمهد" أيامك "بيد ويضرم اللهب في حديد الوقت بيد"؟.

لا تتشابه الأحضان، فثمة اختلافات وتمايزات واضحة في مساحة مشتعلة كتلك، بعضها يشتعل بالذروة من الحب والحنين، وبعضها الآخر يفح طعنا ونبذا وإقصاء!. أشياء كثيرة تمنيتها. تمنيت أن ألمسها.. أتحسسها... تمنيت البيوتات التي كنت واقرانك تأوون اليها فتغمرون بالسخي من الحب والقلق عليكم... على وجهاتكم ومضيكم، فيما نحن وفي زمن قريب كنا في ذروة الصاخة التي باغتتنا بتصعيد لم نتوقع هوله وانفلاته، منتصف التسعينات من القرن الماضي. أقول فيما نحن كنا نمثل عينات من برص أو جذام، لا يملك المرء أمامه الا أن يطلق ساقه للريح ويغلق الأبواب. كنا نصد من قبل عدد من البيوتات. حتى البصل أيامكم ظل رحيما وله فعله، لا يشبه بصلنا، وأبوابكم لا تشبه ابوابنا والأحضان التي "آوتكم" لا علاقة لها بأحضان عابرة ومبرمجة. كنا نستقبل بالصراخ والزعيق، تتداعى وتحضر الى ذاكرتنا" طوعة "أول امرأة في تاريخ وعينا الأول حين تمنح الغريب المطارد من الجلاوزة بيتا وسقفا يأوي اليه .. يحضر "مسلم بن عقيل"، شاهدا فذا على روعة الأبواب والأحضان المشرعة والسقوف التي تكاد تزاحم السماء. كنا نصد في صور نشعر خلالها بحجم الإنكسار الذي طال أصحاب تلك البيوت، فيما نحن نرمق الأفق، نسيل بالرجفات ولا أفق أمامنا ولا طرق نخترعها معا، لنجد أنفسنا في قبضة من حديد... رجل لا علاقة له بأي كائن ينهال عليك بالشتائم بلغته الأم ويختمها بشتم عربي مريض تعلمه في أحد البارات أو ربما في ``حوطة`` للبهائم!.

تزعم وزعمك حق "هذا بحر يداعب مخلوقاته ويمنحها لونا جديدا في كل لحظة".
ذهبت الى الأزرق المستحيل... وكنا مخفورين بالمخلوقات التي ابتدعتها، لم نشعر لحظة بحال من الوجل الا عليك وعليها، كنا في الذروة من الطمأنينة، أزرقك لا يشبه أي أزرق، كما انك لا تشبه أحدا سواك.

"أيها البحر... البحر
دعنا نتذكرك مثلما يمسح الحارس مرآة فناره في ليلة ممطرة.
مرآتنا القديمة التي يغمرها غبش كثيف لفرط ما تعاقب عليها من سنوات العمر. دعنا نتذكرك، لننساك، ونتذكرك ثانية، ايها البحر، نتبادل معك الفقد... ونتذكرك وننساك".

سيرة لمستقبل الأزرق والطين والمهمشين في دنيا الناس... سيرة تتهكم على الفقد والذروة من النسيان... سيرة تأخذ بيدنا نحو سبل لا تعد بوصول اذ ليست تلك وظيفتها... هي معنية بتدشين الإستثنائي من المتاهات.. بحر لا يشبه أي بحر ذلك الذي يتأمله ويرصده بل ويباغته حداد... بحر جدير بالنبلاء في خضم ذلك الفقد.
مشهد من "ورشة الأمل"

كان والدي يسرد الحكاية، مرتعش اليدين مختنق الصوت ملتهب العينين محتقن العواطف، كمن ينقل خبرا تمنى لو انهم اختاروا شخصا سواه لقوله. تتنازعه لذة التجربة وعذاب الرواية.
توقف لحظة عن الكلام، وأخذ يزفر بأنفاس غواص خرج للتو من الأعماق.
حملقت في وجهه فرأفت به. كدت أطلب منه نسيان الأمر والإنتقال لحديث آخر. لكنه أشاح بيديه كمن يطرد الفكرة. أشعل سيجارته وصر عليها بإصبعين معروقتين تشوبهما صفرة قديمة، كاد أن يستسلم لبرهة من التأمل، ولكنه سرعان ما اعتدل وهمهم، كمن يحدث نفسه:
كيف يمكن أن تقيد شخصا وتلقي به في البحر، ثم تطلب منه أن لا يغرق؟.
بادرته بسؤال يتلجلج في حنجرتي طوال الوقت، عما إذا كان يتذكر اسم الشخص الذي كان مصلوبا في الصارية. نظر في عيني يلومني على السؤال الفاضح، ثم حاول أن يبتسم، فاندلعت تنهيدة مريرة مثل جمرة تحرق الشفتين والعينين معا:
لا أهمية للأسماء، أي شخص منا يمكن أن يكون هناك، لقد كانت الصارية جوابا على كل سؤال.
قلت له: ولكن في تلك العاصفة، حيث يستوي الجميع في الموت، ألم تكن الضرورة تستدعي إطلاق المصلوب للمشاركة في إنقاذ السفينة. انتفض كمن لدغته الفكرة، وهو الذي لا يريد أن يبدو أمام غر مثلي في صورة الغياب أو القصور عن إنقاذ السفينة:
مثل هذه الفكرة لا تراود أحدا في حالنا. لم نتعود على جرأة التفكير في مثل تلك المواقف. لقد كان كل من يستحق الصلب يخرج من حساب الموت والحياة، انه لا يعود موجودا على الإطلاق،فما أن يربط في الصارية حتى يصبح خارج البشر، انه في حكم الصارية وجزء من مصيرها، عليه أن يقضي العقوبة كاملة كيفما كان، لقد خرج عن "قانون الغوص" وعليه أن يقبل بحكمة الريح.
قال جملته الأخيرة وهو يحدجني بعينين جمرتين، كمن يبحث عن يقين بموافقتي على قوله.
لم أكن لحظتها قادرا على بذل الأجوبة الشافية لأب لا يريد أن ينسى تجاربه الأليمة في أيام الغوص، ولا يكف عن استحضار الحكايات، كما لو انها تحدث الآن. في تلك الساعة خصوصا لم أكن قادرا على مقاومة السحر الغريب الذي يستحوذ علي، بهذه الحكاية الفاتنة، لكي أستعيد حادثة أخرى، عن صديق أعرفه، صلب على البوابة الداخلية في باحة السجن أمام رفاقه، لمجرد انه فزع من نومه تحت وطأة كابوس الليل، فنهض يصرخ بالآخرين لكي يدركوه بالماء، لشعوره الغامض بعطش فاحش يكاد أن يقتله، وهو في هيئة جثمان يفرز أسرابا لا نهائية من الكائنات الصغيرة تدب من الجسد المسجى، سرعان ما تنشر هذه الكائنات أجنحتها وتطير. وقد فسر بعضنا ذلك الكابوس بطبيعة السجن الصحراوي، حيث الفقد كيمياء الحياة.
اعتبر السجان صراخ الكابوس خروجا عن قانون السجن، يستوجب مضاعفة العقاب في صورة الصلب. وفي ظهيرة اليوم التالي كان علينا نحن المعتقلين جميعا أن نتجرع شعور اليأس والمذلة، لعجزنا عن إطلاق صديقنا من صلبه، فقد كانت حناجرنا مجرحة لفرط العطش.
تذكرت صلب ذلك الصديق في ذلك المشهد، لقد كنت معه هناك، أعرفه ويراني

الوسط
2004- 4 - 1
 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى