عن الشاعر وتجـربته

مقالات

قاسم حداد
يستأصل الألم من جذوره ويرفعه أشجاراً عالية
يوسف أبولوز

ذات صباح، قبل عامين تقريباً، في تونس، وفي بهو الفندق (كنا ضيوفاً على وزارة الثقافة التونسية).. سألني قاسم حداد : متي موعد طائرتك المغادرة إلى عمان ؟

أجبته : بعد يومين، فابتسم قائلاً لي : أنا مغادر اليوم إلى البحرين، وسوف أرى بيتي قبل أن ترى أنت بيتك، فليس في الدنيا ماهو أجمل من البيت.

التقطت الفكرة من الصباح ومع أنه لم يكن لي أصلاً بيت في عمان وإنما مجرد مكان أنحل فيه، إلا أنني أبعدت تداعياتي الساقطة من ملاذ الرأس إلى ملاذ ورقة الكتابة.. أخذت أتأمل عبارة هذا الشاعر الأخوي الجميل الدافئ مثل موقد الشتاء.

قاسم حداد ابن بيت بالمعنى الإنساني والشعري العميق للعبارة، بل هو من سكان العبارة إذا كانت موجزة ومقتضبة مثل الدم المسفوح على الرمل، فهو الشاعر الأقل صخباً من بين الشعراء الذين عرفتهم في لقاءات وتجمعات ومهرجانات يعلو فيها صوت الشاعر على صوت القصيدة فيه.
إنه "قصاد" نفسه، وأقرب إلى "العش" منه إلى "فندق الشعراء" ؛ ولذلك، سريعاً ما كانت تصبح غرفته خارج البحرين "عش ضيافة" أو "غرفة عش" تلتقي فيها الطيور التي تهدل ولا تزعق.

في العام 1981 كلفني الزميل صالح العزاز (وكان مدير التحرير) في جريدة "اليوم" في الدمام بإجراء حوار مع قاسم حداد بالهاتف أو بالبريد بعدما دلّني العزاز عليه بحزمة كتب من بينها "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة"، رفعت سماعة الهاتف وسمعت صوته في البحرين خجولاً حتى خلال الأسلاك.
انكببت أقرؤه كأنني لا أعرف الشعر.. ولا يفرقني عنه إلا سنوات عمره وعمري، ورأيت فيه ذلك الانسحاب إلى الشعر، كما الانسحاب إلى النفس.

يقول "الشعر حالي الدائمة"، وهو إن كان بطل جملته الشعرية، فإنما لأنه "بطل نفسه" دائماً ومخفوراً بالوعول، مُصادراً في الورد، ويصغي إلى الضحك العالي لأن بكاءه خفيض.
عشر موتى يغسلهم قاسم حداد ويكفّنهم ويندبهم ويشيعهم إلى الأجداث من دون أن تسقط على وجنته دمعة.

إنه "ندّاب" قاس، يشق قميصه في عاشوراء محبّته الأشبه بتلك المسيحية المضمرة في الشاعر، ولا بتشبّه قميصُ دمه بقميص يوسف زليخة التي كانت تختصر الشاعر في العاشق.
قاسم حداد.. يوسف أخر، دمٌ يانعٌ على الوردة والمدية والسيف، لا يعرف العشق إلا إذا كان في فاطمة نفسه التي أرضعته القصيدة وبكت مرّاً على نهدها المستأصل.

شاعر يستأصل الألم من جذوره ويرفعه أشجاراً عالية أو غابة في مديد العتمة، وهو وإن كان يكتب كما يتلمّس العميان بعصيّ الخيزران أرصفة الدروب، إلا أنه الأكثر إبصاراً، والأكثر رؤية ورؤى بما يحوز عليه من ربح الخسران.

جرّب، قاسم حداد، تلك الأقفاص المصنوعة من المعدن فعضّها بأسنان الطفل (الشاعر) لتصبح الأقفاص المعضوضة في فم الشاعر وطناً للكلمات، أو كلمات للوطن.

وطن قاسم حداد قصيدته وبيته، إنه ابن جزيرة أسقطها "الدلمونيون" من فم الصقر في وسط البحر، وكأنها برية لا جزيرة، كأنها الكلمة الذبيحة، وكأنها عهد العاشق.

أحب قاسم حداد الكتابة مبكراً، وانتمى إليها لأن الانتماء إلى الكلمة يحوّل المرء إلى صوت وألوان ووقع ورنين ومخافة.

وكأني به يخاف الشعر، ولذا يكتبه، أو يلوذ به.
إنه ناثر نهاراته في لياليه مثل قدّيس صليبه من زجاج.. في البداية قال الشعر على البحر والقافية، لكن تفعيلة الناثر أوسع دائماً من تفعيلة الشاعر فأخذ بفعل نثره ينأى عن "غلام القصيدة" وغلاميتها، مسترسلاً في ما يشبه الشيخوخة الشابة، وقاسياً على نفسه، متأملاً أو متألماً في لغته المجترحة من صميم قلبه.
صادق، إذاً، غريب، ومستوحش في جزيرة لا يسوّره إلا الشعر في النثر، أو النثر في الشعر.. بمعنى تسوّره الكتابة.

وفيق كتاب، يكبر بين أطفاله مثل أصغر أطفاله، وهو لا يكتب رمزاً أو مجازاً، بل يكتب أحوال جزائر الموتى والأحياء ويعيد مجد الطين في عنصريه : الماء والرمل.
لا صخب ولا شكوى ولا أفكار "عظيمة جداً" في شعر قاسم حداد.. لا بأس ولا اشتداد ولا معارك ولا حروب، فمن يحب البيت لا بدّ من أن يحافظ على أسوار البيت، وهو الشاعر الذي يبيت في وطنه (جزيرته) لا في بيوت الآخرين غير منقطع عن مجاورة ومجاراة الآخرين.
من دون إعلام ولا صحافة ولا علاقات ولا جوائز ولا ادّعاءات تخلّق جسم قاسم حداد في رحم أمه "القصيدة"، وغاب في حضوره، وابتعد، وقرأ الكتاب وحده، ورأى المشهد وحيداً إلا من صمته الضجوج.

قاسم حداد، المنحدر من ينابيع الفضة يعرف كيف يلجم ضجيجه في الصمت، ويعرف كيف يرى في العتمة، ويعرف كيف يغربل الشعير من القمح.
كأني به غربال.
الأقرب.. إنه شاعر غربال، ويذرّي البيدر في رياح العصر مثل "جدّي" الذي ربّاني على الشاعوب والقمح والحقل والبامياء..
قاسم حداد.. قروي، مديني، متفائل، متوار، صموت، ضاجّ، مذبوح، ذباح، ثقيل كحجر التمثال، وخفيف كالغيم.
هذا قاسم حداد في شعره، وصورته في المرآة تفيض عن الإطار دائماً.. تفيض عن الأشياء المصقولة الملساء الناعمة.. دائماً.

شاعر ليل
وأقرب إلى العتمة والصمت وثقالة السيف على الرقبة.. يرقب كيف يموت أصدقاؤه وأهله في عرس، ولذا لا يحب المأتم، يتجوّل في لغته ويجترحها من الطين والدم ولعاب الضحك.
قاسم حداد.. رجل كتابة، أو كاتب رجولته، في الزمن البالغ الأنوثة، ويرى بيته قبل أن يرى الآخرون بيوتهم..

جريدة الخليج
الشارقة – الملحق الثقافي
8 مارس 1999 - عدد 7232

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى