عن الشاعر وتجـربته

مقالات

"ورشة الأمل" لقاسم حداد
سيرة النص وتعلُّم الغَرَق

ماهـر شرف الدين
(لبنان)

لا يقيم الشاعر البحريني قاسم حداد سرده على تقنية روائية في سيرته التي حملت عنوان "ورشة الأمل - سيرة شخصية لمدينة المحرّق". الصحيح أن سيرة حداد لا تحتمل منطق الرواية، لأنها سيرة شعرية. ليس الحدث هو ما ينهض بها قدْر ما هي الصورة. ولكن ذلك لا يعني أن خيالاً شعرياً تدخّل في إنتاجها. إنها من الشعر وجهه. هي السيرة بما تعنيه من صور في عينها. بعد ذلك هل لنا أن نجازف فنقول أن ما كتبه حداد هو شعر سيرة؟

يقترح قاسم حداد وصفاً "صناعياً" حميماً لعلاقته بمدينته المحرّق، التي ولد فيها وعاش سني تكوينه، فيقول: "مثل سيف ولد في غمده"، ثم يجاور بين وصفه هذا ودواعيه (الثقة والشعور بالأمان والاستعداد للمجابهة) بواسطة حنين، شاء له أن يكون "غير معلن"، الى عالم ما عاد موجوداً.

هذا الوصف الصناعي يسوق مبرراته في مدينة حمل فيها كل حي اسم مهنة أو حرفة أو صنعة. هي المدينة التي أحبّ الشاعر أن يسمّيها "ورشة العمل"، ولن يطول صبره حتى يراود حرف العين فيها، قصدت أن يفقأ عينها، كي تصبح: ورشة الأمل، التي ستطفو كعنوان على سطح الكتاب، أي غلافه، استنطاقاً للغة الشاعر التي ما برحت تحدّثنا عن البحر والصيد والغوص.

يقدّم الشاعر لمدينته بالحديث عن اكتفاء مدنيّ، أو تخمة مدنية كفلتها له المحرّق في اختزالها المدن الأخرى، ليشغل نفسه بعد ذلك، وبالطبع قارئه، في كيفية كتابة سيرة النص متفادياً سيرة الشخص: هنا نستطيع وصل ما انقطع بالحديث عن السيرة كقصيدة طويلة.

"لست، يقول قاسم حداد، ممن يحسن كتابة السيرة بالشكل المتعارف عليه في هذا الحقل، ليس فقط بسبب ما ينتابني من القلق والارتباك عندما يتطلّب الموقف كلاماً عن الشخص، ولكن لأنني، خصوصاً، لا أشعر بقدرتي على كتابة ما ينتمي الى السرد التاريخي المتسلسل والمقيّد بتسجيل الأحداث المتتالية". والأرجح أن اعتذاراً كهذا، حول عدم كتابة السيرة التاريخية للمدينة، لا يصدر عن عجز أو عن قلة اقتدار كما قال حداد، وإنما عن رغبة كامنة في ترك هامش شخصي، يفسح قليلاً لـ "سيرة الشخص": سيرة الطفل والشاعر قاسم حداد، هذه السيرة التي فاضت بتفاصيل لا تستطيع المحرّق، مدينته، أن تبقى أمينة لها أمانة صاحبها.

المعنى بطبعتين

يحتجّ الشاعر، في اكتشافه مدينته، بلحظتين يسمهما بالإبهار: أولى في وصف المحرّق مدينة للأبواب المفتوحة دائماً، وثانية في وصفها ورشة للأمل. يبدو من الجائز القول إنهما، في الأصل، لحظة واحدة، لكنها ذات وجهين: الكَرَم والحميمية في فكرة الباب المفتوح دائماً، والاقتراح المستقبلي في فكرة صناعة الأمل. بالرغم من أن هذه اللحظة، أو اللحظتين كما أراد الشاعر، لا تنطوي على الزمن انطواءها على المعنى. فلنقل إنها المعنى بطبعتين.

لحظة المعرفة هذه ستجد تنويعاتها في كل تجربة أو مغامرة سيقوم بها حداد، والتي ستأخذ صيغة "كولومبوسية" في الاكتشاف، حتى في لحظات الضياع، حيث يقصّ علينا حداد قصة ضياعه عن البيت في اليوم الاول للدرس: "كان المفترض، يقول الشاعر، أن تعود جدّتي لاستلامي من المدرسة في نهاية الدوام ومرافقتي في طريق العودة الى البيت، إلا أنني كنت قد انتهزت فرصة سانحة لكي أخرج قبل سماع جرس الانصراف، واعتقدت أنني أعود الى البيت وحدي، الأمر الذي جعلني في متاهة طوال النهار، لقد تهت عن طريق البيت، لكي تكتشفني جدّتي آخر النهار في أحد بيوت المحرّق، حيث دخلت تلك الدار بشكل عرضي باكياً. وكان ضياعي في يومي الاول للدرس هو بمثابة (حسن الطالع) الذي لم يفارقني، ربما حتى الآن، لأنني لاحقاً تركت المدرسة قبل إنهاء المرحلة الثانوية، لكي تنتهي الى الأبد علاقتي بالدراسة، من دون أن يكون ذلك مدعاة فخر لأحد". بعد ذلك يصح الكلام عن ضياع "لازم" تجسّد في انخراط مبكّر في العمل من شغل "الفاعل"، الى العمل مع الوالد في دكان السمكرة.

إنجاز حياة الآخرين

يعود قاسم حداد باسم مدينته المحرّق، التي يعرفها على طريقته كما يقول، الى الوراء باحثاً عن أصل التسمية، فيردها الى أحد ملوك الحيرة الباسطين حكمهم على البحرين قبل الإسلام، ويدعى هذا الملك المحرّق، على وزن المفعّل، بتشديد العين وكسرها، لاشتهاره بالتخلّص من خصومه من طريق الحرق. "لا يُجبر، يقول حداد، هذا التفسير أحدا، لكن ليس ثمة اقتراح (تاريخي) أعرفه يروق لي (شعرياً) غير هذا التفسير. ربما كان في هذا نزوع متماه للاتصال بالشاعر طرفة بن العبد". وطرفة، كما هو معروف، شاعر جاهلي عاش في البحرين (القديمة)، حكم عليه عمرو بن هند بالقتل وهو لمّا يزل فتياً بسبب حرفين قالهما لقبيلته: لا.

هذا الطَرَفة الذي سيلازم قاسم حداد، على حدّ قوله، طوال حياته، كان حداد قد سمع باسمه، للمرة الاولى، في مدرسة "الهداية" أثناء الحفل الختامي في نهاية السنة الاولى، حيث كان من بين فقرات هذا الحفل تمثيلية قصيرة حول حياة طرفة: "أذكر جيداً، يقول حداد، ان طالباً يقوم بدور طرفة بن العبد يضع فخّاً، شبيهاً بذلك الذي نستخدمه في صيد الطيور، في طرف خشبة، لكي يبرّر ترديده لأبيات طرفة المشهورة: يا لك من قبّرة بمعمري
خلا لك الجوّ فبيضي واصْفري
ونقّري ما شئت أن تنقّري".

اذ لا يفوت حداد الكلام حول طريقة بدائية استخدمها التلاميذ لتبرير ورود الأبيات في التمثيلية، يقوم، هو الآخر، بتبرير ورود شخص طرفة بن العبد في سيرته قائلاً: "ربما اتصل ذلك الحلم بالعلاقة الغامضة التي ستنشأ بيني وبين طرفة من خلال تاريخ موغل في القدم يجري استعادته وتقمّص دلالاته لاحقاً. حيث بدأت بالشعور مبكراً أن لحياتي الراهنة علاقة ما بحياة طرفة بن العبد لمجرد أنه عاش في السديم التاريخي نفسه لهذه المنطقة (من دون أن يُعتبر هذا نزوعاً لاستحواذ ساذج على رموز تاريخية من خلال الادعاء بملكية متوهمة لما يمكن تسميته: جغرافيا التاريخ). عاش طرفة بن العبد في هذا الفضاء ومات باكراً، جئت باحتدامي الشعري وفتنة الخيال متصوّراً أنني أكمل تلك الحياة". هكذا ستكون حياة قاسم حداد استكمالاً لحياة شاعر سبقه. الصحيح هي إنجاز حياة الآخرين بما تعنيه من أثر ناقص: يُستكمل ويُقتفى.

البحر كرجل بريد

البحر على الورق كالبحر على اليابسة: مستغرق للأفق، مستعمر للنظر والجهات، مالئ الأمكنة. حتى أكاد أقول إن هذه السيرة سيرة بحر المحرّق قبل شاعرها. سيرة الذي لا يغتني بالأفق فيقوم بـ"الزيارة الشهرية" للمدينة، مقتحماً فيها بيوت الأطراف عند المدّ: إنها الدورة الشهرية، أو البحرية، لمدينة المحرّق. ماء البحر المالح هو طمثها الشفّاف. "المهم أن البحر وقتها، سوف يغسل كل أشياء حياتنا، فكل ما لا نقوى على أخذه الى البحر من أجل تنظيفه، سوف يأتيه البحر الى مكانه ليغسله لنا بكل كرم". بعد ذلك لن يجد الشاعر في ظاهرة المدّ هذه سوى شكل من أشكال دخول البحر في الناس. نوع من اتصال حميم بينه وبينهم. أيضا هي عادة رد الزيارة.

هذه العلاقة ستأخذ زيّها في بعض الطقوس البحرية التي يمارسها ناس ذلك المكان: في اليوم الأخير من عدّة الأرملة عليها الخروج مغطّاة بالكامل لملاقاة البحر في بداية الليل بعيداً عن الأعين، والدخول في مائه حتى تغتسل بكامل جسدها تطهّراً من أيام العدة، "ربما ليشهد البحر، على طهارتها بعد زوجها الميت"، من دون التجرؤ على حسد البحر جرّاء علاقاته الكثيرة: ذلك الفحل الذي يحسبونه خصيّاً!

أيضا، من تلك الطقوس خروج النساء الى البحر، بعد أن يطول غياب الرجال في رحلة الغوص، طالبات منه إعادة الأمانة لهن. ثم لينقلب ذلك الرجاء والتذلّل غضباً على البحر، فتحمل النساء سعف النخيل المشتعل، ويغمسنها في الماء، في كناية مؤثرة عن كي البحر وحرقه. هذا البحر الذي، غالباً، ما يتقمّص دور رجل البريد، لكنه البريد المشؤوم الحامل خبر الموت، "كمن يتلو التراتيل في جنازة يجهل صاحبها". بعد اكتمال هذا الفقد، لزوج أو لأخ أو لأب، يصبح البحر الرجل الكبير والوحيد الماثل أمام هؤلاء النسوة.

القبض على الماء

يشبّه الشاعر مواجهة البحر بعملية "القبض على المـاء"، فإذا عطفنا ذلك على ما قلناه حول أن سـيرة الشاعر هي سيرة البحر أولا، يـسعنا أن ندرك معنى أن تأتي السيرة أقرب مـا تـكـون إلى الشعر دون القصة أو الرواية: إنـه الـشـعـر فـنّ القـبض. الماء أيضا وخصوصاً.

ما استهلّ به قاسم حداد كتابه، أي قوله "الكلام عن الحب أحلى من الحب"، سيتحوّل من مقدمة تعد بكلام الحب الى ذريعة تزيّن لنا غيابه. لا وجود لامرأة "خارجية" في هذه السيرة "من الحنجرة حتى الإحليل"، وقاسم حداد هو شاعر حبّ! هل في وسعنا الظن بوجود "خصخصة" معنوية لأمكنة الكتابة؟ هل للحب أماكنه الورقية الخاصة أيضا؟ ألا تصلح السيرة أو تتسع له؟ أم أنها القصيدة، وحدها، من يمتلك الحصرية؟ هكذا سنقع على ما يردّ حديثنا، حول السيرة - القصيدة، على أعقابه، ولكن ليس لوقت طويل، أقصد الى حين نقرأ سؤالاً رائعاً يحمل الجواب، يسوقه الشاعر في غير مطرح، ويقول فيه: لماذا لم نتعلّم الغرق باكراً؟

النهار الثقافي
الأحد 22 آب 2004

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى