يكتب قاسم حداد “ ورشة الأمل” فتعبق الصفحات برائحة الخشب والبحر والأهل. الرجل البحريني الضخم، الشاعر اللطيف اللطيف، عرف رغم تقديمه الحييّ، وتفاديه الكلام عن سيرة الشخص، كيف يكتب سيرة النص، وكيف يكتب عيشاً خبره، من دون أن يهجر تفاصيله. يقول حداد في سؤاله عن كيفية كتابة نص المحرّق: “ مثل سيف ولد في غمده، سيف، سرعان ما شرعت زرقة البحر في صقله، لتحيله الى موضع الندى. هل يمكنني اقتراح هذا الوصف لعلاقتي بمدينة المحرق، التي ولدت وعشت فيها أجمل سنوات التكوين؟ لا أعرف لماذا خطرت في بالي هذه الصورة. لكن من المؤكد ان ثقة السيف في بيته، وشعوره بالاطمئنان في عزلته، واستعداده الدائم للمجابهات الجميلة والجديرة، هي صورة سوف أحبها يوماً بعد يوم. مثل حنين غير معلن الى عالم لم يعد موجوداً. بالرغم من معرفتي مدناً كثيرة بدرجات مختلفة، إلا انني أشعر باكتناز في معرفة أناس كثيرين وأشياء تستعصي على الوصف في مدينة واحدة، مدينة كفيلة باختزال المدن. وأظن ان معرفة أشياء كثيرة في مدينة واحدة، مثل مدينة المحرق، يمكن ان تغني عن معرفة مدن كثيرة” .
تفاصيل “ ورشة الأمل” سيرة شخصية لمدينة المحرق، هي تيمات السرد، استلها حداد من النسيان لتبدو في عمق الجوهر تماما، بدلالاتها التي تعمر سرداً عصيا على النسيان.
إن من يدقق في وحدة الفعل التي تصنع السرد، أو في عدم الفعل الذي يفضي بدوره الى نوع آخر من السرد الجديد، ويحاول مقارنتهما بالنحو الذي كتبه قاسم حداد في “ ورشة الأمل” إنما يلتمس قياساً جاهزاً للحنان المبذول في الكتاب، يحاول من خلاله وزن مداه أو هشاشته، فيما الحقيقة، ان ما قرأته في سيرة المحرق لحداد، هو التدفق الورع للحياة التي كانت يوماً وأحب أن أسمي ورشة الامل، بالتدفق الورع للحياة التي كانت وأشد رهافة مما تستلزمه القياسات الجاهزة للحنان، في ذلك التماسك المبدع لمجموع التيمات المتأملة في محيطها، وفي المحيط الذي أوجده الخيال.
لا يبدو إعمال الخيال هنا، قصد الكاتب أو رغبته الخفية، سوى ان ما يتبدى لنا خيالياً في “ ورشة الأمل” هو ذلك الصدق الكثير، الذي تعودناه قليلاً في قراءات اخرى، بعض القراءات.
ثمة ايضا في سيرة المحرق، ما ينحاز الى النثر القصصي، الذي يؤلف جزءاً من تاريخ ولد وحيد، في حرية بوح غير محدود، تنهض بها السفن التي تفضي الى البحار، وأعتقد ان ما منح الكتابة متسعها، هو الماء، نواة التذكّر والغوص فيه.
ان ينسى نفسه الولد الوحيد، مستلقياً على ظهره في بطن مركب بصحبة كتاب، هذا أكثر مما يحتاجه التذكر في سرد عربي، محصنون بالتأمل الاقصى، وبالتساؤل الوجودي الذي يستدعيه البحر، وبجاذبية نداهة الحب من نوافذ سرية غير متوقعة، كأن يطبع الوالد قبلة ليلية على الوجنة الصغيرة، فتبدو كما لو الجنة استحالت في اللحظة، في ندرة المكاشفة العاطفية، وفي وفرتها في التستر.
إلى أين تذهبون
يقوم السرد الرائق عند قاسم حداد على معادلة أخلاقية قبل أي شيء فني. معادلة أخلاقية وروحية اختطها الكاتب لسرده في رغبته الى استدعاء ماضي المحرّق، الذي عرف تملمه النبيل في ذلك النزوع الشبابي الوطني الى إرساء جملة معترضة وفي المحيط الحاضن الذي حدب على الشباب الثائر، وأوسع صدره وبيته لهم مطرحا. “ الى اين تذهبون” كان يسألهم الرجل متهدجا بكل تضرع الحب، بعد مبيتهم لياليَ ثلاثاً في بيته هربا من مطاردات رجال الأمن، ولم يكونوا يعرفون الجواب حينها، ولن يزعموا اليوم بعد أكثر من ثلاثة عقود، معرفة الطريق.
ما أراده قاسم حداد هو وضع المحرّق في قلب الضوء مناراً من الداخل (بمونولوغ الكاتب الخاص) ومن الخارج (عبر الشخصيات الاخرى التي تكمل لوحته: الأب، الاصدقاء، الزوار، الجدة، البحر، السفن، العمل). كل ملح من ملامح المحرق الماضية، ينيرها الكاتب بكثافة حدوثها الماضي، وبما رسخ منها في قلبه، كما يضفي على الاضاءة طابعه الشخصي والخاص، السري الى حد، الممكن إدراكه مع ذلك، كأنما المحرق بحياته الغنية بالدلالات، مشهد لطيف للقارئ، يرى إليه من خلف الزجاج من دون ان يتسنى له مسّه، شأن سائر المقدسات الجميلة، العصية على اللمس.
لكل جزء من السرد عند حداد منظوره الخاص وديمومته الخاصة. ثمة أجزاء قاربها بتلميح قصير لكي لا يكسر في علاقته النبيلة بها، وثمة أجزاء طويلة الى حد، ارتاح فيها الكاتب الى منتهى القول. غير اننا افتقدنا الى مزيد السرد في العلاقة مع والدته، كما فاتنا كقراء التلصص على الجزء العاطفي المختص بشؤون القلب، والذي من الطبيعي ان يمليه سن الشباب وفورته، كان بإمكان بعض البوح العاطفي الذي لا يتجزأ عن سيرة المحرق كمكان لكل المشاعر التي ولدت يوماً ان يشكل ثقلا إبداعيا ويوفر للنص إيقاعه الروحي وان أتى في مقاربات خاطفة غير منتظمة. محيّر غياب المكابدة العشقية في مديد سنوات الشباب تلك، المتفتحة على كل جميل وبهي.
شؤون القلب
إن شؤون القلب التي غيّبها حداد عمداً لا سهواً بطبيعة الحال، كان رفد السرد قوته العاطفية، بالاضافة الى بديهيات السرد العاطفية القوية المختصة بمشاغل اخرى. بيد ان نكهة حرّيفة للحب بقلم الشاعر الذي خبره جيداً في شعره، كان ليبدو وجودها عادلا في غمرة التذكر، الذي يبدو من دونها مراوغا ومؤدباً ومترفعا أكثر مما يحتمله الشباب الذي كان، ويحتمله قلبه الذي يرفع في مساواة مطلقة بين المشاعر الوطنية وتلك العاطفية في اهتياج الشعور ودعته في آن.
في الفائدة القصوى لسرد قاسم حداد “ رشة الأمل” سيرة شخصية لمدينة المحرّق، هو ذهابه دوماً الى قلب الاشياء التي بدت يوما طيبة وخيرة وجميلة، وتعكس تعقد الوجود في عالمنا الحديث، في إدانة الكاتب للحاضر وفي لعبته المعكوسة للخير والشر، وفي فن الايجاز الذي خدم السرد.
في محاولتنا مقاربة السيرة الشخصية من وجهة نظر تقنية محضة الامر الذي لا يريده الكاتب تماما نراها مؤلفة من خطوط ثلاثة تتطور معاً، وكان يسعها ان تشكل روايات ثلاث مستقلة هي حصيلة ما خزنته طفولته (البحر، الشارع، تعلم القراءة). كما نشعر بامتنان حيال عيسى الجودر الذي وفر لنا، بالاضافة الى صور المحرّق القديمة من أرشيفه الخاص، صور الشاعر حداد، في أطواره الشعرية التي يبدو لي ولدت معه، في الرابعة والسادسة والبالغة أقصاها.
|