عن الشاعر وتجـربته

مقالات

الشمس على هيئة مدينة المحرق

نوري الجراح

فاجأني قاسم حداد قبل أيام بيوميات حميمة عن المحرَّق مدينة طفولته. من السطور الأولى ليومياته هاته تتلامح المحرَّق مدينة أبدية، ولها منه موضع القلب النابض في شاعر، مدينة اللهب والصلوات، والعتبة الأقرب من سماء الطفولة، حيث سحر "بشر كثيرون وأشياء لا تحصى". إنها كما تدفقت في المستهل من سطوره الفاتحة مدينة الشغف الطفولي ومدينة الألم الصانع. ويصفها قاسم بمدينة الأبواب المفتوحة، حيث لا يحتاج الزوار إلى ما هو أكثر من طرق خفيف، أو إحداث ضجة خفيفة ليتنبه أهل البيت إلى الجار والصديق وهو يلج الباب ويدلف إلى الجوار.
يا لحسينية النساء، تستقطب إليها نسوة من السنة والشيعة في المواسم فيقتعدن في الغرفة المستطيلة، بينما الأطفال في هبوبهم الخفيف كفراشات تتخطف بين الظل والضوء.
حملتني سطور هذه اليوميات باسترجاعاتها للصور والوقائع والوجوه التي تنتمي إلى أعوام مضت من طفولة وفتوة وشباب الشاعر في المحرّق، إلى تلك الأمسية التي طوّفني فيها قاسم بسيارته في المدينة ومضينا معاً إلى بيت طفولته.
أول ما توجهنا إليه في ذلك البيت هو تلك الغرفة المستطيلة والآيات القرآنية تملأ الجدران.
كان بيتاً من الطين والطابون معاً.
قال قاسم: هنا ولدت.
لم يختلف بيته الأول كثيراً عن بيتي الأول في دمشق. بيوت أناس لهم ظروف متشابهة، وينتمون إلى الطبقة الاجتماعية نفسها. شعرت بحميمية المكان، بألفة غامرة وصامتة. دلف قاسم ليزور أخته، وجلست في الحسينية. كانت هناك أكواب وكان هناك ماء، فرويت عطشي وجلست في ظلال آيات حروفها طليت على سواد موحٍ، جنائزي غالباً..
عدت من المحرّق في تلك الأمسية إلى منزل ابتناه قاسم في جهة أخرى من المدينة. بيت مختلف لكن ساكنه ظل هو نفسه ابن ذلك البيت الأول بقلبه الناصع وروحه العالية.
كانت الأم، والدة قاسم في ركن من هذا البيت الجديد، في دعة الجالس، بعيداً عن تلك الجدران والنوافذ والغرف القديمة حيث ترك شقاء السنوات المنصرمة آثاره الدامغة في كل ملمح من ملامح المكان ذاك والظلال تعاون كرامة الأمل على رعاية غياب الغائبين.
واليوم، إذ أقرأ ما خطه قاسم عن سنوات العمل في المهن والكفاح اليومي لعائلته، وللعائلات الأخرى في المحرق، وشقاء المطاردة بسبب الأفكار والأحلام، والشوق إلى الحرية، وهي نفسها سنوات البحر والغوص وراء اللؤلؤة أن يفوز بها الغائص، وأن تستعاد من الفم الشرس للزمن، كانت سنوات الرغيف هي نفسها سنوات الشطح الصوفي وراء الحق، حيث كل حق مطلق، وكل مطلق ميل إلى الحرية.. كان الشاعر يغترف بملء رئتيه هواء المستقبل، بوجد عاشق، ووجد يدٍ تريد أن تختطف الجمال كله، وتفوز به بينما هي تكتشفه، وأحياناً تخلّقه من ذلك الطفيف الذي قلما كان يُلحظ بينما الناس في معارك الرغيف في قلب الشظف.
سيرة الشاعر، كما في سطور هذه اليوميات هي سيرة الناس وسيرة المدينة، الـ"مستعدة لنا على أبواب بيوتهم المفتوحة بالبصل وقطع القماش المبللة بالماء"، لما "كان رجال الشرطة يطاردون المتظاهرين لتفريقهم بالقنابل المسيلة للدموع".
وإذ كان المتظاهرون المتوارون عن الأنظار في بيت آواهم، على غير معرفة بهم، يحاولون الخروج، كان صاحب البيت يخرج إليهم متضرعاً:
- أين تذهبون؟
يضيف قاسم: "دون أن نتمكن من وصف هذا السؤال بغير تضرّع المحب".
بهذه اليوميات التي ما تزال لم تنشر يردُّ الشاعر للمحرَّق، ناسها وبيوتها وطبيعتها جميل العاشق.
إنها كتابة عن المكان من عصبه الحي. يختطف الشاعر روح المكان، يمسك به من خلاصته، من رهافاته، من الأقسى، والأشد إيلاماً.
معها نفوز بصورتين تختلطان في مشهد آسر لاختلاط نهار الكائن بليل الزمن، صورة للشاعر وأخرى للشمس في صورة مدينة.

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى