عن الشاعر وتجـربته

محاولة لبلورة صورة للوجود العربي عبر النص الشعري
بنية اللابنية في زمن التفتت

كمال أبو ديب

في مقالة سابقة (الأفق العدد 108) حاولت ان أبلور صورتين للوجود العربي،في مرحلتين مختلفتين لا اختلافا زمنيا، (إذ ان الفاصل بينهما لا يكاد يمكن ان يقام، فهما مرحلة واحدة على هذا المستوى - من منتصف الخمسينات إلى منتصف الثمانينات )،بل في جوهر رؤيا الفنان للعالم فيهما، ورؤياه لذاته، وقضيته، وقضية أمته والمجتمع الذي يعيش فيه. ولقد وضعت هذين المرحلتين على طرفي نقيض : إحداهما جسدت عالماً عضوياً، متناغماً، متكاملاً، يؤمن ا لإنسان فيه بفعاليته وتوحده بالقوى الفاعلة ثورياً في المجتمع، وبإمكانية فعل التغيير، بل بحتميته أيضاً ؛ والأخرى تجسد عالماً متفتتاً، متشكيا، يعيش الإنسان فيه حالة من الرعب والتقوض وفقدان الفاعلية وإرادة التغيير تصل حد الفجيعة.ولقد استخدمت، لبلورة هاتين الصورتين، نصوصاً شعرية لخليل حاوي وأدونيس وقاسم حداد. وأود، في هذه المقالة، ان أتتبع هذا الوعي المتفتت المتشظي الذي ينبثق من كل جزئية من جزئيات عمل قاسم حداد.

وإني لأسعى من خلال دراسة كهذه، أولاً، الى ترسيخ الأطروحة التي كنت قد قدمتها في مؤتمر جامعة جورج تاون (نيسان 1985) حول المستقبل العربي، والتي تعاين الواقع العربي اليوم من منظور سيادة التفتت والتشظي وما أسميته "انهيار الإجماع" وكون هذه هي "الفاعليات" الطاغية على كل شيء في المجتمع العربي وفي الكتابة العربية الراهنة في آن واحد. كما أسعى في الوقت نفسه، إلى تأسيس منهج نقدي قادر على اكتناه الكتابة العربية الآن ورصد خصائصها وبناها المكونة. وآمل أن تتاح لي متابعة هذه السلسلة من الدراسات، وبلورة الأسس النظرية للمنهج الذي أسعى إلى تكوينه، من جهة، واكتشاف بعض المكونات الأساسية للكتابة العربية (في الشعر خاصة) من جهة أخرى. وان بين ما يدفعني إلى مثل هذا العمل شيوع درجة صادمة من بلادة الفهم والتلقي لهذه الكتابة الآن، وللشعر بشكل خاص، وطغيان لهجة اتهامية لهما (بانتظام لا يبرز عادة إلا حين تسود ثقافة السلطة)، والإغراق في الحديث عن وجود أزمة في الشعر الحديث، وعن انحداره.. الخ. وكل ذلك مما يبدو لي عقائدياً (أيديولوجيا) صرفاً، أولاً، وصادراً عن عجز حقيقي عن تجاوز معطيات الموجة الأولى من الحركة الشعرية التي وصلت ذروتها مع نهاية الستينات، والدخول إلى عالم لغة شعرية مغايرة، ورؤيا للعالم ذات منابع مغايرة، وأسس شعريات جديدة مغايرة أيضاً. ومن الجلي أن ما أقوله يتضمن رفضاً لمقولة " الأزمة في الشعر الحديث "، ومحاولة لاقتفاه العلاقة بين الشعر والعالم من منظور ومنطلقات نظرية مختلفة، فنياً (وعقائدياً)، عن المنظور والمنطلقات التي استخدمت في دراسة الشعر الحديث حتى نهاية الستينات، والتي لا تزال جامدة عند ما أنجز حتى ذلك المفصل الحقيقي في مسار الحياة العربية. أولاً، والكتابة والشعر العربيين ثانياً.

تبدأ مجموعة قاسم حداد الجديدة بقصيدة، تحمل عنواناً دالاً هو "الحديد" ؛ والحديد تجسيد للصلابة والتماسك، لكنه في الوقت نفسه، على عكس الفولاذ مثلاً، تجسيد لطرف نقيض هو الهشاشة والانكسارية وفقدان المرونة والقابلية للجدأ ؛ ثم ان الحديد يرتبط بسياق آخر هو سياق التقييد والمنع والكبت.

وهذا العنوان الذي يوحي، أولاً، بالصلابة والتماسك، يقف رأساً لقصيدة هي النقيض المطلق للصلابة والتماسك ؛ هي التفتت في ذروته. وهي أيضاً فعل التفتت والتشظي البدئي (أولى القصائد في المجموعة) لكنها في الوقت نفسه تجسد الذروة : كل ما في المجموعة بعد ذلك أكثر تماسكاً، بقليل أو بكثير : كأنّ حركة المجموعة تتجه من الانهيار الكلي إلى لملمة الخيوط والنثرات والشظايا كما يتلملم جسد متفكك مقوض محاولاً النهوض من انطراحه وتناثره.

وتختتم المحاولة ضربة حمى أخيرة لكنها تنتهي، على الأقل، بإمكانية وجود "شيء"، ما، مع انه شيء لا يُرى : "قل لنا ما الذي تراه هناك ؟" وسأعود إلى هذا التركيب القطبي للمجموعة في فقرة مقبلة، بعد أن أبلور التفتت في ذروته في القصيدة الأولى.

من أصغر مكوناتها إلى تكوينها الكلي، تمثل قصيدة "الحديد" وجوداً يصعب أن أطلق عليه من الكلمات أيتها : لأن أية كلمة، تقريباً، أصفها بها ستعطيها ملا تملكه : التماسك وتكوين الوحدة الواحدة. فحين أقول، مثلاً، انها "تمثل وجوداً" فإنني أعطيها شيئين (فعل التمثيل، والوجود الموصوف بالواحدة) كل منهما سمة للواحد - المتجانس الذي يشكل كينونة متماسكة. و "الحديد" لا "تشكل ذلك ؛ بل إنها لا "تشكل شيئاً، بالمعنى الحقيقي للفعل "تشكّل" : ذلك أن فعل التشكيل هو فعل خلق لتشابك وعلاقات بين مكونات ما، وانتاج وحدة، إنتاج كيان، إنتاج "شيء" ما تربط بين أجزائه علاقات. و "الحديد" هي نقيض ذلك كله : فهي تشظيات لا تسمح بنشوء علاقات فيما بينها : كل شظية تشير باتجاه مغاير لسواه، لا متجانس مع غيره، وغريب أجنبي عما هو حوله. ويتجلى هذا التنائي المستمر في فاعلية جوهرية : فإذا كانت اللغة الشعرية تعمل عن طريق استغلال العلاقات التي يمكن أن تنشأ بين الأشياء أو العلاقات اللغوية، لتشكل منها وحدات صغيرة أولاً، ثم تنشئ بين الوحدات الصغيرة العديدة المتشكلة علاقات تسمح بتشكيل وحدات أكبر، ثم وحدات أكبر، وهكذا، إلى أن يكتمل تشكيل النص، فإن لغة قاسم حداد تعمل بطريقة مغايرة : عن طريق نفي العلاقات الممكنة بين المكونات المختلفة أو، بكلمات أدق، إن لغة قاسم حداد تعمل عن طريق إقحام مكونات لا يمكن أصلاً أن تنشأ بينها علاقات في سياق يفترض وجود علاقات بين العناصر التي تدخل فيه. ثم تتابع لغة قاسم حداد عملها لتضرب المكونات الدلالية الكامنة أصلاً في طبيعة التراكيب اللغوية وتفتتها، أي أنها تفرغ التراكيب اللغوية من الدلالات التي تحملها من حيث هي تراكيب لغوية قبل أن تدخل في نص وتتحول إلى مكونات دلالية (semantic).

الحديد
ليديه حديد يقود صرخة المدينة ويفتل العربات
المصابة بفتوى النهب.
حين يتدافع الجليد في نفير المداخل يحتسي جنوده
ويرتدي خوذة الحلم:
قافلة لزينة الغبار
طريق كبئر ينبغي أن تردم
قطيع من الوصايا ونقيضها.
لحديد يديه، لشهوته المبذولة، لقميصه الملطخ
بشهداء الأنخاب، لمصطفى أشيائه المنهوبة، وقت
يعبر ردهات السجن وجمر الحانات ومختبرات العسف.
يموت قليلاً وينهض
ينهال على العجلات لئلا تفتض بكورة الكأس
ينام وملء يديه حديد ينضح مجداً ومكابرة
وفتاوى تكبح رائحة الغيم بنار يديه.

ولأوضح ما أعنيه سأتناول أصغر أنماط التراكيب اللغوية الدالة في العربية، وأحدّد بعض دلالاتها، أولاً، ثم أكشف الكيفية التي يدمر بها "نص" قاسم حداد هذه الدلالة الطبيعية، ويفرغ التراكيب منها لينتج شظايا ونثرات مفككة.
إن أصغر التراكيب الممكنة لغوياً، والمالكة للدلالة، هي تركيب الإضافة، وتركيب التعريف، وتركيب الجر، وتركيب النعت، ثم تركيب الفعل والفاعل، والفعل والفاعل والمفعول به وهكذا.

وكل من هذه التراكيب يملك درجة أدنى من الدلالة طبعياً، أي في كونه تركيباً من نمط معين، بغض النظر تماماً عن كونه يتألف من كلمات بعينها دون أخرى. فتركيب الإضافة مثلاً، يملك دلالات مبدئية على الالتصاق. أو الانتماء، أو الملكية، أو النوعية، أو المجاورة الوجودية، وهكذا : أي أن أي تركيب إضافة في اللغة يشعر بدرجة عالية من التلاحم الطبيعي بين مكوّنيه - المضاف والمضاف إليه - فعبارة مثل " كتاب أحمد " تنشئ علاقة ملكية وتحديد للذات وتقدم معلومات علائقية حول كل من الطرفين : الكتاب وأحمد : وعبارة مثل : "كأس ماء" تنشئ علاقة هوية عميقة بين الكأس والماء ؛ وعبارة مثل "ضوء المصباح " تربط المصباح وتعلن أن وجوده مشروط بوجوده، وهكذا.

أما في نص قاسم حداد - إذا كنت أستطيع تسميته "نصاً" - فإن علاقة الإضافة تنفي أية إمكانية للتلاحم بين مكونيها، ولا تعبر عن درجة من الترابط بل، بعكس ذلك، تكشف العري الهائل لكل مكون على حدة، وعزلته المطلقة عن جاره، وانعدام أية إمكانية للتماهي أو المشاركة بينه وبينه، أي أنها تكشف تفتت العالم الذي ينتمي إليه كلا المكونين وانعدام الروابط فيه. إن عبارة مثل "فتوى النهب "، مثلاً لا تتغذى على علاقة قائمة بين "فتوى" و"نهب" وتطورها وتنميها. إذ أن "فتوى" لا تنتميان إلى أي سياق مدرك من سياقات الدلالة أو التجربة الإنسانية المألوفة. ومثل ذلك عبارة "نفير المداخل" و "زينة الغبار" و"حديد يديه" و"مختبرات العسف ". ويتجلى الانفصام المطلق بين مكونات كل من هذه العبارات بالمقارنة مع تلك التي تقوم بين مكونيها علاقات من نمط ما في النص حتى حين تكون علاقات بعيدة رخوة : إن "ردهات السجن" تعني شيئاً على قدر معقول من التحديد، و"جمر الحانات" تعني شيئاً ما، و"بكورة الكأس" تعني شيئاً معادلاً، و"رائحة الغيم" قد تعني شيئاً، و"نار يديه" قد تعني شيئاً كذلك. غير أن هذه العبارات التي تقوم بين مكوناتها علاقات من نمط ما سرعان ما تموضع في سياق لغوي تصبح العبارة فيه، من حيث هي "وحدة" صغيرة، فاقدة للعلاقات مع الكلمات التي تحكمها أو ترتبط بها. هكذا توضع "رائحة الغيم" و"نار يديه" في الصيغة التالية : "ينام وملء يديه حديد ينضح مجداً ومكابرة وفتاوى تكبح رائحة الغيم بنار يديه" ومن الجلي تماماً أن هذا السياق ليس سياقاً دالاً متجانساً، بل إنه لسياق مفتت متشظ تنعدم بين مكوناته الرئيسية أبسط العلاقات الدالة الممكنة في اللغة. فالفتاوى التي "تكبح رائحة الغيم" تكوين لغوي لا تربط بين المبتدأ والخبر أو الفعل والمفعول به فيه علاقات قابلة للتحديد، وقادرة على الدلالة، بل تقف مكوناته أحدها إلى جانب الأخرى في عزلة كلية عاجزة عن مد وشائج بين نفسها وبينها.

ومثل تركيب الإضافة تركيب المبتدأ والخبر. إن تركيب "ليديه حديد" لا يخصص علاقة مدركة - أو قابلة للإدراك، أو مألوفة في الثقافة بين اليدين والحديد. ومثله "لحديد يديه.. وقت". ومثل ذلك تركيب "الفعل + الفاعل + المفعول به" الذي ذكرت نموذجاً له قبل قليل وسأناقش نموذجين آخرين من نماذجه.

في البيت الأول ترد الجملة : "ليديه حديد يقود صرخة المدينة" والجملة المعطوفة عليها "ويفتل العربات المصابة بفتوى النهب".
وفي كلتا الجملتين ثمة تركيب من النمط "فعل فاعل مفعول به". والمألوف في اللغة هو أن هذا التركيب يجسد علاقات متشكلة بين الفعل والفاعل، أولاً، وبين الفاعل والمفعول به، ثانياً. وفي عالم طبيعي، ذي معنى، تكون هذه العلاقات نابعة من شروط وجودية معقولة، أو منطقية أو حتمية (ترتبط بالممارسة أو بإمكانية الممارسة) بين كل مكونين من هذه المكونات. فنحن نقول، في عالم طبيعي ذي معنى : "أكل الولدُ التفاحةَ" لنجسد فاعلية مارسها إنسان معين، فاعلية تنبع منه أو تصدر عنه، من حيث هو ذات كائنة، فاعلة، وممارسة للفعل والتأثير على العالم، ولنصف أيضاً علاقة بين الفاعل وبين المفعول به، بين الولد والتفاحة ؛ فقد دخلت التفاحة جسم الولد، صارت جزءاً منه نتيج لأكله لها ؛ أي أننا أمام علاقات وجودية، تجسد التأثر والتأثير بين أشياء العالم ومكوناته.

على النقيض من ذلك تخلق جملة قاسم حداد الأولى وهم وجود علاقات وجودية، علاقات ذات معنى، بين أشياء العالم عن طريق استخدام بنية "الفعل + الفاعل + المفعول به" لكنها في الواقع تفرغ هذه البنية من علاقاتها الحميمة، وتخلق خيوطاً متقطعة مفتتة من العلاقات المستحيلة أو شبه المستحيلة، أو من وهم العلاقات. فالحديد لا "يقود" بأي معنى من المعاني ؛ وعلى افتراض انه "يقود" فانه لا يمكن ان " يقود صرخة المدينة ". هكذا يقحم النص ثلاثة مكونات في بنية تمتلك في ذاتها شبكة علاقات تمنحها لما يدخل فيها من مكونات ؛ لكنه باختيار مكونات معنية يستحيل ان تنشأ بينها علاقات "تعني" يدمر هذه البنية داخلياً ويفضح عجزها عن "العني "، أي عن خلق المعنى. أي ان النص يحيل البنية الى لا بنية، ويدمر المتشكل ويحيله الى فتات، إلى كومة موجودات متشظية. وبمثل هذه الطريقة بتعامل النص مع الجملة الثانية "يفتل العربات المصابة بفتوى النهب ". فالعربات لا "تقتل"، بل تفتل، مثلاً الحبال وحتى لو افترضنا أنها "تفتل"، فلا معنى للقول أن الحديد يفتلها. هكذا يتراكم الفتات ويتعمق التشظي ونصبح أمام كتلة أكبر من الشظايا والتناثرات لكننا قطعاً لسنا أمام بنية متكاملة، متناغمة، تحكمها آلية تشكيل ودلالة مدركة مفصح عنها. وفي البيت الثاني يتكرر هذا التعامل مع التركيب (فعل + فاعل + مفعول به) في صيغة هذه، كما يحدث تركيب من نمط (فعل + فاعل) فقط.

وسرعان ما نكتشف أن فاعلية كلا التركيبين ليست خلق شبكة من العلاقات الدالة، بل تدمير ما تحمله البنية في ذاتها أصلاً من طاقة على الدلالة ؛ ويتجلى هذا بوضوح في "حين يتدافع الجليد في نفير المداخل" وفي "يحتسي جنوده ". فالجليد لا جنود له عادة، وإذا كان له جنود فإنه لا يحتسيهم عادة ؛ أما هنا فإن الجليد يتدافع، وهو يحتسي جنوده ؛ ثم إنه "يرتدي خوذة الحلم". يتمثل نمط آخر لانهيار العلاقات وتفككها، ولإفراغ البنى الدالة طبيعياً من دلالالتها، في الانفصام التركيبي بين مكونات لغوية محددة وما تقتضيه من روابط، كما يتمثل نمط واسع في انعدام العلاقات بين الجمل الكبيرة في النص أو بين وحداته اللغوية الكبرى.

إن أدوات لغوية مثل "حين" و"إذا" في وجودهما المطلق، خارج أي نص أدبي، تمتلكان دلالات وتنشئان سياقاً محدداً تسوده علاقات محددة بين "إذا" و"حين" وبين عبارتين ترتبطان عن طريقهما. حين نقول، مثلاً : "إن الحياة جميلة" (لاحظ جملتي هذه، أو نصف جملتي هذه، التي كتبتها بشكل عفوي وأنا أحاول توضيح طبيعة "حين"، في نصف جملتي "حين نقول، مثلاً : إن الحياة جميلة " هناك تحديد لزمن القول، وهناك إشعار بأن ثمة شيئاً سيأتي يوضح أمراً ما حول نصف الجملة هذا. سأتابع الآن). نكون قد زيفنا وعينا". إن عبارة "نكون قد.." مرتبطة - عن طريق العلاقات التركيبية الطبيعية في "حين " وما تحكمه من عناصر لغوية - بـ "نقول.." ؛ وهذا الترابط يفترض ان أي فعلين يقعان في سياق "حين" يترابطان دلالياً ؛ منطقياً أو وجودياً.. الخ.
لكن قاسم حداد يستخدم "حين" مدخلاً في سياقها فعلين تنعدم بينهما الروابط الدلالية، وينشأ عنهما عالم من الاستحالة والعجائبية واللامعقولية : "حين يتدافع الجليد.. يحتسي جنوده، ويرتدي خوذة الحلم ". فليس بين "يتدافع" و"يحتسي" هنا إلا الفراغ المطلق، الفراغ حتى من إمكانية نشوء علاقات تعني. إنها جملة مفتتة يبرز كل مكون جزئي فيها واقفاً بذاته، معزولاً، يوهم بالترابط مع غيره لكنه يفضح انعدام الترابط. إننا في عالم تستحيل فيه العلاقات التي تخلق تلاحماً وتماسكاً وصلابة. إننا في عالم التفتت. وفي هذا العالم لا يعني "الفعل" شيئاً، ولا تؤدي ممارسته إلى نمو يخلق عوالم جديدة ووقائع جديدة.
أما النمط الأوسع من التفتت فإنه يتمثل في ما يحدث بين الجملتين التاليتين :

ليديه حديد يقود صرخة المدينة ويفتل العربات المصابة بفتوى النهب ".
"حين يتدافع الجليد في نفير المداخل يحتسي جنوده ويرتدي خوذة الحلم ".
إن وضع هاتين الوحدتين الكبيرتين في المرتبتين (1) و(2) لا يعني شيئاً ولا يولد أو يجسد علاقات تلاحم وترابط بين حركتين في قطعة واحدة، أو بيتين شعريين متواليين في قصيدة واحدة. هنا تقف كل وحدة (كل بيت إذا شئت) في عزلة صادمة عن الأخرى وينشأ بينهما فراغ مطلق لا تتجاوزه أي روابط لتصل بينهما. وما قلته عن (1) و(2) يصدق تماماً على (3) و (4) في النص :
"لحديد يديه، لشهوته المبذولة، لقميصه الملطخ بشهداء الأنخاب..".
"ينهال على العجلات لئلا تفتض بكورة الكأس".
هكذا تنعدم العلاقات في النص على مستويين : الأول خطي أفقي تتابعي. أي على مستوى ترتيب الوحدات اللغوية الصغيرة التي تصنع جملة (محور الترتيب والضم عند ياكوبسن (Jakobson) والثاني متقطع شاقولي، أي على مستوى توالي الوحدات اللغوية الكبرى التي تفصل بينها وحدات تتابعية والتي تصنع نسيجاً كلياً هو النص (ما أسميه "محور التنامي الشاقولي" للنص) : أي أن عملية التشكل اللغوي في أبعادها الطبيعية - التي تهدف، أصلاً، من خلال تنامي العلاقات بين مكوناتها الأفقية والشاقولية، إلى تكوين عالم متماسك، علائقي، يمثل وحدة سيمائية (Semiotic)، أو بالأحرى نظاماً سيمائياً وإلا - تنعدم هنا (قد يكون الأدق أن أقول "تنفرط") وتؤدي، في النهاية لا إلى تشكيل نظام سيمائي دال، بل إلى أيجاد لا نظام متقطع. والسؤال الآن هو : هل يمكن أن يوصف هذا اللانظام اللاعلائقي بأنه سيمائي ؟ وهل يمكن أن يقال أنه دال ؟
إن هذا السؤال، في تصوري، هو أحد الأسئلة الأكثر جوهرية التي تجابه النقد الحديث في العالم الآن في اكتناه النص الحديث والكتابة الحديثة عامة. فلق اعتدنا، أن نجيب على الأسئلة التي يطرحها النص الأدبي العلائقي الذي يشكل نظاماً متناغماً متماسكاً، ويملك وحدة (بالمعنى العضوي التقليدي الذي نراه عند كولردج (Cleridge) والرومانسيين)، أي أنه في النهاية يمثل محاكاة زائفة للعالم الخارجي أو الداخلي، لأنها محاكاة مشذبة منمقة مسبوكة في صيغة كلية ذات علاقات داخلية خاصة بالنص ليست قائمة في العالم الخارجي. لكننا لم نعتد على طرح الأسئلة التي يفرضها النص الأدبي الحديث في أحد أشكاله الأساسية : الشكل الذي يرفض مقولة الوحدة والتماسك والتناغم، الشكل اللاعلائقي، اللاعضوي، الشكل المفلوش، كما أود أن أسميه الآن. وهو الشكل الأكثر التصاقاً بعالمنا المفلوش. كما أود أن أسميه الآن، وهو الشكل الأكثر التصاقاً بعالمنا المفلوش، المفتت اللاعلائقي، الذي يتم فيه انفصام قطعي بين الإنسان والإنسان، والإنسان والأشياء بل حتى بين الإنسان واللغة التي بها يحاول أن يكتب، وبين الإنسان وذاته (وهي، بدورها، ذات متشظية لا ينبغي أن نتحدث عنها بصيغة الواحد).
هنا، إذن يصل النقد، في أطروحاته الحاضرة، حدود إمكانياته. وينبغي عليه أن يبتكر أطروحات جديدة تفتح له مجالات جديدة دون حدود. وإن ذلك لبين ما أطمح إلى ابتكاره في هذا النمط من الكتابة النقدية، رغم أن المطمح يكاد يقارب المحال.
يخلق قاسم حداد عالماً مرعباً، عالماً سمته الوحيدة هي التفتت والتشظي وانعدام تشكل العلاقات، بل استحالة تشكلها، من جهة، ثم انهيار العلاقات الكامنة القائمة أصلاً في طبيعة التراكيب اللغوية من حيث هي بنى دالة، وتدميرها وتشظيها. من جهة أخرى. وأن عالماً كهذا تتهاوى فيه الأشياء وتتطاير شظايا متفجرة خارج مجال تشكيلها - أو ما يفترض أنه مجال تشكيلها-ورافضة ان تنصهر في وحدة متجانسة متناغمة متكاملة، لعالم مرعب، ممزق، موجع ولكن، أليس في عالم بالضبط تكوين العالم الحقيقي الذي نعيش فيه الآن ؟ ألسنا نعيش في عالم يطغى عليه التفتت والتشظي، وتتهاوى فيه حتى العلاقات الحسيمة التي كانت قائمة أصلا في تكوين وحداته الأساسية ؟ ألسنا نعيش في عالم لا قواعد تركيب له، ولا تحكمه قوانين ضابطة تؤدي إلى خلق آلية للدلالة سليمة، فعالة، قابلة للفهم من قبل المجتمع اللغوي - البشري الذي يعيش فيه ؟ ألسنا نعيش عصر انهيار إمكانية إقامة علاقة حقيقية بين الأنسان والأنسان، أو الأنسان والأشياء، أو الأنسان والماوراء، أو الأنسان وذاته ؟ ألسنا بكلمة واجدة نعيش الزمن العربي ؟
بلى !

أننا لفي مثل هذا العالم نعيش :
وأنه لعالم مرعب.
وأن قاسم حداد ليجسد في كبسولة شعرية رائعة الغني والدلالة والشراسة، جوهر العالم الذي نموت - اقصد نعيش - فيه إذا كان لي الحق في أن أستخدم كلمة "جوهر " لإلصاقها بهذا العالم، ذلك أنه عالم لا جوهر له،. عالم فارغ من الداخل، متشظ، متفتت، مقهور، متناثر، مسحوق "مليء" بالأنشراخات والشقوق والصدوع العميقة من الداخل والخارج معا (لاحظ التعارض الحاد بين قولي : انه "فارغ " و "مليء" ؛ وما قولي وتعارضاته إلا جزء من هذا العالم المتعارض المتضاد المتشارخ ذاته. وكيف يكون للغتي إلا تحمل سماته ؟).

وان هذا العالم لهو العالم الذي تجسده التجربة الشعرية الجديدة،واللغة الشعرية الجديدة ؛ وهما في ذلك كله تقفان نقيضا للغة المتناغمة، والنص المتشكل الموحد العضوي، المتكامل، دلاليا، والذي ينقل "رؤيا" مكتملة جاهزة قابلة للتمثل الجماعي، والتركيب المتماسك الصلب الدال، والإيقاع الثري المترف الباهر - ولاحظ ان هذا النص ذو إيقاع مختلف جذريا عن إيقاع شعر خليل حاوي ومحمود درويش مثلا : تماما كما ان العالم الذي نعيش فيه الآن يقف او ينبطح او يتلوى او يزحف ؛ أيا شئت - نقيضا للعالم المتناغم، الدال، المتماسك، الصلب الذي كان يعيش فيه شعراء الحلم العربي - والذي ما يزال يعيش فيه بعضهم، لكن لأسباب مختلفو جدا لا علاقة لها بكون الحلم ما يزال حلما ذا معنى. أننا لإمام لغة شعرية شديدة التميز والتمايز. ورؤية جديدة شرسة في تمزيقها لمساحيق العالم وطلائه، وتصدعها للتناغم المزيف للعالم الذي خلقته أرستقراطية النفط العربية، وبرجوازية العملات العربية، وبلاغيات الثوريات المجهضة العربية، وترف الطبقة العاملة العربية المزيفة الوعي، والوعي المطلي المنمق لكتاب الأعلام العربي النفطي والسلطوي، دون نفط، أيضا. أننا لإمام شعر لم يسطع الانفجار الاستهلاكي واستيراد منجزات الغرب المدوخة وزرعها في الصحراء ان يبهره، ولم يستطع برميل النفط ان يداهنه ويخادعه ويزيف وعيه للعالم ورؤيته له حين كان سعره 35 دولارا ولن يستطيع برميل النفط ان يداهنه ويخادعه ويزيف وعيه للعالم ورؤيته له حين يصبح سعره خمسة دولارات في التقريب العاجل. ذلك انه وعي عميق، غوري، كاشف، فاضح، ومتجرذ (حتى اغتيال الروح وجعا ونزفا ) في تربة هذه الأرض العربية تجذرا يتجاوز بأميال شاقولية أكثر آبار النفط عمقا وأعلاها أنقذافا في الهواء الملوث بالموت والخيانة الأرض ؛ وعي طهرته من الوهم حدة بصيرة ورؤية نفاذة للأشياء، والأنسان، والعالم ولم تلق عليه بأستارها المموهة المخادعة، رؤيا هابطة من سماوات الوحي التي اختلقها وهم خيال شعري مزوق ومزوق،او خيال سلطة خبيثة تعرف تماما كيف تزور العالم وتجيره لمصلحتها وتكريس بقائها وتأبيد امتلاكها للإنسان والأرض والعالم.

اننا لامام شعر فجائي، لاعلاقي، شرس في كشفه للتفتت والتشظي اللذين يمزقان برماحها الطويلة حسد العالم. وانه لشعر حاضرنا وشعر مستقبلنا القريب على الأقل. فلنحتف بهذا الالق الاسود لانه اكثر تلاحما بما ظل فينا من أرواح، ولأنه الاشد اخلاصا اما هو دائما فينا من عذابات.

وعوا هذا الهيكل القديم -كما رآه أنا أيضا، ينهار : دعوه، دعوه، دون رحمة او آهة ندب، ذلك انه لا يستحق حتى الرثاء.

مجلة (لأفق) - قبرض

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى