رشيد يحياوي
(المغرب)
إن كون الوردة رصاصية فمعنى ذلك أنها قاتلة حتى لو لم تكن وردة غدر. لأنها رصاصة مقنعة في خجل الوردة. لم تتحول الوردة إذن إلى بلاستيك، بل أغرقت في المادة الجامدة. لقد "تمعدن" الحب والسلام وكل هذا المتخيل الذي زرعته فينا جماليات الرومانسية، ففقدنا التمييز بين الحقيقة الحقة وبين الحقيقة المقنعة المدسوسة.
بهذه الذاكرة ننتقل إلى مقاطع القصيدة التي قدمت تقليبات لغوية مختلفة للوردة دون أن تربطها بصفتها الرصاصية الصريحة. إذ أن كلمة "رصاصة" وظفت في سياقات لغوية أخرى. أما كلمة "وردة" فذكرت في ثلاثة مقاطع من المقاطع الستة عشرة للقصيدة. وجاء ذلك بشكل منظم يبعث على التساؤل، هل عن قصد ظهرت هذه الكلمات في أول المقاطع وفي وسطها "الثامن" وفي آخرها "السادس عشر" ؟!
وهذه هي المقاطع وأبياتها المقصودة :
المقطع الأول :
_ لهن جرح وردة في القلب
_ لهن تميمة في طينة الجسد الطري / وكلما أنسى
اسمي وردة الفوضى عشيقتي الصغيرة
* المقطع الثامن :
_ وردة البحر
أشكال لموت الأرض
* المقطع الأخير :
_ كنا فتية في وردة الفوضى
يعيدون الملامح للذبيحة
_ دع دمي في وردة الفوضى
ننظر في هذه الأسطر فنجد "الوردة" تتصل بما يلي : الجرح، البحر، الفوضى "ثلاث مرات ". وتكرار هذه الأخيرة فيه تأكيد عليها. فالفوضى فضاء دلالي يستوعب "الوردة الرصاصية" في كونها قتلاً جماعياً عشوائياً.
وفي الأسطر ذاتها نقف على تشاكلات مفصحة عن قصدنا هذا وهي :
_ وردة الفوضى / طينة الجسد
_ وردة الفوضى / طينة الذبيحة
_ وردة الفوضى / الدم
_ وردة / جرح : وردة في القلب = رصاصة في القلب
_ وردة / موت : وردة البحر = موت للأرض
يتبين من هذه التشاكلات أن المقاطع المذكورة ليست سوى عناوين أخرى لغابة الرصاص. في هذه الغابة لغة القتل هي السائدة. لا نتكلم عن الموت ورموزه، فالموت واقعة كونية ذات بعد وجودي. نقصد القتل كموت فظيع ووحشي. موت رصاصي يمارس العنف على الموت ذاته. فلهذا السبب تتشكل في المقاطع لغة موازية مكونة لنص ثان يخترق هذه المقاطع جملة، منمياً عنوان القصيدة مترجماً لأبعاده الاجتماعية والسياسية. بل إن كلمات ذات دلالات كونية عادية مثل كلمة "قبر" التي تلح عليها المقاطع، تصبح في هذا السياق رمزاً للعنف وكبح الحياة وهدرها ناهيك بلغة النص الفصيحة في دلالتها على عنف الموت كهذه : القتل القتلى قاتل تقاتل جثة، جيفة، الذبيحة، أشلاء، دماء، رصاص، السيوف، السلام، الرماح، المشانق.. إلخ.
ترتيباً على ما سبق، ليست المقاطع الثلاثة السالفة سوى عناوين إضافية داخلية متشاكلة مع عنوان القصيدة.
وإذا نظرنا من زاوية أخرى في نفس الأمثلة مركزين على "الوردة" فسنجد هذه الأخيرة متصلة بأربعة أطراف مركزية في القصيدة هي : المرأة، المتكلم المفرد، المتكلم الجماعي، المكان، إنها أصوات تتشكل بعدة صيغ في المقاطع.
إن شعرية هذه القصيدة ليست ناهضة فقط على هذا الخرق الذي يفقد البراءة قناعاً. إنها تتولد أيضاً من وجود بنية القتل في تواز وتداخل مع بنية مضادة يكونها قطبان هما "الرؤيا" و "الجنة". فهذه بنية تنسج سيرورتها الدلالية مشكلة أول مفارقة نصية بعد تلك الكامنة في العنوان، وتظهر في أول سطر من القصيدة :
"في البدء كانت جنة الرؤيا
أرى فيما أرى
تبكي صنوبرة على صحن المدينة، والخيام تجلل الرؤيا
أرى طرقاً ستأخذني إلى طرق ستأخذني إلى طرق وبحراً كالمدى
فيما أرى
كانت ستعشقني العذارى، سوف أصبح نجمة ".
فبهذا المقطع الافتتاحي ينتقل متلقي النص من "موت" العنوان إلى حياة جديدة تعيد بها القصيدة ترتيب خلق العالم، راصدة السيرورة الجنينية لواقع يتشكل مفعماً بمدى الإعلام قبل أن يتحول في موقف المتكلم إلى انكسارات ومآس. بذلك تتمفصل القصيدة في بناء تراجيدي مسرحه المقاطع وهي تراوح بين حلم وبين انكسار يطولان الذات الفردية والذوات الجماعية.
إن المقطع أعلاه بمثابة نواة هذه القصيدة : فهو يختزل تيماتها الأساسية وتراجيديتها المرتقبة، فبواسطة الرؤيا يصاغ عالمها الشعري. بيد أنها رؤيا بقدر ما تسمح بتخطي صدامية الواقع ومرارته فإنها لا تفلح في التعالي عليه. إنها لا تنبئ سوى بالمحتمل الذي كان سيتحقق :
"كانت ستعشقني العذارى، سوف أصبح نجمة "
أو عن المستقبل المأساوي :
"في جنة الرؤيا أرى مستقبلاً وأرى حفيره "
إن تيمة السفر التي تلح عليها أغلب المقاطع (1،2،3،4،5،7،9،11،12،14) ليست سوى موضوع تحاول الرؤيا أن تخرق به تراجيدية الفضاء. الفضاء نفسه ستهيمن عليه بنية : مغلق / مفتوح. يتمثل الغلق في المدينة بمواضعاتها السياسية السلبية، ويتمثل المفتوح في اللانهائي المعبر عنه بالمدى والتيه "مقاطع 1،2،3،5،8،4)، حيث لا يؤخذ اللانهائي سوى في دلالته على الهلاك والموت ليصبح أوسع من أن تتجاوزه فاعلية الرؤيا كصيغة تمكن الموقف الشعري من عدم التقيد بضوابط وحواصر الزمن والمكان.
إن الرؤيا فاعلية تحضر في القصيدة كصيغة تنبؤية وكشاهد عيان. وتكون متصلة بكلمة "جنة" ومفترقة عنها. وفي الحالتين نرى إلحاح القصيدة على جعل هذه الكلمة من لغة مقطعيتها، ولكونها كذلك فإن المقاطع وهي تستحضرها، تؤكد أن القصيدة لم تختر هذا البناء المقطعي إلا لكي تقدم صوغاً شعرياً يلتقط من زوايا عديدة تحقق بنية "الرؤيا _ الجنة" أو ببنية كل طرف منها. وفي هذه المقاطع نجد الكلمتين مقترنتين أو منفصلتين : (1،3،5،6،7،10،13،14،16).
في جنة الرؤيا هذه تبرز المرأة في رمزيتها المنفتحة على دلائلية الأرض والمصير والخلاص منسجمة مع هذا الموقف الشعري الرامي لإعادة خلق العالم في متخيل شعري يمنحه فكرته وأحلامه وتناغمه.
في موقف كهذا نفهم إلحاح القصيدة على المرأة أما في عذريتها أو في طفولتها أو في صباها. إنها إذن مقوم آخر من مقومات "جنة الرؤيا". غير أننا نكتشف مفارقة أو نولدها بمجرد إعادة تنظيم تمثلنا لصور المرأة في الاستبدالات الدلالية التي تفقد فيها "الرؤيا" اشراقيتها وحدوسها متحولة إلى نسيان وحاب وكثافة. نفس الاستبدالات تمارس انزياحها على "الجنة" فتفقدها طهرها ومناعتها وتعاليها محولة إياها إلى سقوط وموت.
إن المقاطع ستمثل في هذا السياق عناوين للشبكات الدلالية التي بواسطة أبنيتها العميقة يتحول خطاب المتخيل الشعري مكسراً في ذلك توقعنا ومخالفاً الذاكرة التي كوناها عن فضاءات عناصر ذلك المتخيل وضمنه متخيل الرؤيا والجنة. وفي الأمثلة التالية يظهر تحول المتخيل المذكور :
_ الخيل تجلل الرؤيا
_ كل ما ينسى يسمى جنة الرؤيا
_ زجاجة الرؤيا لمن ينسى
_ رؤى خشب
_ قلب أثقلته كثافة الرؤيا
_ خطيئة الرؤيا
_ جنتي المحاصرة المستباحة
_ يمزج جنة الرؤيا بفوضاي
_ نحلة الرؤيا تغيم بمقلتيه
_ جنبي نعش
_ جنة تهوي
في ديوان "عزلة الملكات " 1991 تتحول شعرية قاسم حداد في بناء القصيدة. فبدل القصيدة ذات النفس الشعري، سنقرأ قصائد ذات نفس شذري. وبدل قصيدة الأصوات المتعددة سنرى قصائد مبنية على اقتناص صوت يعتمد في الغالب على وحدة الضمير في كل نص. في هذا النوع من القصائد يكون لعنوان البداية هيمنته دون باقي صيغ العناوين. إذ لكثافة القصيدة وقصرها، فجواتها البيضاء. لكنها ليست سوى تمفصل دلالي ضمن النص يشير إلى تحول في فضاءاته الدلالية وصيغه الأسلوبية.
لهذا الديوان عوالمه الخاصة به كتجربة متميزة في المسيرة الشعرية لقاسم حداد. ولأننا وصفنا الديوان بكونه تجربة ضمن مسيرة، فلأن له تفرده مثلما له ذاكرته الشعرية التي تستدعي نصوصاً وعلامات من نفس الماضي الشعري للشاعر. ويهمنا هنا بالذات أن نشير إلى نوع من الحوار الشعري بين هذا الديوان وبين سابقه. وهو حوار يتحقق في عدة مستويات يقتضي تمحيصها القيام بمقاربة بين الديوانين. ولربما يفضي بنا ذلك إلى بنباء النموذج الضمني والعميق الذي تتولد منه القصيدة عند قاسم حداد. إنه النموذج الذي نفترض أنه يشكل المعين اللغوي والرؤيوي الذي يحول فيه الشاعر دلائلية الشعر وأشكاله حسب السياقات وتطور الخبرة الشعرية. ولأن هذه العملية تتطلب جهداً آخر فإننا نكتفي بأن نشير إلى حضور علامتين من الديوان السابق في هذا الديوان أيضاً. انهما نفس العلامتين اللتين وقفنا عندهما، أقصد "رؤيا _ جنة " ونسجل توظيفهما في قصيدة "تقمصات" وفي قصيدة "هذيان" حيث تستبدل الرؤيا بفاعلية حلمية.
"هل أمشي في جحيم أم جنة
والأرض فضاء ؟
حلم فاتن وأنا في الأقاصي
بلا نوم ولا يقظة "
مصدر الدراسة :
- ديوان النهروان : قاسم حداد _ ط 1 _ المطبعة الشرقية _ البحرين 1988
- عزلة الملكات : قاسم حداد _ ط 1 _ كتاب كلمات _ أسرة أدباء وكتاب البحرين 1991.
الأيام
العدد 3025 / 15 يونيه 1997 |