أمجد ريان - مصر
التجارب الشعرية الصادقة دائماً ما تكون منسقة مع الاتجاه الشعري العام الذي يتحرك في الواقع كله وكما كان اتجاه الشعر العربي من السكون إلى الحركة، ومن الرؤيا الاستاتيكية المثالية في (الكلاسيكية والرومانسية)، إلى الرؤيا الديناميكية الحية التي تفرزها الحساسية الشعرية الجديدة في الوطن العربي كله.
فسوف نلاحظ مساراً موازياً في تجربة كل شاعر عربي على حده فمحمود درويش مثلاً يبدأ تجربته الشعرية بسيطة غنائية تكاد تنقل المضمون السياسي وتنقل صور المشردين الفلسطينيين بشكل مباشر وخطابي ثم أخذت المسألة تتطور بامتداد تجربته حتى وصلت إلى ذلك التعبير الإبداعي الخلاق والدينامي عن القضية الفلسطينية في المرحلة الأخيرة.
والحال نفسه مع شاعر مثل البياتي الذي بدأ غنائياً أحادي الرؤيا حتى وصلت تجربته إلى الثراء الفني والعطاء المتعدد الروافد، وبنفس زاوية النظر نستطيع أن نتعرف على تجارب شعراء مثل أحمد عبدالمعطي حجازي ومحمد عفيفي مطر وأمل دنقل وسعدي يوسف، ثم حلمي سالم وقاسم حداد وسليم بركات وغيرهم بعد ذلك.
وإذا تتبعنا ذلك المسار في تجربة الشاعر قاسم حداد بامتداد تجربته الشعرية فنحن نستطيع أن نلمس ذلك المسار الذي يتحرك من الأفقية إلى الرأسية، من الغنائية البسيطة إلى القصيدة المشروع المتعدد المعطيات، من السكون إلى الحركة والتعدد :
لقد بدأت تجربة الشاعر قاسم حداد خلال ديوانيه الأولين "البشارة _ صدر عام 1970" و "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة _ صدر عام 1972" حيث تمتلئ التجربة بالغنائية والمباشرة في نقل ما يمور في أعماق الشاعر من أفكار دون غربلة فنية طويلة ومتأنية.
فهو مثلاً عندما يرفض زمن القهر العربي فإنه يكتفي بالإدانة الخارجية وقصيدته "من أبجدية القرن العشرين _ في ديوانه الأول البشارة على سبيل المثال في صرخة احتجاج وشهادة على معاناة جيل عربي من المحيط إلى الخليج أحاطت به ظروف الكبت وقتل قدراته ورغبته في المشاركة في صنع الواقع والشاعر هنا لا يمتلك بازاء ذلك سوى مجرد الحلم :
لوبيدي
أغير التاريخ _ البشارة ص 147
ومثل كل التجارب الشعرية الغنائية في بدايتها فسوف نجد أن هناك أساليب فنية معينة يتم الارتكاز عليها والاستفادة منها، فمثلاً يلجأ الشاعر إلى الاسطورة القديمة سواء في تراثه أو تراث الغير مستفيداً من ذلك الجو الذي تشيعه بايحاءات البطولة، والقيم السحرية، فنلتقي بشخصيات : سيزيف، وشهر زاد، وبتلوب، وعنترة وغيرهم.
وكذلك سنحس بوقوف الشاعر إلى جوار المعارك الإنسانية العظيمة في مواجهة الاستعمار والصهيونية في أمريكا اللاتينية وفيتنام وفلسطين. كما نستطيع أن نلتقي بتفاصيل الحياة اليومية في واقعه الاجتماعي الصغير ونتعرف على كل الأشياء والحقائق الصغيرة الدافئة : ثوب والدته المرفوف فوق هامة البيت، لحن الهولو، النخيل، السكنة، الصعكير.. الخ.
ثم تنتقل التجربة إلى ما بعد الغنائية في دواوينه (الدم الثاني 1975) و(قلب الحب 1980) حيث تتحول الأنا الذاتية تدريجياً إلى الأنا الموضوعية.
وتدخل القصيدة عدة منظورات أو أصوات رئيسية لتتجادل معاً في خلق القصيدة، تصبح اللغة مليئة بالدلالة، وتجتاز الصورة الشعرية قوانين البلاغة التقليدية لتتحول الصور في القصيدة إلى بور رؤيوية تتبادل الفعاليات.
وتتشكل الموسيقى في نسق أكثر هارمونية على معانقة التجربة كلها :
رأيت السفن الشاحبة العينين تزود
ميناء الأرض
بحزن وبكاء وأسلحة وتوابيت
رأيت البحار القرصان يشد حبال الأرض
ويربط صارية
بالنخل.. وصارية بحنين الماء
رأيت بضاعتهم وتجارتهم
والجوع الطالع في ثمر الأسواق الموتورة
(القيامة.. ص 56)
أما في ديوانه (انتماءات 1982) يكون الشاعر قد وصل إلى مرحلة من التصور الفني تتيح له أن يمارس تجربة الخلق الشعري الذي يقوم على تضافر روافد أساسية في التجربة، روافد مستقلة وممتزجة في نفس الوقت، ففي انتماءات نستطيع أن نتعرف على أربعة محاور رئيسية تسيطر على التجربة كلها :
المحور الأول هو التراث العربي وما أعطاه للشاعر، تجسده قصيدتان : "أوراق الجاحظ الصغيرة" و "إشراقات طرفة بن الوردة".
والمحور الثاني هو المعاصرة بكل همومها وقهرها وحلمها تجسده قصيدتان "المدينة" و"التداعي الثاني".
والمحور الثالث هو الوسيط بين المحورين السابقين وتجسده قصيدة "البحر"..
والمحور الرابع الخلق هو المستوى الذي تتلاقى فيه كل الأطراف لتقدم اصفورتها الغنية الشاملة في قصيدة "الخلق يبدأ".
وعندما ننتقل إلى التجربة الأخيرة للشاعر في ديوانه (شظايا 1983) فستكون التجربة قد اكتسبت إضافة جديدة وعمقاً أبعد في مسارها الصاعد، فالتجربة هنا تعتمد التقنية الصادقة والتوتير الجمالي وتعطي مذاقاً يشي بتعددية الواقع وامتلائه وتشابكه المعقد.
تضفر التجربة المتناقضات وتجدلها في نسق جدلي حي : اللعب مع الجد، التخطيطات مع التأسيسات، العصري مع القديم، المادي مع الميتافيزيقي ، بحيث يتشكل كل هذا في النهاية في صرخة إنسانية ممتلئة :
أملك الآن أن أحتفي بالكتابة
أملك الآن أن أحتفي
الأضواء _ السبت 20 أبريل 1985
|