عن الشاعر وتجـربته

مقال في التفسير الشعري /"حرية اللامنتمي"

عبد الله جناحي - البحرين

محاولة تفسيرية لنص "منذ بنات آوى" للشاعر قاسم حداد
يعلن الشاعر قاسم حداد في نصه "منذ بنات آوى" المنشور في مجلة كلمات، العددين 18، 19 - 1994 والصادرة عن أسرة الأدباء والكتاب في البحرين، منذ البدء عن هويته وهوية أعدائه وكيفية تكوين تلك العلاقة الحقية بين المتناقضين.
"قيل أن بنات آوى الجميلات يجلسن في خديعة البهو يؤين الهارب والمشرد والغريب" فها هو الحيوان المخادع الخبيث المتوحش المهاجم بخديعة وجبن اللص يحمي ويؤي المشردين والهاربين والغرباء الذين يبحثون عن مكان آمن يطمئنون على أنفسهم من هجوم مباغت أو ضربة مفاجئة.
هو إذن يطرح لنا منذ البدء النقيض المفاجئ والسريع وهو يواصل في نهجه هذا إلى آخر النص، وهو بالطبع يجلب من جراء ذلك كل أحاسيس الصدمة، وهو من طرف آخر قد أضفى على الجو العام المساواة في كل شيء، كل الصفات متساوية في القيمة.
عزلة الأحلام
ها هو قد استقر هنا، هادئاً، مختبئاً، منتظراً الغامض، معتزلاً وفخوراً ومنتشياً باعتزاله الذهبية هذه...
هو يعلن ذلك أمام الملأ، الحاضرين، المحلفين، الشهود، القضاة، المدعي العام، هو الآن في قاعة المحكمة واقفاً يدافع عن نفسه أمام الجميع، يحاكم نفسه ويحاكمهم، وفي كلا الحكمين يساوي بين الأطراف كلها، الذات والآخر المؤتلف والآخر المختلف.. يبدأ في تفسير عزلته التي حللت وفسرت من قبل الذين لم يهربوا بعد بأنها نهاية هذا الهارب، خاتمة أحلامه التي كان يناضل من أجل تحقيقها، ورغم أن التحليل المنطقي يقول بأن خاتمة الأحلام تعني بداية اليأس، إلا أن الهارب المعتزل ينتبه لذلك فيؤكد أن..
"خاتمة الأحلام وليس لليأس أن يدرك أدواتي".
وحتى يثبت دفوعاته يبرز التناقضات المتوحدة في اتهاماتهم "فكيف يهدم أحلامه وهو الرافض أن يدب اليأس في ذاته ؟ وكيف يفر ويتراجع وهو الذي يحرص عبر أشعاره ونصوصه بالهجوم ؟ ولأنه يريد أن يحاكم الجميع، لذلك يبدأ بنفسه أولاً متهماً ذاته بالتظاهر بالقوة ونجاحه في ذلك ولكنه حينما نجح وصدقته حيوانات الغابة هاجمته بعنف فوق طاقته وتمثيله " "تظاهرت بالذئب، فتكا سرت في جسدي حيوانات الغابة".
يالها من صورة مخيفة. محزنة، فها هو محاط بالكواسر ينهشون في جسده وهو يحاول المقاومة دون جدوى، فهل بعد ذلك من مبرر أن يصمد ؟ فالفرار هو السبيل للنجاة، لكنه رغم ذلك يقول بأنه لم يقرر الهروب، فأمام الكواسر كانت الوصيفات المرتبطات به، المحيطين بأحلامه، بل وقود أحلامه كانوا يدفعونه نحو الاستمرار والبقاء في الغابة.. هاهو ينتبه لنفسه ويصدم الحاضرين من الآخرين، المؤتلفين معه بصدمة التساوي في القيمة بين القبح والجمال، الخير والشر، الكواسر والوصيفات. ففي عزلته الذهبية هذه أحس بأن كل ذلك كان غواية منهن وانجذاباً.. التي لم يكن بمقدوره حينذاك أن يهرب منهن ومن،أحلامهن / أحلامه، لذلك واصل تظاهره بالذئب وتكاسرت الحيوانات عليه وتمرغ وتعذب وذاق الويل وهو ينتظر خلق الأجنة التي زرعها ولقحها في هذه الأرض..
"تمرغت في انتظار الأجنة وهي تتخلق..".
(كيف يضفي المساواة على كل شيء، تماماً كما في عالم العبث، حيث يكون كل شيء متساوياً في القيمة).
ها هو مرة أخرى يدافع عن الذات ويهاجمها في آن واحد مبتدئاً بفقرة طويلة من "الكنتيات" كنت.. وكنت.. وكنت.. هذا الدفاع كان رداً ضد الاتهامات الموجهة إليه من الآخر المؤتلف معه، وهو في هجومه / هجاءه يؤكد بأنه كان البطل، فهو كان في تلك المرحلة شظية القلب، مسمار الباب، أسئلة الكهرباء، نحيب الأبجدية، ميراث الكتب، الحديد فاضح الليل، عاج العفة، الشهوة الخفيفة، التميمة، الدمث، وحش وأليف، مستجير من المخلب بالنار، مستفز للعدو، يفرز النحر لشفرة النصل..
صورة جميلة وقوية ومعبرة عن ثقله ودوره من جانب ومشاعره الإنسانية والنفسية المتضاربة في وجدانه من جانب آخر.
حرية اللامنتمي عبر بوابة المأساة :
كل هذه المتناقضات المتفجرة في ذاته وكل الصور التي تمر أمامك من بطولات وعذابات تكون أمامك وتشيد في مخيلتك صورة إنسان أقرب إلى الملاك بل بشكل أدق أقرب إلى القديس والبطل، ولكن إذا كان القديس معتزلاً الآن من كل ذلك ومن كل شيء، فكيف يستطيع حل هذه المعادلة الصعبة ؟ كيف نربط صفات البطل / الملاك / القديس وما تعنيه من استمرارية في المحيط / الغابة / البهو وتقديم الرعاية / الرقابة / التضحيات، وصفات المعتزل الذي يعيش حالة من المعاناة الذاتية / الاشراقات / في جو من السكون / الصومعة / الابتعاد ؟ أعتقد بأن الحل الذي أوجدته ينتمي إلى المأساة وصفات اللامنتمي ولكن من جانبه الإيجابي المرتبط بالحرية والإنطلاق، فالمأساة غالباً ما تتعلق بالخصوم الأشداء وما طرح في هذا النص من صدمات مفاجئة هي إحدى سمات المأساة وهي تدور أيضاً حول المعاناة والألم وخاصة حينما يكون المرء معتزلاً، وهذه المعاناة تؤدي إلى الانكشاف ومن ثم الوصول من جهل الأمور إلى معرفتها ومنها إلى تحديد الموقف منها، فأما أن يحب أو يكره، يأتلف أو يختلف، ينحني أن يرفض الركوع، ولكن كيف يصل المرء إلى هذه النتيجة ؟ عبر اللا انتماء، فكما يطرح كولن ولسن في وصفه للشخصيات اللامنتمية بأنه يرغب في التخلي عن صفته حتى يكون متوازناً وحتى يفهم الروح الإنسانية وينجو من التفاهة. ولكي يفعل ذلك يريد أن يعرف كيف يعبر عن نفسه لأن تلك هي الطريقة التي يستطيع بها أن يعرف نفسه وإمكاناته، وفكرة طريق الخلاص بالنسبة له غالباً ما تأتيه في الرؤى أو في لحظات التركيز / الاعتزال أو في التطرف، والفرد الذي يبدأ في هيئة اللامنتمي ينتهي في هيئة قديس.
ولتعميق هذا الربط بين المأساة والعزلة والطريق الموصل بينهما عبر اللا انتماء، نعيد قراءة النص لنعيش حالة المشاعر المتفجرة فيه والتي تعطي احياء وشعوراً بالإشفاق تارة والخوف تارة أخرى، وهما صفتان تستثاران بكثرة في المأساة، فالأشخاص المأساويون بشر مثلنا غير أنهم يتميزون بعظمة لا نصل إليها وهم مطالبون بمواجهة مصائب أكثر شدة من مصائبنا وبالنتيجة يغدو ما نقاسيه في العادة من إشفاق وخوف لدي المقارنة غير ذي بال، وهنا تبرز صفات التطهر الذي يتضمن أيضاً نوعاً من التنقية، فالإشفاق والخوف وتحدي المصائب والمصاعب ؟؟؟؟؟ يفرض عليه أيضاً أن يمارس تلك المتناقضات، لذلك كان يتحول تارة ويحتال تارة أخرى، يموت ويعافى، يفطس ويفترس، يمرض ويبرأ، يصبح غامضاً ولكنه أيضاً يتوضح، يبتذل ويتعفف، يوهم البعض بأنه منتم لهم ولكنه ينفصل ويتقاطع ويعترض، ينهار ولكنه يتجرأ، يتجرأ ولكنه يخاف، يستذئب ويأتلف، يصرخ ويبكي، يضرب فينالون منه فلا يهاب، فيهتف ويستمر في التحدي فينالون منه من جديد فيهذي هذه المرة أمام اللامتوقع من الممارسات والصدمات والعذابات والانهيارات وحينما يكتشفون ذلك ينالون منه اكثر فيهذي بشكل أكبر وينالون منه للمرة الثالثة والرابعة والعاشرة ويستمر في هذيانه و..
الانتقال من " كنت " إلى " منذ "
هكذا كان دفاعه وكشفه لمتناقضات حياته وهو في قمة هذيانه هذا يهدأ فجأة ليعلن أمام الحاضرين في هذه المحكمة من مؤيدين ومتعاطفين ومهاجمين بأنه أمام كل ما سبق من أتراح وأفراح وجبن وشجاعة، فهو قد خدع خديعة كبرى، اطمأن لبنات آوى فخدعوه، لذلك فإن كل انتصاراته التي اعتقد بأنها حقيقية كانت وهمية.
"وها أنا أحصي الجراء وأداعبها متوهماً انها انتصاراتي".
عند هذه الفقرة لابد أن نتذكر شهادته في بداية نصه حينما كان يرفض اتهامه باليأس، فهذا الهبوط الهائل من دفاعاته المحيط إلى الانطفاء الواضح لأحلامه واعتبار كل هذه الانتصارات وهماً، هو قمة ؟؟؟؟؟؟؟ لقد رفض كل الزاخر بالليل ومخلوقاته ".
نعم، هو هنا يعترف بأنه متميز، متفرد، عيون العدو مستيقظة تجاهه، فكيف ينجو إلا إذا ترك أحلامه تنطفئ..
هو لن ينجو الآن ولم يكن ناجياً منذ البدء، منذ بداية بدء أحلامه، وهنا يبدأ بسرد كل منعطفات حياته بفقرة طويلة من "المنذيات"، منذ.. ومنذ.. ومنذ.. وعند كل منعطف..
منذ كان يلتهم أروقة المكتبات المعتمة قارئاً وموظفاً..
منذ الغرف الموصدة وهو يهمس في آذان وصدور وعقول الوصيفات، وينشر رحيق أحلامه..
منذ الجزيرة وأحداث آب..
منذ الاستجواب تلو الاستجواب المؤجل منه والمستمر تأجيله لغاية الآن..
منذ أن عاشر المخادعين والأصدقاء..
منذ أن عصر كل أحلامه وعواطفه وشهواته وصبّها في كأس جميل رسم عليه نصاً سماه القلب..
منذ أن غربل أفكاره وفلسفاته وأساطيره وحوادث هزت منطقته وصبّها في نص خيل له بأنه محمل فوق ريش نائم يحلم بالشيء الحلو، فخلق أبجديات القيامة.. ولكن وأمام هذه المراحل العمرية اكتشف بأنه :
"لم أذهب طوال هذا الليل أبعد من حياة مليئة باللبونات، بنات آوى، وصيفات ذئبة الملوك ".
(ما بال أحلامه لا تكبر، فهي تقف عند حد الجراء واللبونات فقط !!).
يلتف صوب الحاضرين، المستمعين والقضاة، ها هو أحد الحاضرين كان صديقه في العزلة، ها هو الآخر رفيقه في الغرف الموصدة، والآخر سجانه والرابع جليسه في الجزيرة، وها هو.. وها هي.. كلهم يتهمونه وكأنه
"الوحيد مرتداً في حضرة الدم".
لا.. لا وألف لا.. ويستمر في صراخه، لا أنا لست الوحيد المرتد، لقد كنت بالنسبة لكم كالرائحة الزكية التي تتصاعد من الروح..
(أليست الروح الزكية هي إحدى سمات القديسين والصالحين والأبطال..!!؟)
وهنا يبدأ يهاجم الحضور..
الانتقال من مرحلة المأساة إلى مرحلة الهجاء
يهجو الحضور ويشمئز من وجودهم، يستصغرهم، يسخر منهم ويستهزئ بمحاكمتهم هذه متهماً الجميع بأنهم ليسوا
"أقل مني توغلاً في الدم".
لقد انتقل هنا من مرحلة إبراز المأساة إلى مرحلة الهجاء، ومثلما في الأولى استطاع أن يبدع في خلق صور جميلة ويخلق لنا حالة من الألم والخوف والإشفاق، فهو هنا استطاع عبر الهجاء المتولد من غريزة الاحتجاج أن يخلق نصاً أدبياً راقياً، فغاية الهجاء كما يقول "ديفو" هي الإصلاح، فالشاعر قد أمسك بالمحراث رغم خشيته أن فعل الهداية قد توقف منذ زمن طويل، وحينما يبدأ في الهجاء فهو واع تماماً بالفرق بين واقع الأشياء وبين ما يجب أن تكون عليه، وحينما ينبثق الهجاء من شخص يندرج ضمن الأقلية الواعية وغير المنبوذة ولا المرفوضة من قطاعات واسعة، فإنه يرغب لا أن يتحول إلى واعظ بتقبل سامعوه كلامه عن الفضيلة والخير، بل يهدف في هجائه أن يتفق معه قارئه في تبين وإدانة ما يعده معيباً ومرفوضاً في السلوك والمواقف والقناعات في صفوف المؤتلفين قبل المختلفين، ولأن الكثير منا لا يفضل أن يدين لذلك يتهم بأنه قد وضع كل أنواع الحبوب في مطحنة الهجاء..
هنا يقارن وبافتخار بين حياته المكشوفة وجهره لكل قناعاته وبين الآخرين حيث "كنتم".. "تنسجون المؤامرات تحت شرفة في عتمة البهو".
ويختتم نصه بموقفه التاريخي الجريء الذي أعلنه في "يمشي مخفوراً بالوعول" فهو في هذا النص كان صفاً كالخيال المضيء يركض تارة ويطير في الفضاء تارة أخرى وقطعان الوعول أمامه تحرسه وهو ينشر التاريخ الفعلي ويفضح المزيف منه..
"أعتزلكم مثل رعية تفقد مليكها دون ندم"
استهزاء واشمئزاز "لهم" وهي حالة شعورية ترتبط باللامنتهي من جانب وبالعبثية من جانب آخر ولكنها تؤدي بالنتيجة إلى أن يدرك المرء حالته هذه فيصبح حراً ويفعل ما يريد، وهو متيقن بأن حريته لن تأتي إلا باعتزاله هذه التي لم ولن يندم عليها، وهنا تصبح العزلة جميلة وحالمة، وحينما تتسرب الحرية من خلالها له تصبح العزلة ذهبية كما قالها الشاعر بفخر وانتشاء.

الأيام الثقافية - العدد 2148 - السبت 21 يناير 1995

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى