عن الشاعر وتجـربته

محاولة لاكتشاف عزلة الملكات 2

علوي الهاشمي - البحرين

أدرك قاسم حداد أن عملية خلق الأشكال وبنائها عملية متناهية محفوفة بحتمية الوقوع في سجن البنية المتشابهة، فاتخذ من الحرية سجناً ومن اللا شكل شكلاً ومن اللا بنية بناء، ومن النثر، أعني قصيدة النثر، شعراً، ومن الداخل خارجاً، ومن الغموض وضوحاً.
وهذا ما جعل قصيدة النثر وحدها تتكرر في مسار تجربته. فقد أخذ يتجمع شيئاً فشيئاً ويتمحور حول هذا النص الأجد كما يدعوه الدكتور المقالح، حتى كاد يشكل معظم ما أنتجته تجربة الشاعر في السنوات الخمس الأخيرة خاصة على مستوى المجموعات المنشورة وعددها ثلاث هي : قلب الحب وشظايا وعزلة الملكات، إذا استثنينا (يمشي مخفوراً بالوعول) التي هي تحت الطبع.
وحين أتحدث عن قصيدة النثر، فأنا لا أعني الوزن وانعدامه من النص، بقدر ما أعني أغلال النصانية وانعدامها من النص الذي اكتسب صفة "المجانية" كما تدعوها الناقدة برنار. والمجانية من أبرز مميزات قصيدة النثر في نظرها. وهي تعني انتقاء الشكل أو البناء الخارجي عن النص.
ومن هنا يدور الارتباط واضحاً بين بنائية النص الهيكلية وعنصر الوزن الخارجي، فكلاهما شكل خارجي وعنصر ظاهر في بناء النص من شأنه أن يقولب مضاءه الداخلي ويحدد أبعاده ويؤطر صورته ويعتقل حريته. أما الحل الذي أدركه قاسم فهو قلب المعادلة التقليدية، كما ذكرت، ليصبح الداخل خارجاً، والنثر شعراً، والتكوين بنية، والتخييل لغة، والغموض توضيحاً، والكثافة طولاً، والبياض كتابة، والصمت كلاماً، والسكون حركة.. الخ.
وهذا بالفعل ما يمكن ملاحظته بسهولة في مجموعات الشاعر "النثرية" المذكورة، بما فيها (عزلة الملكات)، بحيث يمكن استجماع أبرز خصائصها في النقاط التالية :

  1. غياب النصل الطويل.
  2. انحلال البناء الهيكلي العام، نتيجة لذلك.
  3. الإمعان في الكثافة والاختزال.
  4. غياب الشخصيات والإشارات الرمزية والأسطورية والعلاقات النمطية العليا المشتركة.
  5. الإمعان في حيز الإضمار الدلالي والتركيبي (اللغوي) الذي يدفع النص في مسار عمودي خاص، وهو ما يقابله تقلص ملحوظ في حيز الإظهار أو الانتشار الأفقي.
  6. اعتماد التجارب الشخصية المحضة التي هي خلاصة تجارب الشاعر الموضوعية العامة، خاصة في المراحل السابقة.
  7. تحول من فن الأيديولوجيا إلى أيديولوجيا الفن أن ما يسميه أدونيس "سياسة الشعر".
  8. اعتماد الإيقاع الداخلي الخاص، خاصة إيقاع الحروف والمفردات (الجناس) وإيقاع الصورة وإيقاع الفراغ.
  9. التفكك الخارجي أو العزلة بين نصوص المجموعة الواحدة، والاكتفاء بجعلها، عوضاً عن ذلك، تسبح في أرخبيل من الوجد الشعري أو الحالة الشعورية.
  10. اعتماد مبدأ التداعي الحر والتراسل المنطلق بين الصور والأفكار والمضامين، وحتى بين الجمل والمفردات الشعرية، وأحياناً بين الحروف نفسها، رغبة في تفجير جميع الأشكال الخارجية وعلاقاتها الجاهزة ابتداء من بناء النص الهيكلي حتى بناء المفردة الواحدة، مروراً بالتراكيب اللغوية والبنية الإيقاعية (الوزنية) والمضامين المشتركة والمواضيع الجاهزة والأفكار الجاهزة والعواطف المبتذلة. أي الفرار من سجن الأيديولوجيا المفروضة أيا كن مصدرها.

وإذا ما حاولنا تطبيق هذه النقاط أو بعضها على مجموعة (عزلة الملكات) فيمكننا الخروج بالتصورات التالية :

  1. نادراً ما كان النص في عزلة الملكات تتجاوز مساحته الصفحة الواحدة أو الصفحتين. في حين كانت بعض قصائد الشاعر السابقة تستغرق عشرات الصفحات كما بينا. وهذه مسألة قد تشير إلى تعب واضح في قابلية التعميم الخارجي والبناء الهيكلي، لعل له اتصالاً بتعب الفارس المحارب، جسدياً ونفسياً وفكرياً، فما نهاية المطاف، خاصة فيما يربط الذات الشاعرة بمحيطها الخارجي.
  2. وهذا ما يجعل التعب ينعكس على الناحية بحركة النص البنائية المنتشرة نحو مركزها الداخلي. ونحن نعرف أن هذه الحركة ليست مجردة أو أنها تمثل ديكوراً خارجياً يحيط بالنص، بقدر ما تمثل انبثاقاً عضوياً من ترابط أبنية النص. ومن ثم فإن أي ارتداد نكوصي من محيط النص نحو مركزه، لابد أن يمر عبر مختلف مجالات النص وحلقاته البنيوية الأخرى كاللغة والإيقاع والمضمون، مما يؤثر فيها تأثيراً متزامناً فينقل خصائصها من حيز الخارج إلى حيز الداخل ومن الانتشار إلى التقلص ومن الوضوح إلى الغموض ومن ثم الامتداد الأفقي المباشر إلى التلولب العمودي المضمر.
  3. تشخص العناوين المختزلة الصماء في (عزلة الملكات) مسألة الإمعان في الكثافة والاختزال أحسن تشخيص وتؤثر ظاهرة تضامم محيط الدائرة الواسع أو حلقاتها المتكاثرة حول مركزها الغامض المتوحد. فأغلب عناوين المجموعة مكون من كلمة واحدة بعضها معرف والبعض الآخر غير معرف. وقليلة هي العناوين المكونة من كلمتين. وهذا قد يعني أن العنوان لم يعد يلعب دور المفتاح بالنسبة إلى مغلفات النص بقدر ما يلعب دور اللغز الذي يزيد من حيرة النص ويضاف إلى سلسلة مغلقاته. خاصة حين نجد العنوان يمثل أبرز رموز النص، وأشد ألغازه حيرة وإبهاماً. ورغم ذلك أو بسببه يبقى لغز العنوان الأصم مفتاح النص الأمثل أن لم يكن مفتاحه الوحيد ونقطة ضوئه الكاشفة ومركزه الجامع. حتى ليخيل لقارئ (عزلة الملكات) أحياناً أن النص مولود من رحم العنوان. ولعل لذلك الظن نصيباً من الصحة في إطار عملية الخلق والشاعر وحده أعلم بذلك. وتتميز من بين نصوص المجموعة على المستوى النصاني أربعة نصوص قصيرة جداً أشبه بالومضات الخاطفة هي "خطاياه" الوحيدة. فهي وحدة النصوص التي يجمعها إطار بنائي مشترك يقوم على التسلسل العددي من حيث الترابط الهيكلي. إلا أنه يصعب ربط الخطايا الأربع كعناوين أو مفاتيح بجسد النصوص ومغاليقها، وإن يكن ذلك ممكناً على صعيد التأويل كما ذكرت.
  4. اعتاد قاسم سابقاً أن يبني نصه الشعري، غير الموزون، على عنصر تكويني مشترك يمثل همزة وصل بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي، أي بين الشاعر والآخر، أو بين النص وقارئه، مثل الرموز التاريخية والتراثية أو الإشارات الأسطورية أو غير ذلك من المساحات والعلاقات المتداخلة بين ذاكرة النص ومحيطه.
    وكان ذلك وحده يضع النص على مدارج الوصول أو الانفتاح على الآخر. إلا أنه في مجموعاته الأخيرة وفي قصائده النثرية بالذات أهمل ذلك كله وأخذ في ابتكار رموزه الشخصية وإشاراته الخاصة مثل الصخور والقلعة والبحارة والحديد والخيول والسهرة والأنخاب والأشباح والغابة، وغير ذلك مما يشكل معظم عناوين (عزلة الملكات). وهي رموز يصعب فكها بعيداً عن سياق النص والموضع الذي ورد وضمنه أو الصورة التي يسبح في مناخها. ولا يتم ذلك إلا بعد تعمق شديد وجهد جهيد، أي بعد غوص في ذاكرة النص الخاصة على جوهر ذلك الرمز. خاصة حين يتخذ الرمز الواحد له، وهو في صورة مفردة غالباً، دلالات مختلفة بين نص وآخر، مما يجعل استقراره ضمن حقل دلالي واحد يكشف بواسطة آلية التكرار والمراوحة، أمراً غير وارد في أكثر الأحيان.
  5. تأخذنا هذه الخصوصية الشديدة في خلق الرموز وتحديد مداليلها إلى حيز الاقتصاد اللغوي المسنود بطاقة الإضمار المولدة لتجربة قاسم والمميزة منذ بواكيرها، إلا أن تطور هذه التجربة قاد إلى انكشاف الظاهرة وسطوتها أخيراً، أي طغيانها على جانب الإضمار في آلية الإبداع عند الشاعر. فمن الصعب جداً تحديد اتجاه الجملة الشعرية التي تنمو خلالها صور القصيدة عند قاسم. وأحياناً يصعب حتى تحديد خطية الجملة وتركيبها النظمي (النحوي والصرفي). فنحن لا نعف مثلاً تكملة الجملة التالية "وعندما يكاد الزيت" (ص 50) أو ماذا بعد الخطاب في ملة "أيها السيد"(ص84) كما يصعب فك الاشتباك والتداخل بين عناصر الجمل الشعرية وتراكيبها في المقطع التالي :
    بلا رأفة هذا الهيكل
    لانهياره "لهدأة السفوح والمستنقعات
    ليس لهيكل جديد
    لكن لهندسة الطبيعة وهندسة الفضاء
    (انهيار ص 39)
    كما يصعب التعرف على وجهة بعض الجمل دلالياً، بسبب عدم تحديد المميز النحوي، كما في جملة "أيها الملك / نحن رعاياك الذين تباهي بنا الأمم (ص 27) فالمميز النحوي الذي يضبط حركة مفردة "الأمم" نصباً على المفعولية أو رفعاً على الفاعلية، هو الذي يوجه دلالة الجملة الشعرية نحو كون الملك هو الذي يباهي بنا الأمم (بمعنى يتباهى)، أو نحو كون الأمم هي المتباهية. وأرى بين الدلالتين فرقاً شاسعاً يدخل أحدهما نقيضاً لصميم الرؤية الشعرية والموقف الفكري، ولنا أخيراً أن نتأمل في تحديد دلالة الفعل "تشغر" في جملة "نشغر الوقت بالكتاب ونكبو" (ص 13)، ففي الوقت الذي له معنى الإفراغ، نجده يحتل في الجملة حيزاً دلاليا معاكساً هو الملأ بدليل متعلقه اللغوي (الباء : حرف الجر). في حين أن متعلقه الأساسي المتواضع عليه هو (من). رغم ما يمكن أن تتبادله حروف الجر في اللغة من مواضيع تؤدي إلى انزياحات في الحقول الدلالية، ولكن ليس إلى حد التناقض. وهو إشكال يحله إدراك خاصية التقاطع ؟؟؟ الشاعر اللغوي. إذ تقاطع هنا الفعلان يشغر ويشغل (وهما متناقضان دلاليا ولكنهما متجانسان لفظياً أو صوتياً تجانساً شبه تام، الأمر الذي أضفى خصائصه على الحقل الدلالي المتناقض، وحوله إلى حقل متقاطع أو مشترك. ولي في تفسير الجمل السابقة مواقف مماثلة تفض عنها سر التداخل ولغز الحيرة، وذلك في إطار ظاهرة الإضمار التي تميزت بها تجربة الشاعر كما ذكرت.
  6. وقد أفرزت هذه الظاهرة المميزة ملمحاً أسلوبياً واضحاً في مسار تجربة الشاعر، خاصة في مراحلها الأخيرة. وهو الاهتمام بالحالات الشعرية لا الموضوعية. إلا أن تلك الحالات خلاصة لتجارب موضوعية مصدرها الواقع والتجربة العامة. وهذا ما جعل أغلب رموز الشاعر تبدو حميمة لنا، رغم أنها جديدة مبتكرة أو شخصية جداً كما ذكرت سابقاً، وتتراءى وكأنها مقطوعة عن أي سياق واقعي قائم أن أي إطار موضوعي مسبق. بل هي تسبح في مناخ خاص من الوجد الشعري والعاطفة الشخصية التي هي خلاصة لما يسميه لوسيان جولدوان "رؤيا العالم" أو "الوعي الممكن". وهذا ما يجعلنا نحس دائماً أن قصيدة قاسم لا تنتمي إلى الذات كما هي لا تنتمي إلى الموضوع، بل هي تنتمي إلى برزخ العلاقة بين الذات والموضوع حيث "الشعر الصافي" كما يسميه فاليري. وهو ما من شأنه أن يدعم نظرية رولان بارت الشهيرة فيما يسميه بظاهرة "موت المؤلف" في النص.
  7. وهذا يعني أن النص ولا شيء سوى النص هو ما ينبغي أن نعيره اهتماماً، بعيداً عن الشاعر وتاريخه أو حياته ومحيطه وغير ذلك من المكونات والعناصر التي تساهم في خلق النص ولكنها لا تكون هي النص. بل تصبح شيئاً آخر متحولاً في كيمياء اللغة الشعرية، خاصة تلك التي تعتمد الخصوصية الأسلوبية كالتي نجدها عند قاسم. وهذا يعني أن اللغة، اللغة الشعرية المتميزة، هي ما يولد الموضوع ويخلقه، وليس العكس كما كان الأمر في اللغة الجاهزة أو البلاغة التقليدية الجاهزة. إن قاسم يخلق بلاغته أو بمعنى أصح "أسلوبه" أي يخلق لغته الخاصة التي لا تعبر عن الموضوع بل تخلقه، لعدم وجودها خارجه أو مفصولة عنه. لذلك صار الموضوع عنده حالة خاصة مقطرة من معطيات الخارج ومكونات الواقع.

وخلاصة القول أن تجربة قاسم تقدم أسئلة واشكالات كثيرة، هي في ذاتها الاشكالات والأسئلة التي تثيرها حركة الحداثة الشعرية في البحرين أولاً وفي عموم الوطن العربي ثانياً. ولعل بإمكاني تلخيصها في النقاط الاستفهامية التالية، دون محاولة الإصابة، الآن، مكتفياً بما سبق الخوض فيه مما يمس أحدها أو يتقاطع معه أو يجيب عليه أو يكون تمخضاً عنه. والأسئلة الإشكالية هي :

  1. لماذا الإصرار على قصيدة النثر في فترة السنوات الخمس الأخيرة وماذا يمثل هذا النص الأجد من ملامح تجاوزية جعلت منه فارس الميدان أو الحداثة الشعرية عند قاسم ؟
  2. لماذا التخلي، تقريباً، عن بنائية القصيدة خارجياً، وهيكلياً والاكتفاء ببنائها الداخلي المكثف والمغلق ؟
  3. أليس من شأن ذلك الممتد الداخلي أن يقود إلى حلقة مفرغة من التشابه والتكرار والرتابة ؟ أو إلى "عزلة الملكات" أو الكلمات، لو جاز لنا تأويل مدلول عنوان مجموعة قاسم هذه ؟
  4. ألا يخشى قاسم نفسه على تجربته الشعرية الغنية من أن تتحول إلى مجرد "شظايا" صورية طابعها "العزلة" ؟ أعني تتحول قصائده ونصوصه الشعرية ذات الأبنية الفنية المتعددة والهياكل المتغيرة بأبعادها التراثية والتاريخية والرمزية والأسطورية، إلى مجرد نتف شعرية وتكوينات وكسر فسيفسائية متفرقة، على الأقل من حيث الشكل الخارجي أو البنائي ؟
  5. ألا يعني ذلك، في إطار إشكالية التجاذب الحي بين طرفي الشكل والمضمون، طغيان طرف على آخر ؟ ولا أرى هناك طغيان الشكل أو الشكلانية، كما يرى البعض، بل على العكس من ذلك، أعني طغيان المضمون على الشكل، خاصة بعد التخلي عن البناء الشكلي الخارجي والاكتفاء بمداليل الشكل أو مضامينه المختزلة أن صح التعبير ألم تنتقل تجربة قاسم من مساحات الشكل أو البناء الحي المتغير إلى فضاء اللا شكل، أي من النصانية إلى اللا نصانية ؟
  6. ما مدى ارتباط خاصية التمكن اللغوي (نحواً أو حرفاً ومعجماً) والتمكن الإيقاعي (وزناً) بإشكالية الإبداع وتأثيرها منه سلباً وإيجاباً ؟ وهل يكفي جانب التخييل اللغوي بديلاً كجانب التركيب الخارجي من حيث الإتقان أو التمكن ؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإيقاع الداخلي بديلاً للوزن ؟
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى